وتعاني منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أزمة كبيرة تتعلق بمواردها المائية، حيث تعتبر هذه المنطقة من أشد مناطق العالم شحاً بالمياه، ويتسبب الإجهاد المائي (أي الفارق السلبي بين حجم المياه الواردة من جميع المصادر، وحجم المياه المستهلكة)، في مشاكل اقتصادية واجتماعية كبيرة للسكان، إضافة إلى الآثار السياسية المتمثلة بموجات النزوح الداخلي أو الهجرة خارج الحدود إلى الدول المجاورة، وحتى النزاعات المسلحة بين الدول.

ولا تشكل المياه العذبة التي يمكن الاستفادة منها سوى 1% من كمية المياه على كوكب الأرض، على الرغم من أن المياه تغطي نحو 71% من مساحة الكرة الأرضية، إلا أن معظمها مياه مالحة على شكل محيطات وبحار لا يمكن الاستفادة منها دون معالجة مكلفة، ومياه عذبة مخفية في الأنهار الجليدية لا يمكن استثمارها بسهولة.

وعلى الرغم من ندرة المياه العذبة، فهناك ما يكفي من المياه على كوكب الأرض لسد حاجة سبع مليارات شخص، لكنها موزعة بشكل غير متساوٍ، والكثير منها يُهدر ويلوث ويُدار بشكل غير مستدام، حيث يعيش حوالي 1.2 مليار شخص، أو ما يقرب من خمس سكان العالم، في مناطق تعاني ندرة مائية نتيجة عدم توفر موارد المياه، ويقترب 500 مليون شخص من هذا الوضع، فيما يواجه 1.6 مليار شخص آخر، أو ما يقرب من ربع سكان العالم، نقصاً في المياه لأسباب اقتصادية إذ تفتقر البلدان إلى البنية التحتية اللازمة لاستثمار المياه من الأنهار وخزانات المياه الجوفية.

ويعيش نحو 2.7 مليار شخص في العالم في أحواض تعاني من الإجهاد المائي لمدة شهر واحد كل عام، ومن المتوقع أن يعيش أكثر من 40% من سكان العالم في مناطق تعاني من الإجهاد المائي بحلول عام 2050، بحسب تقرير للصندوق العالمي للطبيعة.

ويشير تقرير الاقتصاد المائي الدائري الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في يونيو/حزيران الفائت إلى أن المناطق الحضرية أصبحت أقل ملاءمة للعيش بسبب الإجهاد المائي والذي تفاقم بسبب تغير المناخ، حيث تواجه المدن تحدياً حقيقياً مع بدء نفاذ المياه بالفعل.

وفي عام 2018 كانت "كيب تاون" عاصمة جنوب إفريقيا على وشك أن تصبح أول مدينة عالمية كبرى تصل إلى "يوم الصفر" وهو اليوم الذي ستختفي فيه المياه من الصنابير بسبب الجفاف وارتفاع الطلب، ونقص الموارد المائية المتاحة، كما واجهت مدن مثل إسطنبول ومكسيكو سيتي وتشيناي أزمات مائية مؤخراً.

وتصدرت التهديدات المناخية الشديدة قائمة المخاطر طويلة الأمد في تقرير المخاطر العالمية 2020، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في يناير 2020، وجاءت أزمات المياه في المرتبة الخامسة ضمن المخاطر العالمية الأولى من حيث شدة الأثر على مدى السنوات العشر المقبلة.

وهيمنت القضايا البيئية على قائمة أبرز المخاطر العالمية من حيث احتمالية الحدوث في تقرير المخاطر العالمية الخاص بالعام 2021 وجاءت في مقدمتها ظروف الطقس القاسية، يليها فشل الإجراءات الخاصة بالمناخ في المرتبة الثانية، وجاء الأثر البيئي للإنسان والأضرار التي يحدثها بالبيئة في المرتبة الثالثة.

الجفاف يهدد تركيا

شهدت تركيا مؤخراً جفاف بحيرة "قراطاش" في ولاية "بوردور" غرباً، والبالغة مساحتها 1190 هيكتاراً، والتي كانت تعتبر مقصداً للطيور المهاجرة خلال فترات معينة من السنة، لتبقى القوارب الخشبية وسط البحيرة الجافة شاهداً على حجم الكارثة التي حلت بهذه المحمية الطبيعية، نتيجة تقلص كميات الأمطار الهاطلة خلال السنوات الأخيرة، وعوامل تغيّر المناخ.

وخلافاً للاعتقاد السائد، فإن تركيا لا تزال تعتبر دولة "تعاني من الإجهاد المائي" حيث يبلغ نصيب الفرد منها 1519 متراً مكعباً من المياه سنوياً، ومع توقعات بزيادة عدد سكانها عام 2030 إلى 100 مليون نسمة، من المتوقع أن تكون كمية المياه للفرد 1120 متراً مكعباً سنوياً، وبعبارة أخرى، مع تزايد عدد سكانها، وتنامي اقتصادها، ونمو مدنها، فإن تركيا في طريقها لأن تصبح دولة "فقيرة مائياً". بحسب تقرير مخاطر المياه في تركيا.

ويلخص التقرير أبرز المشكلات المتعلقة بموارد المياه في تركيا حيث تؤثر مشاريع البنية التحتية المائية غير المستدامة (مثل محطات توليد الطاقة الكهرومائية، والسدود، ومشاريع نقل المياه بين الأحواض المائية)، بشكل مباشر على النظم الهيدرولوجية، وتتسبب في تدمير بعض الجداول والأراضي الرطبة، كما يؤدي استخدام المياه في الزراعة بالطرق التقليدية إلى السحب المفرط والاستخدام غير الفعال للمياه من المصادر الطبيعية.

كما يزداد تلوث الموارد المائية بالمخلفات المنزلية والصناعية والزراعية، ولا تؤثر موارد المياه الملوثة بشكل مباشر على التنوع البيولوجي فحسب، بل تؤثر أيضاً على عدد كبير من السكان الذين تعتمد سبل عيشهم على المياه، ويضاف إلى هذه العوامل الاستثمارات الأخرى ومشاريع البنية التحتية واسعة النطاق مثل الطرق السريعة، وإنشاء المدن الجديدة، التي تستهلك كميات كبيرة من المياه أثناء مرحلتي البناء والتشغيل أو تشكل عاملاً ملوثاً لموارد المياه.

وبسبب وقوعها في منطقة حوض البحر المتوسط، الذي من المتوقع أن يتلقى أكبر الآثار السلبية لتغير المناخ، وخصوصاً على الموارد المائية، فإن تركيا تعتبر متأثرة بشدة، وقد تعزى الانخفاضات في الجريان السطحي إلى كل من انخفاض هطول الأمطار وزيادة التبخر نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، ومن المتوقع حسب دراسة بعنوان "تأثير التغير المناخي على مصادر المياه في تركيا" أن تشهد معظم منطقة الشرق الأدنى (بما في ذلك تركيا) نقصاً في توافر المياه يصل إلى 40 ملم سنوياً، ومن المتوقع أن يبلغ هذا الانخفاض 80 ملم سنوياً في هضبة الأناضول.

ولأن الزراعة هي المستهلك الأول للموارد المائية في تركيا بحصة تصل إلى 74% فمن المتوقع أن يتأثر القطاع الزراعي بشدة بتغير المناخ، خصوصاً مع هدر كميات كبيرة من المياه حيث معظم عمليات الري الزراعي تجري بطريقة الجريان السطحي التقليدية، مقارنة بطرق الري الأكثر كفاءة مثل الرش والتنقيط.

التأثيرات والعواقب

يهدد نقص المياه العذبة بعواقب مروعة، مثل المجاعة وتهديد الأمن الغذائي، نتيجة انخفاض الإنتاج الزراعي وارتفاع أسعار الغذاء، كما يتسبب في ارتفاع معدلات الفقر وخسارة سبل العيش، والهجرات القسرية من الريف إلى المدن، ما يؤدي إلى زيادة الإجهاد المائي في المدن نتيجة الضغط غير المتوقع على البنية المائية التحتية، وتوجه اليد العاملة الزراعية إلى قطاعات خدمية وتجارية، وما يسببه ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية خصوصاً في البلدان التي تشكل الزراعة محور اقتصادها.

ولتدارك هذه العواقب يجب تحسين سبل إدارة المياه، وتحسين التقنيات اللازمة لزيادة كفاءة استخدامها، وإصلاح وتبديل شبكات المياه التي تغذي المنازل، لمنع التسريب وتجنب اختلاط مياه الشرب بمياه الصرف، إضافة إلى الحلول الطبيعية، مثل إعادة التحريج، وتحسين الممارسات الزراعية ذات الكفاءة المائية العالية، واعتماد بعض المحاصيل التي يمكنها تحمل الجفاف ولا تستهلك الكثير من المياه، والمحاصيل التي يمكن زراعتها في تربة مالحة باستخدام موارد المياه ذات الجودة المنخفضة، وحماية مجاري الأنهار ومصادر المياه الجوفية من التلوث، ومعالجة مياه الصرف الصحي للاستفادة منها في الزراعة بدلاً من استنزاف مياه الشرب، كما يعتبر نشر الوعي حول أهمية المياه وضرورة المحافظة عليها، وترشيد استهلاكها، عاملاً مهماً في تجنب هدر كميات كبيرة من المياه دون فائدة، وهو ما يمكن أن يتم من خلال المدارس ووسائل الإعلام والهيئات والجمعيات المتخصصة.

خطة عمل تركيّة

وفي مواجهة تحديات الجفاف ونقص الموارد المائية، صاغت تركيا خطة عمل تهدف إلى استخدام المياه بشكل رشيد بدأت بتنفيذها منذ مطلع العالم الحالي، وتهدف خطة العمل الجديدة إلى إنشاء نظام إدارة مياه أكثر كفاءة، والحد من خسارة المياه الجوفية من خلال بناء السدود الجوفية التي تحتجز المياه وتحافظ على مخزونها في الأماكن اللازمة.

كما تتضمن الخطة أيضاً البدء بتحديث أساليب الري التقليدية المهدرة للمياه، من خلال أنظمة ري تحت الأرض تمنع تبخر المياه وتوفر ما لا يقل عن 40% من موارد المياه.

وتدعم خطة العمل هذه مشاريع البنى التحتية للبلديات بحيث تستبدل شبكات المياه التالفة، وتوعّي المواطنين وتشجعهم على الاستخدام الرشيد للمياه في الاحتياجات اليومية.

وستعمل تركيا، التي صادق برلمانها مؤخراً على اتفاقية باريس للمناخ، على خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 21% اعتباراً من عام 2030 من خلال تنفيذ خطة عمل مع تسع نقاط رئيسية تتضمن 32 هدفاً، والوصول إلى "صفر انبعاثات" بحلول عام 2053 الأمر الذي يساعد على استعادة توازن المناخ، وتجنب موجات الجفاف وظواهر الطقس المتطرفة، والكوارث البيئية والتخفيف من آثارها.


جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي