الخطاب بين قبضة الاستبداد وخدمة المستضعف


تتعدد التحديات والعوائق التي تعترض طريق بناء المشترك الإنساني، وتتأرجح بين الذاتي والموضوعي والداخلي والخارجي، ولعل أهمها إشكالية الطبيعة الإنسانية بين الفكر والواقع، ثم أزمة الخطاب المتنوع، الذي يصطبغ في عمومه بالكراهية ونبذ الآخر، بما فيه الخطاب “الإسلامي” التجزيئي المنحبس، وخطاب الساحة المتحمس، وخطاب المنابر الإعلامية الإقصائي، التحريضي المؤدلج والمسيس.

هذه الأنواع وغيرها كثير، أصابها عبر قرون العض والجبر أعطاب التسرع والحماسة وسيادة لغة التبرير والانبطاح بين يدي السلطان، والرضى بأنصاف الحلول والانحباس والتكفير والتبديع والتفسيق، ثم رفض الآخر والاستعلاء وافتعال الصراع، وهلم جرا من الأزمات والعيوب التي تحول دون التواصل مع الذات أولا، ثم مع الآخر ثانيا.

هذه الورقة هي مساهمة في تعيين عوائق بناء المشترك الإنساني من جهة الخطاب، وسبل تجاوزها من خلال مساءلة التاريخ والواقع والذات عن مكامن الخلل، ومساهمة في إيجاد الحلول، لتصحيح الذات والتشارك في الفضل، ثم التحرر من الهياكل التصادمية والأفكار السلبية القائمة على الكراهية، حتى تسير الإنسانية على مناكب الأرض جنبا إلى جنب مع الأخلاق .

مساهمة في دحض الأفكار المتجنية على المشتركات المتعددة بين الإنسانية؛ من حيث الخطاب؛ بأنها لا تمنع نهضة ولا تعطل تقدما ولا ازدهارا ولا رقيا ، وللبرهنة على أنه لا توجد أمة انطلقت في تعايشها بين جميع المكونات، دون الاعتماد على ما يوحدها ويديم المودة والتراحم والتواصل بين مكوناتها… فالمشترك موجود فإن لم يوجد فعلينا أن نبتكره وننميه.

السؤال: كيف نتجاوز عوائق بناء خطاب يستوعب المشترك الإنساني ونرقى به إلى مستوى القبول بالاختلاف والتعدد؟ ما الخطاب الأمثل  الذي تحتاجه مرحلة بناء المشترك الإنساني للتضييق على أطروحة الصراع التي يروج لها الكثير في الداخل والخارج؟

فمن حيث تعريف الخِطاب لغة؛ باختصار شديد؛ هو الكلام، وفَصْل الخِطَاب هو خطاب لا يكون فيه اختصار مُخِلّ ولا إسهاب مُمِلّ، والخُطْبة: الكلام المنثور يخاطِب به مُتكلِّمٌ فصيحٌ جَمْعًا من الناس لإقناعهم.

أما اصطلاحا، فمن دلالته التعامل  والتواصل، وإشراك الآخر وإفهامه أمرا مخصوصا ومشتركا، بغرض الإقناع في دوام هذه العلاقة، أو دفع انتقاد ورد شبهات، أو زيادة في يقين باعتقادات معينة، ويعتمد في ذلك على الحجة والحجة المضادة المؤثرة، ليس بغرض التسلط والإجبار والاستبداد والإكراه، ولكن بهدف التقارب والإشراك في القناعات.

والخطاب عموما هو ما نتوجه به إلى الغير قصد إفهامه مقصودا مخصوصا ، ولا يتم ذلك إلا بامتلاك “اللغة في خصوصياتها الإفرادية والتركيبية وأسرارها الدلالية والإيحائية والإيمائية، وأساليبها التعبيرية” ، بالإضافة إلى الإحاطة بثقافة الواقع المتجددة والمتنوعة والمتباينة بين مناطق العالم بما فيها الإسلامية، فلا ينفصل الخطاب عن المكنونات الأنفسية ولا التجاذبات الواقعية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية…

الخطاب إذن تعامل وتواصل وإشراك… لكن من آفاته واقعيا “التعميم واللفظية، وهما آفتان تضران بنوعية الخطاب، فكثير من العبارات قد تكون محكمة الصياغة، لكنها لا تصمد أمام النقد والنظر الدقيق، بل قد تمارس في بعض الأحيان أدوارا تخديرية في إقعاد الوعي عن ممارسة التحليل والنقد”.

وإذا قعد الوعي عن ممارسة التحليل والنقد، قد يصبح لهذا الخطاب المتفلت عن النقد سلطة قد لا يُتحكم في نتائجها، فتخيف حتى السلطة نفسها، فتسرع لأخذ احتياطاتها لإنتاج خطاب مضاد هي ومن يدور في فلكها، أو مراقبة هذا الخطاب الذي تعتبره مضادا، فتسعى إلى احتضانه أو محاربته وإجهاضه، لعلمها أنه إذا تملكت جهة ما خطابا قادرا على مناهضتها وإقصائها، قد يكون كتلة ناقدة قادرة على الاحتجاج خطابا وممارسة.

ولعل هذا ما نلاحظه في واقعنا من ضعف وتردي الخطاب الإسلامي في جزء كبير منه، حيث أصبع مصطبغا بصبغة الحاكم، وهو نجاح باهر للاستبداد في ترويض الخطاب واحتكاره وتوجيهه بما يخدم مصالحه، ولا بأس بتضمينه نوعا من التدين الذي لا يتعدى بوابة المسجد لإضفاء مزيد من الهالة والتقديس والتدليس على الناس.

ففي اعتقادي أن التحدي الأكبر اليوم هو إخراج الخطاب من الغرف المظلمة وإصباغه بصبغة الكينونة مع المستضعفين، لأنه إن لم يتسم بمزيد من التدقيق في التحليل والثبات على المواقف والجرأة في تحميل المسؤوليات واقتراح الحلول وبدائل التغيير والشمولية والتأصيل وعدم الرضى بأنصاف الحلول، بالإضافة إلى المعرفة الدقيقة بالواقع، ثم الإحاطة بكل مكونات المحيط البيئية والجغرافية والسياسية والاجتماعية، فيوشك أن يكون مآله الفشل والذبول والاحتواء والارتماء بوعي أو بغير وعي في خدمة أجندة الاستبداد، أو على الأقل عدم تحقيق النتائج المرجوة، ولعل أهمها هي الكينونة مع المستضعفين.

صحيح أن القضايا المطروحة في الساحة تفرض على الإسلامي وغير الإسلامي إيجاد مقترحات وحلول واقعية لها، لكن لا بد من الثبات على مبدأ قول الحق بكل مسؤولية وجرأة، لتكوين رصيد فكري وتاريخي يشهد بنقاء لغة الخطاب ومضمونه حتى لا يتنكب عن مساره، أو ينجر إلى سجالات هامشية استنزافية بمنطق الخصوم، لأن الخطاب الإسلامي في أصله خطاب مقصدي.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى أصبح لزاما بعث الحياة وتجديد أنفاس الخطاب وإعادة ترتيب أولوياته وربطها بأصولها السماوية الربانية الإحسانية وفق مبدأ كبير وهو خدمة الإنسان، ثم التضييق على أطروحة الصراع الذي بابه العنف ولا منتهى له إلا العنف المضاد: إعمارا للأرض ونشرا لقيم التراحم والتبادل والتضامن… ومدا لجسور التعارف والتفاهم المتبادل مع الآخر، المختلف الذي له تاريخه الخاص وتصوراته الخاصة عن الكون والإنسان والحياة.

ولعل الاستفادة من كنوز الخطاب الموروث قبل قرون العض والجبر وأجيال التغريب والاستعمار، وقبل أن تنخره أمراض الخلاف والفرقة، وقبل أن “يحرف الصراع على السلطة الرأي” ، وبعد إخماد “النعرات القومية والعصبيات الجاهلية” ، ثم تقبيح أثرة المترفين… لعل الاستفادة من ذلك مع الانفتاح القاصد على الآخر يوشك أن يُصدر الخطاب مكانة كبرى في تثمين المشترك وقطع أشواط مهمة في زمن التفاهم والتقارب.


[1] كيف تغير العالم؟ ديفيد بورنستاين، ترجمة لميس فؤاد اليحيى، الطبعة العربية الأولى: 2014، الأهلية للنشر والتوزيع، ص: من 333 إلى 345.
[2] محمد زاهد جول، الت=ربة النهضوية التركية، تجارب: 2، مركز نماء للبحوث والدراسات، ط: 1/2013، مطابع الشبانات الدولية، ص: 233.
[3] محمد حسني، الخطاب الإسلامي المعاصر، مظاهر القصور ومتطلبات التجديد، مجلة منار الهدى، العدد: 12، خريف 2008، ص:53.
[4] الفيروز آبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب القاموس المحيط، تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، باب الباء، فصل الخاء، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السادسة: 1998م، ص: 81.
[5] طه عبد الرحمن، اللسان والميزان، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى: 1998م، ص: 213.
[6] كلام لطه عبد الرحمان، بتصرف، منقول عن مجلة منار الهدى، العدد: 12/2008، م س، ص: 51.
[7] محمد حسني، الخطاب الإسلامي المعاصر: مظاهر القصور ومتطلبات التجديد، مجلة منار الهدى، العدد: 12/2008، ص: 51/52. بتصرف.
[8] إدريس مقبول، ما وراء السياسة، الموقف الأخلاقي في فكر عبد السلام ياسين، م س، ص: 356.
[9] ياسين عبد السلام، نظرات في الفقه والتاريخ، م س، ص: 18/19.
[10] نفس المرجع.
تاريخ الخبر: 2021-01-21 14:21:00
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 56%
الأهمية: 51%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية