ترسم الحرب الدائرة رحاها على الأرض الأوكرانية، لوحة سوداء للإنسانية هناك، فقوافل النزوح في تمدد والرعب يسكن مباني المدن، حتى أضحت شبه خاوية، إذ عمرها الأشباح وغادرها الناس في اتجاه الملاجئ والأماكن التحت أرضية، هربا من موت لن تتفجر منه حياة تتبعها أصوات المدافع والرصاص وهدير البوارج والقصف العشوائي.
ليس للحرب مغانم، فمخلفاتها تتجاوز حدود المكاسب الدبلوماسية أو الاستراتيجية التي يخطها فلاديمير بوتين من داخل قصر الكرملين بروسيا، إلى تطويق الروح الانسانية بسياج الخوف، ذلك ماجرى لعشرات الالاف من الطلاب العرب والمغاربة، إذ تقطعت بهم السبل حتى عاد بالنسبة لهم الخروج سالمين من أوكرانيا أشبه بولادة وحياة جديدة لأخرى تعيسة، عاشوا تفاصيلها بألم كبير وأمل قليل في العودة إلى حضن العائلة التي ابتعدوا عنها طلبا للعلم.
في خضم الحرب تبرز قصص إنسانية بطابع نسوي، هنا مريم الزياني، شابة مغربية بعنفوانها وبسالتها قاومت على غرار أقرانها ما حل بالأرض التي اختاروها لرسم مستقبل دراسي وعملي. تحكي ل”الأيام 24″ ونبرات صوتها تلخص واقعا قرئنا عنه وتتبعنا أخباره عبر مابثته شاشات التلفزيون العالمية، لكن مريم بقصتها هاته تعيد نسج وقائع مؤلمة لم تستطع تصديقها إلى اليوم، وتجر تداعياتها الصحية والنفسية.
حلم وحرب
بعد نيلها شهادة البكالوريا، اختارت مريم أوكرانيا وبالضبط مدينة دنيبروبيتروفسك ثالث أكبر مدن البلاد، لدراسة الطب والصيدلة التي بلغت سنتها الثالثة، حلم التخرج والعودة بميزة النجاح الأكاديمي ستتوقف عند محطة الحرب التي اندلعت دون مقدمات. فما عاد من حل سوى الهروب والرحيل..رحيل قاس.
“تركت كل شيء هناك ولم أسمح بترك كتبي، أخذتها معي في رحلتي الشاقة المتعبة، بعد ليال كنت أعيش بها الجحيم وأستشعر الموت في كل دقيقة بل ثانية إلى درجة كنت على غرار البقية ننام بأحذيتنا، لربح الوقت إبان خطر القصف المباغث أو دوي صفارات الانذارت، إذ كانت إشاراتها تأخذ منا الروح مؤقتا، أعيشي لحظاتي وأستذكر أمي والعائلة وسؤال يؤوق بالي في كل اللحظات، هل سأموت هناأو يطول المقام به معذبة؟” تقول مريم.
موعد الرحيل كانت الشابة، قد حددته سلفا يوم 10 من فبراير قبل أن تغيره إلى 24 فبراير وفي خاطرها أمنية أن تهدأ الأوضاع وتعود الحياة الجميلة للمدينة الهادئة..سوء الطالع تزامن ووصول مريم إلى المطار للعودة إلى المغرب..بيد أنه قصف من طرف القوات الروسية..عادت من حيث بدأت السعي وراء الهروب وبأقل الأضرار.
قطار الموت
“نجحت أخيرا في صعود القطار المتوجه نحو مدينة لفيف ومن ثم إلى المدينة الحدودية الأقرب للحدود البولندية السلوفاكية، وفيها تعرضنا لما كان بالأمس القريب أشبه بكوابيس، بدء من سيارات الأجرة وحافلة نقل الركاب الذين ماعادوا يتعاملون بالعملة الأوكرانية، إذ استبدلت بالأورو، فالتنقل بين المدنيتين كلف ألف أورو للطالب الواحد، إنه الوجه اللاإنساني للحروب”، تضيف مريم.
الذهاب منفردا يعني الخطر بعنيه، إذ كانوا الطلاب يتحركون جماعات ليشد أزر البعض البعض الاخر، وتكوين درع بشري في مواجهات ” اللاقانون” أو قانون الغاب بما أن منطق الحرب فرضه..بعد ذلك وصلت مريم الزياني إلى بولندا، وهناك بلغ العنق ذورته مع الشباب من افريقيا جنوب الصحراء، تقول أنها تعرضت للضرب من طرف أحدهم بعدما كانت تقف على شباك “ختم الجوزات للدخول إلى بولندا.
جلست ثماني ساعات ألتحف السماء والبرد القاس جمد أطراف أصابعي، لم نحظى بمعاملة جيدة، حين أتى دوري ركبت القطار في اتجاه الملجئ، كانت ليلة طويلة علي لم تذق فيه رموشي النوم، في الصباح أعلمونا أن قطار بالمجان سيوصلنا بالمجان إلى المحطة ومن ثم إلى بودابست، لأنه لايمكننا البقاء مادامت وفودا من اللاجئين قادمة خلال ساعات.
من بودابست إلى ايطاليا
في بودابست قصة أخرى للألم التي تجرعت مريم مرارته، تحكي “لقد نمت في المراحض بسبب الانخفاض الشديد في درجات الحرارة، لأن مسيري المحطة كانوا يشغلون مكيفيات الهواء لمحاربة فيروس كورونا.
وأخيرا أتى القطار الموعود وحجزت مريم مقعدها به في اتجاه ايطاليا حيث تقيم العائلة..رحلة طويلة بين البلدين دامت لساعات، جسدها بالقطار وعقلها مايزال مشتتا بين أوكرانيا حيث الدراسة والمغرب، جدور الوطن.
أيام سوداء عاشتها مرمي تأبى الزوال من مخيلتها، حتما هي قصة تعيد تركيب شخصية مريم التي تحدث واقعا مؤلما لم تكن لتضعه في الحسبان، لكنها في النهاية تعود لنفسها وتقول “مريم قبل الحرب ليس هي ذاتها بعد الحرب تعلمت أشياء راقبت تفاصيل غيرت نظرتي للحياة ومعناها”.
