7 أوهام عن «أديب نوبل» (2).. ماجدة الجندى تواصل حوارها مع حسين حمودة

الهجمات على محفوظ وعلى «أولاد حارتنا» ارتبطت ببعض المتعصبين الذين لم يقرأوا هذه الرواية أو قرأوها قراءة سطحية ومغرضة

الهجمات على محفوظ وعلى «أولاد حارتنا» ارتبطت ببعض المتعصبين الذين لم يقرأوا هذه الرواية أو قرأوها قراءة سطحية ومغرضة

التقطتُ الفكرة من الدكتور حسين حمودة، الناقد الذى يُفضل أن نطلق عليه «قارئ نصوص»، تواضعًا، وأستاذ الأدب بجامعة القاهرة.. فى مناسبة عن نجيب محفوظ قبل سنوات «مناسبة لم يحضرها أحد» كانت الدكتورة فوزية العشماوى، أستاذة الأدب المقيمة فى سويسرا وصاحبة أول رسالة دكتوراه عن نجيب محفوظ، قبل حصوله على نوبل، قد انتبهت قبل فترة إلى أنه فى أكتوبر ٢٠١٨ يكون قد مر ثلاثون عامًا على حصول محفوظ على «نوبل»، ورأتها لحظة تستحق الاحتفاء، فتواصلت مع «المستشارة الثقافية المصرية» فى فرنسا لشهور، للترتيب والتنسيق، متصورة أن كل شىء سوف يكون على ما يرام، فى الموعد، وأرسلت لى دعوة شخصية منها. جاءت إلى القاهرة، وفى اليوم المشهود فوجئنا بقاعة المسرح الصغير بدار الأوبرا «خاوية»، لم يحضر أحد، باستثناء ثلاثة من المتحدثين: دكتورة فوزية والدكتور حسين حمودة والفقيرة إلى الله، وأقل من سبعة أنفار، منهم أحد موظفى وزارة الثقافة، تناثروا فى الصالة!

كان المشهد بائسًا، ومع ذلك ألقت دكتورة فوزية إسهامها فى اللقاء وكأنما القاعة مكتملة، واختار دكتور حسين حمودة أن يُفنّد أوهامًا.. «أوهامًا» شاعت أو ارتبطت بمحفوظ، سواء عند النقاد أو القراء. 

 

■ سألت: من أين استقيت وهم رؤية المجتمع لمحفوظ ككاتب يدعو إلى الرذيلة؟

- هذا الوهم حاول الترويج له أحد المرشحين للبرلمان فى مدينة الإسكندرية فى وقت من الأوقات.. وتبناه بعض الذين حكموا على تجربة نجيب محفوظ من خلال مشاهدة بعض الأفلام المأخوذة عن رواياته دون قراءة الروايات نفسها، مثلهم مثل الذين حاولوا اغتياله دون أن يقرأوا له عبارة واحدة، ولا أقول دون أن يقرأوا له عملًا واحدًا من أعماله.. وهذا الوهم مبنى على نوع آخر من «إساءة القراءة».. بمعنى أن بعضهم يتوهم أن الكاتب الذى يصوّر شخصية «عاهرة» فى عمل روائى أو قصصى يدعو إلى العهر.. ولنضع هنا ما نشاء من علامات التعجب.. هؤلاء لا يفكرون فى أن الكاتب الذى يصوّر مثل هذه الشخصية يمكن أن يصورها ليدين الملابسات التى قادتها لهذا المصير، والمجتمع الذى قطع عليها السبل، ومحاولتها أن تبدأ حياة أخرى نظيفة.. وهذه ملامح مشتركة يمكن أن نجدها مع كل شخصيات العاهرات فى روايات محفوظ.

■ الطريقة التى يدعى بها المجتمع فى عمومه.. هل يمكن لنا أن نقوم نحن باستقرائها أو بالأحرى أن تقوم باستقرائها؟

- هناك، فى بعض الفترات، تظهر بعض المحاولات لتسييد مجموعة من الأعراف الاجتماعية، التى تنطوى على معايير أخلاقية وجمالية بعينها.. وربما تكون هناك محاولات لفرضها على المجتمع كله.. وفى العقود الأخيرة كانت هناك محاولات، فى هذه الوجهة، خفية أحيانًا وواضحة أحيانًا، لتغذية روح التعصب والتزمت ورفض الجمال، فى المجتمع المصرى.. ولكنها لم تنجح أو على الأقل لم تنجح تمامًا.. أتصور أن غالبية القراء فى المجتمع المصرى لا يرون نجيب محفوظ كما حاول البعض أن يصوروا تجربته.. هناك أفراد أو جماعات يحكمون عليه بطريقة سلبية دون أن يقرأوه.. أو حتى بعد أن قرأوه دون اعتبار لخصوصية قراءة الأدب التى تميزه عن قراءة النصوص غير الأدبية، فنسبوا إليه، مثلًا، عبارة تقولها شخصية من شخصياته، أو قرأوا رواية له كما يقرأ كتاب «وهذا ما قاله عن مأساة قراءة (أولاد حارتنا)».. وهكذا.. ولكن من المؤكد أن هؤلاء يعتبرون عددًا محدودًا بالقياس إلى أعداد أكبر من القراء الذين استمتعوا بكتابات محفوظ، وتعلموا منها.. وأنا واحد من هؤلاء.

■ هل نستطيع أن نُدخل الوهم الخامس «نجيب ضد الدين» فى نفس الإطار الذى تشير إليه «هيمنة أعراف بعينها فى فترات بعينها»؟ وكيف تستشرف مصير الأدب عمومًا فى ظلال هيمنة دينية بقوسها الواسع؟

- نعم.. هذا الوهم الذى روّج له بعضهم، حول أن «نجيب محفوظ» ضد الدين، يدخل فى هذا الإطار نفسه.. ضمن هيمنة حاول بعضهم أن يفرضها.. والهجمات على محفوظ وعلى «أولاد حارتنا» ارتبطت ببعض المتعصبين الذين لم يقرأوا هذه الرواية أو قرأوها قراءة سطحية ومغرضة.. ثم كان لهم أتباع لم يقرأوا الرواية أبدًا، كما أشرت.. ولا مجال هنا لتفنيد هذا الوهم تفصيلًا.. الرواية ليست ضد الدين ولكن ضد استخدامه من قِبل قوى الشر والتسلط.. وعلى أى حال أتصور أن موجة الهجوم على الرواية انحسرت، وأن اختبارات القوى التى كانت الرواية من ضحاياها قد تراجعت.. والسؤال عن مصير الأدب فى ظل هيمنة دينية ما هو سؤال مهم عن حدود الحرية المتاحة للمبدع، وعن كيفيات تلقى أعماله بطرق ضيقة أو رحبة الأفق.. ولكنى أتصور أن هناك كثيرين أصبحوا يفهمون أن التناقض بين «أخلاق الأدب» و«أخلاق الدين» تناقض مفتعل.. الأدب الحقيقى يدافع عن كل الأخلاقيات النبيلة، ولكن بطريقته الإبداعية دون وعظ مباشر... ربما هناك، لا تزال، بعض المجتمعات تضيق الخناق باسم الدين على بعض المبدعين والمبدعات، بل تصادر بعض الأعمال الإبداعية.. ولكن من المؤكد أن الأعمال الإبداعية التى تتم مصادرتها تنتشر انتشارًا أكبر.. مصير الأدب الحقيقى، ومصير الإبداع الحقيقى كله، فيما أتصور.. ليس مهددًا.. حتى وإن وُوجه أحيانًا بنوع من تضييق مساحات الحرية التى يتحرك فيها.

■ هل تتفق وذلك الرأى الذى يرى مصر أكثر رحابة وقبولًا لحرية الأدب فى أربعينيات القرن؟

- حرية الأدب فى شد وجذب خلال أغلب فترات التاريخ، ليس فى مجتمعاتنا فقط ولكن فى كل المجتمعات الإنسانية بما فيها مجتمعات الغرب الذى يتشدق بحرية التعبير.. والشواهد على هذا أكثر من أن تحصى.. فى بريطانيا صودرت «عشيق الليدى تشاترلى» وحوكم كاتبها ديفيد هربرت لورانس، وفى الولايات المتحدة طُرد، تقريبًا، هنرى ميللر وتشارلى شابلن.. وهكذا.. الحرية المطلقة لم تكن، تقريبًا، قائمة فى أى مجتمع فى أى فترة من الفترات.. وفى العقود التى سبقت الأربعينيات عندنا كانت هناك معارك حول كتب لـ«طه حسين وعلى عبدالرازق» وغيرهما.. وفيما بعد الأربعينيات كانت هناك معارك أخرى.. وهكذا.. ورواية «أولاد حارتنا» لم تُمنع رسميًا وإنما مُنع نشرها ككتاب حسب اتفاق شفوى، ثم أُعيد نشرها بعد عقود قليلة.

■ ألا ترى أن نشر أعمال محفوظ فى ستينيات عبدالناصر يجعلنا نتوقف عند أمرين: مساحة الحرية المتاحة، وهل ساعد تكوين عبدالناصر، وما عرف عنه من وشائج بفنون السينما والقراءة، فى إدراكه وموقفه من «أولاد حارتنا وثرثرة فوق النيل» وكل منهما غير مريح فى مضماره؟

- أتصور أنه قد كانت هناك حرية معقولة للإبداع فى فترة عبدالناصر، رغم أن هذه الفترة شهدت اعتقال عدد كبير من السياسيين والمثقفين المصريين.. وهذه مفارقة من مفارقات تاريخنا الحديث كله.. عبدالناصر كان ذكيًا فيما يتصل بهامش التعبير الذى سمح به.. لعله كان مدركًا القانون الذى يمكن استخلاصه من دروس المصادرة: كل عمل يُصادر يلقى رواجًا أكبر.. ولعله كان مدركًا أن بعض الكتابات الأدبية التى كانت تشير إلى جوانب سلبية فى حكمه كانت تنطلق من رغبة فى البناء وليس الهدم.. ولعله لم يكن يريد الصدام مع مبدعين أصبحوا أشبه بـ«مؤسسات»، وعلى كل حال فقد كان يتمتع بقدر من سعة الأفق من هذه الوجهة.

■ وقفنا عند مسألة ظروف المنع بنشر «أولاد حارتنا»، حضرتك قلت إن موجة الهجوم على الرواية قد «انحسرت».. سؤالى: كيف تراها انحسرت مع أن ضغط الهيمنة الدينية قد تضاعف، بل إن الغالبية فى المجتمع صارت أميل إلى تحكيم «ذهنية دينية»؟

- أتصور أن هذه الموجة قد انحسرت لأن هذه الرواية، ببساطة، أصبحت مطروحة على الأرصفة لمن يشاء الحصول عليها، وقراءتها، والحكم عليها بنفسه أو بنفسها، بعيدًا عن الصور العدائية التى صدّرها البعض عنها.. ولأن الكثير من الحقائق عن هذه الرواية قد أصبح واضحًا لعدد أكبر ممن قرأها وربما لمن لم يقرأوها.. لم يعد هناك كثيرون يصدقون ما روّجه عنها أولئك الذين أساءوا قراءتها أو حاولوا استخدامها لفرض سيطرتهم، ربما تكون الهيمنة الدينية قد تضاعفت فى بعض البلدان، لكن هذا لم يعد قائمًا فى مصر، وأتصور أن هناك هالات كثيرة قد سقطت من حول من يتكلمون باسم الدين وكأنهم كهنة يحتكرون المعرفة الدينية.. ثم إن هناك أوهامًا كثيرة قد أحاطت بنجيب محفوظ قد انقشعت بعد موقفه المتسامح حتى إزاء من حاولوا اغتياله بسبب هذه الرواية، لقد أصبح واضحًا لكثيرين أنه يستمسك بالقيم النبيلة التى ينطلق منها الدين، أكثر من أولئك الذين زعموا أنه يهاجم الدين.

■ لن أذكر فى الحوار أسماء لكن الدكتورة سيزا قاسم وصفت محفوظ بـ«الجبن»، وأعتقد أنها قصدت الجانب السياسى، وهذا واحد من الأوهام التى أشرت حضرتك إليها!

- اتهام محفوظ بـ«الجبن» مجرد استسهال لا يليق بأى قراءة جادة لأعماله مهما كانت قراءة سطحية، وهو تراجع عن مقولة قديمة ترددت عنه، وتحوّلت إلى وهم من الأوهام التى أحاطت به، فقط بفضل صياغتها اللغوية: «محفوظ أشجع كاتب وأجبن إنسان».. هذا الاتهام الجديد، وقبله الاتهام القديم، للأسف ليسا أكثر من رغبة فى دغدغة بعض المشاعر، والحصول على كمية من التصفيق العابر.. أبسط القواعد فى التعامل مع كاتب يتمثل فى أن نقرأ أعماله نفسها، وأن نحكم عليها، وألا نفرض عليه أن يكون، خارج كتاباته، خطيبًا سياسيًا.. وفى كتاباته لم يكن نجيب محفوظ جبانًا أبدًا، بل ربما كان على عكس الجبن.. قال فى رواياته أقصى ما يستطيع كاتب أن يقوله عن الحرية وعن الفساد وعن العدالة الغائبة، وقال ذلك فى الفترات التى كانت تتم فيها ملاحقة الكتّاب.. محفوظ خارج كتاباته، أى فى الحوارات التى أُجريت معه، مثلًا، كان لطيفًا ومجاملًا.. ولكن هذا لا يعنى أنه كان كذابًا أو جبانًا.. هو، فقط، لم يكن يريد أن يستهلك طاقته فى معارك مفتعلة بلا جدوى.. كان يرى الجدوى الحقيقية للكاتب متمثلة فيما يكتب، وقد كتب كتابات حافلة بالشجاعة، وبالجدوى الحقيقية، وبالقيم التى تستحق أن تمكث فى الأرض.. سوف يذكرها قراؤه لأزمنة طويلة قادمة، بينما سوف ينسون، فيما أوقن، كل الكتابّ الذين راهنوا على قول عبارات طنانة، خارج كتاباتهم، توهم الناس بأنهم شجعان.

■ رسالة الدكتوراه الخاصة بحضرتك كانت فى «الرواية والمدينة» ما سر اختيار هذا الموضوع؟

- هذا الموضوع مهم فيما أتصور لأنه ارتبط باستكشاف أبعاد المدينة وخصوصيتها فى مجتمعاتنا، وهى خصوصية تميزها عن تكوين المدينة الغربية الخالصة، التى ارتبطت بمعانٍ بعينها، ولأنه حاول استكشاف كيفيات حضور هذه المدينة فى روايات «كتّاب الستينيات» فى مصر الذين قدموا أعمالًا مهمة وفارقة فى مسيرة الرواية المصرية والعربية.. علاقة الرواية والمدينة علاقة مفتوحة على أبعاد كثيرة جدًا، تترامى فى علم الاجتماع والحضارة والتاريخ والأنثروبولوجيا والسياسة والعمران والجغرافيا والأدب طبعًا.. إلخ، وبالتالى فالموضوع ومادته الروائية يقدمان مادة غنية جدًا للتأمل والتحليل، ويفتحان مجالًا رحبًا للتعرف على أبعاد كثيرة فى قطاع مهم جدًا من أدبنا المصرى، وعلى قضايا متنوعة ومهمة تخص علاقات مجتمعنا وصلاتنا بتاريخنا القديم والحديث، المدينة الغربية الحديثة عرفت سمات بعينها، منها الفردية والتعدد والتنوع والاغتراب والثقافة البصرية والإحساس بالزمن المجرد، وانقطعت عن المجتمعات السابقة عليها تاريخيًا أو المحيطة بها جغرافيًا، ومدننا، بما فيها عواصمنا، شهدت سمات أخرى ظلت تلازم تكوينها حتى الآن، والكيفيات التى عبّر خلالها كتّاب الستينيات عن المدينة والوجوه التى حضرت خلالها المدينة فى أعمالهم الروائية، كلها تمثل ساحة واسعة جدًا للدرس والتأمل.

■ ماذا يميز حضور المدينة فى العالم المحفوظى عن حضورها فى عوالم كتّاب الستينيات؟

- المدينة فى جزء كبير من أعمال محفوظ ارتبطت، كما نعرف جميعًا، بقطاعها الشرقى الذى قام على استيعاب عصور متعددة تتجاور معًا فى حيز واحد، وبالتالى قامت على وجود علاقات قديمة تتضافر مع علاقات جديدة، والخروج من هذا القطاع الشرقى إلى قطاع آخر، حديث، كان يتحقق بأثمان فادحة تدفعها بعض الشخصيات، كما هى الحال فى «زقاق المدق» مثلًا.. وفى جزء آخر من أعمال محفوظ قد نشهد مدنًا أخرى، مثل الإسكندرية، تمثل بُعدًا آخر من مكونات الهوية المصرية، وهو البُعد الذى يتمثل فى الانفتاح عبر البحر المتوسط على أوروبا، أما فى روايات كتّاب الستينيات فقد تمثلت المدينة بأشكال متعددة ومتنوعة جدًا، وصيغت بأشكال واقعية ومجازية كثيرة لا حصر لها وتم رصدها من مواقع متباينة، ريفية وبدوية وغير ذلك.. كما تم تصويرها من زوايا مختلفة وبطرائق تعبير مختلفة، وأخذت صورًا متنوعة، فغدت امرأة أو سجنًا أو كابوسًا أو متاهة أو تعبيرًا عن الغضب أو صياغة من الخيال الخالص.. وبالتالى تعددت طرائق التعبير عنها كما تعددت المفردات المرتبطة بها تبعًا لتعدد الزوايا التى أطل منها كتّاب الستينيات على عالم المدينة.

■ المكان مفتاح لفهم «عالم محفوظ».. ورد هذا المعنى فى أحد حواراتك و«مكان» محفوظ يتداخل و«أزمنة» أو لنقل بقوة «حضور الزمان» فى المكان المحفوظى، برأيك: أيهما حمل البصمة الأكثر نفاذًا فى أعمال محفوظ؟

- الاثنان معًا فى الحقيقة.. لكن حضور المكان فى أعمال محفوظ حظى بشهرة أكبر، ربما لحضور بعض الأماكن، بمسمياتها، فى عدد من رواياته ابتداءً من عناوينها.. وقد حاولت أن أقرأ روايات محفوظ كلها من خلال تداخل المكان والزمن فيها فى كتاب كامل.. وقد لاحظت أن هناك تناولات كثيرة فى هذه الروايات تنهض على هذه العلاقة المركبة بين الزمن والمكان اللذين يتكافأ حضورهما وتفاعلهما معًا، ومن ذلك حضور دورات الزمن التى تترى على المكان الواحد، أو حضور مفردة «البيت القديم» التى تقوم على الزمن والمكان معًا، أو حضور فكرة «الطريق» أو «الرحلة»، وهى فكرة تنهض على علاقات مكانية وزمنية أيضًا، أو الاهتمام ببعد الزمن فى صياغة مفردات مكانية مثل الحارة والمقهى والمشربية، أو الاهتمام برصد أثر الزمن فى مفردات ذات طابع روحى، إن صح التعبير، مثل مفردات: «التكية» و«الساحة»، و«القبو»، و«الخلاء»، و«المقبرة»، و«الحديقة»؛ وكلها مفردات تتردد فى أغلب روايات نجيب محفوظ، وأكثرها ينفتح دلاليًا على أسئلة الحياة والموت والفردوس والجحيم والخلق وأصل العالم وما وراء حدوده المعروفة.. الاثنان حاضران معًا فى الحقيقة.

■ كقارئ للنصوص، كما تحب أن تطلق على أدائك النقدى، هل ترصد نوعًا من تغيير الذائقة لدى المتلقى بحيث صار الرواج السوقى من أنصبة كتابات يسهل عدم إدراجها فى نفس السياق الأدبى أو فى تنويعاته التى عرفناها عبر أسماء كمحفوظ ومواكبيه ومن تلوه؟

- نعم الذائقة تتغير لأسباب كثيرة.. فى الأدب وفى الموسيقى وفى السينما وفى غيرها من مجالات الإبداع.. وأحكام القيمة الجمالية تختلف أيضًا.. وطبعًا مقاييس الرواج تختلف كذلك.. لكن ربما علينا أن نلاحظ بعض الملابسات التى تحيط بهذا الرواج، ومدى قدرته على الاستمرار عبر الزمن، واختلاف أرقامه فى عالمنا عن الأرقام فى الغرب مثلًا.. فظاهرة الكتب الرائجة، أو «البيست سيلر»، عندنا قائمة على الكثير من المغالطات، ومنها ما يرتبط بأرقام النشر والطبع والتوزيع طبعًا، فهى ليست دقيقة ولا أمينة فى كثير من الحالات، بالإضافة إلى أنها بسيطة مقارنة بنظيرتها فى الغرب. يتساوى كتاب يطبع عندنا ثلاثين طبعة، ونعتبره جزءًا من ظاهرة «البيست سيلر»، مع كتاب يطبع فى الغرب طبعة واحدة، ومع ذلك كله علينا التمييز بين دوائر القراءة؛ من يقرأون أعمالًا رائجة يمثلون دائرة مختلفة عن دائرة من يتلقون أعمال محفوظ ومواكبيه ومن تلوه.. ولكن هناك حراكًا دائمًا فى دوائر التلقى، مثلما هناك حراك دائم فى ملامح الذائقة، بل حتى فى استقلال أو تداخل الأنواع الأدبية والإبداعية كلها.. ومَنْ ذا الذى يدرى؟، فقد يتحوّل بعض قراء الأدب الرائج، بعد فترات طويلة أو قصيرة، إلى قراءة أدب يراهن على ما هو أكثر من مجرد الرواج.

■ فيما يتعلق بعنايتك بالعلاقة بين المدينة والرواية ما رصدك لتهاوى المدينة، كما أدركناها، ونشوء نتوءات مدينية فيما عرف بـ«الكومباوندز» سوف تتغير معها العلاقات البينية بين الناس وكذلك العلاقة بالمكان؟.

- ملاحظة حضرتك حول «تهاوى المدينة» مرتبطة بالتغيرات اللاهثة التى تطرأ على بعض المدن، وفى بعض المدن التى لا تلتزم بتخطيط معين تكون هذه التغيرات متلاحقة وعشوائية أحيانًا.. وبجانب ظاهرة «الكومباوندز» التى تشيرين إليها كانت هناك، لفترات، ظواهر أخرى مثل «هامش المدينة» و«الأحياء العشوائية» و«المدن الجديدة».. وطبعًا، كما تلاحظين حضرتك، وأنت على حق، تتغير العلاقات بين الناس مع هذه التغيرات كلها.. وهذه الملاحظة يمكن تعميمها فى كل المدن الحديثة، بل حتى فى المدن عبر تاريخها السابق كله.. وبوجه عام، فالقطاعات الحديثة من المدن، مثل «المدن الجديدة»، التى يتجمع سكانها من أماكن متباعدة، تشهد ظواهر مثل الاغتراب، والإبهام الحضرى الذى لا يعرف خلاله الجار جيرانه، والعزلة أحيانًا.. بعكس الأحياء الشعبية القديمة التى يرتبط سكانها بنوع من التعارف والتقارب.. وبعضها يمثل امتدادات لقيم ريفية فيها لا ينفصل الفرد عن الجماعة، ولم يتحوّل إلى «مواطن»، أى يظل عضوًا فى العشيرة.. بوجه عام، المدن الحديثة، بظواهرها الجديدة، تقوم على نوع من «تمزيق الروابط» بين السكان.

■ هل، باعتبارك «قارئًا للنصوص» التقطت «الصدى» لهذه التغيرات فيما تقرأ؟

- نعم.. هناك ترديدات لمثل هذه التغيرات فى نصوص روائية وقصصية كثيرة، خلال النصف الثانى من القرن الماضى وخلال السنوات التى انقضت من هذه الألفية، هناك عدد من الروايات والقصص القصيرة التى عبّرت عن «هامش المدينة»، وعن عالم العشوائيات الذى يتنامى من حولها، وعن المدن الجديدة التى تزايدت أعدادها ومساحاتها فى العقود الماضية.. وهذه النصوص تنتمى لأسماء متعددة، ابتداءً من بعض كتّاب الستينيات ومن تلاهم.

■ هنا أيضًا حضرتك سوف تتحفظ فى ذكر الأسماء!

- لا.. يصعب على الإنسان أن يعتذر مرتين.. هناك ممن عبّروا روائيًا وقصصيًا عن هامش المدينة كتّاب مثل: يوسف القعيد، خيرى شلبى، جميل عطية إبراهيم، وممن تناولوا «العشوائيات» حولها: حمدى أبوجليل، الفخرانى.. وممن جسّدوا عوالم الاغتراب والوحدة فى المدن الجديدة: نعمات البحيرى وأحمد ناجى.

■ آخر ما ذكرته أنت من أوهام حول محفوظ كان موقفه من الفلسطينيين، وما التصق به من عدم دفاعه عنهم!

- نعم.. وقد اتهمه البعض باتهامات ظالمة، بل ذهب بعضهم إلى القول إنه مؤيد لدولة إسرائيل.. أو إن له علاقات ببعض الإسرائيليين، وإنه قد حصل على نوبل بسبب هذا.. وما أعرفه أن نجيب محفوظ كان، منذ الأربعينيات، مع قرار التقسيم الذى رفضه عرب كثيرون ثم تمنوا، فى فترات تالية، أن يحصلوا على ما كان يمكن أن يقدمه قرار التقسيم الذى ينص، فيما ينص، على دولة مستقلة للفلسطينيين.. وفيما يخص اتصال بعض الإسرائيليين بمحفوظ، فمن المعروف أن الناقد الإسرائيلى، من أصل عراقى، ساسون سوميخ، قد كتب كتابًا عن بعض روايات محفوظ، كان رسالة دكتوراه قدمها لجامعة كامبريدج تحت إشراف الدكتور مصطفى بدوى، وقد كتبها بالإنجليزية.. وليس لهذا علاقة بإسرائيل.. وقد زار «سوميخ» محفوظ فيما بعد باعتباره ناقدًا وليس باعتباره أحدًا آخر.. وربما من المفيد، فى هذا السياق، ملاحظة أن محفوظ فى الخطاب الذى قدمه فى حفل تسليمه جائزة «نوبل» قد حرص على أن يكتب عبارات واضحة ومضيئة عن الانتفاضة الفلسطينية التى قال عنها: «الهبّة الباسلة النبيلة»، وعما يلاقيه الفلسطينيون، رجالًا ونساءً وشبابًا وأطفالًا، من الاحتلال من عنف يتمثل فى «تكسير للعظام وقتل بالرصاص وهدم للمنازل وتعذيب فى السجون والمعتقلات». .. ألم يكن هذا دفاعًا عن الفلسطينيين فى مكان مسموع الصوت للعالم كله؟

■ بنظرك ما حدود انشغال الكاتب بالسياسة؟

- لا حدود لانشغال الكاتب بالسياسة، ولكن هذا الانشغال قد يتفاوت من كاتب لآخر.. وقد ينشغل كاتب بالسياسة انشغالًا مباشرًا، بينما ينشغل كاتب آخر بالآثار البالغة التى تؤثر بها السياسة على حياة الناس.. محفوظ كان مشغولًا بالسياسة على هذا المستوى الأخير، وأيضًا كان مشغولًا بتأمل تجليات السياسة المتعددة، أى بقضايا تخص العدالة والحرية والفساد والاستبداد والتسلط، وكلها قضايا مفتوحة على عالم السياسة.. ولكنه لم يقف عند الحدود القريبة لهذه القضايا، بل تأمل جذورها خلال تاريخ ممتد، وتقصى أبعادها الخفية والظاهرة، أى بحث عما صاغها وشكّلها.. أغلب أعمال نجيب محفوظ مسكونة بالسياسة، ولكن بطرق أدبية، روائية وقصصية، لم تقدم خطابات فجّة ولا شعارات رنانة ولا مواقف مدوّية.. أى تجاوزت التصورات القديمة حول ضرورة أن يكون الكاتب خطيبًا أو داعية لفكرة ما.. فى عمق تجربة محفوظ إيمان بقيم الديمقراطية والتعدد والعدل والحرية، وكلها قيم مفتوحة على أبعاد سياسية.

 

تاريخ الخبر: 2021-09-13 20:26:42
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 53%
الأهمية: 50%

آخر الأخبار حول العالم

عودة الثلوج بأوكايمدن تدخل البهجة والسرور في النفوس

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-29 15:26:45
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 54%

"البريمرليغ" تقرر منع "حاملي الكرات" من إعادة الكرات للاعبين

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-29 15:27:28
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 65%

سلوكيات فردية خاطئة وراء اضطراب النوم في رمضان

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-29 15:26:37
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 60%

"البريمرليغ" تقرر منع "حاملي الكرات" من إعادة الكرات للاعبين

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-29 15:27:29
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 63%

سلوكيات فردية خاطئة وراء اضطراب النوم في رمضان

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-29 15:26:31
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 61%

نقابة تستنكر التضييق على أطر التخطيط التربوي  في سيدي إفني 

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-29 15:26:24
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 53%

عودة الثلوج بأوكايمدن تدخل البهجة والسرور في النفوس

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-03-29 15:26:40
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 69%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية