بين الصورة الذهنية والصورة البصرية


غياب المشاهد التكرارية، الطبيعية والطقسية، ساهم بشكل كبير في إفقار الخيال المرتبط بمدننا وربما هذا يدعونا أكثر إلى فتح الأمكنة المدينية على المزيد من غير المتوقع، فاحتفالية المكان مسألة تغوص عميقاً في الأذهان وتحدد ما نتوقعه من المدينة ومواقفنا منها..

خلال الشهرين الأخيرين كنت مضطراً إلى السفر إلى مدينة باريس مرتين. الأولى كنت في منتصف الخريف والثانية كانت في بداية الشتاء، ورغم أنني لم أمكث سوى بضعة أيام ولم أكن في وضع صحي يسمح لي بالحركة الكثيرة كما في السابق إلا أنني لاحظت أن المدينة، خصوصاً فضاءاتها العامة تستجيب لتحول فصول السنة وكذلك للمناسبات العامة. أي أن هوية المدينة تتبدل وتتغير حسب هذين العاملين، لكن سكان وزوار المدينة يتوقعون هذا التبدل بل وينتظرونه. إنه ضمن الهوية الاحتوائية، إن جاز لي هذا التعبير، التي تقدم الصورة الذهنية الشاملة للمدينة وهي صورة ليست ثابتة من الناحية البصرية. هذه الملاحظة أثارت لدي سؤالاً مرتبطاً بتصورنا عما نراه. ولعلي هنا أهرج على القاعدة الشرعية التي تقول: "إن الحكم على الأشياء فرع من تصورها". وهي قاعدة تفتح لنا كثيراً من النقد حول حكمنا على ما نراه، خصوصاً العمارة والمدينة بشكل عام.

في الرحلة الأولى لباريس كانت الأشجار العالية، التي كانت تحتضن الطرقات وتحدد حدود الأرصفة، كانت تستعد كي تنفض أوراقها وتتعرى لتبدو كسيقان وفروع أشبه بالأشباح خصوص عندما يخيّم المساء الذي كان يأتي سريعاً. هذا المشهد تغير سريعاً في الرحلة الثانية عندما بدأت تتزين تلك الأغصان الشبحية بإضاءة تزينها لاقتراب عيد الميلاد ورأس السنة. المشهد تغير كلياً والصورة البصرية غير تلك التي رأيتها قبل أقل من شهر، رغم أن الشوارع والساحات وحتى الناس كما هم. يجب أن أقول إن هذا المشهد المتغير سبق أن شاهدته في سنوات سابقة وكنت مستعداً ذهنياً له وبالفعل نفس المشهد البصري في تكرارية كل عام، يغذي التصور الذهني عن المدينة ويبني تقاليد ممتدة تجعل الذاكرة الذهنية لمن سكنوا المدينة يتوقعون هذا المشهد. مفهوم الإيقاع المشهدي لفضاءات المدينة المتحولة عبر العام والمتكررة حسب الفصول والمناسبات هو الذي يعمق الانتماء للمكان. فهناك شيء ما يتوقعه الناس، سبق وأن شاهدوه، لكن سيختلف السياق حتما وسيكون هناك بعض التطورات والإزاحات التي تؤسس سلسلة متصلة من الأحداث تعبر عن الهوية المتحولة للمدينة.

أعود مرة أخرى للتصور الذهني، ولماذا يختلف عن الصورة البصرية؟ ويبدو أن أغلب المهتمين بعمليات الإدراك يعون أن التصور المسبق لدى الإنسان عن حدث ما أو مكان ما يؤثر بشكل كبير في الحكم عليه، حتى أن الصورة البصرية التي تمثل الواقع تصبح مشوهة أحياناً لأن التصور الذهني أسس لتراكمات سلبية. ومن الواضح أن "الإيقاع المشهدي" المتكرر والمتعاقب لما نراه ونتوقعه حول مسألة ما سواء كان مادية أو غير مادية تساهم بشكل كبير في تحديد مواقفنا، فتصورنا عن هذه المسألة مبنى على هذه التكرارية التي يتعامل معها الذهن لتساعده على التصور. غالباً ما نتعامل مع فضاءات المدينة التي اعتدنا عليها بشيء من التصور الذهني المبني على تكرارية المشاهد التي نراها يومياً لذلك فنحن نتوقع ما سنراه وأحياناً نقنع أنفسنا أننا رأيناه لو لم نراه فعلاً. ويبدو أن هذه المسافة بين ما يتصوره الذهن وما تشاهده العين هو ما يجعلنا كبشر نبني أحكاماً مختلفةً على نفس المشهد، فهناك جزء من الخيال يختبئ داخل عقولنا، وهناك شيء من الشغف نحو ما يرضي ذائقتنا وتطلعاتنا يجعلنا دائماً مختلفين في أحكامنا حول نفس المسائل ونفس الصور ونفس المشاهد والأمكنة.

الملفت للانتباه أن مدننا تفتقر لهذه التقاليد البصرية التكرارية مما يجعلها أقل قدرة على التعبير عن الهوية الشاملة المتحولة وهذا ناتج في جانب عن المشهد الطبيعي الذي لا يعبر عن تحولات الطقس وفصول السنة، وإن كنا نتوقع أحياناً بعض المطر وبعض الغبار وربما تساقط الثلج في بعض الأمكنة. الجانب الآخر أن مدننا لم تستطع أن تطور تقاليد بصرية تكرارية تعمق المشهد البصري في أذهان قاطنيها، وبالتالي فإن التصور الذهني حول المدينة يبدو فقيراً إلى حد كبير. وفي رأيي أن الصورة الذهنية هي الدافع الأول للإبداع الروائي والفني، وبالتالي فإن حكايات المدينة محدودة ولا تعبر عن البنية المعقدة التي عليها مجتمعنا.

أجزم أن هذا التقييم للمشهد البصري والتصور الذهني لمدننا يحتاج إلى المزيد من التفصيل والدراسة، فغياب المشاهد التكرارية، الطبيعية والطقسية، ساهم بشكل كبير في إفقار الخيال المرتبط بمدننا وربما هذا يدعونا أكثر إلى فتح الأمكنة المدينية على المزيد من غير المتوقع، فاحتفالية المكان مسألة تغوص عميقاً في الأذهان وتحدد ما نتوقعه من المدينة ومواقفنا منها.

*نقلا عن الرياض

تاريخ الخبر: 2022-01-01 04:18:04
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 99%
الأهمية: 96%

آخر الأخبار حول العالم

ألعاب أميركية صينية حول أوكرانيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-24 06:06:57
مستوى الصحة: 85% الأهمية: 99%

«التعليم»: اعتماد حركة النقل الداخلي للمعلمين - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-24 06:23:38
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 66%

فعالية لقاح الفيروس التنفسي المخلوي "RSV" تصل إلى 89% السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-04-24 06:23:43
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 51%

الأسد لا يفقد الأمل في التقارب مع الغرب

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-24 06:06:56
مستوى الصحة: 90% الأهمية: 87%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية