يتبوأ المسجد النبوي الشريف مكانة عظيمة في قلب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، ويحظى بعناية خاصة تتجلى صورها بعد توليه مقاليد الحكم حيث كانت أولى اهتماماته إتمام أكبر توسعة في تاريخ المسجد النبوي لرفع طاقته الاستيعابية إلى مليوني مصل مع نهاية أعمال المشروع، ليمثل حدثاً إسلامياً يتردد صداه في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.

والحرم الشريف ثاني أكبر المساجد بعد المسجد الحرام، تفد إليه الأرواح والمهج على مدار العام للصلاة في الروضة الشريفة والتشرف بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضوان الله عليهما-..

تشييد أول

وتذكر كتب التاريخ أن الحرم النبوي كان مربداً لتجفيف التمر لغلامين يتيمين اسمهما "سهل وسهيل" اختط الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أرض المسجد فجعل طوله 50 متراً وعرضه 49 متراً، وجعل القبلة إلى بيت المقدس، وحفر أساسه وسقفه بالجريد، وجعل عمده جذوع النخل، وجعل له ثلاثة أبواب، باب في مؤخرة المسجد وكان يقال له باب عاتكة أو باب الرحمة، وباب جبريل وهو الذي يدخل منه الرسول الأعظم، وجعل في مؤخرة المسجد مكاناً مظللاً يعرف بـ"الصفة" وهو المكان الذي كان يأوي إليه الغرباء والمساكين، ولم يتم سقف كل المسجد، وكان إذا نزل المطر يسيل مختلطاً بالطين على المصلين ولما طلبوا من النبي الكريم أن يزيد الطين على سقفه رفض وقال: "لا، عريش كعريش موسى"، ولم يكن المسجد مفروشاً في بداية أمره، ولكنه فرش بالحصى بعد ذلك في عام ثلاثة من الهجرة، وعندما حولت القبلة إلى الكعبة حدث تغيير في المسجد إذ تحوّلت الصفّة من الجنوب إلى الشمال وأغلق الباب الذي في مؤخرته وفتح باب جديد في شماله.

وفي عهد الفاروق رضي الله عنه تم تقديم جدار القبلة بمقدار عشرة أذرع، وزيادة عشرين ذراعاً من الناحية الغربية، وثلاثين ذراعاً من جهة الشمال، فجاء مستطيل الشكل طوله من الشمال مئة وأربعين ذراعاً ومن الشرق مئة وعشرين ذراعاً، ورفع سقفه إلى أحد عشر ذراعاً، وأضيفت له ثلاثة أبواب أخرى، وهي باب في الحائط الشمالي، وباب النساء، وباب السلام، وفي عهد عثمان ذي النورين رضي الله عنه، تمت زيادة عشرة أذرع من جهة القبلة، وعشرة أذرع غرباً بواقع أسطوانة واحدة، فيما لم تشهد الناحية الشرقية زيادة في البناء، وزاد من الشمال والغرب.

أعمدة حديد

وفي عهد الوليد بن عبدالملك عام 88هـ كتب إلى واليه على المدينة عمر بن عبدالعزيز يأمره بشراء الدور التي حول المسجد لضمها إلى التوسعة، كما أمره أن يدخل حجرات أمهات المؤمنين في التوسعة فأدخل فيها قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت زيادة الوليد من ثلاث جهات وهي الشرقية والشمالية والغربية وأصبح طول الجدار الجنوبي 84 متراً والجدار الشمالي 68 متراً والغربي 100 متر، وقدرت هذه الزيادة بحوالي 2369م2 ، كما شهدت التوسعة لأول مرة بناء المنارات حيث شيدت أربع في كل ركن منارة وعملت شرفات في السطح، وكذلك محراب مجوف لأول مرة، ولم تحدث أي توسعات بعده، ولكن كانت هناك بعض الإصلاحات والترميمات فقط، وحينما زار الخليفة المهدي المدينة المنورة في حجه سنة 160هـ أمر عامله جعفر بن سليمان بتوسعة الحرم الشريف وقد دامت مدة التوسعة خمس سنوات كانت توسعته من الجهة الشمالية فقط وكانت الزيادة بنحو 100 ذراع فأصبح طول المسجد 300 ذراع وعرضه 80 ذراعاً، وعمّره وزخرفه بالفسيفساء وأعمدة الحديد في سواريه وتقدر هذه الزيادة بحوالي 245 م2.

قبة خضراء

وفي سنة 654هـ احترق المسجد فأسهم في عمارته عدد من القادة المسلمين وكان أول من أسهم في ذلك آخر الخلفاء العباسيين المستعصم بالله فأرسل من بغداد المؤن والصناع وبدئ في العمل سنة 655هـ ثم انتهت الخلافة العباسية بسقوط بغداد في أيدي التتار، بعدها تبارى ملوك وقادة المسلمين في العمارة، وعندما شب الحريق الثاني سنة 886هـ استحوذ الحريق على أجزاء كثيرة من سقف المسجد فوصل خبره للسلطان قايتباي حاكم مصر فأرسل المؤن والعمال والمواد فعمره وتم تسقيفه سنة 888هـ، وبني للمصلى النبوي محراباً كما بني المحراب العثماني في الزيادة القبلية، وبنيت القبة الخضراء على الحجرة النبوية الشريفة التي دفن فيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وظهر ضيق جهة الشرق فخرجوا بالجدار الشرقي بنحو ذراعين وربع ذراع فيما حاذى ذلك، وتمت العمارة سنة 890هـ حيث تعد هذه التوسعة هي آخر توسعة جرت إلى العهد العثماني وتقدر هذه التوسعة بحوالي 120م2، ولم يطرأ على المسجد النبوي الشريف أي تغيير منذ عمارة السلطان قايتباي لمدة 387 سنة ولكن خلال هذه المدة تم عمل الكثير من الإصلاحات والترميمات بمنائر وأبواب المسجد واستبدال الأهلة التي تعلو المنائر والقبة وترميم جدران المسجد والكثير من أعمال الإصلاحات اللازمة، ولكن لم يكن هناك هدم كامل وبناء إلاّ في سنة 1265هـ والتي استغرقت نحو 13 عاماً، وكانت العمارة من الحجر الأحمر من جبل غرب الجماوات حيث استخدمت حجارته لبناء الأعمدة، أما الجدران فكان من حجر البازلت الأسود، وتم بناء أعمدة السقف القبلي في موضع جذوع النخل التي كانت في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وقدرت التوسعة بحوالي 1293م2.

في قلب القيادة

والمدينة المنورة والحرم الشريف في قلب القيادة منذ تأسيس الدولة السعودية الفتية حيث كانت الأنظار والقلوب مشرئبة للمسجد النبوي، وكانت الزيارة الأولى للملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- إلى المدينة المنورة في شعبان عام 1345هـ للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام على النبي الخاتم، ثم النظر في شؤون الحرم، حيث لاحظ تصدعات في بعض العقود الشمالية، وتفتت بعض حجارة الأعمدة، فأصدر أمره -رحمه الله- ببدء الإصلاح والترميم، فأجريت إصلاحات في أرضيته وأروقته وبعض الأعمدة بالأروقة الشرقية والغربية، والتشققات التي ظهرت في دهان الحجرة النبوية الشريفة، وبعد وفاة المؤسس -رحمه الله- واصل أبناؤه البررة من بعده مسيرة التطوير والتجديد، فتسلم زمام الحكم الملك سعود -رحمه الله- وكان كثير الاهتمام بأمر التوسعة، حيث تم في عهده إكمال بنائها على شكل متقن، وفي عهد الملك فيصل -رحمه الله-، أمر بتوسعة أخرى من الجهة الغربية، واشتريت العقارات والدور والمساكن التي احتيج إليها، وظللت بمظلات مقببة قوية مؤقتة بمساحة تزيد عن أربعين ألفاً وخمس مئة متر مربع، وجهزت بجميع اللوازم حتى صارت مهيأة للصلاة، وجرت في عهد الملك خالد -رحمه الله-، توسعة ثالثة حينما وقع حريق في المنطقة الواقعة في الجنوب الغربي من المسجد سنة 1397هـ، فأزيلت المنطقة، وتم تعويض أصحاب العقارات، وضمت الأرض إلى الساحات، وظللت منها مساحة 43000 م2، على غرار المظلات السابقة، وبذلك صارت المساحة الكلية بعد التوسعة السعودية الأولى، 16327 مترًا مربعًا.

أكبر عدد

وعند زيارة الملك فهد -رحمه الله-، في شهر المحرم عام 1403هـ، شعر أن المسجد لا يتسع لكل المصلين والزوار، وأن المظلات المقامة لم تعد كافية فوجه بوضع دراسة لتوسعته توسعة كبرى، تستوعب أكبر عدد ممكن من المصلين، فامتدت التوسعة من جهة الغرب حتى شارع المناخة، ومن الشرق إلى شارع أبي ذر بمحاذاة البقيع، وامتدت إلى الشمال أيضا، وفي يوم الجمعة التاسع من شهر صفر عام 1405هـ، وضع -رحمه الله- حجر الأساس لهذه التوسعة المباركة، التي فاقت مساحتها كل التوسعات السابقة، وتواصلت التوسعات السعودية، إذ شهدت المدينة أواخر العام الهجري 1434هـ، في عهد الملك عبدالله -رحمه الله-، توسعة كبرى لرفع طاقته الاستيعابية لتصل إلى مليوني مصلي مع نهاية أعمال المشروع.

متابعة العمل

وواصل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- المسيرة في خدمة الحرمين الشريفين، حيث أكد على أهمية الحرص على متابعة العمل في مشروع التوسعة الكبرى، والمشروعات المرتبطة بها التي تصب جميعها في خدمة الإسلام والمسلمين من شتى أرجاء العالم وكذلك خدمة أهالي مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وزوارها، فالعمارة والتوسعة والتشييد في صلب اهتمام القائد الكبير -أيده الله– والذي يؤكد دائماً تشرفه بخدمة الحرمين الشريفين فهما درة الأعمال الجليلة التي يضطلع اليوم بها خدمة للإسلام والمسلمين وعقدان من اللآلئ التي ترصع عهده الزاخر الميمون، ويضع الملك الصالح وسمو ولي عهده الأمين -حفظهما الله- مشروع التوسعة في مقدمة الاهتمامات للمملكة انطلاقاً من الإيمان العميق أن خدمة المسجدين المباركين أمانة شرفت بها هذه الدولة فتحملت مسؤولياتها أداء للواجب دونما انتظار شكر أو ثناء من أحد وإنما رجاء المثوبة والأجر من الله تعالى واحتساب ما لديه بخير الأعمال وصالحها تسهيلاً لأداء المسلمين مناسكهم وتوفيراً للأمن والطمأنينة لهم ويجسد هذه العناية والرعاية واقع الحرمين الشريفين الذى لمسه ويلمسه المسلمون في كل أرجاء العالم.

.. وهنا زائراً للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم
خادم الحرمين متفقداً المسجد النبوي
حفاظ على الهوية التاريخية
المسجد من الخارج وتظهر القبة الخضراء
الجدار القبلي للمسجد النبوي