بعد أكثر من ثلاثة عقود من تنفيذ نظام تحديد النسل المعروف باسم سياسة الطفل الواحد، تقرر بكين إحداث طفرة من المواليد لمواجهة شبح الشيخوخة الذي بات يهددها بشكل جاد، وذلك عبر إقرار مجموعة من السياسات الجديدة للتشجيع على زيادة الإنجاب.

أثار الإعلان عن السماح بإنجاب ثلاثة أطفال في الصين جدلاً واسعاً لدى الرأي العام الصيني، فبعد أن شددت السلطات لفترة طويلة على إنجاب طفل واحد ومن ثم السماح بعد ذلك بإنجاب طفل ثانٍ، أصبح الحديث عن التشجيع على إنجاب طفل ثالث يطرح وبشدة تساؤلات عن جدوى ذلك ومحفزاته لدى الأوساط العامة.

تحول في سياسة الإنجاب الصينية

في محاولة منها لإيجاد حلول للفقر المدقع حينها، قدمت الحكومة الصينية سنة 1979 سياسة الطفل الواحد كإجراء للحد من النمو السكاني السريع الذي أصبح يتجاوز التنمية الاقتصادية. وأطلقت لذلك حملات تنظيم الأسرة تحت شعار "لاحقاً، وأطول، وأقل". وتعني بذلك تشجيع الزيجات المتأخرة، وفترات أطول بين الولادات، وعدد أقل من الأطفال، وتم بالسماح ببعض الاستثناءات لإنجاب الطفل الثاني خاصة في الأوساط الريفية أو العائلات التي يكون طفلها الأول أنثى. وباستمرار المخاوف من الزيادة السكانية تم تنفيذ القرار بأكثر صرامة.

وتشير دراسات إلى أن هذه السياسة منعت نحو ما بين 200 مليون إلى 400 مليون ولادة.

واجهت سياسة الطفل الواحد انتقادات شديدة، خاصة مع الإجراءات التعسفية التي صاحبتها كعمليات الإجهاض القسري التي تسبب الكثير منها في حالات عقم، وإجبار النساء على عدة وسائل لتحديد النسل.

فرض قيود في أوساط العمل على النساء الصينيات للحد من مزيد الإنجاب (Others)

أما عن المكافآت التي رصدتها الدولة للتشجيع على الالتزام بهذه السياسة، فقد تم توفير فرص عمل أفضل للأسر التي التزمت بإنجاب الطفل الواحد، وأجور ورواتب أعلى ومساعدات حكومية.

إلا أن نواقيس الخطر التي أطلقتها نسب الولادات التي تكشف بشكل واضح تدني مستوى الخصوبة وارتفاع نسب الشيخوخة، أجبرت صناع السياسات الصينية على التخفيف من هذه الإجراءات وإحداث تغيير نسبي وذلك عبر السماح أو بالأحرى التشجيع على إنجاب طفل ثانٍ، ودخل القرار حيز التنفيذ في أكتوبر/تشرين الأول سنة 2015، ولكن ذلك لم يلق إشادة كبيرة لدى المنظمات الحقوقية العالمية حيث اعتبرت منظمة العفو الدولية لحقوق الإنسان هذه السياسة شبيهة بسابقاتها التي تنتهك الحقوق الجنسية والإنجابية.

وألغت السلطات الكثير من القيود التي فرضت سابقاً على الأسر الصينية، ووفرت إعانات وحوافز عديدة، لكن يرى الكثيرون أن هذه الإجراءات جاءت بعد فوات الأوان، حيث قال يي فوكسيان، كبير العلماء في جامعة ويسكونسن في ماديسون والناقد لسياسات تنظيم الأسرة في تعليق على هذا الإجراء الجديد: "لقد فات الأوان الآن".

حيث إن الأسرة ذات الطفل الواحد باتت القاعدة اليوم في الصين وشاعت ثقافة معينة للخصوبة في الأوساط العامة، وبالتالي ليس من السهل إقناع الأسر وخاصة مع زيادة تكاليف الحياة والحوافز التي منحت سابقاً، بإنجاب طفل آخر. لذلك تبدو نسب الخصوبة والولادات ستستمر في الانخفاض، مع ارتفاع سريع في المقابل لنسب الشيخوخة وانخفاض عدد السكان الذين هم في سن العمل، ما يهدد النمو الاقتصادي ويؤدي كذلك إلى عجز في صندوق المعاشات التقاعدية إلى جانب عدة عوامل أثارت الفزع لدى السلطات وصناع السياسات.

لم يكن السماح بإنجاب طفل ثانٍ كافياً لتغيير مؤشرات الخصوبة في الصين، فأدى ذلك الوضع إلى إقرار الحكومة لسياسة جديدة تسمح بإنجاب طفل ثالث لتدارك تراجع الولادات.

طفل ثالث.. هل تنجو بكين من شبح الشيخوخة؟

كشف تعداد السكان الذي تم إصداره مؤخراً، أن نحو 12 مليون طفل ولدوا أواخر سنة 2020، أي بانخفاض كبير عن النسبة التي تم الإعلان عنها سنة 2016 والتي تقدر بـ18 مليون طفل، وهو أقل عدد مواليد تم تسجيله منذ الستينيات.

ليصدر يوم الاثنين 6 يونيو/حزيران إعلان وكالة الصين الجديدة الرسمية للأنباء "شينخوا" بأنه تم السماح بإنجاب طفل ثالث.

بلغت نسبة القاصرين الأقل من 14 عاماً في الصين 17.95% من إجمالي عدد السكان (Getty Images)

واجه القرار انتقادات واسعة وحملة إعلامية كبيرة منددة بالقرار، حيث يعتبر الكثيرون أن التكاليف الباهظة للمعيشة غير مشجعة على مزيد الإنجاب، كما أن القيود المفروضة في العمل على إجازات الأمومة وتوفير فرص ممتازة لتوظيف للنساء تقف أمام اتخاذ هكذا خطوة في الأسر الصينية.

فيما يرى بعض الخبراء والمحللين أن هذا التحول في السياسات الصينية يعتبر مؤشراً إيجابياً لكنه غير كافٍ لتجاوز الانخفاض الحاد لنسب الولادات، وأنه يجب على السلطات توخي سياسة الإنجاب غير المشروطة أو إلغاء القيود على الإنجاب.

لم يكشف الإعلان عن إجراءات دعم السياسة الجديدة ، إلا أنه لضمان نجاحها وعدم الاضطرار إلى إلغاء سياسة تحديد النسل يرى خبراء أنه لا بد من توفير حوافز مشجعة، حيث إن القديمة لم تكن كافية لتشجيع الأسر على مزيد الإنجاب. ولا يعتبر بدوره إلغاء تحديد النسل أقل مخاطر وتحديات لدى السلطات الصينية.

وتشير العديد من الأرقام والإحصائيات إلى أن نسب الولادات في انخفاض متزايد وأن نسب الشيخوخة في ارتفاع مستمر، ويقدر أن يبلغ عدد المسنين الذين تتجاوز أعمارهم 65 عاماً نسبة 20% من إجمالي عدد سكان الصين.

يرى ديمغرافيون أن الصين تتجه بسرعة نحو تحولها إلى مجتمع مسن، وبينما تعتمد أغلب دول العالم على الصناعات الصينية والتي نمت في وقت ما بسرعة، فيبدو بذلك أن انخفاضها السكاني سيكون له تداعيات واسعة.

TRT عربي