شهد الأسبوع المنصرم عدداً من القرارات والأخبار المهمة المتعلقة بالعلم والعلماء على مستوى المملكة، فبدءاً من القرارات الملكية المتضمنة الموافقة على منح الجنسية السعودية لعدد من العلماء والباحثين المتميزين في مجالات علمية مختلفة، شملت إلى جانب العلوم الإسلامية -بمختلف مذاهبها- العلوم البحتة والطبية والهندسية، و"الثقافية" -كما اقترحنا تسميتها في مقالة سابقة-. وعلى المستوى العالمي، تداولت وسائل الإعلام خبر اختيار العالم السعودي د. عبدالله عسيري عضواً في المجلس العلمي الاستشاري لمنظمة الصحة العالمية ضمن مجموعة من "كبار العلماء من أنحاء العالم" كما ورد في نص الخبر.

هذا التقدير الملكي الكريم للعلماء والمتميزين في عملية تعزيز التوطين للعلم محلياً، يصحبه شهادة عالمية لتميز العلماء السعوديين، واستقطابهم في المجالس العالمية، يستدعي النظر لدراسة "مأسسة" دور العلم والعلماء في المجال العام، من خلال إنشاء مجمع ملكي للعلوم، أو مؤسسة لـ"كبار العلماء" بمفهوم أوسع للعلم والعلماء يتجاوز التعريف السائد.

وتأسيس هذه المؤسسات الوطنية المعنية باستقطاب أفضل المميزين في مختلف مجالات العلم هو سمة من سمات الدول العظمى ومعلم من معالمها. ولعل النموذج الأقدم هو الجمعية الملكية البريطانية والتي تأسست منذ العام 1663م، والتي ضمت في عضويتها عبر أربعة قرون أكثر من 8000 آلاف عالم من أشهرهم إسحاق نيوتن وتشارلز داروين والبرت أينشتاين وغيرهم، وفي نفس الفترة تقريباً تأسست الأكاديمية الملكية الفرنسية في العام 1699، والتي تحولت بعد الثورة الفرنسية إلى الأكاديمية الفرنسية للعلوم والآداب، وعلى غرار هذه المبادرات وفي ذروة الإصلاحات الكبرى التي قادها بيتر (الملقب بالعظيم) قيصر روسيا تم تأسيس الأكاديمية الروسية للعلوم عام 1725م، وفي السنوات الأولى التي أعقبت حرب الاستقلال الأمريكية تأسست الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم عام 1780م، كما تأسست الأكاديمية الوطنية للعلوم في عام 1863م كمؤسسة مستقلة مدعومة من الحكومة الأمريكية. وبظهور الصين كجمهورية مستقلة عقب الحرب العالمية الثانية تأسست الأكاديمية الصينية للعلوم عام 1949م، والتي تعد حالياً الأكبر على مستوى العالم من حيث عدد الأعضاء وحجم الإنتاج.

ومع تنوع تجارب هذه الدول في تأسيس هذه الأكاديميات أو المجمعات الوطنية للعلوم، إلا أنها جميعاً تشترك في تركيز اهتمامها على تعزيز دور العلم والتفكير العلمي وجعله مرجعية للثقافة العامة، إضافة إلى دعم التميز في البحث العلمي في مختلف المجالات، كما تشترك في انحصار عضويتها على نخبة محدودة جداً من المتميزين من العلماء والمتخصصين، والذين يتم ترشيحهم للعضوية بعد مراجعات دقيقة ومتنوعة لجهودهم ونشاطاتهم العلمية حصرياً، ومن ثم توزيعهم على لجان أو أقسام كل حسب تخصصه، فلجنة وطنية للكيمياء، وأخرى للرياضيات، وهكذا، ومن رؤسائها وغيرهم يتكون المجلس الأعلى لهذه المؤسسة والذي يمثل في تنوع أعضائه وتميزهم موقع البلاد في خارطة العلم عالمياً، كما يعكس الدعم والاهتمام الذي تحظى به هذه المؤسسات، ودرجة ارتباطها بالسلطات السياسية العليا، مكانة العلم ومركزية التفكير العلمي في المجال العام سواء على مستوى الدولة أو المجتمع.

ومن المعلوم تميز المملكة منذ تأسيسها وتطورها خلال ثلاثة قرون في اهتمامها بتقدير العلم والعلماء، والذين كان تعريفهم سابقاً محصوراً -بحكم طبيعة المعارف المتداولة ومستوى التعليم- في المتخصصين في العلوم الشرعية. ولكن مع البعد المدني للدولة السعودية الثالثة ومنهجها التحديثي للمجتمع وما رافق ذلك من القفزات الكبرى في قطاع التعليم، نتج عنه اتساع في مفهوم العلم مجتمعياً، ومساهمة أكبر لمنتجاته في مختلف حقول التنمية. لذا فإن الحاجة متزايدة لمأسسة العلم والممارسات العلمية - بمفهومه العالمي الذي يشمل العلوم البحتة والطبية والهندسية و"الثقافية"، وتنظيم جهود إبراز المتميزين وطنياً في هذه المجالات ودعمهم ودفعهم لتمثيل البلاد في المنظمات والمجالس العلمية الدولية، إضافة إلى دعم الثقافة العلمية مجتمعياً، وتعزيز دور البحث العلمي بمنهجيته الصارمة في التفكير في المجالين العام والخاص.

فـ"المجمع الملكي للعلوم" -أو أياً كان الاسم الذي يقع عليه الاختيار- بمرجعيته ونسبته لأعلى سلطة في البلاد، سيأتي كتطور طبيعي للجهود الممتدة في دعم العلم والعلماء، والمؤسسات التعليمية والبحثية، كما أنه يأتي متماشياً مع الإصلاحات الكبرى التي تميز بها هذا العهد الزاهر لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في إعادة هيكلة الهيئات والمؤسسات، وتوحيدها في مؤسسات وطنية مركزية، وإنشاء مؤسسات جديدة تدعم توحيد الجهود واتساق الأهداف، في ضوء رؤية شاملة يقودها ويتابعها سمو ولي العهد، كما أنه يمثل ريادة سعودية أخرى على المستوى العربي والإقليمي في تأسيس مجامع وطنية أو أكاديميات لتعزيز دور العلم والعلماء تماهي الممارسة في الدول الرائدة حضارياً في مجالات العلم والتكنولوجيا.