منبــــر: نحن كذلك على استقلالنا أقدر ...


طمس الآثار ونهبها ..طمس الأفكار وتجهيلها ..وطمس التاريخ وتبديله.. وهاهم يريدون طمس أحد أكبر الأحداث وهو ذكرى عيد الاستقلال وقد يأتي الدور على ذكريات أخرى وتواريخ أخرى.

تعودنا كلّما استقبلنا تاريخ 20 مارس من كلّ سنة أن تحيي فينا الأعلام المرفرفة المعلّقة في الشوارع والأنهج ..وتحرّك فينا الأناشيد الوطنية المنبعثة من هنا وهناك «بني وطني « للفنّانة عليّة أو غيرها تلك الذكرى ...ذكرى استقلال البلاد ...اليوم يمرّ أكثر من نصف قرن ونحن نسترجع عبر إحياء هذه الذكرى ملاحم الرجال وحكايات الأبطال ومعاني الولاء والوفاء للوطن ...لكن مع ساسة اليوم ومن والاهم ومع حكومة الطمس نراهم لا يعبؤون بهذه الذكرى ولا يحتفون بها ولا يعيرونها اهتماما وفيهم من بلغ به السخف إلى حدّ اعتبار أنّ تاريخ 20 مارس هو تاريخ مزيّف مدنّس ..هكذا بكلّ بساطة يريد الحاقدون على الوطن طمس تاريخ كامل ونضالات لا تحصى ومراحل تاريخية كبرى ..
لن يمنعونا من أن نحتفل بهذه الذكرى وبغيرها من الذكريات التي تعيدنا إلى جذورنا وتربطنا بماضينا. الذكريات التي لولاها لما كان حاضرنا ولما كان غدنا ..

إنّ احتفال الشعب التونسي كلّ يوم 20 مارس بذكرى الاستقلال، هي مناسبة للتعبير عن التقدير لأولئك الذين ساهموا في تحقيقه عام 1956 بعد تضحيات جسام ومحن مريرة من جيل بورقيبة وجيل الشهداء التونسيين الأبرار أمثال فرحات حشاد والهادي شاكر والآلاف غيرهم من المواطنين الذين استشهدوا في معارك عديدة ضد الاستبداد الاستعماري منذ أن استولت الإمبراطورية الفرنسية على تونس عام 1881 إلى معارك مقبرة الجلاز عام 1911 إلى أحداث ثورة التاسع من أفريل 1938 إلى الانتفاضة المسلّحة ليوم 18 جانفي 1952 وصولا إلى معركة ميناء بنزرت البطولية في عام 1961...فهذه التواريخ التي يريد ساسة اليوم بدافع حقدهم طمسها كانت أكبر الملاحم التي قدّمت فيها أرواح التونسيين سخيّة من أجل الاستقلال وتقدّمت بتونس نحو النصر الذي جاء محققا لبعض أحلام الشعب في استعادة الحرية واسترجاع الهويّة والاعتراف بسيادته على أرضه ومصيره.
ولقد غاب عن هؤلاء الذين يريدون أن يستبدلوا فرح التونسيين بالعنف والحزن وطمس الماضي.

إنّ الاحتفال بالأعياد الوطنية هو من أجل المناسبات لتقييم المسيرة الوطنية على مدى سنوات الأمس والإعلان عن مواصلة الجهد لتجسيد معاني الاستقلال، إيمانا من النخبة التونسية بكلّ أطيافها بأنّ الاستقلال ليس محطة تاريخية بلغناها وطوينا صفحتها بل الاستقلال عمل دائب ومسار متواصل ورحلة لا تنقطع وغاية لا تدرك بمجرّد الحصول على وثيقته القانونية التي وقعت يوم 20 مارس 1956..فالاستقلال بالمعنى الحقيقي والتاريخي والسياسي هو حالة تعبئة مستمرة لا نهاية لها من أجل انجاز غاياته البعيدة وقطف ثماره المرجوة، من عزّة وعنفوان وكرامة وحريّة وحقوق، أي تلك المنظومة من القيم العليا والمثل السامية التي وهب لها الشهداء الأبرار الأرواح عطاءا سخيّا وعمّدوها بالدماء الزكيّة جزاء وفاقا وسقطوا من أجلها شهداء راضين مرضيين.

إننا نرفض أن نحرم من الاحتفال بهذه المناسبة الوطنية الجليلة ..نريد أن يبقى شعور التونسيين حيّا بعبق هذا الحدث وزهوه وكبريائه ...ولن نسمح لمن يريد أن يجعل تلك المشاعر الفياضة تخبو عاماً بعد عام، وعهداً بعد عهد، وعقداً بعد عقد، ليستبدلونها بتواريخ وأحداث وهمية من صنع الخيال ويدفنون تسلسل النضالات وتعاقبها ليجعلوا من تاريخ البلاد سوى تاريخهم مقصين البقية.

نريد أن نذكر لأطفالنا بعض ملاحم البطولة التي كتبتها الأجيال الماضية. نريد أن تعيشها حتّى يزرع فيهم الاعتبار بتلك القيم الخالدة والاستلهام منها ليشحنوا نفوسهم بأبعادها ويثقوا بأن وراءهم أمجادا يستندون إليها وفي ماضيهم ومكاسب حضارية تعزّز مستقبلهم

وهذه المكاسب الثمينة هي النتيجة الطبيعية للاستقلال، ومن واجب الجميع الحفاظ عليها وتعزيزها بالمزيد من التجاوب مع مستحقات عالم اليوم واتساع فضاء الحريات واستعمال كلّ الأدوات والآليات للتشبّث بمدنية الدولة والتشبّع بقيم الجمهورية ومحبّة الوطن ..والمحافظة على الحريّات وخاصة منها حريّة التفكير والتعبير، والاحتكام الى القانون العادل والفيصل الذي يثق فيه الجميع ويلجؤون إليه لبيان الحقوق والواجبات وحماية المجتمع...

إنّ بناء الدولة وتحقيق استحقاقات الثورة لن يمرّ عبر طمس التواريخ وازدياد الظلم وبثّ الفرقة والتدافع في شرايين البلاد ..بل يمرّ حتما عبر صون الاستقلال ..وهذا الصون يعمّق الاعتزاز بالموروث الحضاري والثقافي، ويدفع التونسيين لاستنباط العبر من رموز الأمّة ومن سيرة الأجداد العظام. إذ أنّ التاريخ ليس سجلا لتدوين الأحداث فحسب، بل هو مدرسة تتعلّم منه الأجيال معاني الحرية والاستقلال والاستعداد للدفاع عنها بصورة عصرية تستجيب لمستلزمات العصر الحديث...وانتظارات التونسيين بعد ثورتهم.

لابدّ من تذكير الأجيال بأنّ استقلالنا كان بجهود القدامى من ربقة الاستعمار. ذكرى وطنية ذات بال ...نستثمرها اليوم في استقلالنا من طاعون الإرهاب ...واستقلالنا من الفقر والجهل ومستوى العيش المتدنّي .... استقلالنا من فكر جاء ليقسّم وحدتنا .... استقلالنا من البطالة والتواكل ...استقلالنا من ضعفنا القيمي .... نحن قادرون كما قدر أسلافنا على استقلالهم. نحن كذلك على استقلالنا أقدر ...

الخطر أنّ أجيال اليوم والأجيال القادمة لا جذور لها ... أرادوها كالقصبة في مهبّ الريح لا تحتفل ولا تدرك معنى الاحتفال بعيد الاستقلال والأعياد الوطنية كما بدّعوا وحرّموا الاحتفالات الدينية كالمولد النبوي وغيره...مشروع وهابي إخواني ممنهج قاصم لظهور هشّة...
وعلينا أن نزرع اليوم فكرة أنّ استقلالنا كان من استبداد المستعمر...واستقلالنا بالأمس كان من ظلام الجهل ومن ألم المرض ...واستقلالنا اليوم من التطرّف والارهاب والفوضى وضعف الدولة...
ستحيا تونس مستقلة وتمرّ العواصف وتشرق شمس الانعتاق من كلّ ظلامية...

تاريخ الخبر: 2021-03-24 12:16:32
المصدر: جريدة المغرب - تونس
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 53%
الأهمية: 52%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية