العلاقات مع إسرائيل بين شد العاطفة وضغط المصالح


ابن عمي ودفعتي المغفور له مصطفى محمد أحمد , كان لديه رأي قاطع بأنّ الحشائش التي تسد مجاري الترع في مشروع الجزيرة هي نتاج بذور نثرتها إسرائيل هناك فوق بحيرة تانا الإثيوبية لتأتي مع اندفاع المياه وتحتل الترع في مشروع الجزيرة , فيما صديقنا المشترك وابن عمنا وعمتنا د. فضل يوسف الخبير في مجال الحبوب الزيتية يحدثني قبل فترة عن التقنية الإسرائيلية في مجال انتاج البذور المحسّنة من السمسم , لدرجة جعل سنابل السمسم تظل محمّلة ببذورها لأطول فترة مثل القمح حتى يتم حصادها دون تلف . ومصطفى خريج كلية الغابات وفضل خريج كلية الزراعة وحائز على الدكتوراة في مجاله المذكور , وعمل عميدا للمعهد المتخصص في الحبوب الزيتية بجامعة الجزيرة .

بحكم الدراسة والتخصص كلا الصديقين من أهل الإختصاص , وأنا في مقام التلميذ المتلقي , وفيما بينهما تطفر نزعات العاطفة لتغالب مجريات العقل , مثلما هي حالة د.حمدوك والجنرال حميدتي في تصريحاتهما حول التطبيع مع إسرائيل مع فرضية أنّ حمدوك عليم خبير فيما طرحه حميدتي من أوجه براغماتية لمسألة التطبيع , الفرق أنّ حمدوك يتعامل بحصافة الخبير الملم بأروقة المنظمات والدول على المستوى العالمي وحميدتي بطبعه الشعبوي يطرح رؤاه المستمدة من محيطه على أفضل تقدير , لهذا يبدو غير آبه بمسألة المرجعية التي يستند عليها د. حمدوك لا بل حتى هو نفسه , فلولا قوى الحرية والتغيير التي فاوضها بعد شهر من الإستنكاف والاستخفاف وتحت الضغط الجماهيري والإقليمي والدولي ولدت شرعية المجلس السيادي بشقيه العسكري والمدني , فلا يمكن تجاهل كل هذا والحديث باسم الشعب وتقرير مصيره بهذه الخفة .

هنا نصل إلى لب المنطقين , منطق العاطفة ومنطق المصالح , وحوار مثل هذا يمكن أن يحفظ لكلا المنطلقين حقهما تماما , فرفاقنا البعثيين مثلا ممن صرحوا أنّ تأسيس حزبهم قام أساسا على رفض الصهيونية ودولة الكيان الصهيوني , ويسعى دوما من أجل قيام أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة , هذا حق بدهي لهم ومن واجب كل من يؤمن بالديمقراطية وأساليبها في تناول الأمور أن يستمع ويحترم ثم يناقش هذه الرؤية , أمّا الأخ المسلم الناجي عبدالله زعيم أحد مليشيات التنظيم الإسلاموي , فإنّ حديثه _ إن ثبت نسبته إليه_ فيضعه مباشرة تحت طائلة قانون الإرهاب , ويجب أن يؤخذ للمحاكمة بتهمة التحريض والتربص للقتل بسبب خلاف حول رأي سياسي , إذ كيف يقول شخص أنّه سيقتل من يطبع مع إسرائيل دون الرجوع أو انتظار أمانتة السياسية أو حزبه !! حميدتي ينكر أي تفويض للحاضنة السياسية وهي مجموعة أحزاب وتنظيمات مدنية ومهنية , والناجي يقرر دون الإعتراف بحزب !! فهل هما من مشرب واحد أم توارد خواطر ؟  الناصريون أخوان البعثيين في القومية العربية , مدخلهم عبدالناصر فنسبوا إليه , وأولئك إلى ميشيل عفلق تؤوب شجرة نسب فكرهم , وما بينهما من تاريخ غير ناصع على كل حال مما يضعف من قوة حججهما معا , حزب الأمة , برز فيه مبارك الفاضل المهدي كنقيض للسيدة رباح الصادق , في اقتراب الأول من تأييد التطبيع حتى أشيع عنه رأي في ذلك وهو مستوزر لدى نظام البشير المقبور , ورباح قرأت لها كلمة في ذم إسرائيل هي أقرب للرفض لأي تطبيع , ورباح تصرّح أحيانا بما يناور به ويداور والدها السياسي المخضرم , الخبير ؛ مثل حمدوك بدهاليز وتوجهات الإجتماعات والمداولات الدولية , وهو عضو في نادي يضم ديمقراطيين دوليين !! الشيوعيون ؛ واليسار هم قادته دون شك , نشأنا في حضن أدبهم الرفيع في شحذ العاطفة المشبوبة بالوطن والسلم والكفاح والتضامن مع الشعوب المقهورة والتغني بأمجاد الساندنستا ونكروما وجيفارا وباندونق ووهران الفتية , أحببنا درويش وسميح ورددنا مديح الظل العالي , وكيف أنّ الكنيست خصص لأجل قصيدة جلسة عاصفة وكان ذاك بالنسبة لعاطفتنا الجياشة انتصار , ومع مظفر في تقريع العربان الذين أدخلوا كل زناة التاريخ إلى حجرة مدللتهم القدس ثم استلوا السيوف وتنافخوا شرفا أن تصمت صونا للعرض , وهل تصمت مغتصبة أولاد القحبة !! لقد دخلت القضية الفلسطينية إلى تلافيف عقولنا عبر حواسنا وعواطفنا , نحن جيل بأكمله من السودانيين/ات , الآن لا نستسيغ فكرة المصالحة , هذا واقع , ولكن هل نستمر نقاوم ؟ ذاك محك آخر , هل عالم اليوم هو نفسه الذي يتغنى بالفدائية أم يحتفي بالعقلانية ؟ هل يمكن تلافي الآثار المدمرة لوصمك بالإرهاب وحجب أي وجه للتعاون معك من الدول التي هي مظان أبهى تجليات التقدم التقاني والعلمي في شتى المجالات ؟ ثم هل يمكن  إنكار حقيقة لجؤ بعض أبناء شعبك هربا من البراميل المفخخة وهجمات الجنجويد الوحشية إلى حيث غيتوهات العدو الصهيوني الجاثم على الصدور الناهب لأرض الفلسطينين , كيف تجاهل دخول أكثر من 200ألف عامل فلسطيني يوميا إلى داخل بلادهم المحتلة (المسماة رسميا إسرائيل ) حيث تتوفر لهم فرص العمل بالشيغل أو شيئا من هذا القبيل لعملة إسرائيل  وتورد ضرائبهم شهريا لحسابات سلطتهم الذاتية في رام الله ؟ ومن إسرائيل تأتيهم امدادات الغاز والكهرباء والمياه , ويترحم أبومازن على (رابين) من على منصة الأمم المتحدة !!, ومصر تبرم الأتفاق , الشريف ملك الأردن , ملك البحرين والمغرب وموريتانيا والإمارات , وفي الدوحة القطرية يرفرف العلم الإسرائيلي رفقة رايات الإخوان !! مثل أنقرة التركية وكل دول الإتحاد السوفيتي السابق (الإسلامية ) والسودان في العروبة هامش وتمومة عدد وفي الإسلام طرف ومعبر فقط لإفريقيا , هذه وقائع العقل بتجريدها من غلالة العواطف , وحساب المصالح المتحققة في موازنة الخسارة كذاك مما يعتد به في هذا المقام , فما الذي يخسره السودانيون مثلا إذا أقاموا علاقات باردة عاطفيا مع إسرائيل ؟ وما المكاسب وراء التعنت وركوب الراس ؟ صحيح لضرورات السيادة والهيبة الوطنية أن يأتي الأمر اختيارا لا رضوخا , هذه جزئية يمكن نقاشها حتى مع نتنياهو نفسه , ومثلما دعا وزير الشؤون الدينية والأوقاف نصر الدين المفرح اليهود للعودة إلى السودان , يمكن لمجمع الفقه الإسلامي تعديل فتواه بعدم جواز إقامة علاقات مع إسرائيل إلى ضرب نماذج علاقات الرسول معهم في المدينة المنورة , وأهو كلو (دين) أليس هذا مما يرضي أصحاب العواطف ؟

تاريخ الخبر: 2020-10-29 14:25:01
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 54%
الأهمية: 64%

آخر الأخبار حول العالم

آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /25.04.2024/

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-25 06:06:40
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 96%

ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-25 06:08:51
مستوى الصحة: 65% الأهمية: 80%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية