بعد أن أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد، عن تجميد عمل البرلمان في 25 يوليو/تموز المنقضي، ضمن الإجراءات الاستثنائية التي قام بها، تناقش الأوساط السياسية والقانونية في تونس حقيقة نية سعيد في تغيير نظام الحكم إلى رئاسي ومدى إمكانية ذلك.

بعد مرور نحو 10 سنوات على نزول الجماهير الغفيرة إلى الشارع في تونس منادية بتأسيس برلمان تعددي يمثل الشعب وينوب عنه ويستجيب لمطالبه، إلى جانب بقية الشعارات التي تعزز من مكتسبات الحرية والديمقراطية، يحتفي اليوم الشارع التونسي في مشهد صادم بقرارات الرئيس التونسي قيس سعيد بتجميد عمل البرلمان، الذي كان يعتبر مكسباً هاماً لثورة يناير/كانون الثاني 2011، وذلك ضمن مجموعة الإجراءات والتدابير الاستثنائية التي أعلن عليها في 25 يوليو/تموز الماضي، والتي انقسم حولها الشعب التونسي والأحزاب السياسية بين من يعدها تصحيحاً للمسار ومن يعتبرها انقلاباً دستورياً مكتمل الأركان.

وقد تمكن قيس سعيد من الاستثمار في الفشل المتراكم للنخبة السياسية في تونس، وعجزها عن الاتفاق والتحاور واحتواء غضب الشارع، في وقت تعصف بالبلاد أزمة اقتصادية واجتماعية حادة. وحظي بذلك على تأييد وتفويض فئة من الشعب لإيقاف عمل البرلمان. ليتداول عقب ذلك محللون وناشطون سياسيون نية قيس سعيد في تحويل النظام شبه البرلماني الحالي في تونس إلى نظام رئاسي، خاصة أنه لمح إلى ذلك خلال خطاباته العديدة المثيرة للجدل وفي أكثر من مناسبة.

التاريخ البرلماني في تونس

رغم أن إنشاء أول برلمان تونسي يعود في الواقع إلى منتصف القرن التاسع عشر، أي فترة ولاية محمد الصادق باي الذي أسس في تاريخه أول دستور تونسي، وكان حينها المسؤول عن تعيين أعضاء المجلس الذين سينوبون عن الشعب ويمثلونه، فإن هذه المؤسسة لم تستمر في العمل كثيراً، وتم حلها بعد ذلك. ومن جديد، ولتسيير أعماله ومناقشة ميزانية الدولة، كوّن الاحتلال الفرنسي ما سُمي حينها بالندوة الاستشارية أو المجلس الشوري، الذي كان يقتصر في البداية على عضوية الفرنسيين فقط، إلى أن قام المقيم العام بعد ذلك بإلحاق عدد صغير من التونسيين بالمجلس.

واحتجاجاً على إقصاء التونسيين وحرمانهم من حقهم الشرعي في المواطنة واختيار ممثليهم من أبناء شعبهم ومن يرون فيهم الجدارة في ذلك، خرجت الجماهير الحاشدة في 9 أبريل/نيسان 1938 مطالبة بالإصلاحات السياسية، ومؤكدة أنه لا بد من برلمان تونسي. وتزعّم الاحتجاجات حينها الزعيم الوطني علي البلهوان الذي خطب في الجماهير بكلماته الشهيرة "يا أيها الذين آمنوا بالقضية التونسية، يا أيها الذين آمنوا بالبرلمان التونسي.. أنتم الوطنيّون الدائمون في بلادكم وهم الدخلاء عليكم".

وواجهت قوات الاحتلال الاحتجاجات بالحديد والنار، فأسفرت المواجهات عن سقوط عشرات القتلى والجرحى ليخلد ذلك اليوم كأيقونة للتضحية والنضال، ويحتفي به إلى اليوم التونسيون عيداً للشهداء.

وتواصلت منذ ذلك التاريخ نضالات الشعب التونسي ورواد الإصلاح الوطني إلى أن أعلن عن الاستقلال عام 1956، وأنشئ بعد ذلك المجلس القومي التأسيسي الذي أعلن عن النظام الجمهوري وأصدر أول دستور للجمهورية التونسية.

وعرفت البلاد بعد ذلك منعطفات ومحطات تاريخية، حادت بالسلطة التشريعية التي انضوت تحت سلطة الحكم الدكتاتوري، حتى اندلعت الثورة التونسية في 2011 التي أطاحت بحكم بن علي، وأعلن عن حل مجلس النواب والمستشارين.

ثم استجابة بعد ذلك لمطالب الشارع التونسي الذي نادى بإنشاء برلمان يمثله ويستجيب لتطلعاته، انتخب التونسيون المجلس الوطني التأسيسي، كأول برلمان تعددي وحر، وذلك يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 تتويجاً لأحلام ونضالات الأجيال المتعاقبة. وبعد تحرير المجلس التأسيسي للدستور الجديد عام 2014 والمصادقة عليه، تم انتخاب البرلمان التونسي وتحديد صلاحياته.

ولكن حالة العطالة التي شهدها برلمان الشعب المنتخب في 2019 نتيجة المشهد الفسيفسائي الذي اتسم به، والذي تسبب في خلافات حادة ومشادات وتعطيل لأعمال المجلس، أثارت سخط الشارع التونسي، الذي شعر بخيبة أمل كبيرة، بعدم تحلي النخبة السياسية بالمسؤولية في وقت دقيق وحساس تمر به البلاد، ونادى إثر ذلك بضرورة حل البرلمان. فاستجاب لذلك الرئيس التونسي قيس سعيد الذي لم يكن يخفي رفضه ومعارضته للنظام الحالي.

هل يسعى قيس سعيد لتغيير النظام؟

يكاد يتفق الجميع على أن الرئيس التونسي القادم من خارج المنظومة السياسية والحزبية، يرفض التعامل مع الأحزاب السياسية، وشن حرب صلاحيات مع البرلمان في أكثر من مناسبة. حيث إنه يصر على رفض الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها البرلمان بدءاً باختيار الغالبية البرلمانية لرئيس الحكومة وصولاً إلى منحه الثقة.

وإن كان أكد في خطاباته المثيرة للجدل أن لتونس رئيس جمهورية واحداً، فإنه يكشف في حقيقة ذلك ميله إلى النظام الرئاسي، وذلك وفق ما صرح به خبراء ومحللون.

ولا يمكن في الوقت ذاته إنكار حقيقة أن سعيد اغتنم حالة الإحباط التي يعيشها الشعب بسبب تأخر الإصلاحات وتحقيق المطالب، فعمد في أكثر من مناسبة إلى مهاجمة المؤسسات الديمقراطية والمسؤولين المنتخبين والأحزاب السياسية، ثم انتهى به الأمر أخيراً إلى إعلان تجميد البرلمان، ويرى ناشطون ومحللون أن جوهر القرار هو معركة ضد نظام الحكم الحالي.

ويرجح آخرون أنه ليس من المستبعد أن يقوم سعيد قريباً بإجراء تعديلات دستورية وعرضها على الاستفتاء الشعبي، ومن بين هذه التعديلات تغيير النظام شبه البرلماني إلى نظام رئاسي. إلا أن بعض السياسيين يرون أن هذه الخطوة قد تصطدم بعائق عدم وجود المحكمة الدستورية، وضرورة عرض المبادرة على البرلمان الذي تم تجميد عمله بالأساس.

وبالوقوف عند إصراره على النظام الرئاسي، تطرح التساؤلات عن الكيفية التي من الممكن أن ينتقل بها أستاذ القانون الدستوري من النظام الحالي إلى نظام الحكم الذي روج له مراراً وتكراراً، حتى إنه في اتصالاته الأخيرة مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، أصبح يبدو النظام الرئاسي كأنه الحل الأمثل لحالة النزاع والتجاذبات السياسية التي تعيشها تونس.

وإن كانت الأجيال المتعاقبة على تونس والمناضلين والمصلحين قد بذلوا الدماء، وخاضوا العديد من المعارك لإنشاء برلمان حر وتعددي، فهل يُستغنى عن هذا المكسب اليوم الذي حققته الثورة لفشل المتصدرين فيه؟

TRT عربي