إن ما نكتبه لا ينبثق من العدم، ولا يُستحضر من الهواء..

إن الشخوص الذين تصنعهم جرة قلم، وتغزل حولهم الحكايا، وتبني لهم لحماً ودماً، ثم إنها تنطق بلسانها وتولد الحوارات بينها بمنتهى السلاسة، كل هؤلاء ما هم في واقع الأمر إلا أشباح ناسجها، ولكل كاتب أشباحه، ذكريات صاخبة، أزقة مزدحمة لطالما سار وسط أناسها، بيوت لا تحصى، سكنها وسكنته، وجوه عديدة قابلته، وانطبعت بكل ملامحها خلف شبكية عينيه، أصداء بعيدة وأخرى قريبة، ذاك الأمس الذي بهت لونه، وهذا الذي هو مرادف البارحة، كل أولئك يسيلون فوق قراءات لا تُحصى، ثم يصوغهم القلب والميول والهوى في أشعار وروايات وقصص غاية في التشويق وغاية في الواقعية.

والواقعية التي أتحدث عنها لا تعني تلك التي تعبر عن مجتمع ومشكلاته وهمومه فقط، بل إن الفانتازيا ذاتها واقعية، وكل العوالم التي تشابكت فيها وخُلقت ما هي إلا صورة من مئات المجتمعات التي عاشها أو شغف بها أو قرأ عنها الكاتب.

ولدت مارغريت ميتشل في عائلة تضم نحو دستة من الجنود الذين عاصروا الحرب الأهلية الأميركية، تلك الحرب التي عصفت بالولايات، وتقاتل فيها الشمال مع الجنوب، والتي ظلت مندلعة تنجب خرابًا وجثثًا حتى انتهت عام 1865، ولأن قماشة أرواحنا تتشرب بسهولة كل ما يمر عبرها، ويمطر بعصارته فوقها، فقد شبت مارغريت مأسورة بالقصص والمآسي والحرائق التي جابت البلاد عرضًا وطولًا إبان الحرب الأهلية، والتي لطالما سمعت أقرباءها يسهبون في الحديث عنها.

هكذا حين كتبت روايتها الأخاذة والوحيدة والشهيرة جدًا «ذهب مع الريح»، جعلت الحرب حاضرة بيننا بكل صريخها، ولعلعلة رصاصها، وطقطقة النيران في البيوت المتفحمة، وأصوات الغوث، ورائحة موتاها.

مارغريت لمّا بدأت تكتب ذهب مع الريح، كانت لتوها قد خرجت من زيجة فاشلة، وداهمها مرض أقعدتها آلامه، وبينما جسدها وقلبها جريحان معًا، جلست تتخيل ذهب مع الريح، وانكبت على قراءة مكثفة لكل ما يخص الحرب الأهلية الأميركية، ثم إنها ظلت تغزل فصول «ذهب مع الريح» طيلة عشر سنوات كاملة، ولم تكن تتخيل قط عملًا ضخمًا أو شهيرًا أو شديد الجاذبية وآسراً كالعمل الذي صارت إليه روايتها وابنة قلمها الوحيدة، لكنها ببساطة كانت تُغرق آلامها فحسب في عالم لطالما شدها إليه، وبين حكايا سمعتها طفلة طيلة الوقت وأسرت لُبّها.

سكارليت كانت دومًا فتاة أبيها المدللة، والأب كان مزارعًا ثريًا في ولاية جورجيا جنوب أميركا، وكان الزمن قبيل اندلاع الحرب حينما عرف الجميع بحتمية وقوعها، وكان شباب الجنوب متلهفون للدفاع عن أراضيهم وخوض الحرب وكلهم ثقة بالنصر، وسكارليت كأي فتاة ثرية مدللة لم تكن الحرب لتعنيها بالشيء القليل أو الكثير، وتضجرت حتى الموت من أحاديث الحرب والثرثرة عنها وعن جنود الشمال الكريهين، وكل ما كان يعنيها في العالم هو آشلي الشاب المثقف الدمث الذي يعشق الكتب، وهو ما كان شاذًا تمامًا في الوسط المحيط بهم، حيث لا يقرأ أحد تقريبًا، وفي حفل تسهب الكاتبة بتفصيل آسر في وصفه، والفساتين التي تحلت بها بنات علية القوم، يتعالى الحديث عن الحرب، ويصرخ القوم تحت ثقل السكر بأن الجنوب منتصر على الشمال لا محالة، وهنا وبصوت هادئ وثقة تامة يرتفع صوت شاب غريب ليكون المعارض الأوحد، قال: إن الجنوب أهل زراعة لا قتال، وكل ما يعرفونه هو عن الأرض، فلاحتها وبذرها ومحصولها، في حين أن للشمال كل الأسلحة ومعرفة الحروب الخطرة، أثار قوله هذا استياء الجميع بلا استثناء، وعرفت سكارليت أنه رت بتلر، الشاب سيئ السمعة بما لا يقاس، والذي يسيل الذهب من بين يديه كما الماء، آشلي يرفض حب سكارليت ويتزوج ميلاني، الفتاة الرقيقة الهادئة الوديعة، وقبل أن تبكي سكارليت قلبها الجريح تندلع الحرب.

إن أكثر ما أحبه في الأحداث هو التغير الذي يطرأ على شخصية سكارليت، فالحرب تفتك بأهلها وأحبائها بل وترمل سكارليت، تاركة لها ابناً تربيه وحدها، وفجأة تظهر شخصيتها العنيدة الواثقة، وتصبح قائدة أهل بيتها، وحين يخلو البيت من الرجال الذين ذهبوا جميعًا للحرب، تُظهر سكارليت مهارات متعددة في الحفاظ على المال وادخاره وفي الهروب من حصار بلدة إلى أخرى، بل وتقتل جنديًا شماليًا حاول السطو على منزلهم، وتواري جثته في الثرى بمساعدة من طفلها الصغير، وتنقذ شجاعتها وشخصها الجريء ميلاني وكل من تبقى من أهلها، وفي كل هذا يتودد لها رت بتلر، ويحاول التقرب منها ويسعدها، وهي تصده، حتى تضع الحرب أوزارها ويُهزم الجنوب هزيمة ساحقة تمامًا كما تنبأ رت بتلر، الذي كان قد اغتنى منها كما لم يفعل أحد مثله، يعود آشلي من الحرب بقدم واحدة وقد ماتت زوجته وهي تضع طفلها، وحينما يشارك سكارليت عملها، ويفتح لها قلبه أخيرًا، تكتشف أي خواء باتت تحمل في روحها له، إنها متزوجة من رت بتلر الآن، وبعد أن ذاق الأبوة تحول رت بتلر، وصار على حين غرة إنسانًا صالحًا يسعى لكسب ود الجنوب، وقد ملأ التفكير بابنته كل شيء في حياته، وساعد من أفقرته الحرب، ومدّ المزارعين بقروض وأموال ليعيدوا أراضيهم التي احترقت من جديد، لكن ابنتهما تلك التي عشقها بتلر من كل قلبه وأفرغ كل حنو أو طيبة وجدها يومًا في نفسه لأجلها تقتلها سقطة من فوق حصانها، ويظل متمسكًا بجثمانها يبكيه، رافضًا أن يأخذها أحد من بين يديه لثلاثة أيام، ثم بعدها وشيئًا فشيئًا يذبل رت بتلر الذي كانت تعرفه سكارليت، وحينما تتوصل لحبها له وأنه الوحيد الذي بات يملك عليها قلبها فقط، الآن يغادرها ويرحل عنها للأبد صامًّاً أذنيه عن توسلاتها ودموعها، ومشيحًا بنظره عن جمالها الذي أسره ذات يوم، وقد مات حبها في قلبه تمامًا مثلما ماتت ابنتهما الوحيدة، وتفكر سكارليت ذاهلة والريح تعصف بالباب الذي تركه خلفه مفتوحًا إثر رحيله أنه ذهب مع الريح، فكما أتتها به من لا شيء كذلك أخذته منها.

الفيلم المأخوذ عن الرواية كان نجاحه ساحقًا، وحصد جوائز هوليوود كما لم يفعل فيلم من قبل، والرواية نفسها بيع منها فور صدورها قرابة المليون نسخة، وهو رقم صادم قياسًا بمعدلات تلك الأيام، وحتى بعد عشرات السنين مازال الناس يقعون في غرام قصة مارغريت «ذهب مع الريح» عن الحرب التي تعيث خرابًا، والحب الذي قد يأتي متأخرًا.