عبث التجريب و بعث الوجود في رواية «شقائق الشيطان» لنعمان حباسي


كأول اصدار روائي في مسيرته الابداعية وبعد صدور دراسته «محضنة المشاريع الثقافية:استراتيجية العمل الثقافي بولاية الكاف من خلال خصوصية البرمجة والتكوين». وهي رواية صدرت عن دار ميّارة للنشر والتوزيع في 152 صفحة وفي تصميم لغلافها من شركة ميّارة غرافيك ومن خلال اخراج أنيق للوحة تشكيلية بامضاء الفنان عمّار بلغيث.
وصاحب الرواية نعمان الحباسي هو استاذ أول للتنشيط الثقافي وناشط جمعياتي وهو مؤسس لعدد هام من المهرجانات والتظاهرات الثقافية الكبرى بولاية الكاف خاصة خلال الفترة من 2011 الى 2017 ويشغل حاليا خطة مندوب جهوي للشؤون الثقافية بولاية الكاف وهو متحصّل على شهادة»الادارة الثقافية «من ألمانيا سنة 2012 وقد فاز سنة 2015 بجائزة «تونس بلد الفن» عن مشروعه «محضنة المبدعين»وبعد صدور روايته يستعدّ الآن لاصدار جديد من خلال دراسة ثانية في المجال الثقافي بعنوان»علاقة التنشيط بتخفيض حدّة القلق في الامتحانات».
ورواية «شقائق الشيطان» وسوسة وعي و إغراءُ إدراك و إنذار بالمخاتلة و إغواء بتخريب الأنساق المتوارثة لتجريب كوْن هائل من الإمكانات الجديدة والاحتمالات الممُكنة قصْد خلخلة البُنى كما يفرض منهج التّجريب في أكثر معانيه شمولية و اِنتشارا عتباتها إغراء وتمويهٌ وسَرْدُها لذيذ، مُمتع مشوق رغم اِنكساراته وتشظّياته وخروجه عن المألوف. وشخصياته خليط عجيب من المُتناقضات المُتباعدة و المتاهات المُتقاربة وزمنها سَرْمديّ مطلق كأنّه القيامة.
رواية تنطلق أحداثها من قرية طقسُها دفءٌ وخراجُها كثيرٌ و أهْلُهَا مُصَابُون بلوثة قراءَة مجنُونة، الكلّ فيها تائِه شَاردٌ مشدوُهٌ لا هدف لهُ سِوَى قِراءة كُــتب فنون الطبخ و التجميل و الجنس رغم وُجود كُتب قيمّة مثل كتاب فرانسيس فُوكوياما الذي أغضبه إهمال كتابه «نهاية التاريخ « فقرر إفناء القرية وقد فعل في مشهدٍ مُريعٍ لَمْ ينْجُ منه سِوَى صدِيقيْن كانا يراقبان القرية و هُما «قرَوْدَحُ الأفكار» و طَائِرٌ الوقواق ، ووسَط الفناءِ يُفتحُ لهم طريق السّراط فيُغادران بحْثا عن الوُجود داخل العدم. و يُقاوم الخيالُ العذابَ للّحاق بهما فينتهي بهمَا المطاف إلى اللاّمكان واللاّزمان فيظنّان تحت مُراقبة الخيال أنهما في البعث الآخر، غير أنّهما يُفاجآن بجُثثٍ مُتناثرة يضطران للإصابة منها أكلا فيكتسبان بعضا من خصائصها و يتطبعان ببعض من طبائعها. فمرّة تكون الجثة اِمرأة و أخرى شيخا وتارة رجل سياسة وطوْرا طفلا مُقاومًا.
ثمّ تتنازع هذه الجثثَ ثنائيةُ المَوْتِ و الحيَاة فتكون لَبِنة خطاب مطوّل داخل أطوار الرّواية بموضوعات مُختلفة مُتعدّدة كالسياسة و الدّين و العولمَة و الحبُ والصداقة والجنس والحرّيّة و الإعلام و الثقافة و الكِتابة لتنتهي الرّواية بمُفاجأة هي العود على البدء وكأنّ الأمْرَ حُلْمٌ . فالنهاية هي نفسُها البداية والقرية مُصَابة بلوثة القراءة إذ يقول في خاتمتها : شيخُ القرية يُنادي في ذُهول مُنتبه «لكلّ أجل كتاب» أصواتٌ باعَة الخُضار و الجزّارين و الموادِّ الغِذائية والوسَائل الإلكترونية بانسجام غريب لأوّل مرة تصْدَح «كتاب فن الطبْخ» يجعل العالم عوالم مُمِكنة ويقودُك إلى السّعادة الأبديّة.
قُمصان ولحى ومحراب صُنع من بارود معفّر برائحة الدّم «كتاب عذاب القبر يزيدُ الخراج» المُثقفون يلهثون و يُنادون: «أيها الجمع: الأسودُ يليق بك أفضل و«اِنتصاب أسود «أحسن» .
إنّ السّرد في شقاق الشيطان للمُبدع الشاب اِبن قطاع الثقافة نعمان الحبّاسي سردٌ يتلوّى على نفسه كثعبان فقد الأمل في النجاة بنيته دائرية بمثابة لُعبة بلا هَدَف و لا جَدْوى و لا بوصلة. هو اِختيارُ فراغ البدايات وخواء النهايات اِنبهارا بفكرة العدم وعبث الوُجود عند صاحب «الشقائق».
فرحلة الحياة عنده عبث وجُودٍ و وُجودُ عبث، يبتسمُ فيها أَحَدُ أبطالها أملا أو سُخرية و يأمُرُ رفيقه بالرحيل بَعْدَ أن أنهى حديثه و أصاب مَعَهُ ما يملأ البْطن من الجثث المُتناثرة ، ليؤكد فكرة البحث المستمر و إن كان ذلك داخل دائرة العدم بطريقة عبثيّة.
أمّا بقيّة الشخصيّات باُعتبارها مقوّما و مَقَامًا يُخضعها كاتبُ الرّواية - أي كاتبٍ لمَا يُريدُه منها ومن دَوْرِها . فقد كانت مُتعدّدة كميّا لكن بتشابه غريب نوعيا. فهي تكادُ تكون بلا ملامح تقريبا، إذ تظهرُ للقيام بحدث أو إلقاء خطاب وسُرْعَان ما تختفي دون عوْدة والعجيب فيها أنها تنتمي إلى حقبات تاريخية مُختلفة اِنطلاقا من بداية التاريخ إلى حدود نهايتها . كما أنها إنسانية وحيوانية و خرافية جمعتها فنتازيا الكاتب بطريقة أقرب إلى أفلام الخيال العلمي ذلك أنها تظهر و تختفي و تموتٌ وتحيا وتنبعث وتفنى بطريقة برقيّة لم يُكلف السّاردٌ نفسهُ عناء تعريفها و رسم ملامحها فحتى القرودحُ والوقواق قُدّمَا بطريقة لا تُفيد القارئ في التعرّف إليْهما.
ومهما يكنُ من أمر فإن الشخصيات مٌجرّد أفكار مُتداخلة و مواقف مُضطربة و أفعال محدودة لا سمات خلقيةً لها. و كأن نعمان الحباسي رفض أن يحمّلها ما يقتضيه السّردُ ليُوكل مهمة ذلك للقارئ.
أمّا الزّمَنُ فيعتبره صَاحبُ «الشقائق» مُجّرد زمن «لخطيّ حاضر» و أن الوعْيَ به « مُؤامَرَة عليه» فاُقترن عنده بلحظة التلفظ وعُوّم عنده بالقصد ليكون سرْمديًّا مُطلقا غايتهُ تجريب الكتابة الرّوائية خارج دائرته من جهة و مُحاولة عنيدة لفهم رداءة الواقع المُمتدّ في الزمان من جهة أخرى.
و هكذا يصبْحُ السّردُ بجميع مُقوماته مُجرد ظاهرة للعيان لا همّ لها إلاّ إثبات عبث الوُجود والعبث بأفق انتظار القارئ وسيلة لتمرير خطاب طغت عليه لُغة الفلسفة وفلسفة اللّغة في مُحاولة يائسة من الكاتب لفهم ما يجري داخل منظومة الموت، لتتحوّل الرواية من سرد حكاية إلى حكاية سردٍ رُبّما دون قصد، وربّما بقصْد العبث بكيْنونة أخرى هي كينونة الكتابة الرّوائية اِلتزاما بفلسفة العبث.
وخلاصة القول إن رواية شقائق الشيطان ذات 152 صفحة رواية تجريبيّة مشوّقة يسيرة القراءة رغم كتابتها بلُغة الزمن الجميل، ديْدَنُها القطعُ مع الرداءة وكسر نمُوذج الكتابة الرّوائية و الاعتداء الصارخ على مقوماتها بوعْي كاتب اْختار العتبات للتجريب و المُخاتلة و الإغواء و التّوجيه نحو فهم مفادُه أنّ الوُجود الحقّ يكمُن في التهديم و إعادة البناء و أن الكتابة التّجريبيّة إفْناء من أجْل إعَادَةِ خلْقٍ جديد ينتَقِمُ من وُجود عبثيّ قمّته الرداءة وقيمته الفراغُ الممسُوخ، وُجُود اِستحال معه الإنسان عبدًا لنظام أطبق فكّيْه على كلّ شيْء واِستدرجَ الجميع إلى هوته السحيقة فأضحت جميعُ المجالات الثقافية و السياسية و الفكريّة و العقائديّة مُجرّد أدوات تخدمه رغم ترهُّله فسُدّت السّبل و لمْ يبْق للحيَاة سوى اللغة أداة للكتابة و اِلتزاما بالبحث و اِختيارا للتّخريب وحرّية التجريب. فكانت شقائق الشيطان إذن مزيجًا لذيذا بين التجريبيّة و الوُجُوديّة و العبثيّة من خلال كَسْرِ كلّ وسائل السّردِ و التّأسيس لسطوة خِطاب رأى صاحبه أن الكتابة الرّوائية تسمحُ به فألف أثرا يستحق القراءة و يُغري بولُوج سراديبه باُطْمئنان المُستمتِع وقلق الباحث المُتسائل.

تاريخ الخبر: 2021-08-26 11:23:39
المصدر: جريدة المغرب - تونس
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 57%

آخر الأخبار حول العالم

رامي ربيعة: نسعى لتقديم شوط أول قوى في تنزانيا أمان سيمبا

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-28 18:21:26
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 61%

محافظ القليوبية يتفقد موقع حادث سير على الطريق الزراعي بطوخ

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-03-28 18:21:31
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 56%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية