تحتل ثنائية “الطهارة/النجاسة” حيزا هاما في جميع الثقافات وعلى مدار التاريخ بداية من الشعوب البدائية وحتى المجتمعات الحديثة، وتعد ركنا أساسيا في المعتقدات الدينية والشعبية وإن اختلفت تعريفاتها وشروطها وأحكامها. فالطهارة تعنى النظافة فى صورتها المقدسة، كما أن النجاسة هي القذارة في صورتها المدنسة. يقول الجرجانى فى كتاب التعريفات أن الطهارة لغويا هى: “النظافة وفي الشرع عبارة عن غسل أعضاء مخصوصة بصفة مخصوصة”. والُطهر، كما يعرفه معجم مصطلحات الفقه الاسلامى وأصوله لغويا بأنه “النقاء من الدنس والنجس”، والتطهر، هو “الاغتسال بعد انقطاع الدم”. وإذا كان هناك تماهى بين الطهارة والنظافة، إلا أن الطهارة، كما يقول فؤاد اسحق الخوري في كتابه ايديولوجيا الجسد، هي: “نوع خاص من النظافة- نظافة سماوية إلهية مقدسة تفرضها الشرائع وترعاها الأديان. والنجاسة، على العكس من ذلك، نوع خاص من القذارة التى تحرمها الأديان وتدعو إلى تجنب ممارستها..”.

والطهارة يمكن أن تكون مادية أو رمزية، فنحن نتحدث عن طهارة الجسد والثياب، وطهارة الروح والقلوب، وطهارة اليد. في معظم الأحيان لا يمكن الفصل بين الطاهر والنجس أو المدنس عند تعريف أى منهما، فكلاهما ضرورى لفهم الآخر. فالطاهر هو الخالى من النجاسة والدنس، والنجس هو الذى لا يمتثل لشروط وأحكام الطهارة والنظافة. ومع ذلك، فإن تحديدات ما هو نجس ومصدرا للنجاسة، بدا دائما أكثر وضوحا، وهي تحديدات رافقت تاريخ البشر منذ القدم، ففى معجم المصطلحات الأنثربولوجية نقرأ أن الدنس هو: “عدم الطهارة أو النظافة. ويعتقد كثير من الشعوب البدائية أن جثث الموتى، وجيف الحيوانات، ودم الحيض، والقيح، وبعض الحيوانات كالكلاب والخنازير وغيرها نجسة، ويُعد من يلمسها نجسا، عليه أن يُطهر جسمه حتى لا يتعرض للعنة القوى فوق الطبيعية. وتصبح المرأة الوالدة، والحائض، وأهل الميت نجسين بمجرد وقوع حالات الولادة، أو الحيض، أو الوفاة، وعليهم فى تلك الحالات أن يتجنبوا الاختلاط بالآخرين حتى يتطهروا..”.

ونلاحظ أن الدنس هو المحدد لحالة الطُهر كذلك في ثنائية الروح والجسد، فالجسد (كمصدر للنجاسة) هو الذى يحدد مدى طهارة الروح (كموضوع للطهارة)، فحسب فؤاد الخورى فإن: “طهارة الجسد، دليل على نقاوة الروح وصفاوتها، ونجاسته دليل على انحطاطها. من هنا فرض الإسلام الوضوء قبل الصلاة، وفرضت المسيحية، خاصة تقاليد الكنائس الشرقية، الصوم عن الطعام والشراب قبل المناولة فى القداس. فكما يهيئ الوضوء الجسد لتقبل التقرب من الله عن طريق الصلاة، هكذا يهيئ الصوم المؤمن لتقبل جسد المسيح عن طريق المناولة التى تحول المؤمنين إلى كنيسة (مجموعة مقدسة). وكما يقول ميشيلا مارزانو فى معجم الجسد،: “إن فكرة الطهارة فى الحقيقة، تحمل فى ذاتها رفضا مطبوعا تقريبا بشكل ما هو مادى وقابل للتلف. من هنا ظهر الميل لاعتبار الجسد غير طاهر بامتياز لأنه موعود بالموت ومحكوم عليه بالتحلل، ذلك لأنه يأكل فيهضم ويتمثل ويخرج ويفرز.. ومن هذا المنطلق أقيمت منذ زمن طويل سلسلة من القواعد الصارمة جدا لإبعاد النجس عن الذات، سواء فيما يتعلق بالغذاء أم بالأمراض أم بالجثث”. وارتباط النجاسة بالجسد لا تعود فقط إلى قابليته للتدنس، ولكن لكونه في حد ذاته مصدرا لما هو مدنس من خلال إفرازاته، ولآن مآله التلف والموت والتحلل، على عكس الروح التى لا يمكن أن تدنس ذاتها، بل هي دوما ضحية تلويثات الجسد.

وتتضمن معظم الثقافات وجميع العقائد خارطة طريق طقوسية وشعائرية للعبور من حالة الدنس إلى حالة الُطهر، وهي عمليا تيتصدرها الاغتسال بالمياه الطاهرة أوالمطلقة كطقس شائع، إلى جانب طقوس أخرى حسب الثقافات والعقائد مثل قص الشعر، وتغيير الملابس، والامتناع عن الجماع، والصوم عن الأكل، وصبغ الجسم، واعتزال الناس، إلخ. والنجاسة أنواع، منها المؤقت –لفترة معلومة من الزمن- أو الدائم. وهذا ما نجده فى معظم الأحكام، وبالتالي فمنها ما يتطلب إجراءات تطهر بسيطة، ومنها ما يتطلب تدابير أكثر تعقيدا وصرامة.

ولا يكتمل الحديث معنى ثنائية الطهارة والنجاسة بدون ربطها بمفهوم الهوية، وأقصد بذلك الهوية الذاتية للفرد، وهوية النوع الاجتماعى (الجندر)، والهوية الطبقية، والهويات الدينية والثقافية. فالاعتراف بالفرد وقبوله او رفضه يرتبط بطريقة ما بثنائية الطهارة والنجاسة، والتي ترسم جزءا هاما من حدود المشروع والممنوع، والحلال والحرام، وحتى الكفر والإيمان. وهوية النوع الاجتماعى تنطوى ربما أكثر من غيرها تمييزات بين أوضاع النجاسة وطقوس الطهارة التى تخص الرجال وتلك التي تخص النساء، فالنظرة إلى الجسد الأنثوى بوصفه مصدرا وموضوعا للنجاسة والدنس والتلوث أكثر بكثير من النظرة إلى أجساد الذكور، وهو أمر شائع في أغلب الثقافات والمعتقدات، وهو الأمر الذى تطلب وضع شروطا صارمة على النساء ليس فقط لكن يحفظن طهارتهن، ولكن لمنعهن من تلويث الجماعة والمجتمع. ومن المنطور الاجتماعى تعد ثنائية الطهارة والنجاسة ركيزة أساسية فى نظام الطوائف فى الهند، وهو ما يوجد بدرجة ما فى مجتمعات أخرى. يبقى أن طقوس وشعائر الطهارة من مقومات الهويات الدينية والثقافية كأحد عناصر رسم الحدود بين الذات والآخر، وكما يقول عزيز العظمة فى كتابه العرب والبربر والذى يدرس تاريخ العلاقة بين المسلمين العرب والحضارات الأخرى، فيقول أن “المؤلفين العرب أشاروا دوما الى العوامل التى خالف بها الآخرون أحكام الطهارة الإسلامية كعلامات للافتراق والتمايز”.

وهكذا ففي سياسات الهوية يكون الطرف الأقوى فى النظام الاجتماعى والثقافى هو الأكثر طهرا، فى حين أن الطرف الأضعف هو الأكثر نجاسة. وهي معادلة متغيرة بتغير نظام العلاقات، ومن ثم تغير النظرة إلى مقادير الطهارة والنجاسة في تكوين الهويات الجندرية والاجتماعية والطبقية. ومع ذلك فإن ثنائية الطهارة/النجاسة لازالت حاضرة بقوة فى أبعادها الطقوسية والعقائدية وفىبالهويات الدينية والثقافية، ومازالت كامنة في العلاقة بالجسد، ذلك الكيان الذي يشكل ذاتنا ونعامله كآخر، فنخصه بوصفات وتحايلات تستهدف ترويضه وصيانته وتجميله وترميمه، وكأننا في حرب لا تتوقف لإخفاء افرازاته ودحر شروره التي تهددنا بالتلف والتحلل والفناء.