تحرير الفكر العربي


ما من شك في أن الثروة الحقيقية لأية أمة هي في ناسها (نساء ورجالا وأطفالا)، وتحرير واقع هؤلاء الناس ينبغي أن يكون أساساً لأي تنمية، وهذا التحرير المطلوب ينبغي أن يبدأ أولاً من «الفكر» وإحداث أشكال من التغيير ربما تصل إلى حد الانقلاب على ثوابت بعينها وتبديل مفاهيم سكنت تجاويف رؤوسنا لعقود طويلة جداً.
البعض يسمي ذلك أنه تحديث الفكر العربي، والبعض الآخر يصفه بالتجديد، وهنا تبرز الأصوات المحذرة من «التغريب» أو «الصراع» الثقافي والفكري و«الصراع» بين الهوية والمعاصرة.. الأصالة والحداثة.. الأفكار المحافظة والأخرى التقدمية، وهي وصوفات «غريبة»، فبديهي ندرك أن الثقافات لا تتصارع مثل عصابات المافيا وقطّاع الطرق، والأفكار لا تغزو البشر مثل المدرعات، ولا توجد ثقافة تحتم تبعية الآنا للآخر، وإذا حدث تعارض بين الهوية والمعاصرة، فعلينا أن نبحث عن الخطأ في الهوية وليس في المعاصرة، اذا عجزت براغينا (المسامير) عن استيعاب صواميل العصر، فلابد أنها - البراغي - من مقاسات مختلفة، أو أنها غير صالحة، أو أن أسنتها تآكلت أو علاها الصدأ، وعلينا استيعاب أن مصانع العصر الفكرية والفعلية لن تتفرغ لإنتاج صواميل أو مسامير تتفق ومواصفاتنا، بل ستتركنا إلى أن تتوقف كل معداتنا.


مفهوم الحداثة

الحداثة هي استيعاب معطيات اللحظة الحاضرة من إنتاج الفعل البشري بكل أصنافه وبغير التزام بحدود أو هوية أو أيديولوجية، ثم إعادة تدوير هذا الإنتاج للإسهام في جعل العالم أكثر عدلاً وجمالاً.

وتحضرني هنا صورة في زمن مضى، كان الناس عندما يطهون طعاماً «ممتازاً» أو نوعية فريدة كانوا يرسلون للجيران أطباقاً منه، هذه هي المسألة.. العصر يقدم لنا في كل لحظة طبقًا جديدًا، هل سنكتفي بقبوله في تأفف ثم التهامه في تلذذ من دون حتى كلمة شكر.. أو أن نقبله ونفكر في وضع طبق لذيذ نقدمه لجيراننا؟

الأرض صغيرة، ونحن جيران، ولكن لا بد من الانتباه إلى أن عملية الاستيعاب ليست سهلة، لأنها تتطلب احترام الآخرين الذي هو امتداد لاحترام الذات؛ بقدر احترامنا لأنفسنا سيكون احترامنا للآخرين، وعلينا أن نقدم لهم في كل لحظة ما يؤكد أننا نحترم أنفسنا.

إنعاش الهوية

ما من شك في أن استيعاب الحضارة الحديثة ينعش الهوية ويوقظها ويدخلها للإسهام في حضارة البشر، والانعزال عن الحضارة الحديثة يدفع الهوية إلى التآكل والاضمحلال.. العزلة هي الطريقة الوحيدة لفقد الهوية. اليوم أدير محرك سيارتي عن بُعد بالريموت كنترول، وأحدث أقاربي في نيويورك عن طريق شبكة إلكترونية، وأرسل ابني ليتعلم تعليمًا «ممتازًا» في أرقى الجامعات «الانترناشيونال» واستعين بالخبراء والأجانب لتدريب جيشي على استخدام صواريخ ذات تكنولوجيات متقدمة جدًا، فهل طلب أحد منا أن نضحي بهويتنا كشرط لاستخدام كل الأدوات الحضارية الحديثة؟ هل طلب منا أحد أن نكف عن الاستمتاع بأم كلثوم وشادي الخليج وغيرهما؟ هل أجبرنا الآخر على إيقاف هذه الأطنان من الكلمات والأشعار والألحان والأعمال الإبداعية والدراسات والترجمات وماكينة التعليم الهائلة الحجم التي تدور ليل نهار في أنحاء الوطن العربي؟ هنا يتبارى البعض للحديث عن مهازل الغرب وعاداته القبيحة الشنيعة.. الحقيقة التي علينا استيعابها أنه لا شيء يرغمنا على استيراد بضاعة لا نريدها وترفضها أخلاقنا.. نستطيع أن نعشق شكسبير وتظل ثقافتنا عربية، ونستطيع أن نحب موسيقى بتهوفن من دون أن نعرف أنه ألماني، الثقافات تلتقي بعضها مع بعض في نعومة، تتزاوج ويتولد منها الأجمل والأنفع للإنسان. أما قضية صد الغزو الفكري، فهى خرافة تستر نوايا لنفوس كسولة أو بليدة أو عاجزة أو شريرة، فالإبداع الرفيع المستوى النابع من أية حضارة بالتأكيد يمجد المُثل العليا للإنسان ويجعل منه كائنًا أرقى.. المهم هو الاهتمام وتشجيع وتسويق نماذج الإبداع الراقية المقبلة من أي مكان.

أزمة النهضة العربية

البعض يتساءل عن أزمة النهضة العربية.. هل هي أزمة عقل أم فعل؟ هنا أقول إن الفعل، أي فعل، كان أصلا فكرة في عقل الإنسان، أي أن الفعل امتداد للفكرة وتجسيد لها، وبالتالي لا يمكن الفصل بين الفكرة والفعل.

ومن غير المعقول أن أمة بأكملها عقلها يمر بأزمة، المنطقة العربية غنية بالعقول المبدعة. أما العقول المأزومة، فعددها قليل جدًا، ولكنها للأسف قوية وباطشة وبعضها في موقع صنع القرار، هي قوى فاعلة بالسالب تعرف الطريق جيدًا إلى الوراء وتعشق السهر والسمر في المجزر الآلي، لكن الوعي العربي الذي بدأ يحاصرها أقوى منها بكثير.

في الواقع، فإنه بالرغم من كل ما حدث ويحدث، يستطيع المراقب من بعيد أن يرصد الأمة العربية، وهي تنهض ببطء شديد، ولكنها تنهض ومع نهاية القرن الحالي سيكون من الصعب على بعض الناس أن يبشروا بالدكتاتورية والفاشية والرجعية تحت أي شعار.

تشخيص العلة

لما كنا بصدد تشخيص العلة العربية، فعلينا أن نكون أكثر حذرًا عند كتابة «الروشتة» حتى لا نعالج مرضاً لا وجود له ونترك المرض الحقيقي يستفحل ويقضي على المريض.

البعض يشخص العلة في أنها «استسلام الإنسان العربي لأن يكون مستهلكًا لإبداعات الآخرين مما وضعه على طريق قبول القرار من الغير وعدم القدرة على المعاصرة بالفكر والرأي وتطوير الذات»، وهنا نتساءل: هل «استسلم» الإنسان العربي لأن يكون مستهلكًا لإبداعات غيره أو أنه كان مستمتعًا بذلك؟ الإنسان يستسلم لقدره عندما لا يقدر على دفعه، ويستسلم لعدوه عندما يحاصره من كل جانب وتنفد ذخيرته، ولكن هل «يستسلم» الإنسان للمضادات الحيوية وجهاز التكييف والسيارة... إلخ؟

هل أرغم الإنسان العربي على استهلاك منتجات الحضارة الغربية وبذلك تهيأ عقله لقبول قرار يُفرض عليه من الغير؟.. ومن هو هذا «الغير»؟ أي غير..؟ أميركا.. إنكلترا.. فرنسا.. اليابان.. الصين.. الأمم المتحدة؟ لنواجه أنفسنا بصراحة، لا أحد حرمنا من الفعل الصحيح والقرار الصحيح لمصلحة الذات والآخرين ولن ينفعنا أحد. وبذلك تكون عدم القدرة على المعاصرة - إن وجدت - راجعة لمشكلات أخلاقية علينا مواجهتها بصراحة.

تنافس لا صراع

في هذا العصر لا يمكن لدولة أن تنغلق على ذاتها، بل الاعتماد المتبادل، لدي ما أعطيه لك ولديك ما أحتاج إليه، والسور بين حديقتنا لا يفصلني أو يعزلني عنك، بل يحدد أرضي ويحدد أرضك، وتلك هي السيادة، ولا بد من أجل ازدهار حديقتنا أن استشيرك في نوعية السماد والبذور، ولا بد لك أنت أيضًا أن تفعل الشيء نفسه؟، وهذا هو التكامل والانفتاح.

أتصور أنه قد جاء الوقت الذي نكُف فيه عن استخدام كلمة صراع في حديثنا، فلا توجد الآن ميادين صراع، بل مجالات منافسة سيتفوق فيها صاحب السلعة الأكثر جودة والأقل سعرًا، هذه السلعة قد تكون منتجًا صناعيًا أو سياحيًا أو إبداعيًا أو سياسيًا.

وماذا بعد...

حينما نتطلع إلى المستقبل، نجد أن هناك الكثير مما يجب عمله كي نواجه خطر التخلف عن ركب التغييرات التي تتلاحق بتسارع يتجاوز قدرات بعض الدول، لذلك نحتاج إلى وعي سياسي وفكري وعقلاني، ونضج شعبي في المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية، وضرورة الدفع بمجتمعاتنا العربية نحو آفاق إنسانية جديدة وتفكير عقلاني فكري وسياسي، ونحو التخلص من فكر الانطواء والانعزال القومي والطائفي والثقافي، وترسيخ المفاهيم والمنهجيات الديموقراطية في الحياة السياسية والثقافية، وخلق شخصيات كريزماتية منحازة للوطن و... للإنسان العربي.

* نقلا عن "القبس"

تاريخ الخبر: 2021-11-26 13:16:48
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 86%
الأهمية: 85%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية