علي جمعة: يجوز زخرفة المساجد ونقشها من غير مبالغة ولا إفراط 


أكد د.علي جمعة مفتي الجمهورية السابق أنه قد نصَّ كثير من الفقهاء على جواز زخرفة المساجد ونقشها، وعدُّوا ذلك من تعظيمها وإعلاء شأنها؛ امتثالًا للأمر الشرعي برفعها وعمارتها وتشييدها، نحو ما جاء في قوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [النور: 36]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: 18]،

وأوضح جمعة ردا على سؤال ما حكم إعمار المساجد وتزيينها وترميمها أن هذا يتضمن كتابة الآيات القرآنية الكريمة على جدرانها، ولا يخفى أن الاستدلال بهذه النصوص يقتضي استحباب ذلك والحثَّ عليه شرعًا، لا مجرد إباحة فعله وجواز الإقدام عليه.

واستشهد المفتي بقول الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (30/ 245-246، ط. دار الفكر) قال: [ولا بأس أن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب، قال رضي الله عنه: وكان شيخنا الإمام رضي الله عنه يقول: تحت اللفظ إشارة إلى أنه لا يثاب على ذلك؛ فإنه قال: لا بأس، وهذا اللفظ لرفع الحرج لا لإيجاب الثواب، معناه: يكفيه أن ينجو من هذا رأسًا برأس، وهو المذهب عند الفقهاء رحمهم الله، وأصحاب الظواهر يكرهون ذلك ويُؤَنِّبون مَن فَعَله، قالوا: لأن فيه مخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخبر من الطريقة؛ فإنه لما قيل له: ألا نهدُّ مسجدك ثم نبنيه؟ فقال: «لَا، عَرْشٌ كَعَرْشِ مُوسَى» أو قال: «عَرْشٌ كَعَرْشِ مُوسَى»، وكان سقف مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جريد فكان ينكشف إذا مُطِرُوا حتى كانوا يسجدون في الماء والطين، وعن علي رضي الله عنه أنه مرَّ بمسجد مزيَّن مزخرف فجعل يقول: "لمن هذه البِيَع؟" وإنما قال ذلك لكراهيته هذا الصنع في المساجد، ولما بعث الوليد بن عبد الملك أربعين ألف دينار ليزين بها مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمرَّ بها على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال: "المساكين أحوج إلى هذا المال من الأساطين".

ولفت المفتي أن الدليل هنا على أنه لا بأس بذلك: ما رُوِيَ أنَّ أول من بنى مسجد بيت المقدس داود عليه السلام، ثم أتمه سليمان عليه السلام بعده، وزينه حتى نصب على رأس القبة الكبريت الأحمر وكان أعز وأنفس شيء وجد في ذلك الوقت؛ فكان يضيء مِن ميل، وكن الغزَّالات يبصرن ضوءه بالليالي من مسافة ميل، والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أول من زين المسجد الحرام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه زين مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزاد فيه، وكذلك عثمان رضي الله عنه بعده بنى المسجد بماله وزاد فيه وبالغ في تزيينه، فدلَّ أن ذلك لا بأس به، وأن تأويل ما رُوِيَ بخلاف هذا ما أشار إليه في آخر الحديث: «وَقُلُوبُهُمْ خَاوِيَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» أي: يزينون المساجد ولا يداومون على إقامة الصلاة فيها بالجماعة،

وأشار علام إلى أن  المراد: التزين بما ليس بطيب من الأموال، أو على قصد الرياء والسمعة؛ فعلى بعض ذلك يُحمَل ليكون جمعًا بين الآثار.. وقد أُمِرْنا في المساجد بالتعظيم، ولا شك أن معنى التعظيم يزداد بالتزيين في قلوب بعض الناس من العوام، فيمكن أن يقال بهذا الطريق: يؤجر هو على ما فعله] اهـ.

واستطرد المفتي :أن الأعراف قد تغيرت؛ فتنافس الناس في تزويق بيوتهم، وتفننوا في زخرفتها ونقشها، فاقتضى ذلك مع قوله تعالى: ﴿أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾[النور: 36]، أنه يجوز بل يستحب تزويقها، لتكون مرفوعةً كما أذن الله تعالى، ومُعَظَّمةً على البيوت المزوقة، وإلا كانت دونَها وغير مرفوعة عليها، ولا يليق أن تكون المساجد أقل شأنًا من المنازل، ولو سُلِّم بدلالة بعض النصوص الشرعية على النهي فذلك مخصوص بالوقت الذي كانت فيه البيوت غير مزوقة ولا منمقة، فكانت المساجد مرفوعة عليها ولو بدون تزويق، فلما انقلب الحال وتبدل العرف وجب أن يتغير الحكم؛ عملًا بالدليلين؛ فإن الجمع بين النصين مُقَدَّمٌ على إهمال أحدهما، والنصوص الشرعية التي أخبرت بأن زخرفة المساجد من أشراط الساعة أخبرت أيضًا بأن منها أن يتطاول الناس في البنيان، فمتى ما أصبحت الزخرفة سمة عامة على أعراف الناس وجب ألا يُقَصَّر بالمساجد عن ذلك؛ من غير مبالغة ولا إفراط.

واستكمل فضيلة المفتي ؛هذا فضلًا عن أن التزويق قد أصبح في عرف كثير من الناس علامةً على التعظيم ورمزًا للتقديس، وهو في ذات الوقت رمز للحضارة وعمارة الدنيا التي أقام الله فيها عباده؛ كما قال: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61]؛ أي: طلب منكم عمارتها.


ولذلك لَمَّا بلغ عمرَ بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أن بطريقًا عظيمًا هاله منظر المسجد الأموي بدمشق لَمَّا رآه وعجب من زخرفته وعظمة بنائه، رجع عما كان ينتويه من نزع فسيفسائه وذهبه لإدخال ثمنه لبيت المال، ونزع رقعة الستور التي كان أمر بوضعها على زخرفته، وقال: "لا أرى مسجد دمشق إلا غيظًا للكفار" رواه سعيد بن عُفَيْرٍ في "تاريخه"، وذكره الإمام الطرطوشي في "الحوادث والبدع" (ص: 106-107، ط. دار ابن الجوزي).


وهذا المعنى ملحوظ في الحوار الذي تم بين سيدنا عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وقد ساقه المؤرخ ابن خلدون في "مقدمة التاريخ" (1/ 203، ط. دار إحياء التراث العربي) فقال: [لَمَّا لَقِيَ معاويةُ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشام في أبهة الملك وزِيِّه مِن العَدِيد والعدة استنكر ذلك وقال: "أكسروية يا معاوية؟" فقال: يا أمير المؤمنين! إنَّا في ثغر تجاه العدو، وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجةٌ، فسكت ولم يُخَطِّئْه لَمَّا احتجَّ عليه بمقصد من مقاصد الحق والدين، فلو كان القصدُ رفضَ الملك من أصله لم يُقْنِعْه الجوابُ في تلك الكسروية وانتحالها، بل كان يُحَرِّضُ على خروجه عنها بالجملة، وإنما أراد عمر بالكسروية: ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل والظلم والبغي وسلوك سُبُلِه والغفلة عن الله، وأجابه معاوية بأن القصد بذلك ليس كسرويةَ فارس وباطلهم، وإنما قصدُه بها وجهُ الله، فسكت] اهـ.


وقال العلامة بدر الدين بنُ المُنَيِّر المالكي كما نقله العلامة الدماميني في شرح صحيح البخاري "مصابيح الجامع" (2/ 147، ط. دار النوادر): [فإن قلت: إذا كان تشييدُ المساجد وتحميرُها وتصفيرُها منهيًّا عنه، فكيف تُنَفَّذُ الوصيةُ به؟ وماذا تقول في المسجد الشريف وقد حدث فيه ما حدث من الانهدام، هل كان الأولى أن يعاد بالتشييد؟ أو كما كان باللبن والعريش؟ قلت: قد حدث عند الناس مؤمنهم وكافرهم تشييدُ بيوتهم وتزيينها، ولم يمكن أن يُمنَعوا من ذلك، فكانت بيوت الله أولى بذلك؛ لأنا لو بنينا مساجدنا باللبن وسقفناها بالسعف وجعلناها بين الدور المشيدة -ولعلها لأهل الذمة- لكانت الاستهانة ظاهرة، فحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا، ولو أن المسجد الشريف أعيد بالطين والسعف، وشيدت المدينة إلى جانبه لكان ذلك إهمالًا من المسلمين، فالذي اختاره الله الآن للمسلمين خير إن شاء الله، ولو عاد الزمان لِمَا كان عليه لعاد المسجد إلى ما يناسب حال القوم من التواضع والتقنع] اهـ.


 واختتم المفتي حديثه قائلا :فإعمار المساجد وتشييدها وتزيينها من الأمور المشروعة في الإسلام، وهو أمرٌ جرى عليه عمل المسلمين منذ القرون الأولى، وتفننوا فيه، وعَدُّوه تعظيمًا لشعائر الله تعالى، وامتثالًا للأوامر الإلهية بعمارة المساجد ورفعها وتشييدها، وذلك يتأكد في العصر الحاضر الذي صار النقش والتزيين فيه رمزًا للتقديس والتعظيم، وشيد الناس فيه بيوتهم ومنتدياتهم بكل غالٍ ونفيس.
علي جمعة: الفقيه الحقيقي يحقق الأمن والقوة لمجتمعه

تاريخ الخبر: 2021-09-16 14:18:50
المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 57%
الأهمية: 51%

آخر الأخبار حول العالم

الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة “شنتشو-18”

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-25 09:25:00
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 52%

الولايات المتحدة.. أرباح “ميتا” تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-25 09:24:55
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 68%

بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-25 09:24:57
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 64%

توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-25 09:24:51
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 70%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية