لم يزد الاتفاق سوى أنه كشف ما كان مستتراً، كعلاقة بين عشيقين انتقلت من السرية إلى العلن خوفاً من الفضيحة، لأن السر قد انكشف.

أثار الإعلان عن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي لتطبيع العلاقات بين البلدين لغطاً كبيراً، على مستوى العالم العربي، والعالم الإسلامي، وفي الولايات المتحدة، وعقّبت الصحافة الأمريكية بخاصة بأن الاتفاق هو توطئة لسلسلة من قرارات التطبيع على مستوى العالم العربي، وأنه سيُحدث أثر الدومينو، ووضعت لائحة للدول العربية المرشحة للتطبيع، وهو ما قد يشكل "اختراقاً" في العالم العربي، وإرساء لسبل "السلام"، و"فرصة تاريخية"، وما شابه ذلك من خطب الإنشاء.

لكن هل هو حقاً اختراق؟ وهل سيفضي إلى لعبة دومينو؟

لم يسفر الاتفاق عن شيء كان مجهولاً أو مستتراً. كانت العلاقات قائمة بين الإمارات وإسرائيل على مستوى المخابرات وحتى السياحة، ولم يكن سراً أن الإسرائيليين كانوا يترددون على الإمارات بجوازات سفر غير إسرائيلية، وكان البَلدان يلتقيان في عدائهما لإيران، والإسلام السياسي، أو على الأصح للديناميات الديمقراطية في العالم العربي، وتوجسهما من تركيا، الذي انتقل إلى عداء. لم يزد الاتفاق سوى أن كشف ما كان مستتراً، كعلاقة بين عشيقين انتقلت من السرية إلى العلن، لأن السر فشا، وخوفاً من الفضيحة.

لكن العامل الأساسي في إخراج الاتفاق إلى العلن هو دعم ترمب في الانتخابات الرئاسية، لأن انتخاب ترمب مسألة وجودية بالنسبة إلى السعودية بدرجة أولى، والإمارات بدرجة ثانية.

إذن هي عملية محسوبة، وغايتها دعم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من خلال دعم ترمب. أي تغيير في البيت الأبيض يعتبر خطراً على محمد بن سلمان. لقد تجند الرجلان القويان في الإمارات والسعودية لإنجاح ترمب قبل زهاء أربع سنوات، وجنيا ثمار ذلك الاستثمار، ولا يمكن أن يتخلفا الآن في سياق أكثر خطورة على محمد بن سلمان، الذي يجر أثر جريمة مقتل خاشقجي، وتهديد سعد الجبري، وفشل الحرب على اليمن، فضلاً عن تكميم الأفواه والتحجير على كل الفاعليات التي يمكن أن تشكل ثقلاً مضاداً، ولا نصير له في الولايات المتحدة عدا ترمب وصهره جاريد كوشنير، ومن يحوم حولهما من الأوساط الصهيونية. دعم ترمب مسألة وجودية بالنسبة إلى النظام السعودي.

لكن هل الخطوة التي أقدمت عليها الإمارات تستحق الثمن الذي تقتضيه؟

لا يمكن للإمارات أن تتذرع بأن خطوتها تلك أوقفت ضم أراضٍ من الضفة من قِبل إسرائيل، لأن نتنياهو نفى ذلك، ولا يمكنها الزعم أنها تقف بجانب الحق الفلسطيني، لأن المخول بقول ذلك والإقرار به هم الفلسطينيون، وهم يرون أن ما أقدمت عليه الإمارات طعنة من الخلف لهم.

ولا يمكن الزعم بأنها عملية من شأنها تحقيق السلام، لأن من يحق له قول ذلك هم المعنيون ممّن احتُلت أراضيهم، من الفلسطينيين والأردنيين واللبنانيين والسوريين، ولا يمكن التحجج بالتسامح، لأن التسامح لا يمكن أن يكون اختزالياً.

اقرأ أيضاً:

الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي: قراءة إسرائيلية وانعكاسات فلسطينية

أما على مستوى العلاقات الدولية، فإن التطبيع مع إسرائيل سيؤجج من علاقات الإمارات وإيران، ولا تعدم إيران من وسائل الضغط على الإمارات والتشويش عليها ورفع درجة التهديد.

بيد أن خطورة خطوة الإمارات أنها ستعزلها على المستوى العربي. لقد استطاعت الإمارات في غضون عشرين سنة إنشاء قوة ناعمة مؤثرة في العالم العربي، على مستوى الجذب السياحي والمؤسسات الأكاديمية والأنشطة الثقافية والإعلامية، وهو رأس مال مهدد اليوم.

وينبغي أن يستحضر المرء ما وقع لمصر عندما أبرمت اتفاق كامب ديفيد سنة 1978، والانعكاسات التي عرفتها ثقافياً، بحيث إنها لم تنهض منها إلى اليوم، وفقدت مصر إشعاعها الثقافي والأدبي، إلا ما قد يحصل على المستوى الفردي.

هل سيفتح تطبيع الإمارات الباب على مصراعيه للبلدان العربية الأخرى مثلما ذهبت بعض التحليلات؟ الراجح لا، وأنه باستثناء البحرين فلا مرشح للالتحاق بالركب.

فمن العسير تصور أن تسير سلطنة عمان في ركاب الإمارات، وتقتفي أثَرها. وبدت مؤشرات من لدن فاعليات في سلطنة عمان تشجب التطبيع وتعلن دعمها للقضية الفلسطينية.

وأياً كانت الدواعي، فلن تنخرط سلطنة عمان في مسلسل التطبيع، لأن السلطنة حريصة على التوازن في سياستها الخارجية. وأما الكويت فقد أعلنت رسمياً رفضها التطبيع، هذا فضلاً عن موقف قطر الرافض رسمياً لقرار التطبيع، والمنسجم مع توجهاته وخياراته.

تبقى السعودية، وهي المستفيدة الأولى إلى جانب إسرائيل من قرار التطبيع ما بين الإمارات وإسرائيل، لكنها لا تستطيع أن تقدم على التطبيع جهاراً، بالنظر إلى أساس شرعيتها التي تجعل من الملك خادم الحرمين الشريفين، وهو الأمر الذي يصيب في مقتل تلك الشرعية ويخدم من تراهم غريمتيها في قيادة العالم الإسلامي، إيران وتركيا.

فضلاً عن طبيعة المجتمع السعودي المحافظ في أساسه، والمؤمن في عمقه بقيم الإسلام ومبادئه ودعوة التضامن مع الشعوب الإسلامية. وهو شعور راسخ في بلاد الحرمين، وهو ما يبرز جلياً في دعوات علماء وأصحاب دعوة ومثقفين ومفكرين، ذلك أن في السعودية، على خلاف الإمارات، قوى حية ولا يمكن الاستهانة بها.

ماذا عن المغرب؟ لقد أشاد المغرب الرسمي بخطة جاريد كوشنر، وأثنى على لسان وزير خارجيته ناصر بوريطة بـ"صفقة القرن"، ولكن المغرب الرسمي تراجع أمام ضغط الرأي العام الذي شجب في مظاهرات حاشدة "صفقة القرن".

ويعرف المغرب الرسمي أن الانخراط في حزمة "صفقة القرن" ليس مأمون العواقب، على المستوى الداخلي، بل حتى على المستوى الدبلوماسي. ولن يُقدم المغرب على أي شيء قبل الانتخابات الأمريكية، وسيُبقي على الوضع كما كان، في علاقاته مع إسرائيل، كما كان الشأن بالنسبة إلى الإمارات من قبل، كعشيقين يتستران على علاقتهما التي يعرفها القاصي والداني.

ليس معناه أنه لا ينبغي استخلاص النتائج ممَّا وقع، من جراء التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، فالنظام العربي لم ينهر مثلما قالت بعض القيادات الفلسطينية، بل كان منهاراً، وبدأ تصدعه منذ اتفاقية كامب ديفيد، وإنما بدا جلياً انهياره بعد الإعلان عن التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية ليست قضية عربية، بل قضية عدالة، ولأنها كذلك تسائل الضمير الإنساني.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

المصدر: TRT عربي