في خطوة صادمة وإجراء يضرب بالشرعية الانتخابية عرض الحائط، قرر الرئيس التونسي قيس سعيّد تجميد مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن أعضائه وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه، في انتظار أن تكشف الساعات القادمة عن مزيد من القرارات والإجراءات الجديدة.

منذ انطلاق ثورة يناير/كانون الثاني 2011، اعتبرت تونس المثال الرائد في البلدان العربية لتجربة ديمقراطية وليدة تحاول القطع مع أنظمة الحكم الاستبدادية ونظام الحزب الواحد، وتكفل الحريات.

ورغم ما اعترى مسار الانتقال الديمقراطي من إخفاقات وانتكاسات، تمكنت تونس بتآلف الجهود الوطنية من تجاوز مختلف المحطات الدقيقة التي مرت بها.

لكن الوضع الاقتصادي والاجتماعي، الذي يعتبر الأسوأ منذ 10 سنوات، وعجز المؤسسات الحكومية عن مواجهة انتشار فيروس كورونا، وتداعياته السلبية على كل القطاعات بالبلاد والنزيف البشري المستمر، ساهم ذلك كله في تأجيج الشارع التونسي، واندلاع احتجاجات عارمة ومطالبات بإسقاط الحكومة وحل البرلمان.

ولم تنجح الطبقة السياسية على اختلافها في احتواء الشارع، ولم تتوصل إلى أرضية اتفاق مشتركة.

وحتى بعد دعوة أغلب الأطراف السياسية والنقابية والوطنية لإطلاق مبادرة حوار وطني شامل، لم يقدم الرئيس التونسي قيس سعيد الدعم لهذه المبادرة، التي أجهضت قبل أن ترى النور، متعللاً بعدم جدواها ومطالباً بإجراء تعديل على النظام السياسي قبل تنظيم الحوار الوطني.

ما جعل حالة العطالة والشلل السياسي مستمرة، مقابل احتقان شعبي متصاعد.

ليفاجأ الجميع في ساعة متأخرة من مساء يوم الأحد 25 يوليو/تموز الجاري، بقرار الرئيس التونسي الذي تكاد تجمع غالبية الأطراف على أنه انقلاب دستوري. حيث قال قيس سعيد في ختام اجتماع طارئ بالقيادات العسكرية والأمنية إن اعفاء رئيس الحكومة من منصبه وتجميد البرلمان تعتبر تدابير استثنائية اقتضاها الوضع الراهن الذي تعيشه تونس، وتمّ اتخاذها عملاً بأحكام الفصل 80 من الدستور وذلك بعد التشاور مع رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب، على حد تعبيره.

انقلاب دستوري أم تعديل مسار؟

ليست المرة الأولى التي يحاول فيها الرئيس التونسي قيس سعيد التلاعب والتأويل الحر لفصول الدستور بما يخدم توجهاته.

واعتماداً في هذه المرة على تفسيره للفصل 80 من الدستور الذي يجيز لرئيس الجمهورية اتخاذ مجموعة من التدابير في ظل الحالات الاستثنائية، التي تهدد أمن وسلامة البلاد، بشريطة التشاور مع رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب. قرر قيس سعيد إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه وصرح بأنه سيتولى مهام السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة يختاره بنفسه، كما أعلن عن تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب. وأكد رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي أنه لم تتم استشارته أو إعلامه بهذه الخطوة التي يقتضي فصل القانون بالدستور قيام رئيس الجمهورية بها.

كما أن الفصل 80 الذي استند إليه قيس سعيد، ينص على أن يكون البرلمان في حالة انعقاد دائم. إلا أن القوات الأمنية أوصدت الأبواب ومنعت بمقتضى قرار رئيس الجمهورية، النواب ورئيس البرلمان من الدخول إلى المجلس ومواصلة سير الأعمال.

ورغم أن سعيد سارع بالخروج إلى الشارع والاحتفال مع مناصريه بالإجراءات التي اتخذها، فإن طيفاً واسعاً من السياسيين والخبراء الدستوريين اعتبروا قرار الرئيس انقلاباً دستورياً كامل الأركان..

وفي السياق ذاته اعتبر أستاذ القانون عياض بن عاشور أن قرارات قيس سعيد انقلاب لعدم توفر الشروط الجوهرية والشكلية لتطبيق الفصل 80، وشدد بن عاشور على أن الفصل 80 في الوضع الحالي لا معنى له بل إنه يخالف الدستور تماماً لغياب الشرطين الأساسيين، وهما حالة وجود خطر يداهم البلاد، وشرط إخطار والتشاور مع رئيسي البرلمان والحكومة.

وعقب انتقاله إلى مجلس نواب الشعب ومنع قوات الجيش له من الدخول، ندد رئيس البرلمان راشد الغنوشي بدوره بما أسماه انقلاباً على الدستور والثورة، وفي معرض رده على سؤال اعتبار إجراء قيس سعيد انقلاباً أم تعديل مسار؟ أجاب الغنوشي بأنه "محاولة انقلاب استولى من خلالها الرئيس على السلط ،فهو صار مكان السلطة القضائية من خلال وضع يده على النيابة العمومية، ومن خلال وضع يده على التشريع وتعليق عمل المجلس، ووضع يده على الحكومة والدستور لا يسمح بتبعية الحكومة للرئيس". ووجه الغنوشي نداء للالتحاق بالمجلس للدفاع عن الثورة والديمقراطية.

النخبة السياسية في مرمى الاستهداف

لا يخفى على الرأي العام عداء قيس سعيد الشديد للنخبة السياسية والأحزاب وكل مكونات المشهد السياسي.

ولم يبد سعيد منذ توليه الرئاسة أي دعم لتجاوز العثرات التي طالت المسار، بل استمر في التصادم مع الأحزاب السياسية وخاصة التي تقف على رأس المشهد باستمرار، والاستثمار في الخلافات.

وربما لهذه الأسباب، لقي قراره احتفاء لدى مناصريه ومؤيديه بالشارع التونسي، الذين يعتبرون أنفسهم قد تعرضوا للخذلان من الأحزاب السياسية التي ذابت وانصهرت في تجاذباتها السياسية وصمّت الآذان عن استحقاقات الشارع في وضع دقيق.

فبعد أن دعا الشارع التونسي في ثورة 2011 إلى إرساء برلمان تونسي، وطالب باستقلال القضاء، يبارك اليوم طيف منه خطوة قيس سعيد في حل البرلمان وتجميد عمله.

وكان الاستثمار في هذه اللحظة بأن تم الإعلان عن تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه والدعوة إلى محاسبات ومحاكمات.

علق على الخبر عياض اللومي القيادي بحزب قلب تونس وعضو لجنة المالية بالبرلمان، في تغريدة على حسابه الرسمي قائلاً: إن "قيس سعيّد انتحر سياسياً"، واعتبر أن قراراته باطلة بطلاناً مطلقاً وتضاف إلى الخروقات الجسيمة للدستور المتتالية.

من جانبه قال النائب ياسين العياري مخاطباً الرئيس التونسي في تدوينته: "لا تتحدث باسم الدستور. ينص الفصل 80 على أن يكون البرلمان في حالة انعقاد دائم، وبعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس البرلمان، لا أن يجمّد.. لا تتحدث باسم الدستور، فكل دساتير العالم فصلت بين السلط".

وندد بدوره رئيس الجمهورية الأسبق منصف المرزوقي بما اعتبره حنثاً بالدستور وانقلاباً على المسار، وحذر المرزوقي قائلاً: إن "من يتصور أن هذه بداية الحل فهو مخطئ، لأن هذه بداية الانزلاق نحو وضع سيزداد سوءاً على جل المستويات... وهذا الرجل ليس الحل، بل هو أكبر مشكل للبلاد"، وفق تعبيره.

وعقدت في الأثناء حركة النهضة اجتماعاً طارئا ًلمجلس الشورى، دعت على إثره للتحشيد حماية للبرلمان والمسار الديمقراطي، وأكدت ضرورة تكاتف جهود كل الأطراف السياسية والشخصيات الوطنية والمنظمات المدنية لتكوين جبهة وطنية مناهضة للانقلاب.

وتتفق تقريباً غالبية الأطراف السياسية والأكاديمية على توصيف إجراء قيس سعيد بكونه انقلاباً، سيجرد تونس من مكتسباتها التي منحتها لها الثورة، ويعزز الدكتاتورية من جديد، كما أنه قد يفتح الباب لحرب أهلية، وفق البعض، إذ إن قوات الأمن طوقت احتجاجات وتراشقاً بالحجارة بين مؤيدين لقرار قيس سعيد دعوا إلى "حل البرلمان" وإلى "المحاسبة" ومناهضين له رفعوا شعارات تنادي باحترام الدستور والشرعية، وسط أجواء متشنجة، وأسفرت المواجهات أمام مجلس النواب عن وقوع إصابات.

TRT عربي