تواجه حكومة إلياس الفخفاخ ميراثاً ثقيلاً تراكم منذ فترة حكم زين العابدين بن علي وعجزت دونه حكومات الثورة المتتالية، فكلما اقتربت الحكومات من ملف الفساد حدثت اضطرابات سياسية تدفع إلى تقديم أولوية الأمن على الإصلاح الاقتصادي

تُقدِّم التجربة التونسية حالة مدرسية للنظر في تلازم مسارَي بناء الديمقراطية السياسية ومقاومة الفساد الاقتصادي والسياسي في ديمقراطية ناشئة.

تواجه حكومة إلياس الفخفاخ ميراثاً ثقيلاً تراكم منذ فترة حكم زين العابدين بن علي وعجزت دونه حكومات الثورة المتتالية، فكلما اقتربت الحكومات من ملف الفساد حدثت اضطرابات سياسية تدفع إلى تقديم أولوية الأمن على الإصلاح الاقتصادي الذي يقوم أولاً على مقاومة الفساد.

للمزيد حول الموضوع، يمكنك قراءة:

ماذا يعني أن تكون حكومة تونس خالية من السياسية؟

لكن فشل محاولات بث الفوضى وآخرها محاولة عقد اعتصام ميداني لحل البرلمان يوم 14 يونيو/حزيران الماضي، يزيل من أمام الحكومة آخر العقبات الخارجية، ويبقى أمامها أن تعالج هشاشتها الداخلية للتقدم، هذه الهشاشة ليست عقبة هينة، فقد تعصف بها.

الفساد اخترق مؤسسات الدولة

توجد صعوبة في تعريف الفساد وحصر أسبابه، فكثير منه عرف كيف يحتمي بالقوانين السارية فلم يمكن ضبط حدوده ولا تحديد معالمه. يتذكر التونسيون أن تقرير هيئة مقاومة الفساد التي أمر بتكوينها بن علي قبل خلعه وهروبه أنجزت على الرغم من ذلك تقريراً شاملاً حددت فيها الأسماء والجهات الفاسدة، ولكن الملفات التي رُفعت إلى القضاء كانت فارغة تقريباً، فأغلب العمليات التي نُعتت بالفساد كانت منظمة بقوانين وإجراءات سارية فلم يظفر القضاء بشيء ذي بال.

هذا الخلل البنيوي في عمل الدولة دفع الحكومات إلى التفكير بشكل مختلف، ووضع مقاربة تعالج النصوص القابلة للتأويل على هوى الفساد، وهو ما تحاول حكومة الفخفاخ الذهاب فيه عن طريق وزارة الإصلاح الإداري ومقاومة الفساد، غير أنها مضطرة إلى التعجيل بالنتائج، فالمقاربة القانونية من شأنها أن تقطع أسباب الفساد القادم من دون قدرة كبيرة على الرجوع عن الفساد الساري.

لتلافي النقص، انطلقت الوزارات كلُّ في مجاله في كشف ملفات، ورفع الأمر إلى القضاء، وبخاصة في قطاعَي النقل واللوجستيك، وفي تتبع الأملاك السائبة للدولة.

وبدا أن الحكومة جادة فعلاً في الضرب بقوة على بؤر فساد ثقيل، لكن يتبين أن المشكل أعمق مما يظهر في الإجراءات العادية، فملف مروان المبروك أحد المذكورين في تقرير الهيئة، يكشف أن الفساد يمتد إلى علاقة تونس بشركائها في الخارج بخاصة فرنسا، وأن رفع التجميد عن أمواله حدث تحت ضغط أجنبي (فرنسي) لما لفرنسا من مصالح في اقتناء أسهم شركة أورنج للهواتف المحمولة التي يمثلها المبروك.

للمزيد حول الموضوع، يمكنك قراءة:

في تونس: هل الفرنكوفونية شرط لتولّي المناصب؟

ويدور في كواليس الحكومة والإعلام الآن، أن زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون لتونس في زمن الباجي قائد السبسي (2017) كان لممارسة الضغط في هذا الاتجاه، وقد رفع التجميد فعلاً من قبل رئيس الحكومة السابق، لكن الرفع تزامن مع الحملة الانتخابية (2019)، ما زرع شكوكاً حول صفقة استفاد منها الشاهد هي الآن محل تحقيق قد يكشف فعلاً عمق الاختراق الذي وصل إليه الفساد في أجهزة الدولة.

ويدور في كواليس الحكومة والإعلام الآن، أن زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون لتونس في زمن الباجي قائد السبسي (2017) كان لممارسة الضغط في هذا الاتجاه، وقد رفع التجميد فعلاً من قبل رئيس الحكومة السابق، لكن الرفع تزامن مع الحملة الانتخابية (2019)، ما زرع شكوكاً حول صفقة استفاد منها الشاهد هي الآن محل تحقيق قد يكشف فعلاً عمق الاختراق الذي وصل إليه الفساد في أجهزة الدولة.

غياب مناخ الثقة السياسية حول الحكومة

في مجال الأحزاب والعمل السياسي، الجميع في تونس يتهم الجميع بأنه يموَّل من الفساد. ويحظى حزب "النهضة" بكم الاتهامات الأكبر من دون أن يرفع أي مُتهِمٍ إلى القضاء ملفاً ضد النهضة أو ضد غيرها. ما خلق رأياً عاماً يرى في الأحزاب بؤر فساد تمارس سياسات فاسدة وتصل إلى البرلمان والمجالس بالفساد لا بالبرامج.

هذه الأجواء الموبوءة بالاتهامات المتبادلة جعلت الحكومة في ورطة قانونية وسياسية، فجميع مكوناتها تتهم بعضها، ويذهب البعض إلى أن حرب الحكومة على الفساد هي في الحقيقة حرب أحزاب داخل الحكومة على فساد شركائها، ومرة أخرى يظهر ملف مروان المبروك.

يروج في دوائر حزبية وإعلامية معادية للنهضة أن المبروك يمول حزب النهضة، وأنه يشتغل لديها وسيطاً مع الفرنسيين (بالنظر إلى أنه يحمل جنسية مزدوجة ويشترك مع الفرنسيين في شركات كثيرة ويعتبر في تونس ابن فرنسا المدلل من زمن بن علي)،ولذلك اختياره كهدف أول من قبل وزير أملاك الدولة (من حزب التيار الديمقراطي) ليسقط به شريكه في الحكومة قبل أن يسقطه كفاسد، يدلل على حجم التناقض الداخلي في الحكومة.

للمزيد حول الموضوع، يمكنك قراءة:

بين الوباء الصحي والطاعون السياسي.. تونس نموذجاً

لا أحد قام فعلاً بإثبات هذه الأخبار/ الإشاعات، لكن نوردها بتحفُّظ لنبيِّن الأجواء السياسية المحيطة بمقاومة الفساد، فالحكومة غير المتجانسة كما توحي هذه الأخبار لا يمكنها التقدُّم فعلاً لأنها تفتقد مناخات الثقة الداخلية التي تجعل الفريق الحكومي متجانساً.

غياب التجانس الحكومي ازداد حدة بالخلاف داخل البرلمان، فبعض شركاء النهضة في الحكومة يسعون لإسقاط رئيس الحزب في البرلمان، ما جعل العداوة بينهم تمتد إلى داخل الفريق الحكومي، فيكبل بالتالي يد رئيسها في دفع ملفات التنمية وملفات معالجة آثار الكورونا وبالتحديد مقاومة الفساد.

ولذلك يمكن القوي بأن يد رئيس الحكومة مكبلة بالتنازع السياسي داخل فريقه، وبالعلاقات المريبة بين الأحزاب والأموال الفاسدة، وتزيد النقابة في تكبيلها بتحركات وتهديد متواصل بتعطيل الإنتاج.

وقد قُدم الدليل من داخل شركة الطيران، فبعد إدانة بعض النقابيين وسجنهم وصلت التحقيقات إلى المسؤولين بها، وحدث وقف متكرر، فتحرك نقابيون بزعم حماية الشركة من التفويت (خصخصة) على الرغم من نفي الحكومة كلياً أي نية لخصخصة الشركة.

الحرب على الفساد (كما يحلو للحكومة تسميتها) كشفت موقع النقابة (أو على الأقل شقوقاً منها) تُعارض أي مساس بمواقع (غنائم) في إدارة المؤسسات الاقتصادية العمومية المعروفة بفسادها، وهي تتحرك الآن لمنع المساس بمصالحها.

لذلك تتجه الحكومة إلى إعادة بناء مجالس إدارات المؤسسات العمومية لقطع الوشيجة بين نقابيين فاسدين ومسؤولين فاسدين، وهي معركة أخرى سنشهد لها تعطيلات كثيرة تؤجل ظهور نتائج الحرب على الفساد.

تَلازم مسارات حتمي

مع كل ما تقدَّم، نرى أن الحكومة قد دخلت الحرب وأن المعركة ستكون كسر عظم، لكنها لن تجد موارد للموازنة، ولن تعيد تنظيم سوق العمل والإنتاج إلا بخوض حربها حتى النهاية. وأي تراجع أمام ضغط مكوناتها الحزبية (من الداخل) أو من النقابات أو الشركاء الأجانب (من الخارج) سيجعلها في وارد السقوط السريع.

للمزيد حول الموضوع، يمكنك قراءة:

على لسان رئيس الحكومة.. الاقتصاد التونسي يدق ناقوس الخطر

لا شك أن السيد الفخفاخ محتاج إلى تماسك حزامه السياسي في حربه على الفساد، وهو الحزام الذي يقع عليه واجب خوض الحرب بواسطة ممثليه في الحكومة كلٌّ في قطاعه. في غياب لذلك ينهار الائتلاف الحاكم ويخسر الحرب.

هنا تُبنى الديمقراطية التشاركية، وهنا يتلازم بناء الديمقراطية مع الحرب على الفساد.

حكومة السيد الفخفاخ في وضع من أحرق مراكب العودة، فإما عبور بتونس من مستنقع الفساد إلى بر الشفافية والحكومة الرشيدة أو التراجع إلى ما قبل الثورة. وهنا وجب الإسناد السياسي، فالبلد لم يعد يحتمل رفاه المزايدة والبحث عن مثالب أو أخطاء إجرائية قد تظهر في الطريق. وأول المعنيين بهذا الكلام الأحزاب التي تشكل الحزام السياسي للحكومة. أما النقابة فلا ننتظرها في منعرج الإصلاح، فهي أحد فؤوس الخراب.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

المصدر: TRT عربي