كأننا به حاملاً آلة تصويره مختزلاً ذاكرة وعيه، باسقاطها على عصر كان كل ما يجري فيه أعظم مما تحتمل آلات التصوير لملاحقته ونقله.

كان يدور في مجالسها عاقل مراقب واعٍ (هنا مجلس عقده إخوان الصفاء لتطهير الشريعة من الجهالات بالفلسفة، فهي حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية في نظرهم وتوجههم الفكري، وهناك مناظرة كبرى بين أبي سعيد السَّيرافي ومتَّى بن يونس القُنَّائي في المنطق اليوناني والنحو العربي في بغداد، ومجلس آخر عند عيسى بن علي الوزير في السبب الذى من أجله يُولع كل ذي علم بعلمه) هو عبقري القرن الرابع الهجري لقُّبوه بالجاحظ الثاني، كان من نوع آخر هو الكاتب الفيلسوف علي بن محمد بن العباس البغدادي التوحيدي كنيته (أبو حيان) 310 - 414هــ،

كانت تلك المجالس على اختلاف ما يدور فيها تجمع في حلقاتها مثقفي العصر ومتنفذيه، فاستطاع أبو حيان التوحيدي أن يقدم لنا صورة واضحة عن مجالس بغداد ومناظراتها في القرن الرابع الهجري بعبقريته النادرة، فكان يصور ويسجل بنظراته الفاحصة وإدراكه اللامتناهي سمات عصره، وأنشطته الثقافية والفكرية والاجتماعية، لا من وجهة نظر مؤرخ وإنما من وجهة نظر مراقب متأمل، وعضو فعال فيها، له رأيه وحواره وتوجيهه للأفكار.

إننا نقف أمام حياة فكرية إبداعية، وفن من الفنون النثرية في الآداب العربية يعرف بالمناظرات، ذكر أحمد بن فارس في مجمل اللغة «أن المناظرة شكل من أشكال الجدل الفكري يعتمد على الخطاب الشفوي» بمعنى (فلان نظيرك أي مثلك في كل شيء) وتقوم المناظرة على طرح الخصمان فكرهما وتقديم الحجج والبراهين العقلية والشواهد الدينية أو الشعرية لإقناع الآخر، وهو فن موغل في القدم ظهر في

بادئ الأمر عند اليونانيين لمناقشة المواضيع الميتافيزيقية الغيبية، فكانوا بذلك أصحاب المنهج الجدلي.

ويُطلعنا أبو حيان التوحيدي في كتابه (المقابسات) و(الإمتاع والمؤانسة) على محاضر لهذه الجلسات وغيرها مما كان يدور بين العلماء في بغداد، وأشار أحمد أمين في كتابه (ظهر الإسلام) إلى ذلك بقوله «دلنا أبو حيّان التوحيدي على نشاط ذهني فلسفي عجيب، وحرية في التفكير عظيمة، وثروة في رجال الفكر والنشاط العقلي كبيرة»، «ولقد صار أسلوب عرض الأفكار عن طريق الحوار والمناظرة منهج التوحيدي الذى طغى على مؤلفاته الأدبية والفلسفية، نكاد لا نميز بين ما حدث فعلاً من حوار في المجالس التي يعرضها أو ما وضعه على لسان معاصريه لعرض موضوع فكري أو أدبي، فمثله كان أدبَّي راق، يحب الازدواج، ويطيل البيان واسع العلم بمختلف العلوم وأخبار الزمان، وهذه المناظرات والمجالس كثيرة حافلة بها كتب التوحيدي، فهي تُعد محضراً للمجامع الفلسفية، سجل التوحيدي بقلمه شخوص تلك المجالس راسماً لكل واحد منهم معالم شخصيته، بصفاته واخلاقه كانهم عمالقة في مسرحية ما، ولم تكن تتحلق تلك المجالس حول ذوي السلطان فقط وإنما كانت مجالس خاصة يعقدها الأدباء والمثقفون في منازلهم يتناظرون ويتبادلون المعرفة كرافد للحركة الثقافية ومحفز فكري للتراث العربي. يقول ابن الدهان البغدادي (قد ظهرت حجتُه في الورى / قام به البرهان للناس).

وبوقوفنا على هذا الكنز الأدبي في عصرنا الحاضر فإننا نجد أن للانخراط في التناظر فوائد جمّة فهي تمنح خبرات تفضي إلى مهارات حياتية وشخصية ومعرفية وتنظيمية، وتساعد على إدراك دور الحجج المنطقية والأدلة على أرض الواقع من خلال استخدام البلاغة الخطابية وفقًا للسياق والموقف المفروض، وفي الآونة الأخيرة لعلنا نشهد عودة هذه المناظرات في ظل طموح وزارة الثقافة بين المختصين والمثقفين ارتقاءً بالعلوم والمعارف.