من الوعي إلى السعي.. في بحث عن جسور للعبور من الوعي العارف إلى الإرادة الفاعلة


ملاحظتان:

–     هذه مقالة تتأمل في ندوة المغرب وسؤال المشروع المجتمعي التي نظمتها جماعة العدل والإحسان بمناسبة الذكرى التاسعة لوفاة الإمام المجدد عبد السلام ياسين.

–     بعض المفاهيم المستعملة مستقاة من المداخلات والنقاش الدائر في فعاليات تلكم الندوة.

لا أظن أن الندوة الفكرية الحوارية السياسية التي نظمتها جماعة العدل والإحسان في موضوع السؤال المجتمعي يومي 11 و12 من شهر دجنبر 2021، مجرد استجابة لتقليد سنوي لتخليد ذكرى وفاة المشمول برحمة الله إن شاء الله الإمام عبد السلام ياسين، بل هي في نظري بما عرضته الجلسات والمداخلات والنقاش الدائر عموما تعبير جدي عن رغبة أكيدة في البحث الجماعي عن المخرج الآمن لوضعية الأزمة العارمة التي تضرب مختلف المناحي العامة للمجتمع المغربي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وقيميا، على نحو ينذر لا قدر لها بالانهيار العام للمجتمع.

وإذا كانت الندوة على أهمية الموضوع المطروح للنقاش والوضع الاعتباري العلمي والسياسي للمتدخلين، وقيمة وغنى الأفكار المقدمة فإنها -أي الندوة-لم تخرج عموما عن تكرار عناوين كبرى سبق تداولها في النقاش السياسي الساعي لتقريب وجهات النظر بين مكونات مجتمعية الجامع بينها الفعل السياسي الممانع من خارج دوائر اللعبة الرسمية، من هنا فإن غاية هذه المقالة أن تناقش مدى قدرة الفاعلين السياسيين في المغرب -والذين وجدنا حضورا وصدى لتصوراتهم وآرائهم ومرجعياتهم وتخوفاتهم في الندوة- على الانتقال من دائرة النوايا المعبرة عن الوعي العارف بمقترحات الحلول الناجعة لمشاكل البلاد إلى دوائر الإرادة الفاعلة المجسدة للتنزيل الجدي لمداخل التعاون المشترك لإنجاز التغيير المجتمعي الحقيقي المقصود.

إنها كلمات تبحث عن هذا الذي سماه الدكتور عبد الواحد المتوكل بجسور العبور إلى ما نريد، وهو تعبير يحاول البحث عن جسر نعبر به الأماني المحلقة إلى الأفعال الناجزة، والطموح العالي إلى الممكن الواقعي، والنقاش المنحصر إلى التأثير الناجع، لسبب هو أن منطق الوضوح والمسؤولية، وحجم التدمير الذي يكاد يغدو شاملا لمقومات المجتمع، والأفق الذي يظهر انسداده على الأقل بمعايير التحليل المادي للواقع، عناصر تفرض أن نتجاوز القعود المنحبس في لحظة الشكوى التي طالت إلى لحظة الفاعلية التي تتحمل مسؤوليتها في التقدم خطوات في درب التنزيل العملي لخطة الإنقاذ الوطني للبلاد والعباد مما فعلته أيادي الاستبداد والفساد.

لننتبه ولنستبشر أن هناك عناصر مهمة يظهر تأملها أن هناك مساحات مهمة تشكل قواسم مشتركة ممكنة للعمل الجماعي متفق عليها بنسب كبيرة بين العديد من الفاعلين المجتمعيين، أولا على مستوى التشخيص: هناك إجماع على الوضع الكارثي للبلاد في مختلف الأصعدة؛ سياسيا بتغول السلطوية تمكينا للاستبداد وتزايدا للقهر والقمع والظلم واستفحالا للفساد. اقتصاديا بفشل النماذج التنموية المعروضة، وانتقال الدولة إلى تدبير الفشل والاستمرار في تركيز الثروة، واستنزاف مقدرات الدولة لصالح الريع والبذخ والتفاوتات المجالية. اجتماعيا بتغييب التنمية الاجتماعية ووضعها خارج التغطية، والارتهان للاختيارات الاقتصادية التي لا تخدم الحاجيات الشعبية الملحة. ثقافيا بالاختراق القيمي للصهيونية ولقيم الاستبداد والظلم والاحتكار. وهناك اتفاق جلي على أن السياسات المخزنية وتوابعها الاقتصادية وتأثيراتها الاجتماعية قد بان عوارها، وانتهى عرضها الدستوري والديموقراطي والانتخابوي، وأن السلطوية قد استنفذت قدراتها التوظيفية لآلياتها التدبيرية باستنفاذها لنخبها ولمواردها التسلطية ولهزائمها المتتالية سياسيا واقتصاديا، وأن هناك حاجة ملحة إلى الانتباه اليقظ لخطورة هذه الوضعية المشخصة على مستقبل البلاد وإلى ضرورة الاستعداد لمواجهة موجات جديدة للحراك المجتمعي قد لا يعرف مداها ولا منتهاها.

أما على مستوى العناوين الكبرى المشكلة لملامح عامة للتغيير المنشود؛ فنقف عند التأكيد على أفكار مهمة من قبيل أهمية توسيع النقاش المجتمعي العمومي مع كل الفاعلين والمثقفين وذوي المروءات والفضلاء لطرح البدائل والمقترحات تحت أعين الشعب وسمعه وبصره، والحاجة الماسة إلى معالجة الإشكال السياسي عبر إحداث اختراقات وقطائع في التدبير السلطوي للدولة، وتفعيل النضال الشعبي لتحقيق الديموقراطية والتحرر من السلطوية والإمبريالية والصهيونية. ومن ذلك أيضا أهمية وضرورة إبداع تركيبة جديدة لأدوات مبتكرة للتأسيس للنموذج التنموي ملائم لخصوصية البلاد وقادر على مواجهة المنافسة العالمية. وقد تم تكرار ملحاحية العمل الوحدوي في واجهات ثلاثة تشمل القضية الاجتماعية وقضية الحقوق والحريات وقضية السيادة المغربية بالتحرر من الإمبريالية والصهيونية، مع مركزة فكرة الاشتغال على مسألة تكثيف النقاش في قضايا لتقريب وجهات النظر، وتوفير شروط الثقة في ما بين الفاعلين المختلفين مرجعية وتصورا. وطرحت في هذا الصدد أفكار قيمة تمس أهمية الاشتغال على الإنسان والفاعل الذاتي في مستوياته المختلفة، وتم الإلحاح هنا على البعد القيمي والأخلاقي وعلى معاني العدل والحرية والكرامة ونصرة المستضعفين ورعاية المواطنة الإيمانية والمواطنة الإنسانية، وضرورة حماية الفضاء العام بالقانون واستنبات القيم الحقوقية والقيمية في مؤسسات التنشئة الاجتماعية. لتكون خلاصة التشخيص والمقترحات مجمعة في العموم على أن المخرج تعاقدي على أرضية عمل ميداني تدافعي وحوار وطني لصناعة توافقات حول مبادئ كبرى لأي مغرب نريد؟ وأن السبيل يمكن أن يتجسد في التداعي إلى حلف لنصرة المستضعفين من خلال تأسيس إطار لتحقيق تحرير السياسة من السلطوية، والاقتصاد من الاحتكار، والإنسان من الخوف والشلل.

وإسهاما في تقدم هذا النقاش الهادف وإخراجه من الوعي إلى السعي، في بحثنا عن هذه الجسور التي نريدها أن تعبر بنا من مجرد الوعي العارف إلى رحابة الإرادة الفاعلة، نذكر ببعض ما فتئت جماعة العدل والإحسان تذكر به في مستويين مهمين؛ مستوى تصوري يلح أن معركة التنمية هي معركة فك لرقبة الإنسان، من هنا الحاجة إلى تنمية البعد الروحي والإنساني والقيمي في أي تناول تنموي؛ إذ الإنسان ليس مجرد كائن استهلاكي، وعليه فاستحضار البعد الغائي العمراني الأخوي الإنساني في أي تصور لنماذج تنموية تغييرية أمر تأسيسي ومدخل حاسم. ومع هذا الإلحاح على البعد الذاتي للفاعل الإنساني صاحب التغيير ومحل التغيير في الآن نفسه من المفروض إعادة بيان أن فساد الحكم في المغرب وفي الأمة هو أم المشاكل وأبوها، وأنه ما لم تعقم جرثومة الفساد في القلب فلا أمل في إبجاد الدواء للأدواء المستفحلة. ثم مستوى اقتراحي إنما نعيد التذكير فيه بما سبق أن عرضه الأستاذ فتح الله أرسلان، نائب الأمين العام لجماعة العدل والإحسان والناطق الرسمي باسمها في حواره المنشور بموقع الجماعة. نت الإلكتروني يوم الثلاثاء 12 أكتوبر من العام 2021، وهو المقترح الذي مؤداه هذا النداء:

“إننا ونحن نستدعي هذا الكلام، الذي نراه صالحا لتنبيه عموم الفاعلين، وليس مخصوصا بحزب بعينه، ليس غرضنا، علم الله المطلع على السرائر، إلا أن يتنبّه الجميع إلى خطورة الإصرار على مسار عطّل البلد ورهن شعبه ومقدراته في قبضة الاستبداد والفساد، وليس هدفنا إلا أن نلتف جميعا على إرادة جادة حقيقية لتغيير حالنا شعبا ودولة. إننا، وبهذه المناسبة، نجدّد الدعوة إلى الاشتغال الجاد لكل الأحرار الرافضين للوضع العبثي السائد، من أجل إيجاد صيغ تنظيمية وحدوية فاعلة وقوية، تُشكّل الوعاء السياسي الصلب لليقظة الشعبية المتنامية الرافضة للمسار الرسمي الذي يمضي نحو مزيد من التدمير الاجتماعي والتخريب السياسي. نبني مسارنا التدافعي السياسي المدني السلمي هذا، على برنامج حدّ أدنى هدفه الأساس مواجهة السلطوية، وتطوير الخيارات البديلة ومداخلها. برنامج ينخرط في الإعداد له الأحرار على اختلاف مشاربهم وقناعاتهم، المصطفون دفاعا عن مجتمعهم رغم كل الوعيد والترهيب الذي يتهدّدهم” انتهى كلام الأستاذ فتح الله أرسلان.

لقد سبق لنا في غير هذا الموضع أن قمنا بعملية تفكيك حجاجي لهذا الخطاب الواضح الذي يدعو إلى اعتماد التدافع السياسي المدني السلمي والمغالبة الأهلية للتغيير من خارج المؤسسات الرسمية، عبر إنجاز ممارسة فعلية جادة وجدية تشمل جانب الوعي الذي يضع مرمى غايته تنمية الوعي العام لدى الشعب وقواه المختلفة بخطورة المسلك  التسلطي العبثي للنظام الحاكم على مستقبل البلاد، والدفع للرفع من منسوب اليقظة الشعبية الرافضة لهذا المسار العبثي لترسيخه شعبيا في أفق ترسيخه نضاليا، كما تشمل واجهة الأبعاد التنظيرية الفكرية التي تؤسس فكريا  لعملية التنضيج السياسي لخيار مقاطعة النظام ومجابهة الاستبداد والفساد من خارج قواعد لعبته الرسمية وفق قواعد الوضوح في الصياغة، والملاءمة والمرونة في التنزيل، والتعدد في الأشكال، والاستفادة من الفرص السانحة، وأخيرا ترجمة التصور التغييري لخيار التدافع السلمي المدني في شكل أرضية تنظيمية، ثم في شكل برنامج حد أدنى على قاعدة تشاركية تشرك “الأحرار” في مختلف مستويات سيرورة العملية انخراطا وإعدادا ومشاركة في التنفيذ من دون نظر إلى الاعتبارات المتعلقة بالقناعات الأيديولوجية. يبقى أن ما يعرضه الأستاذ فتح الله أرسلان إن كان مقترحا واقعيا وممكنا وحتميا فهو يطلب شروط إمكان أساسية تظهر في نضج الفاعل السياسي والمجتمعي، والالتزام الأخلاقي بالوطنية الحقة وإرادة الخير بالوطن وله، والممارسة النضالية الصادقة التي من تجلياتها المواقف الرجولية للقوى الحية في البلاد.

بغير هذا سنظل في دوائر التكرار غير المفيد لأفكار أناس قاعدين في أبراج عالية تمر من تحتهم أمواج هادرة من تيارات التغول الاستبدادي والفساد المالي والتردي الاجتماعي التي توشك أن تغرق الكل في مآسي ليس من مصلحة أحد عاقل متزن راشد أن نصل إليها.

تاريخ الخبر: 2021-12-15 02:20:42
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 48%
الأهمية: 60%

آخر الأخبار حول العالم

شاهد.. الأهلي يسقط أمام الرياض

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:07:27
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 100%

واشنطن: المساعدات العسكرية ستصل أوكرانيا خلال أيام

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:07:13
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 96%

مسؤول أمريكي: واشنطن لا تتوقع هجوما أوكرانيا واسعا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:07:15
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 93%

مانشستر سيتي يتخطى ليفربول ويشدد الخناق على أرسنال (فيديو)

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 00:07:24
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 90%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية