تُعتبر حرب القرم جزءاً من الحروب الروسية-العثمانية، التي كانت سلسلة من الحروب التي نشبت بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية القيصرية ما بين القرنين السادس عشر والعشرين.

وكانت هذه الحروب في الأساس تهدف إلى وقف الأطماع الروسية في غزو أراضي القرم العثمانية، ولاحقاً لرغبة الروس في السيطرة على البحر الأسود وممرَّيه البوسفور والدردنيل، نحو مياه المتوسط الدافئة.

ووقعت حرب القرم في 4 أكتوبر/تشرين الأول 1853، واستمرت حتى عام 1856. ودخلت مصر وتونس وبريطانيا وفرنسا الحرب إلى جانب الدولة العثمانية في 1854، ثم لحقتهم مملكة سردينيا، التي أصبحت في ما بعد مملكة إيطاليا.

وخلال الحرب، كانت شبه جزيرة القرم مسرحاً للمعارك والمواجهات بين الطرفين، وانتهت حرب القرم في 30 مارس/آذار 1856 بهزيمة الروس وتوقيع اتفاقية باريس.

أماني الروس

اتّسمت العلاقات بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية بقدر كبير من العداء والدموية، فمنذ سيطرة القياصرة على الحكم في روسيا، امتلك الروس حزمة من المطامع التوسّعية لأن يصبحوا دولة كبرى على مسرح السياسة الإقليمية والدولية.

واختلطت أطماع روسيا في بعض الأحيان بعواطف دينية متعصبة، متمثّلة في حماية الأرثوذكس في العالم، والسيطرة على القسطنطينية التي فتحها السلطان محمد الفاتح، وكذلك السيطرة على الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين.

ولقوة العثمانيين العسكرية وتوحُّد الأقطار الإسلامية تحت رايتهم، أدرك الروس أن تحقيق أمانيّهم المتشابكة لن يتم إلا بالقضاء على نفوذ الدولة العثمانية، بخاصة في منطقتَي آسيا الوسطى والبلقان.

وهدفت روسيا إلى تقسيم الأراضي العثمانية بين الدول الكبرى، تمهيداً لوصولها إلى المياه الدافئة، وهو الحلم الذي ظلّ يراود الروس فترة طويلة من الزمن، وأدرك الروس أن ذلك لن يتحقق إلا بقدر من التوافق بين روسيا والدول الأوروبية الكبرى.

وحسب مؤرّخين، فإن القوى الأوروبية الكبرى وأهمها فرنسا وبريطانيا، رأت في الحرب الطويلة والعنيفة بين الجانبين تحقيقاً لمصالحهم، فمن ناحية إضعاف الدولة العثمانية التي امتدّت أراضيها عبر 3 قارات، تمهيداً لتقسيمها بطريقة لا تؤثّر في توازن السياسة الدولية، ومن ناحية أخرى إضعاف روسيا وردعها عن التدخّل الفاعل والنشط في السياسة الأوروبية، وإبعادها عن المنافسة في المجال الاستعماري.

صراع إقليمي ذو أبعاد عالمية

كان القيصر الروسي حينئذ نيقولا الأول، متعصباً دينياً، ويدرك أن حركة "التنظيمات" والإصلاحات السياسية داخل الدولة العثمانية سوف تنعكس بصورة أو بأخرى على الأطماع والنفوذ الروسي بخاصة في منطقة البلقان، لأن تقوية الدولة العثمانية تعني أن لا تصل روسيا إلى المياه الدافئة.

وكانت الدولة العثمانية وبريطانيا حينها تجمعهما علاقة وطيدة، لذا أطلعت بريطانيا العثمانيين على حقيقة النيات الروسية الخبيثة. ولم يستوعب نيقولا الأول حقيقة أن تقف دولة مسيحية مثل بريطانيا مع العثمانيين ضد روسيا المسيحية، إلى أن جاءته طعنة أخرى من فرنسا، وكانت الأخيرة تراقب المشهد بحذر.

وكانت بريطانيا وفرنسا حينئذ ندّين يتنافسان في سباق استعماري محتدم، وعندما تحالفت الأولى مع الدولة العثمانية دونها، أثار ذلك قلق فرنسا من تصاعد نفوذ بريطانيا إقليمياً وعالمياً، فقررت باريس أن تبني موقفها بالتحالف مع بريطانيا.

أما تونس، ذات السيادة والاستقلالية عن الدولة العثمانية، فسعت للمشاركة في هذه الحرب لاستعراض جيشها الجديد أمام الفرنسيين الذين كانوا احتلّوا الجزائر سنة 1830، وذلك بغرض إظهار قدراتها على الردّع وامتلاكها جيشاً عصرياً قادراً على الدفاع عنها في حال تمادت الأطماع الفرنسية وأرادت احتلال تونس، وهو ما حصل سنة 1881.

وأرسل القيصر الروسي بعثة دبلوماسية إلى إسطنبول، رأسها السفير الروسي منشكوف، الذي كان يشغل منصب وزير البحرية في ذات الوقت، بهدف التفاوض مع السلطان العثماني عبد المجيد الأول لتنحية الرهبان الكاثوليك من القدس، وأن يكون الرهبان الأرثوذكس هم أصحاب الكلمة العليا في الأماكن المقدسة هناك، كما طالبوا بتنحية وزير الخارجية العثماني فؤاد أفندي من منصبه بسبب علاقاته الوثيقة مع الدول الغربية.

وأدرك السلطان عبد المجيد أنّ هدف الروس الحقيقي كان السعي لإيجاد مبرر لحرب الدولة العثمانية، فتعامل مع الأمر بحذر وحنكة، ثم قرّر رفض مطالبهم.

حرب القرم

أثار الرفض العثماني غضب منشكوف، ليرحل في نهاية المطاف من الدولة العثمانية مستصحباً معه جميع العاملين في السفارة الروسية في إسطنبول، وبذلك قُطِعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين استعداداً للحرب.

وبدأت الحرب العثمانية-الروسية في القرم يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول 1853، وكان مسرحها الأول في أوروبا بمنطقة البلقان، حيث احتلّ نحو 35 ألف جندي روسي رومانيا التي كانت تابعة آنذاك للدولة العثمانية.

وحشدت الدولتان قوات ضخمة على جبهات القتال، وعلى جبهتي الدانوب والقوقاز، واستطاع القائد العثماني عمر باشا أن يُلحِق بالروس هزيمة ساحقة على نهر الدانوب، وأن يدخل رومانيا.

وفي العام الثاني لحرب القرم، أعلنت فرنسا وبريطانيا الحرب على روسيا بجانب الدولة العثمانية، لتنشب معارك ضخمة في عدة جبهات، كانت أهمها معركة سيواستوبول، التي خاضتها الدول الثلاث للقضاء على القوة البحرية الروسية في البحر الأسود.

واستمرت الحرب المحتدمة أكثر من عامين ونصف، وتميزت هذه الحرب بمتابعة الصحافة لها، من خلال إرسال مراسلين عسكريين على جبهات القتال.

وحاصر الأسطولان العثماني والبريطاني، التجارة الروسية في البحر الأسود، وضعُفت روسيا تدريجياً إلى أن توفّي القيصر نيقولا الأول، وخلفه في الحكم ابنه ألكسندر الثاني الذي شعر بعدم قدرة بلاده على مواصلة الحرب، فقرر التفاوض للسلام.

وفي أواخر عام 1855 ومع دخول الشتاء القارس في روسيا، وضعت الحرب أوزارها تدريجياً إلى أن توقّفت في 25 فبراير/شباط 1856، بتوقيع معاهدة باريس، التي نصّت على حرية الملاحة في نهر الدانوب، وإعلان حياد البحر الأسود، وهو ما يتضمّن سحب روسيا سفنها الحربية من هذا البحر ونقلها إلى بحر البلطيق، والاستقلال الذاتي لكل من ولايتي الأفلاق والبغدان (رومانيا حالياً) ضمن الدولة العثمانية، وإعادة ميناء سيواستوبول لروسيا، واحتفاظ العثمانيين بحق حماية الأراضي الصربية.

TRT عربي