وجاءت هذه الحكومة بعد موجة شعبية كبيرة قادتها حركة M5 بزعامة الشيخ محمود ديكو، ثم تدخَّل الجيش واستولى على السلطة وأطاح بالرئيس وطاقمه الرئيسي وأعلن سلطة انتقالية يسيطر فيها الجيش على معظم المقاعد.

واضطر الجيش نتيجة الضغوط الإقليمية والدولية إلى أن يجعل على رأس البلاد رئيساً مدنياً بسابقة عسكرية، وسارت الأمور بهدوء حتى تجددت الاحتجاجات الشعبية والنقابية احتجاجاً على تردِّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وكانت الفرصة سانحة أمام الرئيس ورئيس وزرائه أن يُحدثوا بعض التغييرات التي تحدّ من تدخل الجيش في أركان الدولة ووزاراتها.

فنفذ مناورة الْتفافية أدت إلى إخراجه الوزيرين العسكريين القويين وزير الدفاع ساديو كامارا ووزير الأمن وموديبو كوني، وهما من كبار ضباط الحرس الوطني الأقوى نفوذاً داخل المؤسسة العسكرية الحاكمة، وكان البديل لهما من المؤسسة العسكرية ذاتها ولكنهما من القوات الجوية وهما الجنرال محمد لمین بالو في الدفاع والجنرال سلیمان دوكوري في وزارة الأمن والحماية المدنية.

هذه المناورة الخطيرة التي جاءت قبل تسعة أشهر من نهاية المرحلة الانتقالية رَفعت من حالة التأهب لدى الجيش المالي الذي شعر أن قروناً فرنسية تتدخّل مجدداً بالشأن المالي وتتجاوز حدودها بجرأة وغرور، وأن فرنسا الغاضبة من الانقلاب العسكري على الرئيس السابق إبراهيم أبو بكر كيتا من دون علمها أو التنسيق معها تريد الآن أن تستعيد زمام المبادرة بمالي.

فتحرك الرئيس الفعلي للبلاد الذي أجبرته الحسابات الدولية على قبول منصب نائب الرئيس ليقود الحرس الوطني والدرك لاستعادة النفوذ سريعاً قبل أن يتمكّن الرئيس الانتقالي من تمكين خطته بمساعدة فرنسية فتحرك الجيش من معسكره القريب من العاصمة باماكو فاعتقل الرئيس ورئيس وزرائه ووزير دفاعه الجديد، وما لبث الأمر أياماً حتى أعلن العقيد عاصمي غوِيتا نفسه رئيساً انتقالياً بعد أن رفض الرئيس المحتجز تغيير قراره بإبعاد الوزيرين الكبيرين، ثم أشار غويتا إلى عزل الرئيس ورئيس وزرائه بعد اتهامهما بتشكيل حكومة جديدة بلا تشاور معه وهو المعنيّ بالقضايا العسكرية والأمنية بموجب الاتفاق مع الرئيس عند تعيينه.

ثم أعلن أنداو ووان استقالتهما بعد لقائهما بقاعدة كاتي العسكرية وفود الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، واستقرّ الأمر لغويتا بعد قرار المحكمة الدستورية بمالي الجمعة 28 مايو/أيار أنه سيحمل لقب رئيس المرحلة الانتقالية ورئيس الدولة وستنتقل إليه سلطات رئيس المرحلة الانتقالية ومهامه لقيادة العملية الانتقالية حتى نهايتها.

وقد ظهر الغضب الفرنسي من هذا الانقلاب بوضوح شديد بإدانة الرئيس الفرنسي ماكرون لِما سماه الانقلاب داخل الانقلاب، ودعا لاجتماع استثنائي طارئ لمجلس الأمن لإيقاع عقوبات شديدة على عسكر مالي واستعادة النظام الدستوري، وهو ما لم يفعله ماكرون عند إعلان المجلس العسكري الانتقالي في تشاد وانتقال السلطة من الرئيس إدريس ديبي باغتياله إلى ابنه الضابط الكبير بالجيش محمد كاكا على الرغم من أن تشاد جمهورية لا مملكة، ثم تغطية فرنسا توصية مجلس السلم والأمن الإفريقي حول استثناء تشاد من عقوبات تعليق عضويتها، والاعتراف بشرعية المجلس الانتقالي لـ18 شهراً تنتهي أكتوبر/تشرين الأول 2022، ما عزّز اتهام مالي لفرنسا بازدواج المعايير الأخلاقية والسياسية وتسعى وراء مصالحها فقط.

لم يكن وزيرا الدفاع والأمن المطرودان من الحكومة ضابطين عاديين بل كانا من كبار قادة المجلس العسكري CNSP الذي قاد الانقلاب على كيتا، وهما معروفان بخطهما الوطني الذي يريد إنشاء جيش وطني بعيد عن نفوذ فرنسا الذي يتدخل بكل صغيرة وكبيرة في معظم الغرب الإفريقي، وكانا يتقاربان مع روسيا الاتحادية ذات الأطماع القديمة جنوب الصحراء بحثاً عن الذهب والمعادن والخامات وتجارة السلاح والنفط، والمنفتحة على الأنظمة العسكرية باحترام ومبادلة خدمة والتزام سياسي عالٍ وثباتٍ استراتيجي، وكان هذا الأمر دافعاً إلى التقارب مع روسيا لموازنة قوتها وظلّها الاستراتيجي بالنفوذ الفرنسي العريق.

ولا يخلو المشهد من رؤية بعض الإشارات المهمة إلى وجود إسناد روسي في هذا التحول الجديد في مالي، فقد رصد الفرنسيون عودة ضباط كبار من روسيا عقب دورة تدريبية نوعية في موسكو منهم العقيد صيدو كمرا الذي أشرف على عملية احتجاز الرئيس باه انداو، والعقيد مالك جاو، وهما من قادة الانقلاب الجديد.

وتعزز هذا الرأي بإعلان روسيا معارضتها الشديدة لفرض عقوبات على مالي في الاجتماع الاستثنائي لمجلس الأمن الأربعاء 26 مايو/أيار، وهو ما يفسّر أيضاً الموقف الأمريكي المساند لفرنسا الذي أعلن تعليق التعاون العسكري والأمني مع مالي، وزاد الأمر تأكداً بخروج مظاهرات كبيرة بالعاصمة باماكو تحمل أعلام روسيا وصور غويتا وتشيد بالدور الروسي، وترفض التدخل الفرنسي وتدعو لطرده من إفريقيا كلها، ثم اللقاء العلنيّ لغويتا مع السفير الروسي في مالي قبيل إعلان غويتا نفسه رئيساً انتقالياً للبلاد رسمياً يوم الخميس الفائت.

وكان لافتاً أن هذا الانقلاب وقع أثناء وجود قادة أركان الدول الخمس بالساحل الإفريقي للمشاركة بالاجتماع الدوري العادي الـ11 للجنة الأمن والدفاع التابعة لمجموعة الخمس في الساحل، وأن الحسابات السياسية لعسكر مالي كانت حاسمة لا تقبل النقاش أو التراجع حتى لو تعالت الضغوط الإقليمية والإفريقية والدولية التي ستتجه غالباً إلى محاصرة الحكم العسكري والتضييق عليه حتى استعادة الديمقراطية بشكلها الإفريقي واستلام المدنيين للحكم صُوريّاً، واستمرار وصاية فرنسا على الدول الإفريقية الفقيرة، ما سيؤدي إلى نموّ المشاعر الوطنية المعادية لفرنسا أكثر وأكثر، وتوثيق العلاقة مع القوى الشعبية المحلية والإقليمية المتحفّظة على النفوذ الفرنسي كحركة M5 والجزائر التي تمتد حدودها إلى أكثر من ألف كيلومتر مع مالي، وسيؤدي هذا بنهاية المطاف إلى خروج فرنسا مرغمة من القارة التي عانت طويلاً هذا النفوذ الذي لم يكن يخدم الاستقرار والرفاه الإفريقي بقدر ما يملأ الجيوب الفرنسية والغرور الفرنسي.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي