حدث في رمضان..ألغاز تنفيذ حكم إعدام في الكومسير الحاج ثابت


في مثل رمضاننا هذا، كان الرأي العام الوطني يتابع فصول محاكمة ليست ككل المحاكمات، إنها محاكمة الكومسير ثابت التي اجتمعت فيها السلطة بالجنس في زمن الانغلاق.

 

وفي رمضان اليوم بعد ما يقارب 28 سنة، تقف “الأيام” على حكاية غريبة ومريبة حول تنفيذ حكم الإعدام في الرجل ومدى صحته ولماذا يبقى قبره مجهولا إلى حدود اليوم وأسئلة كثيرة ستقود “الأيام” إلى هذا التحقيق المثير، والذي يطرح في النهاية قضايا أساسية مرتبطة بالشفافية وحقوق الإنسان، فلنتابع.

 

في البحث عن القبر

 

الطريق من قطاع الحي الحسني إلى مقبرة الرحمة بطريق أزمور مقفرة ومتعبة، السيارة تسير فوق إسفلت مهترئ وحفر أكلت الجزء الأكبر من الطريق، تجزئات سكنية حديثة في حالة مد عشوائي ممتدة كالفطر على طول الطريق، عشرات المتسولين من رجال ونساء متناثرون أمام باب المقبرة وبضعة زوار منهمكون في البحث عن قبر حبيب أو قريب.

 

انخرطت مع زوار المقبرة في رحلة البحث عن قبر رجل دفن قبل أكثر من عشرين سنة، رجل مجرد السؤال عن قبره كفيل بزرع الرعب وسط النفوس، ويبدو أن الرجل مازال مزعجا ومثيرا للخوف والتساؤل حتى بعد كل هذه السنوات، إنه الكومسير الحاج ثابت الذي قلب المملكة بداية التسعينيات من القرن الماضي.

 

«شكون .. الحاج ثابت .. فالبقعة الأولى على اليمين .. إيه راه هو كان من الأولين لي دفنوا في الرحمة»، يقول «أحمد»، شاب في الأربعينات يحمل سطلا به «جير» لطلي القبور، واسترسل بحماس وفضول زائد : «أنت من عائلتو .. تسنا غادي نعيط لواحد السيد من الناس القدام في الروضة وهو لي بنا عليه القبر»، اختفى «أحمد» بضع دقائق وعاد برجل يبدو أنه خبر خريطة المقبرة وموتاها، ركض بخفة بين القبور والأعشاب الشوكية التي تعلو جنباتها في اتجاه القبر، وقف على قبر يحمل رقم «446»، وقال وكأنه اكتشف أمرا جللا : «هذا هو القبر ديال ثابت .. أنا عارفو مزيان حيت بنيتو بيدي، القبر ديالو معروف ما فيه لا شاهد ولا سميتو ولا والو»، واسترسل بجد وحماسة بادية بعد أن مددت له ورقة نقدية من فئة 50 درهم : «الله يخلف .. هذا هو ثابت الله يرحمو .. المخزن مخلاش دارهم يثبتو عليه الشاهد وخا جابو رخامة فيها سميتو داك النهار» ..

 

«بغيتي نقيوه ليك من الشوك ونسقيوه ونجيروه»، قالت سيدة بفضول مزعج وقفت للتو أمام القبر، فرد الرجل بحزم دون أن أكلف نفسي عناء الرد على تلك السيدة التي بدت بتقاسيم وجه قاسية لفحتها الشمس الحارة: «لا خلي السيد يتأكد .. سير معا أحمد بعدا عند المحافظ تأكد، القبر ديال ثابت معروف، قول ليهم في الإدارة غير رقم 446»…

 

قبر ثابت بني بشكل عادي جدا كباقي القبور حتى لا يثير الانتباه نظرا لأنه المثوى الأخير لرجل لم يكن عاديا أو على الأقل عاش محاكمة لم تكن عادية، قبر تم تزليجه باللون الأخضر يحمل رقما تسلسليا هو «446» في بقعة مخصصة لدفن الموتى الذين يصلون إلى المقبرة في صناديق الأموات، قبر ثابت لا يحمل اسم صاحبه وليس به شاهد كباقي القبور الأخرى، وحتى الدفتر المخصص لتدوين الموتى وتاريخ الدفن في إدارة المقبرة ليس به سوى رقم القبر «446» في حين ترك مكان الإسم وتاريخ الوفاة والسبب والعنوان شاغرا .. معطيات تفتح باب التشكيك على مصراعيه حول حقيقة الجثة التي ترقد في قبر بلا هوية .. «ذلك اليوم جاءنا اتصال من الداخلية بعد صلاة العصر وقالوا لنا هيئوا لنا مكانا لدفن جثة في البقعة المخصصة للصناديق، وكذلك فعلنا وحتى رخصة الدفن لم نتوصل بها، كل ما فعلناه، ذلك اليوم هو التطبيق الحرفي للأوامر»، يقول أحد الموظفين في مقبرة الرحمة حيث القبر المجهول الهوية لمن اعتبر بأنه الحاج ثابت ..

 

قبر ثابت أخذ له مكانا قصيا بين القبور، قبر لا يثير الانتباه علته الأعشاب الشوكية والعوسج، قبر مجهول دون هوية مثير للتساؤلات والاستفهامات تماما كما كان الرجل أثناء حياته، وقفت أمام القبر مسترجعا شريط ذكريات رجل قلب الدنيا وشغل الناس جميعا ذات رمضان، رجل لم يكن عاديا، رجل عاش تفاصيل حياة غير عادية حتى كانت نهايته كذلك.. وبينما أخذتني الذكريات وأنا أقلب شريط تفاصيل حياة الرجل وما أحدثه من رجة في مغرب الأيام الأخيرة من حكم الحسن الثاني رن الهاتف بقوة …

 

الإعدام المفترض

 

سرررررررر…. سررررررر…. سرررررررر

يرن الهاتف بعنف، يملأ البيت الذي كان يخيم عليه صمت أحزان طرية، تسرع الحاجة مليكة زوجة الحاج ثابت إلى السماعة، بعد بضع ثوانٍ تنهار المرأة، تنزلق السماعة من بين يديها. يسرع إليها باقي أفراد الأسرة، لم يستفسروها عما جرى وكان له هذا الوقع المخيف في نفسيتها. علموا من الطريقة التي انهارت بها المرأة بصمت أنه أعدم، نفذ الحكم بطريقة مفاجئة سريعة، وصادمة.. وبينما كانت الأسرة منهمكة في حزنها وصدمتها رن هاتف بيت الحاج ثابت مرة أخرى في السادسة صباحا ذلك اليوم فأجاب هذه المرة صهره «حسن»، كان المتحدث في المرة الثانية العميد الممتاز حميدة بن عبد الله رئيس الاستعلامات العامة في الدار البيضاء حينها والرئيس المباشر للحاج ثابت، قال حميدة بنبرة حزينة : «الحاج راه عدموه اليوم مع الربعة ديال الصباح في الهرهورة، وراه غادي نوقفو معاكم باش دفنوه في كازا» ..

 

«انقطع الخط أو هكذا خيل إلي، فقد عم سكون رهيب .. دفنت رأسي في الفراش وأخذت أبكي، لا أتذكر أني بكيت بهذه الحرقة في حياتي كلها، ضغطت على رأسي بقوة، حتى تصورت أن رأسي سينفجر لكن الدموع بقيت تنزف من عيني بغزارة، لم أكن أتوقع بأنهم سيعدمونه بهذه السرعة»، يقول حسن، صهر الحاج ثابت، بمرارة بادية.

 

تلك لحظات من يوم 25 غشت 1993، يوم حار زاده خبر إعدام الكوميسير ثابت قيظ. إلا أنه رغم الحرارة التي خلفتها الطريقة التي طوي بها الملف، الذي ألهب المغرب من طنجة إلى الكويرة، على مدى ثلاثة أشهر، نزل خبر الإعدام ثلجا على صدور الكثيرين. ولم يسأل أحد عن تفاصيل العملية، ولا كيف تمت، ولا همهم أين؟ ولا إن كان الرجل قد استحق أن تلقي الدولة برصاصها في رأسه، اقتصاصا لهيبتها، أم أنها وجدت نفسها، كما تشير لذلك اليوم عائلة ثابت، مضطرة إلى تصفية واحد من أهم رجالاتها، والذي كان يستعد لتطليق الخدمة في الأمن بالثلاث، والتفرغ لإدارة استثماراته؟ لهيب الملف والدخان الذي تصاعد منه لم يترك مجالا للرؤية، للسؤال عن دقائق 25 غشت ذاك، والذي تعود إليه «الأيام» وتتنقل فيه من البيت إلى القنيطرة إلى المهدية حيث الساحة التي تنفذ فيها أحكام الإعدام.

 

«قبل من داك النهار كنت عندو، كان نهار الجمعة وعدموه نهار الإثنين مع الفجر»، يقول حسن، صهر ثابت وأحد أقربائه المقربين، ويضيف وحرقة السؤال مازالت تأكل قلبه: «قال لي الحاج الله يرحمو : سمعت رفضو لي النقض! .. زعما غادي يعدموني؟ .. لا لا ما يمكنش، غادي يكيفوها فساد ياك أحسن .. ياك عيالاتي بجوج سامحوني، لا لا ما يمكنش، أنا ما خنت لا ملكي ولا وطني»، كان الصهر يردد آخر ما سمعه من الكوميسير، ويردد هو الآخر «لا يمكن أن يعدم شخص بهذه الطريقة، وأن تمر محاكمته بشكل سريع، كأن الغرض كان هو الانتقام».

 

كانت صرخات الحاج ثابت حادة مزقت صمت الزنزانة، انتابته هيستيريا الحكم بالإعدام .. «رأيته فجأة ينتصب وسط صالة استقبال الزوار في السجن وقد ارتاع وجهه وعلت موجات من الغضب تقاسيمه الحادة لدرجة أنني خلته انسانا آخر وليس الحاج الذي أعرف»، يقول صهره متأثرا ويضيف : «حاولت آخر مرة أن أتحدث معه لكن لم أظفر بجملة كاملة، كان يردد كلمات، مجرد كلمات، وأغلب الأحيان لا رابط بينها، وليست ذات معنى، أما الأكل فلم يستطع أن يأكله، بدا هزيلا محبطا مستسلما لنهايته … كان يهز رأسه بحزن حين أكلمه، تقلص وجهه، ثقلت أنفاسه، أصابه شحوب شديد»، كانت هذه آخر تفاصيل حياة الحاج قبل إعدامه …

 

لم يحل المسؤول الأمني على قاضي التحقيق، لم يحظ بفرصة التأكد من مدى مشاركة الفتيات اللواتي ظهرن في الأشرطة، ليتبين إن كن ضحايا أم مشاركات، بذلك كان المدان سيتمتع بظروف التخفيف، وهذا ما طالب به أحد محاميه حين قال «أعتذر إذا قلت إن الضحايا كان لهن ضلع في ما اقترف من آثار وجرائم، وأريد من المحكمة أن تتأكد معي بأن الضحية قد تكون مساهمة في ارتكاب الجريمة»، معتبرا أن المساهمة تعتبر ظرفا من ظروف التخفيف». كثيرة هي التفاصيل التي تحضر فيها أداة الجزم والنفي، لتأكيد أن ثابت حوكم بأقصى عقوبة، «استظهر أمامي جميع الفصول القانونية، كان يعرف جميع الثغرات التي يمكن أن تقوده إلى الأسوأ، ولكن أسوأها لم يكن ليؤدي إلى إعدامه، لذلك هو نفسه لم يصدق أنه سيعدم، حتى عندما رفضوا النقض»، يقول حسن جازما.

 

رنين الهاتف جعل البيت يغرق في دموع سكانه، انتظر حسن صهر ثابت ووالده المسن ومعاذ ابنه البكر الإشارة الخضراء للالتحاق بالقنيطرة، «عاملونا بغلاظة قلب، حتى ابنه الذي كان مصدوما لم ينج من هذه المعاملة، كانت كل عباراتهم عبارة عن أوامر وتعليمات».

أحضِروا .. «صندوق خشبي» و«كفن» و«فقيه» .. كانت هذه هي التعليمات التي انتقلت من مقر الداخلية إلى أقارب ثابت، الذين لم يكن لهم علم بالطريقة التي يتم بها الإعدام، أو كيف تنقل الجثة إلى أقارب المعدوم، «وصلنا إلى القنيطرة، لم يسمحوا لنا برؤية الجثة، قيل لنا أحضروا ما طلبناه منكم، وقد تجردت عباراتهم من كل إنسانية، حين سيطلبون منا إحضار أكياس بلاستيكية كبيرة الحجم «ميكا كحلة»، وهم يؤكدون أن الدم سيتسرب من الجثة إلى الكفن، وكأنهم لحظتها كانوا يتحدثون عن جيفة وليس جثة شخص له مكانته في قلوبنا، وإنسان قبل كل شيء نال أقصى عقاب …

 

«قالو لنا جيبو الفقيه بعدا يغسل الجثة»، إلا أن عناصر الدرك التي كانت توجه الأوامر رفضت استقباله، «بدا أن هناك حالة ارتباك وكأن الأمر يتعلق بأول حالة إعدام في المغرب، قالوا لنا سوف نغسله بطريقتنا الخاصة، لا داعي لفقيهكم، سمحوا لنا برؤيته مكفنا قبل وضعه في الصندوق»، يقول حسن الصهر بامتعاض شديد ويسترسل جازما « للأمانة أقول لكم بأننا رأينا جثة في كفن أبيض، قالوا لنا هذه هي جثة ثابت، لم نر وجهه ولم نتأكد إن كان هو حقا، الأمور كانت تسير بسرعة غير مبررة».

 

عدم السماح للإبن والصهر والأب برؤية وجه الحاج بعد إعدامه وتلمس ملامحه الباردة يثير العديد من الأسئلة المستفزة، أقواها : هل فعلا أعدم ثابت؟ هل تلك الجثة المكفنة التي وضعت في الصندوق هي لشخص الحاج ثابت؟ بل لماذا سكت فجأة محامي الحاج ثابت بعد عودته من ساحة الإعدام عن الكلام وخاصم العائلة للأبد؟ .. ؟؟؟

 

العديد من الأسئلة بقيت ملغزة إلى اليوم وجعلت الأسرة تواجهها بسيل من الإشاعات، حتى إن البعض دق باب العائلة ليخبرهم بأن الحاج ثابت لم يعدم لأن منهم من رآه بأم عينيه في باريس، وآخرون رأوه في الصحراء، وأضحى الحاج ثابت طيفا غامضا غموض إعدامه ..

 

كانت مدينة القنيطرة تلك الظهيرة القائظة مطوقة برجال الدرك في كل مكان بطريقة مثيرة للانتباه .. «طلبوا منا السير عبر سياراتنا وراءهم، لكن فرضوا علينا الحفاظ على مسافة 3 إلى 5 كيلومترات بيننا وبين النعش على طول الطريق بين القنيطرة والدار البيضاء في اتجاه مقبرة الرحمة حيث سيدفن الحاج ثابت»، يقول حسن صهر الحاج ثابت متذكرا وقائع إعدام الكوميسير ويضيف مسترسلا : « أخبرت بعد ذلك أن العديد من الضباط السامين في الإدارة العامة للأمن والدرك حضروا الإعدام وكذلك وزير العدل ومسؤول بوزارة الأوقاف وفقيه تابع للوزارة، وقد تم إعدامه في مقر الرماية التابع للدرك الملكي في المهدية حيث ساحة الإعدام الشهيرة بحضور محاميه عفريت بناني، المحامي الذي كان يهز القاعة بمرافعاته ودفاعه عن الحاج وجعل حتى أكثر المهاجمين والمعاتبين للحاج يتعاطفون معه، اختفى المحامي وسكت عن الكلام المباح بعد أن تقاضى 35 مليون سنتيم ثمنا لدفاعه، ولم يرغب في الحديث مع العائلة حتى عن اللحظات الأخيرة لإعدام الحاج».

 

يقول عبد الرحيم بادي المدان في ملف ثابت بثلاث سنوات في شهادته:»أما بالنسبة لإعدام ثابت، فقد أعدم بعد صلاة الفجر، وقد قيل له بأنه سيتم ترحيله من سجن إلى آخر، لكنه فطن للأمر، وقال لهم إنه آخر يوم في حياته، فأدى صلاة الفجر، ثم نقل إلى المهدية، وهناك كان لفيف من القوات المساعدة، بحضور مدير السجن المركزي وطبيب مصلحة السجون، والجينرال حسني بن سليمان رئيس الدرك الملكي والمدير العام للأمن الوطني أحمد الميداوي والمدير العام لإدارة السجون، وإمام، وعدلين، ومحامي ثابت، ورفض أن يضع ضمادة على عينيه، ولما هم اللفيف بإطلاق النار طلب منه آخر كلمة فقال : «لقد حوكمت بأفعال يأتيها الجميع، وإن من حوكموا معي أبرياء»، ثم أعدم»، إلا أن شهادة هذا الضابط الممتاز لا يمكن الوثوق بها ما دام لم يكن شاهد عيان.

 

أحضروا سيارة إسعاف ونقل فيها الدرك النعش الذي كان عبارة عن تابوت مشمع وأحكموا إغلاقه بالقفل، وكان دركي يجلس قرب السائق ودراجتان ناريتان للدرك تخفران النعش وسيارة أخرى من نوع «رونو» بها ثلاثة مسؤولين دركيين في الوراء، والكولونيل دينار رئيس فرقة التحقيق يجلس بجانب السائق وقال للصهر حسن قبل الانطلاق: «اسمع يجب تطبيق التعليمات بالحرف.. يجب أن تحافظ على مسافة بين 3 إلى 5 كلم بينكم وبين سيارة النعش، وإذا أحسسنا بأنك أخللت بالشرط سنتوقف ونرجع لدفنه في القنيطرة» …

 

انطلق الموكب الجنائزي في اتجاه مقبرة الرحمة في الدار البيضاء، وكانت حينها تحت نفوذ الدرك الملكي .. الطريق من الدار البيضاء إلى القنيطرة رغم أنها لا تتجاوز الساعة والنصف فقد استحالت وكأنها ساعات زمن طويلة ومملة، والصهر حسن والوالد والإبن معاذ يسترجعون شريط ذكريات الكوميسير ثابت، رجل الأمن القوي الصعب المراس الذي أصبح جثة هامدة منخورة بالرصاص تسير إلى مثواها الأخير مستسلمة …

 

الوجه الآخر لثابت

 

الحاج ثابت مصطفى أحد أبناء الزاوية في درب غلف في بالدار البيضاء، يتحدر من أسرة متواضعة، والده حمري من ولاد أحمر، كان يعمل قيما دينيا على مسجد درب غلف العتيق، والدته تتحدر من مدينة تاونات وكان الحاج ثابت يحبها حبا كبيرا لأنها الأم الحنون والعطوف أمام قسوة الأب الذي ربى ثابت الإبن الوحيد لأبويه تربية دينية محافظة، حتى إنه ختم القرآن خمس مرات بالمسجد العتيق في درب غلف.

 

حصل الحاج ثابت الشاب على الباكالوريا بامتياز، وكان أستاذا للغة العربية في التعليم الإعدادي، متزوج بامرأتين، له من الأولى بنتان وولد، ومن الثانية الصغرى بنت وولد، «كان يحب فريق الرجاء البيضاوي حتى النخاع، رجل شعبي ونخوة ويحب المطالعة وأفلام «الأكشن» والخيل والتبوريدة، وبداية مساره المهني في التعليم كان خطأ تم تداركه»، يقول مصدرنا الأمني.

 

لم يستهوه التعليم فالتحق بالأمن بعد اجتياز مباراة كحارس أمن، وهي أدنى رتبة في جهاز الأمن، التحق بعد ذلك بمركز بوقنادل حيث خضع لتكوين تخرج منه برتبة مفتش شرطة، عمل في بداية مساره الاستعلاماتي في الأمن بمدينة أكادير، وفيها تعلم الأمازيغية ونسج شبكة من العلاقات مع أعيان وتجار المدينة، ونهل الأسس الأولى للتجارة والربح عبر البيع والشراء، وفتحت بذلك شهيته في عالم المال والأعمال، فقد كان يدخل في صفقات تجارية تهم المجال الفلاحي بالدرجة الأولى ك «معلم مول الشكارة» كأن يشتري محصولا زراعيا ويعيد بيعه سواء الحبوب أو القطاني أو الخضر والفواكه، وبدأت بعد ذلك أطماعه التجارية تتوسع لتشمل العقار، وتصدير الحلزون حتى إلى دولة إيطاليا في صفقة درت عليه أموالا طائلة، وحينها فقط بدأت «رائحته تصل الأنوف»، يقول مصدرنا ويضيف: «أصبح الرجل تحت دائرة الضوء ولم تعد أطماعه لها حدود، تلذذ بالثروة والجاه والسلطة وحينها فقط أصبح رأسه مطلوبا».

 

ولم تخب أضواء الحاج في عالم الاستعلامات ولم يؤثر البيع والشراء على مساره المهني الاستعلاماتي، بل بالعكس حافظ الحاج على مساره التصاعدي في الاستعلامات العامة، إذ تمت ترقيته بعد مسار جيد في أكادير إلى رتبة ضابط للشرطة القضائية، وتم تعيينه في خريبكة رئيسا مكلفا بمحاربة التنظيمات الماركسية اللينينية ومد الجماعات الإسلامية وخاصة العدل والإحسان، «كان رجلا للاستعلامات العامة من الطراز الرفيع، حتى إنه تم اختياره وضمه في اللائحة التي قدمت للحسن الثاني والتي بها رجال الأمن الذين سيسهرون على السير العادي لألعاب البحر الأبيض المتوسط بالدار البيضاء»، يقول مصدرنا الأمني.

 

انتقل الحاج بعد ذلك إلى مدينة بني ملال، حيث رقي إلى رتبة عميد، وبعدها انتقل إلى أمن سيدي عثمان حيث اشتغل رئيسا للاستعلامات العامة، وبعدها في بداية التسعينيات تمت ترقيته إلى عميد ممتاز وأسند له منصب رئيس الاستعلامات العامة بقطاع عين السبع الحي المحمدي، وبقي في ذلك المنصب حتى تم تفجير قضية الحاجة حليمة التي تقدمت بشكاية تتهم فيها الحاج ثابت باغتصابها في شقته مسرح أحداث 118 شريط فيديو للممارسات الجنسية الشاذة بشارع عبد الله بن ياسين في الدار البيضاء أدت بالحاج ثابت إلى الإعدام رميا بالرصاص…

 

الدفن المريب للكومسير

 

عندما وصل الموكب الجنائزي إلى بوسكورة تغير درك القنيطرة وأتمم الطريق مع الموكب درك الدار البيضاء .. وقرب مقر الفوسفاط بدا للدرك الذين يقومون بخفر النعش أن تلاوين من البوليس في انتظار النعش فغيروا الطريق في اتجاه دار بوعزة في نفوذ الدرك الملكي حتى وصل الموكب إلى مقبرة الرحمة التي كانت ممتلئة عن آخرها برجال الدرك أغلبهم بالزي المدني، وكان الزمن حينها مشرفا على أذان المغرب..

 

«البوليس لم يتدخل في العملية، وحين هاتفت العائلة لأخبرهم بضرورة الالتحاق بالمقبرة لحضور مراسم الدفن، طلبوا منا رقم البطائق الوطنية للقادمين ورقم لوحات السيارات القادمة على ألا تتعدى ثلاث سيارات وأن يكون كل المشيعين مدنيين»، يقول حسن صهر الحاج ثابت الذي رافقه إلى لحده، وأضاف بدهشة : «المقبرة كانت فارغة ذلك المساء، وقد صادف الدفن أذان صلاة المغرب، كانت المقبرة فارغة حتى إننا لم نجد «الكرابة» لسقي القبر، وبائعي ماء الزهور، أدخلوه للمقبرة مباشرة دون الصلاة عليه في المسجد، وبإلحاح منا تركونا نصلي عليه قرب القبر، كانوا في حالة من الاستعجال وكأنهم يريدون دفنه وكفى»..

 

وأخيرا دفن الرجل في قبر يحمل فقط رقما «446» وبدأ الليل يرخي سدوله حين أدبر الكل عائدين .. وصهر الحاج ثابت حسن مازال يقلب شريط ذكريات الحاج الذي كان مجرد ذكر اسمه كفيلا بأن يحدث زلزالا مدويا في مدينة الدار البيضاء، مازال حسن يتذكر ذلك اليوم حين تفجرت القضية ..

 

ذكريات وشاهد قبر مرفوض

 

بدا عصبيا مخطوف الوجه، وبغمغمة لا تكاد تفهم قال لعائلته بأن الوكيل أرسل في طلبه، والدرك يريد الاستماع إليه، تبادلوا النظرات في ما بينهم، ونظروا إلى الحاج، لأول مرة يكتشفون في عينيه بريقا وحشيا وارتباكا غير مسبوق … كانت القضية مفاجأة، لم يتوقعها أحد، وللحظات خيمت الدهشة وعم الذهول .. الحاج ثابت الحامل لكتاب الله، الرجل الوقور والمحافظ متهم باغتصاب وافتضاض وهتك عرض العديد من النساء بالعنف وتصويرهن في أوضاع جد مقرفة .. لا أحد صدق الأمر في البداية ..

 

أجال الحاج وجهه في وجوه الناس الذين خيم عليهم الصمت والذهول من هول صدمة الخبر والواقعة … وتوالت الأحداث كابوسا مدويا ليجد الحاج نفسه في قفص الاتهام .. كان مصمما أول الأمر على ألا يتكلم، ألا يبوح بكلمة، حتى إذا حاصروه بالأسئلة، ولم يجد مجالا للهرب، فلا أقل من بضع كلمات … أضحى مع توالي الجلسات شديد الصمت لا يجيب إلا بكلمات محسوبة، أصبح يميل إلى الصمت والتأمل وقد بدا مستأنسا بأجواء القاعة الباردة مع توالي الجلسات..

 

كان يريد أن يتحدث أكثر، وبطريقة أفضل، لكنه لم يستطع، حتى لو أراد أن يتكلم فإن كلماته تبدو غامضة فجة وقد لا يفهمها أحد .. كان ذلك اليوم حزينا إلى درجة لا يتذكر أنه حزن بذلك المقدار، وشعر أن ثقلا أقرب إلى الصخرة يجثم على صدره، وإذا كان قد تعود أن يصدر الأوامر بلذة ومكر أحيانا، فلقد كان ذلك اليوم واجلا أقرب إلى اليأس والاستسلام، وكان مستعدا لأن يفعل ما يطلبه الآخرون دون نقاش…

 

تذكر حين كان يتكفل بإرسال المؤونة السنوية لزاوية سيدي عبد المومن في امينتانوت مسقط رأس والدته لإحياء الموسم وكم كانت والدته تفرح لذلك، كما تذكر دعمه المادي والمعنوي لزاوية اليوسفية في ولاد حمر مسقط رأس والده، وحضوره الموسم و»التبوريدة»، كان يحب رائحة البارود الممزوجة بغبار الأرض ورائحة شواء اللحم والكفتة، تذكر كل شيء جميل وإنساني في حياته بعيدا عن ذلك الوحش الذي يستيقظ في داخله كلما كان وحيدا معزولا مع أنثى لا حول لها ولا قوة ..

 

الحاج ثابت رجل نقطة ضعفه حواء، أحب النساء بجنون وتلذذ بهن حد التعنيف، يقول العميد بنمغنية الذي أصابته شظايا حب الحاج الجنوني للحريم : «كنا نعرف أنه زير نساء، حيث كانت تتردد عليه الكثير من النساء في المصلحة»، ويضيف الضابط عبد الرحيم بودي الذي اكتوى من نار حب ثابت للنساء في شهادته : «كان ذكيا ومناورا، وكانت له قدرة فائقة على نسج العلاقات، وكنا نعرف أنه زير نساء لكن ليس إلى هذا الحد، فقد تم إجراء تفتيش بشقة العميد الممتاز ثابت وتم حجز 118 شريطا بورنوغرافيا، تظهر فيه 518 سيدة في أوضاع جنسية مختلفة»..

 

أثناء المحاكمة أمام هذا الكم الهائل من الضحايا .. كانوا يتطلعون إليه بإمعان في محاولة لاكتشاف النتائج والردود حتى دون كلمات … كان يشعر بالحزن والضعف في آن واحد، وكان يحاول تغليف حزنه وضعفه بالصمت .. لأول مرة، منذ وقت طويل، يشعر أن حياته منذ البداية وحتى هذه اللحظة تافهة، عديمة المعنى، وأن ما فعله طوال عمره لا قيمة له أبدا، بل ويثير اشمئزاز وكراهية الآخرين … الآن يبدو له كل ما فعله، وكل ما عاشه مجرد خطأ كبير، وكان يكابر ويواصل الخطأ، كأنه سيجد الصواب في نهاية هذه السلسلة من الأخطاء القاتلة …

 

«في اليوم الموالي عيطو لنا الدرك باش نبنيو عليه القبر وحين ثبتنا شاهدا من الرخام يحمل اسمه وتاريخ الوفاة تلقينا أمرا بإزالته، قالوا لنا بنيو عليه ولكن ما ديرو لا إسم لا والو، خليو غير الرقم باش تعقلو عليه»، يقول أحد أفراد الأسرة ويضيف : «عانينا الأمرين لاستصدار حكم بأخذ محجوزاته دون جدوى، إذ مازالت أوراقه وشيكاته وساعته اليدوية وخاتم وسوار محجوزة بدولاب حديد في مقر الدرك 2 مارس، نريد فقط شيئا نتذكره به، لقد أعدموه مرة وأعدمونا معه مئات المرات».

 

ووحدها سيارة الحاج ثابت التي كان يكفي مرورها بشوارع البيضاء لزرع الرعب وسط المواطنين مازالت جاثمة في مكانها بالمحجز البلدي للسيارات بطريق أزمور، مازالت في مكانها يتم غسلها كل يوم والاعتناء بها إلى حين صدور التعليمات .. فمن يدري، قد يطلبها مسؤولو الرباط ذات يوم أو قد ينبعث الحاج من رماده لأخذها شخصيا بيده ذات يوم!! .. من يدري؟؟؟

تاريخ الخبر: 2021-04-20 14:15:20
المصدر: الأيام 24 - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 60%
الأهمية: 78%

آخر الأخبار حول العالم

إذاعة “هيت راديو” تخرج عن صمتها بشأن فبركة عملية "الكريساج”

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-28 15:27:27
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 62%

إذاعة “هيت راديو” تخرج عن صمتها بشأن فبركة عملية "الكريساج”

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-28 15:27:26
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 67%

أوناحي: "أدائنا أصبح مكشوفا أمام الخصوم.. وعلينا إيجاد الحلول"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-28 15:27:49
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 69%

أوناحي: "أدائنا أصبح مكشوفا أمام الخصوم.. وعلينا إيجاد الحلول"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-28 15:27:48
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 56%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية