"الموت الأسود".

هذا الاسم الذي عُرِف به الطاعون الذي أصاب أوروبا في القرون الوسطى، طوفان ظلامي جَرَف مئة مليون إلى الموت، أصاب عدة بقاع عالمية وأباد ثُلث الكوكب آنذاك، أي أكثر من مليارين لو أتى مثله اليوم، إذا ظهرت دمامله وأعراضه الأخرى فقد نُعي إليك أجلك، لا أمل في النجاة، اجلس وانتظر الموت.

احتار الناس فيما يفعلونه معه، لم ينفع أي علاج، نظر الناس مذهولين والجثث تتكوم كالجبال، زاده سوءاً أنهم لم يدركوا مفهوم العدوى، فحتى لو مات أناس كثيرون بالطاعون الدملي كانوا يختلطون بالمصابين والميتين بل أحياناً ينام السليم والمصاب في سرير واحد، ومن وجه عدد الضحايا فالطاعون الدملي أسوأ مرض معدٍ في التاريخ بعد الجدري، حتى أتت قرية إنجليزية صغيرة وأثّرت على التاريخ الأوروبي.

إيام Eyam قرية لم يتجاوز سكانها 800، أصابها الطاعون في أغسطس 1655م، كان خياط يُدفئ قطعة قماش عند النار، ولم يدرِ أن البراغيث التي تحملها الجرذان أصابت قطعة النسيج تلك ببكتيريا "يرسينيا بستيس"، وبدأ الطاعون به، ثم بعائلته وزميله، وبدأ أهل إيام يتساقطون ميتين. بعد 8 أشهر والطاعون ما يزال يقتل القرية ببطء وضع "ويليام مومبيسون" كاهن القرية الجديد خطة لحماية القرى المجاورة، لم يعرف إن كانت ستنجح لكنه مضى فيها، فأقنع الناس أن يتخذوا دائرة حَجر صحي يعزلون أنفسهم فيها، ووُضِعت اللوحات خارج الدائرة تحذّر من الاقتراب، الحجر الصحي لم يكن مجهولاً ولكنه لم يُعرَف كثيراً في إنجلترا إلا أن ويليام يبدو أنه كان يعرفه.

المشكلة أن إيام لم تكن مكتفية ذاتياً بل احتاجت المؤونات اليومية من قرى أخرى، فطلب ويليام العون من رؤوسها، إلا أنهم وضعوا ما يسمى بصخرة حدودية صورها موجودة إلى اليوم، صخرة على الحد بين إيام وجاراتها الجنوبية، تأتي المؤونة من القرية المجاورة فيضعونها قرب الصخرة ويضع أهل إيام النقود في 6 فتحات حُفِرت في الصخرة ومُلئت بالخل الذي اعتقدوا أنه يعقّم.

أيضاً مما فعله ويليام أنه أقام الشعائر الدينية في العراء –نوع قديم من التباعد الاجتماعي– عارفاً أن عدوى الطاعون الدملي لا تنتشر في الأماكن المفتوحة. إذا مات ميت كان على أهله المحيطين به فقط أن يدفنوه في مكان بعيد مفتوح مخصص لذلك وبأسرع وقت ممكن، وحظروا على أي جار أو قريب أن يقترب من المتوفى، منهم امرأة دفنت كل أطفالها الستة وحدها، على مدى أسبوع توفي كل يوم منهم واحد.

انتهى الطاعون بعد سنة وقتل 260، وأمر ويليام أن يحرق الناس ملابسهم وأثاثهم وشراشفهم وأن يبخّروا بيوتهم ليقضوا على أي خطرٍ باقٍ. دفعت القرية ثمناً باهظاً، ففقدت ثلث أهلها، لكنها أنقذت الألوف شمال إنجلترا، فللمرة الأولى يتوقف الطاعون عند حدود قرية، ودرست أجيال المستقبل صنيع ويليام المحنك، وصار الحجر الصحي جزءًا من التعامل مع أوبئة المستقبل هناك، والفضل لرجلٍ محنّك وقرية استمعت له وضحّت.