تحيي تونس مرور الذكرى الثامنة والخمسين لجلاء آخر جندي فرنسي عن الأراضي التونسية، وذلك بعد سنوات طويلة من الاستعمار الفرنسي الذي خلف وراءه العديد من القتلى واستنزف ثروات البلاد.

بينما يثار الجدل حاداً بين كل من الجزائر، الجارة الجنوبية لتونس، وفرنسا، حول مرحلة الاستعمار الفرنسي، وما تسبب فيه من فظائع إنسانية، تحتم على السلطات الفرنسية الاعتراف بها والاعتذار عنها، تمر بالتزامن مع ذلك الذكرى الثامنة والخمسين لاسترجاع تونس سيطرتها الكاملة على كل أراضيها، بعد سنوات طويلة من الاحتلال الفرنسي، الذي كان الحقبة الأكثر قسوة في تاريخ تونس.

ورغم أن تونس تمكنت بعد ملاحم بذلت فيها الكثير من الدماء من الحصول على استقلالها، فإن الوجود الفرنسي استمر بعد ذلك على التراب التونسي طيلة 7 سنوات، حتى اندلاع معركة الجلاء في مدينة بنزرت الشمالية، التي قررت على إثرها القوات الفرنسية العسكرية الانسحاب، لتستعيد بالتالي تونس سيطرتها على كامل تراب البلاد، متوجة بذلك انتصارات الشعب التونسي بكل مكوناته، ومنهية فترة مظلمة من تاريخ البلاد.

معركة الجلاء.. محطات تاريخية

لطالما كانت معركة الجلاء ذكرى وطنية خالدة في أذهان التونسيين، يتذكرون فيها الملاحم التي خاضها المقاومون التونسيون لدحر قوات الاحتلال الفرنسي عن أراضيهم.

وقد اندلعت الشرارة الأولى لمعركة الجلاء يوم 8 فبراير/شباط 1958، إثر هجوم شديد شنته الطائرات العسكرية الفرنسية على إحدى القرى الواقعة على الحدود الجزائرية، حيث اعتبرت القوات الفرنسية أن التونسيين يقومون بدعم المقاومين الجزائريين. وأسفر القصف حينها عن مقتل نحو 70 شخصاً وأكثر من 90 جريحاً بين تونسيين وجزائريين.

ومنذ ذلك الحين، تجدد تونس دعوتها للاتفاق والتفاوض مع فرنسا لسحب قواتها من القاعدة العسكرية في بنزرت. إلا أن الأخيرة استمرت في المماطلة وتجاهل ذلك، إذ إنها كانت تخفي وراء هذا التعنت حقيقة تخوفها من أن تتحول تونس إلى قاعدة خلفية للثورة الجزائرية.

ومع انطلاق أعمال توسعة القاعدة العسكرية الفرنسية في بنزرت عام 1961، وإعلان الجانب التونسي بالتزامن مع ذلك فشل المفاوضات مع باريس، انطلقت التعبئة والتحشيد الشعبي إلى مدينة بنزرت، حيث اندلعت معركة حامية بين قوات الاحتلال والجيش التونسي والمتطوعين في المعركة من كل الشعب.

وتمكن الجيش التونسي في ذلك الوقت من محاصرة القاعدة العسكرية الفرنسية وتدمير 6 طائرات لقوات الاستعمار، فأثار ذلك غضب القوات الفرنسية التي شنت قصفاً كثيفاً على أحياء المدينة، خلف وراءه العديد من القتلى.

وتشير عدة مصادر تاريخية إلى أن الأميرال الفرنسي موريس أمان قد أرسل في ذلك الوقت برقية إلى باريس كتب فيها "إن القاعدة الاستراتيجية الفرنسية في بنزرت مهددة بالسقوط في أيدي وحدات الجيش التونسي". فجاءه الرد على الفور بأن "اضربوا بقوة وبسرعة".

فحاصرت القوات الفرنسية المياه الإقليمية التونسية بأسطول ضخم وبوارج، وشنت هجوماً هو الأعنف من نوعه على مدينة بنزرت، في الوقت الذي كان الجيش التونسي والمقاومون يخوضون الحرب ببنادق وتجهيزات عسكرية تقليدية. ولكنهم مع ذلك رفضوا كل دعوات الاستسلام أو إلقاء السلاح.

وفي تلك الأثناء ومع اشتداد وطيس المعركة بين الجانبين، أصدر مجلس الأمن يوم 22 يوليو/تموز 1961 قراره بوقف إطلاق النار. ومنذ ذلك الحين عقدت لقاءات مكوكية بين القيادة التونسية والفرنسية للتفاوض والاتفاق على خروج القوات الفرنسية من تونس، وتعرضت حينها باريس لضغط دولي، فقررت بالتالي الانسحاب، وبدأت عملياً في سحب قواتها العسكرية من تونس.

وكان تاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول 1963 هو تاريخ خروج آخر جندي فرنسي من التراب التونسي، ليكون شارة نصر معركة الجلاء.

وقدرت الإحصائيات بعد ذلك مقتل نحو 670 تونسياً، وجرح نحو 150 شخصاً أغلبهم من المدنيين.

قتل ونهب للثروات

تعتبر معركة بنزرت أو معركة الجلاء، واحدة من بين الكثير من الشواهد على فظاعة الاحتلال الفرنسي لتونس الذي استمر من عام 1881 إلى تاريخ 20 مارس/آذار 1956.

وقد كانت حقبة الاستعمار الفرنسي أكثر المحطات التاريخية قسوة في تاريخ تونس، راح ضحيتها آلاف القتلى والجرحى، وتمكن فيها الاحتلال من نهب الثروات الطبيعية التي تزخر بها الأراضي التونسية، والاستيلاء على أغلب الأراضي الفلاحية، ليغادرها أخيراً وهي على حافة الإفلاس وتعاني أزمة اقتصادية كبرى.

ويرى خبراء ومحللون أن الاستعمار الفرنسي قد أعاق أيضاً بشكل كبير الإصلاحات السياسية والاجتماعية التي كانت قد بدأت تخطو فيها تونس خطوة جادة بدستور 1861.

كما قام في الوقت ذاته بفرض نظام جباية مجحف على التونسيين، عزز فيه التمييز بينهم وبين المقيمين والمستعمرين الفرنسيين الذين كانوا يدفعون في ذلك الوقت ضرائب أقل، ولم تكن هذه الضرائب التي تدفع لجيب الاستعمار الفرنسي إلا دخلاً إضافياً لخدمة مصالحه التوسعية والاستعمارية، كما يرى ذلك ناشطون تونسيون.

TRT عربي