تلاشى صوت قعقعة السلاح محلياً، لكن لا تزال أصداء المواجهة الأخيرة بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية تطرق مسامع الكثيرين وتلقي بظلالها على المشهدين الإقليمي والدولي.

لعل من أبرز نتائج هذه المعركة التي سمتها إسرائيل "حارس الأسوار" وأطلقت عليها المقاومة الفلسطينية "سيف القدس" إعلان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إنشاء لجنة تحقيق بالانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان بفلسطين. ورغم استنكار إسرائيل والولايات المتحدة الشديد لهذا القرار فإن تشكيل اللجنة سيمضي قدماً على الأرجح.

ليست هذه المرة الأولى التي يقرر بها مجلس حقوق الإنسان تشكيل لجنة كتلك، فقد سبق له أن شكل لجنة تحقيق بالانتهاكات الإسرائيلية إبان عدوان إسرائيل عام 2008 على غزة، وهي اللجنة التي عرفت باسم لجنة غولدستون نسبة إلى رئيسها القاضي الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون. كما سبق أن شكل لجنة للتحقيق في بطش إسرائيل بمسيرات "العودة" المدنية التي نظمها الفلسطينيون بغزة عام 2018 وأصدرت تقريراً أدانت فيه إسرائيل بارتكاب جرائم حرب. لكن بين المراقبين إجماعاً على أن لجنة التحقيق التي قرر المجلس تشكيلها هذه المرة تختلف عن سابقاتها بجوانب عدة:

أولاً: تحقق هذه اللجنة بجرائم تُرتَكب داخل فلسطين المحتلة عام 1948، مما يعني أن اللجنة ستعمل بفلسطين التاريخية لا فقط المناطق التي احتُلت عام 1967. فالمميز بهذه اللجنة أنها لا تدرس فقط انتهاكات الاحتلال بالضفة الغربية وغزة والقدس، وإنما تدرس إجراءات الفصل العنصري وانتهاكات حقوق الأقلية الفلسطينية الموجودة داخل مناطق 1948. ويصف الدكتور رامي عبده رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان هذا القرار بأنه تاريخي "لأنه يشمل الجرائم والانتهاكات ذات البعد العنصري التي ترتكبها إسرائيل في كل فلسطين سواء التي احتلت عام 1967 والمحتلة منذ عام 1948".

ثانياً: دائماً كان لتفويض لجان التحقيق سقف زمني كما حدث مثلاً مع قرار مجلس حقوق الإنسان الخاص بتشكيل لجنة تحقيق بالجرائم المرتكبة في سوريا، إذ حدد لها المجلس سقفاً زمنياً يقدَّر بعام. أما اللجنة التي أصدر المجلس قراراً بتشكيلها بعد المواجهة الفلسطينية-الإسرائيلية الأخيرة فعملها غير محدد بزمن، ما يعني أن عملها مستمر ولن يتوقف إلى أن ينتهي الاحتلال، وهنا تكمن الأهمية الثانية لهذا القرار.

ويتفق الكاتب والحقوقي مصطفى إبراهيم من "الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان" مع ما ذهب إليه الدكتور رامي عبده بـ"أن قرار المجلس تاريخي لأنها المرة الأولى التي يشكل فيها لجنة تحقيق بهذا المستوى الدولي الرفيع لبحث الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين بالمدن الفلسطينية المحتلة منذ 1948 (الداخل الفلسطيني) وفي الأراضي المحتلة عام 1967، ويعالج فيها المجلس الأسباب الجذرية للتمييز العنصري الإسرائيلي الممنهج". ويضيف أن قرار مجلس حقوق الإنسان هذا يكتسب أهمية إضافية لكونه يأتي بوقت يعاني فيه الفلسطينيون بخاصة في قطاع غزة آثار العدوان العسكري والجرائم بحق المدنيين وتهديد قادة إسرائيل بتشديد الحصار على غزة وابتزاز أطراف دولية وإقليمية للفلسطينيين بإعادة الإعمار لإرغامهم على البقاء في دوامة ما يسمى العملية السلمية وشعار حل الدولتين الذي لم تعد لتحقيقه أي فرصة على أرض الواقع.

ويخشى بعض المتشككين بمواقف السلطة الفلسطينية إقدامها على إحباط أي نتائج إيجابية يمكن أن يتضمنها تقرير اللجنة المزمعة من خلال رفضها نتائج التقرير كما فعلت مع تقرير غولدستون، وهو ما يعني عدم إمكانية طرح التقرير للتصويت داخل المجلس. غير أن هذا الاحتمال مستبعد لسببين أولهما أن السلطة ذاتها لعبت هذه المرة دوراً مهماً بقرار مجلس حقوق الإنسان بتشكيل لجنة تحقيق، وثانيهما أنها كانت قد عادت وبتأثير المجتمع المدني والرأي العام الفلسطيني إلى تفعيل توصيات لجنة غولدستون.

لقد جرت العادة أن تشكل المؤسسات الدولية لجان تقصي حقائق لجمع القرائن والأدلة وتحديد المسؤولين أو المتهمين بارتكاب جرائم، أو لجان تحقيق لاستطلاع الحقائق والخلوص إلى نتائج بلا تحديد مسئوليات، إلا أن تقارير هذين النوعين من اللجان لا يملك صفة الإلزام القانوني. لكن يقول الحقوقيون إن مخرجات مثل هذه اللجان يمكن أن تستخدمها لاحقاً جهات تسعى لمحاسبة الاحتلال على جرائمه في مقدمتها المحكمة الجنائية الدولية. فعندما تفتح المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً بجرائم محتملة ارتكبتها إسرائيل فإنها تستند إلى تقارير هذه اللجان باعتبارها وثائق تحمل أدلة دامغة. كما يعتبر الفلسطينيون تقارير هذه اللجان مهمة لأنها قد تعمل على نزع الشرعية عن إسرائيل وتحد من انتهاكاتها لحقوقهم المدنية والسياسية، ويمكن أن تساعدهم برفع قضايا ضد المسؤولين فيها أمام محاكم بعض الدول الأوروبية. وربما يجد الفلسطينيون في لجنة التحقيق هذه وسيلة لتسليط الضوء ليس فقط على ما دمره الاحتلال خلال الـ11 يوماً من القصف والقتل والتدمير بل تداعيات سنوات طويلة من العدوان والحصار كما يقول أمجد الشوا مدير شبكة المنظمات الأهلية في غزة. فكما يقول الخبير في القانون الدولي البروفيسور يوفال شاني إن "فتح تحقيق دولي ضد إسرائيل على خلفية المواجهة الأخيرة مع الفلسطينيين يعطي دفعة لجهود نزع الشرعية عن إسرائيل ويزيد فرص اتخاذ قرارات دولية سلبية ضدها يمكن الاستفادة منها في المقاطعة والضغط الدبلوماسي عليها".

مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يقرر إنشاء لجنة للتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين (AA)

لقد أوجد قرار مجلس حقوق الإنسان مسوّغات لفتح تحقيق شامل ليس فقط بجرائم الحرب التي ارتكبت بغزة بل لمعالجة أسباب التمييز العنصري الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في مناطق 1948 والضفة والقدس والعنف المنظم من قبل الجماعات الإسرائيلية اليهودية المتطرفة.

وأعاد القرار بطريقة ما القضية الفلسطينية إلى بؤرة الاهتمام الدولي ووضع إسرائيل أمام تداعيات غير مسبوقة، فتفويض اللجنة لا يشمل فقط انتهاكات جولة العدوان الأخيرة منذ بداية رمضان، بل يمتد إلى التعامل مع الأسباب العميقة للعنف والتمييز المنهجي والقمع على أساس المواطنة أو الجنسية أو العرق أو الدين.

وعلى الرغم من الأهمية القانونية والمعنوية لهذا القرار، فلا يأمل الفلسطينيون أن يؤدي إلى خطوات تنصفهم وتعيد لهم شيئاً من حقوقهم. فلا يزال الأمل بعيداً أن يروا قادة إسرائيل العسكريين الذين قَتلوا أكثر من ستين طفلاً بالعدوان الأخير فقط يلاقون مصير الجنرال الصربي راتكو ملاديتش الذي حوكم أمام محكمة الجنايات الدولية لمسئوليته عن ارتكاب مذبحة سربرنيتسا بحق مسلمي البوسنة. ولا يزال احتمال إدانة قادة إسرائيل السياسيين بارتكاب جرائم حرب كما حدث مع رئيس يوغوسلافيا سلوبودان ميلوسوفيتش لمسؤوليته عن مذابح البوسنة غير وارد. السبب غياب الإرادة الدولية لمحاسبة إسرائيل. فلم يسبق أن عاش الفلسطينيون لحظة إنصاف أو انتصار لحقوقهم من قِبل المنظومة الدولية. بل على العكس خاض الفلسطينيون صراعاً مريراً بأروقة المنظمة الدولية للحصول على حقوق بسيطة كتصنيف الشركات العاملة بالمستوطنات اليهودية بقائمة سوداء، والتي استغرق إقرارها من قبل مجلس حقوق الإنسان أكثر من سبع سنوات من دون خطوات عملية حتى اللحظة. لكن لدى الفلسطينيين قناعة أن استمرار الولايات المتحدة ودول أوروبية مثل بريطانيا اعتبار إسرائيل فوق القانون ينبغي ألا يقعدهم عن مجابهة الاحتلال على كل جبهات النضال المشروع.

لقد توقفت الحرب العسكرية الأخيرة على غزة ولم يتوقف العدوان والقتل، ولا تزال إسرائيل تواصل حصارها أملاً بتحقيق ما فشلت في الوصول إليه بالقصف والقتل والتدمير. وصحيح أن موازين القوى لم تتغير، فإسرائيل متفوقة عسكرياً وتحظى بدعم أمريكي وأوروبي مطلق، لكن قرار مجلس حقوق الإنسان يمنح الفلسطينيين بارقة أمل لملاحقة إسرائيل دولياً في ظل هذا الزخم الدولي وعودة الروح إلى القضية الفلسطينية ووحدة الفلسطينيين الشعبية والوجدانية.

TRT عربي