التسامح من شيم الكرام
التسامح من شيم الكرام
يعلمنا السيد المسيح بقوله:سمعتم أنه قيل أحبب قريبك ابغض عدوك أما أنا فأقول لكم:أحبوا أعداءكم وصلوا من أجل مضطهديكم(متي5:44-43).
ذات يوم دعا رجل أولاده الثلاثة, وقال لهم:لقد وصلت يا أبنائي إلي نهاية حياتي, لذلك أردت أن أوزع ثروتي بينكم, وقام بتقسيم ثروته بالعدل بينهم كل واحد حسب نصيبه.
ثم قال:قد بقيت عندي جوهرة ثمينة هي أغلي ما أملك, وسوف أمنحها لمن قام بأفضل عمل, إذا فليخبرني كل منكم بأفضل أعماله, لأقرر من يستحقها.
فقال الأول:قد ذهبت إلي بلاد بعيدة, لا أعرف من سكانها غير رجل غني رحب بي وأكرمني, ثم أودعني ماله وجميع مقتنياته دون كتابة إيصال أمانة, وعندما أراد أن يستردها, سلمت له المال والمقتنيات كما أعطاني إياها فقال الأب لابنه:قد عملت ما هو مطلوب منك, ولاشيء خارق, ولو أنك فعلت غير ذلك, لأصبحت مخطئا وغير أمين! وقال الثاني:أما أنا فقد عملت عملا أفضل.
بينما كنت سائرا بجوار شاطئ البحر, وكانت أمواجه هائجة, فإذا بغلام يتخبط شمالا ويمينا صارخا طالبا النجدة, ولكن لا حياة لمن تنادي, كأن قلوب المارة قد تجمدت من شدة البرودة والبلادة, وللحال ألقيت بنفسي في الماء وأنقذته.
فأجاب الوالد:إن عملك بطولي, ولكنه عمل يجب أن يقوم به كل إمرئ ينبض في عروقه حب الإنسانية! وأخيرا تقدم الثالث وقال:حدث أثناء تجولي يوما أن التقيت براع كان عدوي اللدود منذ طفولتي, وكان نائما بالقرب من هوة عميقة, ولو أنه قام بحركة حفيفة لقضي علي حياته, وقد تغلبت علي ميولي لروح الانتقام منه, فجذبته بلطف عن حافة الهوة, وهكذا نجيته من موت أكيد فصاح الأب فرحا وقال له:أنت الوحيد الذي يستحق الجوهرة, فقد قمت بما عجز عنه البشر, لأنك أنقذت حياة عدوك! كم من البشر يطلبون غفران الله لهم كل يوم, أو عدة مرات في النهار الواحد, في حين أنهم لايغفرون للذين يسيئون إليهم؟أمثال هؤلاء الذين يطلبون عفو الله, إنما يخدعون أنفسهم حين ينتظرون غفران الله, دون أن يتنازلوا ويغفروا لغيرهم لذلك أمرنا السيد المسيح بمسامحة الآخرين, ليس مرة أو اثنين, بل سبعين مرة سبع مرات, أي إلي ما لا نهاية له.
فالحقد مرفوض بتاتا مهما تكررت إساءة القريب.
من منا لايحتاج إلي غفران الله بسبب ضعفنا البشري؟لذلك فالصفح هو فضيلة النفوس النبيلة, والقلوب الواعية الرحيمة, في حين أن الانتقام هو شعور مرضي يعتري النفوس الصغيرة والحقودة, كما يجب ألا نتخذ تصرف الغير قاعدة لسلوكنا معهم, ونقابل الحسنة بمثلها, ونكيل الصاع صاعين للإساءة, بل يجب أن نحب ونغفر للجميع, وهذا المبدأ تتخذه كل نفس شهمة, وقلب نبيل, يستحق من يعمل بموجبه, احترام الناس محبتهم, فضلا عن رضا الله.
ومما لاشك فيه أن إهانة الغير, أو المشاجرة معهم أو الانتقام منهم, لا توجد فيه شيء من البطولة, ويفعله عديم الأدب والتربية بينما التهذيب وسيطرة الإنسان علي أعصابه, ومعاملة الناس باللطف والاحترام والتسامح, فهذا يقتضي البطولة, ويمارس الأشخاص ذوي التربية الصالحة والأخلاق الحميدة, إن الوصية التي تدعونا إلي محبة الأعداء والصفح لمبغضينا, تضمن لنا ينابيع صحة وسعادة, فضلا عن ثواب الله, وليس المقصود من وصية المحبة وضع دستور أخلاقي في سبيل التعايش السلمي فحسب, بل دستور صحي أيضا, يلتزم باتباعه كل من يريد أن يعيش سليم الأعصاب سوي النفس والجسد, متجنبا أمراضا كثيرة ومتعددة.
فالحقد وطلب الثأر عاطفتان لاتليقان بالبشر والنفوس الضعيفة هي التي ترفض الصفح, كما أن القلوب العفنة وحدها تحقد وتتأر إذا فالصفح ليس ضعفا, والانتقام نبل فالتسامح من شيم الكرام.
لنتمثل بالزهور كما يقولGHIKA:إنها تعطر حتي الأيدي التي تسحقها.
ومما لا شك فيه أن الله لايقبل منا الانتقام من الغير, مهما فعل معنا من سوء,فكلنا ضعفاء, وكلنا معرضين للزلل وفي حاجة للصفح والمسامحة.
والذين يجعلون الله نصب أعينهم فلا شيء يصعب عليهم, حتي محبة الذين أساؤا إليهم أو تسببوا لهم بالشقاء والخسارة والألم, وعندما يجد الله أقل استعداد في النفس, فهو يوليها النعمة والبركة لكي تتغلب علي ميول الطبيعة وثورتها وأحقادها. ونختم بهذه الكلمات الهادفة والبناءةالأحقاد تقتل وتفني, والمحبة وحدها تصفح وتبني, وتفجر الخير والسلام والسعادة بين البشر.