وكأن المشهد السياسي السوداني كتب عليه الاختيار بين ديكتاتورية المدنيين أو ديكتاتورية العسكر.

يرجح البعض حدوث السيناريو المصري في السودان عقب الثورة، في حين يحذر آخرون من السيناريو التونسي الذي يكرس لديكتاتورية المدنيين، لكن مع اختلاف الثقافة السياسية والبنى الاجتماعية بين السودان من جانب وتجربة مصر وتونس من جانب آخر، فإن المشهد السياسي مفتوح على كل الخيارات مع وجود 8 جيوش في السودان وتدفقات هائلة في السلاح، تصاحبها تشظيات عميقة في النسيج الاجتماعي وتصدعات على أسس إثنية وجهوية ومناطقية، مما يجعل سيناريو وشبح الصوملة والبلقنة ليسا بعيدين، بخاصة إذا اشتعلت أي لوثة عنف حال فشل مشروع التسوية والتوافق السياسي الراهن، على حساب سيطرة أقلية على مقاليد السلطة من جديد.

وتحول مشهد الصراع بين مكون مدني وعسكري، عمدت "قوى الحرية والتغيير" إلى تغذيته بالروح الثورية إلى صراع مدني/مدني بانشقاق كتلة مقدرة تشكك في شرعية تمثيل الأحزاب الحاكمة لقاعدة قوى الحرية والتغيير التي صنعت الثورة.

وهرع الطرفان إلى الشارع لحشد أكبر قدر من المناصرين لتبيان حجم التأييد الجماهيري، وبات جليا تآكل الرصيد الجماهيري لقوى الحرية والتغيير بصورة لافتة.

وتنظر الساحة السودانية إلى يومي 16 و21 في شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري لاختبار مدى جماهيرية كل طرف.

إذ أعلن الطرفان عن مسيرة حاشدة في ذكرى ثورة 21 أكتوبر، كما سيختبر الشارع قدرة "قوى إعلان الحرية والتغيير" على الحشد الجماهيري في يوم توقيع الإعلان السياسي يوم 16 الجاري والتي ستضم أحزاباً وفعاليات تسعى إلى إستعادة الثورة بالعودة إلى "منصة التأسيس".

وأياً كانت نتيجة القوى الجماهيرية لأي طرف فإن المعركة حُسمت بعدم العودة إلى إنتاج نظام اختطاف السلطة وسيطرة أربعة أحزاب فقط على المشهد، حيث أوضح المكون العسكري بكل وضوح أن المخرج الوحيد للأزمة الراهنة هو حل الحكومة وتوسيع قاعدة المشاركة للأحزاب السياسية، والعمل على إجراء الانتخابات.

تدخل الأزمة السودانية وفق هذه الحيثيات مرحلة جديدة من التعقيد ليس بسبب الأزمة السياسية واتهام أقلية باختطاف السلطة الانتقالية، وتوظيفها لقمع الخصوم والمحسوبية فحسب، بل هي عرَض لمرض عضال، وهو فشل النخبة السياسية في بلورة مشروع وطني جامع.

لقد تفجرت كل الخلافات الخفية بين المكون المدني والعسكري مع إجهاض المحاولة الانقلابية في سبتمبر/أيلول الماضي، بخاصة مع علو نبرة التشكيك في نوايا المكون العسكري واتهامه بنزعة انقلابية.

هذه الأزمات المتعددة والمتلاحقة التي تمسك بخناق البلاد من كل الاتجاهات وتهدد تماسكها ووحدتها الوطنية، تقف دليلاً واضحاً على العجز السياسي لوجود فراغ في القيادة السياسية والتنفيذية للبلاد، التي يعود سببها الأساسي إلى ضعف رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذي يعاني من عجز في قدراته القيادية والجرأة السياسية لابتدار إجراءات وسياسات تنقذ البلاد من أزماتها الراهنة.

فهو يملك التفويض الدستوري وكل الصلاحيات القانونية، لكنه ارتضى أن يكون واجهة لإضفاء شرعية زائفة على تطلعات بعض الكتل السياسية التي تفتقد إلى الثقل الجماهيري وتريد أن تحقق أهدافها باحتكار السلطة والهروب عن دفع استحقاقات الفترة الانتقالية واستكمال هياكل البناء المؤسسي بخاصة المجلس التشريعي الانتقالي والمحكمة الدستورية والمفوضيات القومية وغيرها.

في ظل هذا الفراغ وعجز الدولة عن القيام بوظائفها لجأت الكيانات الأهلية إلى تنظيم احتجاجات وإغلاق الطرق القومية، ووقف المشروعات الحيوية في مناطقها للضغط على السلطة السياسية للاستجابة إلى مطالبها والمحافظة على مصالحها الإقليمية والجهوية.

وتمثل تطورات قضية شرق السودان وإغلاق الميناء الرئيس في بورتسودان بواسطة زعيم نظارات البجا، أبرز تمظهرات الغبن السياسي الجهوي والمناطقي تجاه المركز، وذلك احتجاجاً على مسار شرق السودان في اتفاقية سلام جوبا، إذ إنها تمثل التفافاً على الحقائق السياسية على الأرض، وتسعى إلى اصطناع زعامات جديدة على حساب توازنات القوى الجهوية والتاريخية في المنطقة.

وظهرت جلية آثار إغلاق ميناء بورتسودان على مجمل الأوضاع الاقتصادية المتردية أصلاً، بخاصة بعد عودة صفوف الخبز من جديد وزيادة أسعاره بصورة مضاعفة. فبعد أن كان سعر قطعة الخبز جنيهاً قبل الثورة صار بأكثر من خمسين جنيهاً.

وأغرى نجاح الاحتجاجات في شرق السودان بعض الأقاليم لتعلن انضمامها إلى تحالف جديد يضم شمال وشرق ووسط السودان لمناهضة مسارات اتفاقية جوبا والامتيازات التي حظيت بها بعض الأقاليم على حساب بقية أنحاء السودان. وتتسع دائرة الاحتجاجات الإقليمية كل يوم ويتوقع أن تصل إلى مرحلة تشل معها الحياة اليومية.

كما أن الأزمة الراهنة أصبحت متعددة الوجوه، فهي أزمة دستورية في المقام الأول لاختلاف تفسير أطراف الصراع للوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية، بخاصة بعد خروج فاعلين في المشهد السياسي اعترفوا بتزوير الوثيقة قبل أن يجف مداد التوقيع عليها.

كما أنها أزمة سياسية لانشقاق كتلة "قوى الحرية والتغيير" إلى شقين، وأزمة اقتصادية لارتفاع معدلات الغلاء وانعدام السلع الضرورية خاصة الخبز والوقود، والنقص المريع في الإمداد الكهربائي مما أدى إلى تقليل ساعات الدراسة في المدارس.

أصبحت التدخلات الخارجية في الشأن السوداني أمراً مزعجاً لكثير من المراقبين والمحللين، إذ صارت بيانات دول الترويكا (أمريكا وبريطانيا والنرويج) تحدد بوصلة السياسة الداخلية، ولم يعد سراً الدور الإماراتي المتعاظم، مع خنوع مريب من أركان الحكم، وأصبحت حركة السفراء الأجانب في زيارة مناطق الأزمات ومقابلة زعماء القبائل والعشائر أمراً مألوفاً في المشهد السوداني، وهو أمر يتجاوز شعارات السيادة الوطنية إلى العبث بمقدرات السودان ومكوناته الوطنية.

السودان مقبل على تغييرات سياسية كبيرة خلال الأسابيع القادمة، وهي تتراوح بين إعادة إنتاج النموذج المصري أو التونسي كما ذكرنا من قبل، حيث إن جهود تأسيس مشروع وفاق وطني جامع قاب قوسين أو أدنى من الفشل بسبب أنانية النخب ونزعتها إلى الاستحواذ والهيمنة وإسرافها في استخدام أدوات السلطة والعنف لقمع الخصوم، وتنكب طريق العدل باعتقال السياسيين دون تقديمهم لمحاكمات عادلة وتواصل مجازر الفصل التعسفي من الخدمة المدنية.

إن استمرار مشروع الشراكة العسكرية المدنية لتحقيق أهداف الفترة الانتقالية وتوسيع قاعدة المشاركة وصون استقلال القضاء والعدل ومراجعة القرارات التعسفية في الفصل ومصادرات الأموال وتحقيق الوفاق الوطني هو الحل الوحيد لإنقاذ الفترة الانتقالية، أما أي مغامرة أخرى تقوم على الإقصاء واختطاف السلطة تعني دون أدنى شك نهاية دولة السودان المعروفة بحدودها وهويتها إلى دويلات صغيرة تحكمها القبائل والجهويات التي تنتج مزيداً من العنف والدماء والحروب.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي