تهتم منصات التواصل الاجتماعي وبالأخص منها عملاق السوشيال ميديا فيسبوك بمحتواها الرقمي، فبناء على هذا المحتوى تتحدد قيمتها السوقية.

فالبيانات التي تجمعها عن المستخدمين إنما تشكل وفق منطق عملها الاستثماري، النفط الذي من خلاله تحقق الأرباح الطائلة، فلولا هذه البيانات لما استطاعت شركة فيسبوك السيطرة على قطاع الإعلانات الرقمية جنباً إلى جنب مع شركة ألفا المالكة لعملاق البحث Google، فما بين 70% و80% من سوق الإعلان على الإنترنت يذهب إلى هاتين الشركتين.

لذلك لا تملك شركة مثل فيسبوك بحبوحة أن تخسر جزءاً ولو يسيراً من مستخدميها، فهذه الخسارة سينتج عنها فقدان بيانات كثيرة يمكن أن تذهب إلى منصات منافسة مما يؤثر على عائداتها الربحية. ولا يمكن أن تخاطر بسمعتها فهذا أيضاً من شأنه أن يتسبب بتآكل أرباحها، ومن هنا رأينا كيف حاولت فيسبوك وغيرها من المنصات الرقمية النأي بنفسها عن أحداث "الأربعاء الأسود" واقتحام أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب من اليمين الشعبوي مبنى الكونغرس والاعتداء على الموظفين فيه وتحطيم العديد من مقتنياته.

من هذه الزاوية أيضاً يمكن النظر إلى حرص شركة فيسبوك وغيرها على الترويج بأن ما يتعرض له المحتوى الفلسطيني على منصاتها نتاج أخطاء تقنية غير مقصودة، ولا يمت بأي حال إلى سياسة مقصودة لهذه المنصات ضد المحتوى الفلسطيني وانحياز منهم إلى المحتوى الإسرائيلي.

وتجادل هذه المنصات بأن سياستها تطبق بتساوٍ مع الجميع، وتحرص على عدم الانحياز إلى طرف على حساب آخر، وكل ما في الأمر أن محتوى يتعارض مع "معايير المجتمع" لديها، ما يضطرها إلى حذفه أو التضييق عليه، ويحدث هنا أن يكون النصيب الأكبر من هذا المحتوى فلسطينياً، باعتبار أن الفلسطينيين ما هم إلا جماعات "إرهابية" و"مخربون" و"محرضون" بينما الإسرائيليون دعاة سلام ومحبة!

طبعاً غني عن القول أن هذا الطرح لا يمكن تصديقه بالنظر إلى الواقع، ففي الوقت الذي يُحذف فيه المحتوى الفلسطيني ويضيق عليه بشكل كبير وعلني يُتساهل مع المحتوى الإسرائيلي الذي يعج بالكراهية والتحريض على الآخر والأخبار الكاذبة. ولا أدل على ذلك من مثال أوفير جندلمان المتحدث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو عندما نشر مقطع فيدو يُظهر حماس وهي تطلق صواريخ باتجاه إسرائيل من مناطق مدنية مكتظة بالسكان. لكن الفيديو الذي أعيد تغريده ومشاركته مئات المرات لم يكن حقيقياً أبداً. فاللقطات تعود إلى عام 2018 وصُورت في مكان آخر من المحتمل أنها في سوريا أو ليبيا.

عدم اعتراف هذه المنصات بالواقع العنصري ضد المحتوى الفلسطيني لم يمنعها إبداء القلق من الانتقادات التي تعرضت لها واتهامات الانحياز إلى طرف على حساب طرف بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. فقد تعرضت فيسبوك لهجمة احتجاج إلكتروني عالمية أدت إلى تراجع تصنيفها على متجر Google Play إلى 2.5، وعلى متجر تطبيقات Apple إلى 2.4. كانت هذه النتيجة جراء الحملة التي دعا إليها الناشطون بضرورة تقييم تطبيق فيسبوك بنجمة واحدة فقط بسبب انحيازها السافر ضد المحتوى الفلسطيني.

أدت هذه الاحتجاجات ضد فيسبوك بوك وخوفاً على قيمتها السوقية ومحتواها الرقمي وبعد بعض المبادرات الدبلوماسية كاللقاء بين السفير الفلسطيني بالمملكة المتحدة حسام زملط وإبيلي أوكوبي مديرة السياسة العامة لدى فيسبوك، إلى إعادة تقييم فيسبوك لسياستها، ما دفعها إلى إنشاء مركز عمليات خاصة يعمل على مدار الساعة طيلة أيام الأسبوع للرد على المحتوى المنشور على منصتها حول الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، "وسط تصاعد أعمال العنف في المنطقة" كما قالت الشركة في بيان لها.

وقالت مونيكا بيكرت نائبة رئيس سياسة المحتوى بفيسبوك للصحفيين بمؤتمر عبر الهاتف: "يتيح لنا مركز العمليات هذا مراقبة الموقف من كثب لإزالة المحتوى الذي ينتهك معايير مجتمعنا أسرع ومعالجة الأخطاء المحتملة في التنفيذ". وهي محاولة لمسك العصا من الوسط مع تشكيك كبير من قبل المراقبين بنجاح هذه الخطوات في دفع تهم الانحياز عن الشركة.

من هنا يمكن استنتاج أن الخاصرة الرخوة لهذه الشركات العملاقة هو منطقها السوقي المركز على شهية سافرة بجمع البيانات، وكلما توافرت حملة قد تؤدي إلى إنقاص حصتها من سوق البيانات كانت أكثر قابلية للاستجابة. لقد رأينا ذلك عندما دعت شركة إنستغرام المملوكة لفيسبوك بعض الناشطين الفلسطينيين للسماع منهم ومعرفة مصادر القلق لديهم جراء التضييق على المحتوى الفلسطيني.

لقد أثبتت هبَّة القدس مؤخراً أن لدى الفلسطينيين والمتعاطفين والمتضامنين معهم أوراق قوة لها أن تؤثر على سياسة الشركات التكنولوجية المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي، وإذا كان لدى إسرائيل أوراق ضغط رسمية فقد بات الفلسطينيون يملكون أوراق ضغط شعبية مؤثرة، فعلى الرغم من التضييق الكبير على محتواهم الرقمي استطاع المقاومة والوصول والتأثير، فبات ملء مسمع العالم ومرآه، وفضح بما لا يدع مجالاً للشك الوجه القبيح للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وسياسته العنصرية تجاه الفلسطينيين.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي