اجتاحت عاصفة التغيير العالمي المجتمع بعنف متفاقم، وبسلبية طاغية، وسرعة متزايدة، حاملة معها كل أنواع البيئات الغريبة المستحدثة، حيث تولّد جيل من الفتيات لا يحملن جينات الأنوثة، ولا يبدين كنساء الماضي، كما أوجد التغير شباباً لا تبدو صفاتهم كصفات الرجال الذي اعتدنا رؤيتهم من قبل، منهم أغنياء يجدون متعة في تقمص دور الفقر، وفقراء يتقمصون دور الأثرياء، أذكياء يتعاطون عقاقير الهلوسة، ومسالمون يهوون نشر الفوضى، ومحافظون في ماضيهم اعتنقوا الرقص اليوم، وأصبحوا ينادون بالحرية، ومهوسون يدمنون الشرب ويجاهرون بمخالفة النظام!

مناظر قد يشاهدها العابرون في مشوارهم اليومي إلى أعمالهم أو إلى منازلهم، وفي بلدانهم، وفي جوالاتهم المحمولة، وربما يتسللون إلى غرف نومهم في يوم من الأيام، تراهم سكارى وما هم بسكارى، لكنهم ضحايا التغير العالمي الذي اجتاح العالم اليوم، منا من أصبح يواجه تلك العوامل بعناء، والبعض الآخر أصبح يجد صعوبة وعناء في الوفاء بمتطلبات التغيير المستمر.

وكثير من دول العالم اليوم أصبحت تعطي مساحة كبيرة من استراتيجياتها لمواجهة فوضى التغيير الذي يعتريها وتجنيد المختصين في العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإقامة مراكز الدراسات والبحوث، والتوسع في مراكز الأزمات، من أجل القدرة على معالجة المشكلات العامة المصاحبة للتطور الاقتصادي، والاجتماعي السريع المعقد، والإعداد له، والتخطيط للقائه، والتعامل معه، وذلك من أجل المحافظة على القيم الإنسانية، والدينية، والفكرية، وسط هذه الثورة الصاخبة التي تموج بها الحياة اليوم.

نظريات مستحدثة

والتغير الاجتماعي يشير إلى التغير المستمر في المجتمع؛ وذلك بسبب تأثير مجموعة من العوامل الاجتماعية، ويعرف أيضاً بأنه ظاهرةٌ من الظواهر الاجتماعية ذات التأثير المستمر، والتي تعتمد على مجموعة من الأفكار البشرية، والنظريات المستحدثة، والآراء، والأيديولوجيات التي يتميز بها كل عصرٍ من العصور البشرية وارتبطت فكرة التغير الاجتماعي بشكل مباشر بالتغير الفكري عند شعوب العالم، فكلما كان الناس يكتشفون شيئاً حديثاً، ومختلفاً عن الذي اعتادوا عليه، ساهم مساهمةً مباشرةً في تثبيت مفهوم التغير الاجتماعي، والذي أدى أيضاً إلى تغيير الكثير من العادات والتقاليد التي عرفها الناس، وأصبحت جزءاً من حياتهم، وهذا ما ظهر واضحاً في التغيرات الاجتماعية المرتبطة بطبيعة الملابس، وأوقات الخروج من المنزل، وقبول بعض الأمور التي كانت مرفوضةً في السابق، وغيرها الكثير من التغيرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمعات البشرية.

ضعف التنشئة الاجتماعية أبرز جيلاً غير مسؤول

عدة أنماط

وللتغير الاجتماعي عدة أنماط توضح طبيعة التغير، ومنها: التقدم الاجتماعي: وهو التغير الاجتماعي الذي يشير إلى التطورات العديدة التي ظهرت في المجتمعات، وأدت إلى تغيير العديد من المفاهيم، والأفكار، والوسائل، والأدوات القائمة وأيضاً نمط الإصلاح الاجتماعي وهو التغير الاجتماعي الذي يساهم في إصلاح وتعديل مجموعة من المعتقدات السائدة، من خلال استبدالها بأفكار جديدة تتناسب مع الحقبة الزمنية التي توجد بها، مع الحرص على أن تتميز بالقدرة على تطبيقها في المجتمع ونمط النمو الاجتماعي، وهو التغير الذي يساهم في تعزيز دور كل من التقدم، والإصلاح الاجتماعي، وتأثيرهما الإيجابي على المجتمع.

وهناك مصادر للتغير الاجتماعي من أهم هذه المصادر، المصادر الداخلية وهي التي تعتمد على الأفكار التي يقترحها الأفراد داخل المجتمع الواحد، والتي تظهر من خلال الوعي الفكري، والثقافي، وزيادة نسبة تأثير التعليم على كل فرد، مما يؤدي إلى العمل على التخطيط لمشاريع جديدة وحديثة تهدف إلى تطبيق التغير الاجتماعي، أمّا المصادر الخارجية، وهي مجموعة المصادر التي يتم تطبيقها خارج المجتمع، ويتم الحصول عليها من قبل العلم، والدراسة، والبحث في طبيعة حياة المجتمعات البشرية الأخرى، وتساعد على تزويد الأفراد بالإنجازات المفيدة التي تم تحقيقها، مع تشجيعها على تجنب تكرار التجارب الخاطئة في المجتمع.

فوضى مسعورة

ولعبت كثير من المتغيرات العالمية كالحروب، والعوامل الاقتصادية، والاجتماعية، وثورة الاتصالات، واختلاط الثقافات، ومفاهيم الحرية، دوراً كبيراً في تكوين الذات لدى الأفراد وساهمت تلك العوامل في إضعاف دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية كالأسرة، والمدرسة، والقبيلة، والهوية الوطنية، وأصبح للمتغيرات العالمية الحديثة النصيب الأكبر في تشكيل هويته الذاتية، وبفعلها أصبح أقل استقراراً وأكثر بحثاً عن أسلوب يتناسب مع المجتمع الذي يحيط به، فأصبح الشاب أو الفتاة في حالة بحث مستمرة عن أسلوب شخصي، وأصبحت هذه العملية متزايدة الحدة، بل مسعورة في حياتنا اليوم، ومع الوقت سيعاني الأفراد من السأم والمرارة وعدم الرضا، حيث ستضعف الذات عند كثير من فئات الشباب والفتيات، وعندما يبدأ مرةً أخرى في البحث عن النمط الجديد الذي سيكون عليه، يجد أمامه كثيراً من المتغيرات والاختيارات ليصل في النهاية إلى اتخاذ وجهة مجهولة جديدة قد تدخله في المحظور!

رحلة الأغراب

وفي أحد أكثر مشاهد التغيير التي سجلتها مواقع التواصل الاجتماعي في الرياض لفتاة تقذف بنفسها في رحلة تقل عدداً من الركاب دون أن تشعر بخوف أو قلق، ودون تفكير في مصيرها داخل هذه الرحلة، هل ستسلم من مظاهر التحرش أو ستنجوا وتصل إلى بر الأمان ومنزلها دون تعرضها لأذى؟ في هذه الحالة نجد الفتاة تحررت من سلوك العيب، وثقافة المجتمع الذي قد يصمها بالعار، وتقبلت المكان الجديد والناس الأغراب في تلك الرحلة التي لا تعرفهم، وتخلصت من بعض عوامل التنشئة التي تلقتها في طفولتها ومن كل ما يرمز ويرتبط بالفئة التي كانت تنتمي إليها قبل إقلاعها في رحلة الأغراب من النافذة وليس من الباب، وبدأت شيئاً فشيئاً تدخل مع عناصر تتناسب مع ذاتها الجديدة، وتغيرت علاقتها بالناس، وبدأت في رفض أفكار كانت تعتنقها قبل ركوبها الرحلة المجهولة، ونبذت من فكرها أي تفسيرات جديدة قد تقال عنها مستقبلاً، لكن الفتاة في مرحلة انتقالها الجديد عبر الرحلة ستكون عرضة لتذبذب عنيف، وتبدأ تشعر داخل الرحلة بالخوف بأن تكون عرضة لنداءات لأفكار جديدة، أو تكون هدفاً سهلاً أمام نداءات الأصدقاء الجدد، وادعائهم التي تملأ جو الحافلة، وتكون في صراع ذاتي من جديد، بين صديق قوي جديد، وفكرة أو بدعة جديدة، كل هذه السلوكيات والأفكار تبدأ تهاجمها بعنف، وفي هذه اللحظة إمّا أن تكون أشد انفتاحاً على المجتمع الجديد، وأقل ثقة في نفسها، أو تكون أكثر استعداداً لأن ترفض الانصياع لطاعة الآخرين، وتنزل في نهاية الرحلة المخيفة إلى بر الأمان.

ضغوط واختلال

وفي حادثة أخرى أعلن المتحدث الإعلامي لشرطة منطقة الرياض أن الجهة المختصة بشرطة المنطقة تمكنت من تحديد هوية رجل وامرأة ظهرا في مقطع فيديو متداول على مواقع التواصل الاجتماعي بسلوكيات تخالف الذوق العام، وهما مواطن ومقيمة من الجنسية السورية، وجرى استدعاؤهما واستكمال الإجراءات النظامية الأولية بحقهما. ‫‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وفي هذه الحادثة يمكننا أن نرجع السلوك التي ارتكبته الفتاة الراقصة إلى ضغوط واختلال في الهوية التي سببتها لها ظروفها في بلدها كالأوضاع السياسة، والاقتصادية، والمشكلات التي كانت تعاني منها في بلدها وانخفاض مستوى الدخل الاقتصادي وتغربها عن بيئتها الأصلية، حيث دفعها سلوكها إلى إخفاء معاناتها النفسية، وتحاول بارتكابها لهذا السلوك المشين من الدخول في حالة من فقدان الوعي ومحاولة الانفصال عن آلام لا مناص منها، وهي بهذا السلوك تعاني من نقص الذات وتحاول تحصين نفسها من أحزان ظروفها الأسرية القاهرة، محاولة تحصين نفسها بارتكاب الجرم ومخالفة القانون ضد أحزانها لتلقي بنفسها في براثن الإدمان والجريمة، وتصبح حالة محترقة، بسبب الإحباطات السابقة، وبسلوكها الحالي تكون علاقتها بالصديق الجديد، علاقة مؤقتة، وفي وضع عدم الالتزام فقط تكون هذه العلاقة لإشباع الرغبات المادية، والنفسية، والجنسية، حيث تكون المعايير لديها غير واضحة، وتتيح لها ثورة الانفتاح الجديد والاختلاط بمشكلة جديدة وهي فائض الاختيار مع أصدقاء جدد مستقبلاً، وتستمر معاناتها دون حل، وتتفاقم مشكلاتها النفسية، وتبدأ معها مشكلة افتقاد الروح، والانطواء، والأزمة الذاتية، وفي كل مرة تختار فيها أسلوباً جديداً لحياتها، أو تختار صديقاً جديداً تجد صعوبة، وبالنسبة للكثيرين ممن يعيشون ظروفها أو ظروفاً مشابهة لها لن يستطيعوا الحصول على إجابة شافية للتغلب على ظروفهم؛ لأنهم يعودون بعد أن يتعاملوا مع سلسلة ذوات، وما ينطبق على الأسباب التي دعت الفتاة لارتكاب ذلك السلوك المشين ينطبق على الشاب الشريك لها في الجرم، فقد تكون الظروف النفسية والاقتصادية وانخفاض مستوى الذات لديه ضعيفاً، حيث أحب مرافقة الفتاة في رحلتها قبل القبض عليهما والتباهي أمام زملائه والمجاهرة بالخطأ، ليسد الفراغ النفسي لديه وضعف الوازع الديني، ولم يستطع أن يحدد مفهوماً واضحاً للحرية، ولم يكن لديه مفهوم بمعنى التنوع الذي أتاحته له المتغيرات الاجتماعية الوفرة في الحصول على ما يستطيع، ليلبي احتياجاته الفسيولوجية والاجتماعية، ويتغلب فيه على مشكلاته النفسية، أو اختيار السلوك الذي يرفع من ذاته وثقته بالنفس، فارتكب المحظور وجاهر بالمنكر، وخالف الذوق العام فتم القبض عليه.

تشرّب الثقافات

ويرجع المتخصصون في العلوم الاجتماعية وكثير من الدراسات الاجتماعية والنفسية تسجيل مثل هذه الحالات الخارجة على القانون أو الذوق العام والمجاهرة في مجتمع محافظ إلى عدة أسباب من أبرزها، الانفتاح العالمي، وتشرّب ثقافات المجتمعات الأخرى، واستحواذ التطور التقني على أسلوب الحياة، وكذلك حدوث شرخ قضى على مفهوم الحياء بين فئات الشباب، وعامل ضعف القيم والمفاهيم الإنسانية، إضافةً إلى اكتساب الفرد المنطوي في المجتمع شعورًا عارمًا بالظهور المميز، ومن العوامل أيضاً خروج أصحاب الغرائز والسلوك الشاذ في المجتمع، وضعف الإحساس بالمسؤولية عند الأفراد، وطلب الشعور بالأهمية والبروز بالخروج عن المألوف، وقد يكون السلوك الشاذ عدوى عقلية أو ذهنية، كذلك ظهور أفراد غير واعين بأعمالهم وتصرفاتهم، إلى جانب حب البروز وتحقيق الذات، ومن العوامل ضعف الشخصية الفردية والفئوية الاجتماعية والتي من خلال ممارسة هذه المخالفات تهدف للفت النظر لها، وضعف الرابط والتواصل الاجتماعي بين الأفراد وبين المحتوى الثقافي للمجتمع كالدين والعادات والتقاليد والقيم، إضافةً إلى عدم تقدير القيمة الاجتماعية للأمن الاجتماعي والوطني، وضعف الضبط المجتمعي والتحفيز المجتمعي غير المقصود من جماعة الأصدقاء والمدرسة والعمل، ومن الأسباب التحفيز الإعلامي من وسائل الإعلام المختلفة.

محاولة الخروج من المشكلات النفسية بارتكاب الخطأ
مناحي الشيباني