عن سبب جشعهم في سرقة الوطن، يسائل لصوص تونس القدامى ومن خلالهم يسائل لصوصها الحاليين، في الرواية ينفض لص تونس عنه الغبار ليتحدث ومن معه عن السرقة واسبابها، كل له مبرراته ليسرق فقط معتبرا للوطن خزائن اضافية ليدفع.
«كليبتوقراط التونسي ينفض رماده» هو عنوان الرواية هي سيرة الفساد والفاسدين يتتبعها الراوي بذكاء فيجمع الواقعي مع الخيالي ويدمج الراهن بالتاريخ لنقد ظاهرة الفساد والفاسدين والرواية صدرت عن دار «عليسة» للنشر والتوزيع وهي هدية الى من احبوا اوطانهم وسعوا في اصلاحها.
الفساد كما الذئب الجائع لا يشبع مطلقا
تتداخل الاحداث وتتشابك الشخصيات وفضاءات الحكي، من «برج كازما» بقابس فمقهى الشرق قبالة البحر الى نزل بالعاصمة واكبر جزء من احداث الرواية يكون في مقبرة تربة الباي، هناك تتفتح قريحة الراوي ويلاقي شخوصا «اموات-احياء» يكونون دليله ليزيد البحث ويعرف اكثر حقائق تعمّق اسلوبه وتدعم متن روايته، الشخصيات الفاعلة كثيرة بعضها من العصر الراهن وهم خالد الامين كاتب الرواية وصديقه الشريف بن صالح المهندس ثم وزير الاتصلات فصاحب دار نشر عربية ووزير ثقافة في الحكومة التونسية.
رواية داخل الرواية وقص داخل القصة، خالد الامين كتب رواية يسرد احداثها وفي الوقت ذاته يسرد حكايته مع روايته التي ستصبح حديث الناس وشغل الميديا، في روايته يتتبع الكاتب سيرة الوزير مصطفى بن اسماعيل، نهل من الكتب والمراجع ليكتب رواية بسيطة الاسلوب تكشف عن فساد استشرى في هذا الوطن منذ عهود قديمة، من الكتب تبدأ رحلة الكاتب في تجميع معطياته ثم يترك للقارئ في رحلة مع الخيال فيدعو «سيدي بلحسن الشادلي» ويلح في الدعاء حتى تتحقق امنية غريبة ويجد نفسه وهو الادمي الحي يجالس اربعة اموات ينهضون من قبورهم ليحدثوه عن بن اسماعيل لأربعة ايام في وقت محدد ونظام دقيق وينتهي اللقاء قبل اذان صلاة المغرب «زوارك المبعوثون من عتمة القبور استجابوا لمطلوبك ونحن لا نطلب الامان ففي ثرى الجبانة سلامة دون حرس، على يمينك علالة بن الزيّ تجلس حذوه للاّج نينة وعلى شمالك محمد العربي زروق اما انا فادعى علي بن فريجة وتوددا كان اهل السرايا يدعونني علالة، الجماعة بتهيبهم سهم الحكي وخشيتهم سيف الوزير الاكبر دفعوا بي اولا الى خندق الحكي، انطلق عاريا الا من لسان تصرّ عضلته على سرد الحقيقة» (صفحة40).
الى عالم الأموات يحمل الكاتب قراءه، يمعن في الوصف والتدقيق، ينصت بكل حب الى ما تبوح به الارواح المسافرة من العالم الاخر الى الحياة فقط لتشفي غليله الى المعرفة، يسهبون الحديث عن فتى حجام سوق البلاط الذي نهب البلاد حدّ ايصالها الى الحماية الفرنسية، سرق قلب الباي وثم مفاتيح كل الخزائن بالحيلة والمكر وارتقى من فتى في الشارع الى كولونير الى امير لواء عسة الباي (مهنة احدثت خصيصا له) الى جينرال فوالي على الوطن القبلي ووزيرا للبحرية ثم وزيرا اكبر، «بفضل مهاراتي وشطارة المنجم صالح الدزيري تسلمت مفاتيح قلب مولاي الباي وسلمني مفاتيح كل الخزائن والقصور» كما يقول بن اسماعيل على لسان للا جنينة.
بن اسماعيل الوزير الاكبر للايالة التونسية في عهد محمد الصادق باي، الوزير الذي ارتقى في سلم الرتب العسكرية دون خوض تدريبات وعلق النياشين وتحصل على «البسبور الفرنسي» باتفاق مع روسطان، وزير حارب اصلاحات خير الدين التونسي وضيّق عليه سبل العيش في بلاده وتفاصيل تاريخية اخرى تسرد بطريقة ممتعة تشد القارئ تكون على لسان اناس عايشو بن اسماعيل وعرفوه عن قرب فتقول عنه زوجته للاجنينة «سيدي مصطفى رجل ليس ككل الرجال، نعم هو لص ماهر لا يشبع ولا يقنع ولا يرسم نهاية لجشعه ولا يعنيه في الوجود غير منافع ينالها ودرجات عليا يدركها، كل شيء عنده يباع ويشترى، خلق من تراب لا يرويه ماء»
ويضيف محمد العربي زروق «هذا الغلام الغريب الرهيب يقنص اي حادثة، يعجنها ويعركها فتصير طيعة بين كفيه، ينضجها وينضج بها ما يفتح ذريق الوزارة، بلغ به المكر والدهاء ان استاذن من روسطان ان يستغل تصحاح خير الدين على مد سكك الحديد من الجزائر الى دخلة جندوبة ليظهره خدوما لفرنسا» في الرواية الكل يجمع على فساد بن اسماعيل وقدرته على السيطرة على قلب الباي والرقي في سلم الدرجات وامضاء الصفقات مع روسطان وشراء الذمم وبيع الوطن للفرنسيين بعد الحصول على تذكرة للحماية».
وحين ينهي الجماعة حديثهم ويبوحون بما تخفيه النفوس يأتي بن اسماعيل ويجيب»لست لصا ولم اسرق البتة، افتحوا اذهانكم، الفهم ليس دقيقا يعجن في المدارس، اعظم المدارس هي الحياة، هي الازقة الضيقة والممرات المظلمة والاركان العاطنة والظلال المنتنة، انا تخرجت من هذه المدارس، تعلمت فيها كيف اقتصّ من الدهر الريّات والحظ العاثر، تلقيت علوم الهروب من السائد والبائد والارتقاء الى السماء» 123.
«مات الملك...عاش الملك...مات الفساد..عاش الفسّاد»
مات مصطفى بن اسماعيل، لكن الفساد لم يمت، مات علالة بالزي لكن التملق لم يمت، ماتت للاجنينة لكن الصمت تجاه الفساد والفاسدين ظل مستمرا، توفي خير الدين التونسي محاولا الاصلاح ولازالت هناك افكار خير الدين تحاول مقاومة الفساد وبين ثنائيتي الفساد والإصلاح يبني عثمان لطرش قصراني حبكة الرواية، يجعل من الشخصية المحورية كاتبا لان للكتاب قدرة على الاستشراف ولهم طاقة على توليد الخيال فيجعل القراء يستمتعون باحاديث الموتى وفي الوقت ذاته يضعهم في اطار زمني حديث، وبين الهناك والهناك سؤال عن الوطن، عن الفساد والخيانة.
الشخصية الرئيسية خالد الامين استاذ انهكته سنوات التعليم ولازال يجاهد في الحياة يختاره انطوائيا كارها للسياسة فقط خياله خصب وصاحب اسلوب روائي ممتع، تنهكه الحياة فيبوح بالقول «اشواك الحاجة وأظافر زوجة تغرزها كل صباح في اللحم الحي، طلباتها تتطاول على جيبي المثقوب وتتعالى على مرتبي الخجول، تمزقني وتخدش العظم نظرات تلاميذ مترفين الى انكماشي وانكساري وتكرمش قميص التقطه من الفريب، هذا الوطن كلما احببته ازداد شراسة وأرسل نيرانه الى كياني المرتعش كجريدة يصفعها الريح» صفحة 12، يكتب رواية «روايتك يا خالد تيمتها الفساد لا بدّ ان تكون حدثا وحتما ستكفأ على جهدك وفنّك وفكرك» (صفحة153) اما صديقه المقرب الشريف بن صالح مهندس يعمل بفرنسا يعود الى تونس بتعلة خدمتها وإرجاع القليل من فضل الوطن عليه، مرشح لخطة وزير اتصالات وشعار حكومتهم «نحن اي هذه الحكومة سنجتثّ الفساد وسنملأ السجون بالفاسدين واللصوص وسوف ندعم ما استطعنا كل مبدع ساع الى التغيير»(صفحة151).
تتغير الشخصيات من شخوص موتى يظهرون فقط في جبانة تربة الباي، الى اشخاص احياء يعيشون وقتهم الراهن، ابناء عصرهم وأبناء هذا الوطن الآن، تتغير مناخات الرواية من عوالم الموتى المتسمة بالنظام الى عوالم الاحياء الفوضوية، تتغير القصص والحكايات لكن الفساد ثابت لا يتحوّل، في الرواية يكتب لخالد الامين النجاح بمساعدة صديقه وزير الاتصال تنشر الرواية وتحقق مبيعات عالية بتعلة انها تشن حربا على الفساد «قرات روايتك وهي من النفائس، وارى انها ستحلق عاليا وستذهب بك بعيدا، منذ يومين حدثت عنها وزير الثقافة وأذن بان تحظى بدعم سريع للطباعة والنشر والتسويق» (صفحة151)، تتحول الرواية التي تحارب الفساد الى حديث الميديا وتترشح الى جائزة عربية والكاتب يعتقد انه مبدع حدّ اجتماع يحدث في مطماطة في احدى النزل البعيدة يجمع الكاتب وصديقه وزير الاتصال ووزير الثقافة وصاحب دار النشر وتنطلق المفاوضات لتقسيم الكعكة وقيمة الرشاوي التي يجب ان تدفع حتى تصل الرواية الى الجائزة وكيفية تقسيم الاموال الكثيرة، اجتماع يذكر الكاتب باجتماع بن اسماعيل بجماعته وهو يقسم كعكة الوطن وأموالها وحين يرفض الانصياع للخطة تكون النتيجة السجن.
في الرواية يحاول الكاتب تسليط الضوء على انتشار الفساد، فالفساد ليس مرتبطا بشخص واحد انما هو عقلية اصبحت زاد الكثير من التونسيين «سيب عليك من الثرثرة سبب خراب عمران البلاد هو الفساد الذي استوى ثقافة وعقيدة والارتهان للاجنبي والسعي السعيد لخدمته وقبول شروطه» (صفحة136) وكما قال بن اسماعيل انه لص والظروف اجبرته ليكون بذاك الدهاء ويكون نمرا لا يشبع فسياسيي اليوم ومسؤوليه لهم حججهم الفضفاضة فاغلبهم يسكنه ذئب جائع نهم.
