تلعب تركيا دوراً هاماً في العديد من ملفات المنطقة وذلك بفضل موقعها الجيوسياسي إذ تعد جسراً بين الشرق والغرب وشريكاً استراتيجياً في نفس الوقت لكل من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي في عديد من الملفات الحساسة ما منحها ميزة امتلاك مفاتيح الحل في أزمات المنطقة.

وبرز مؤخراً دور تركيا الاستراتيجي في الحرب الروسية على أوكرانيا من خلال سعي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للوساطة بين البلدين، في حين بدأت تبعات الحرب الاقتصادية والسياسية تلقي بظلالها على كل من روسيا والدول الغربية إذ أدرك كلا الجانبين أن تركيا تتحكم بالكثير من البدائل الممكنة لتجاوز آثار الحرب وتبعاتها سواء من خلال أمن الطاقة أو عبر التحكم بالمضايق الواصلة إلى البحر الأسود، فضلاً عن ملفات التجارة والأمن والعقوبات وغيرها من الملفات الاستراتيجية.

تعزيز لمكانة تركيا

منذ إعلان روسيا الهجوم على أوكرانيا في 24 شباط/فبراير الماضي، سارعت أنقرة التي تمتلك علاقات جيدة مع كل من موسكو وكييف إلى إدانة الهجوم بالرغم من أنها تتقاطع مع روسيا في أكثر من ملف من سوريا إلى أذربيجان إلى ليبيا، إلا أنها وقفت على الحياد وحرصت على ألا تنجر إلى أي مواجهة مع روسيا من قبيل التلويح بالعقوبات أو إغلاق المضايق في الوقت الذي كانت فيه دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) متحمسة جداً.

وفي هذا الصدد، أعلن وزير الدفاع التركي، خلوصي أقار، الثلاثاء أن تركيا لن تشارك في العقوبات المفروضة على روسيا بسبب هجومها، وأنها تتحرك فقط بما يتلائم مع العقوبات المفروضة من الأمم المتحدة، وذلك بعد أن أغلق عديد من الدول مجالها الجوي في وجه الطيران الروسي ووضع عشرات من الأشخاص، من الأوليغارشية إلى السياسيين، على قائمة العقوبات الغربية.

في حين دعا وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو إلى تبني موقف يدعو للحوار وافساح المجال للدبلوماسية، وقال في تصريحات له الشهر الجاري إن "تركيا اتخذت موقفاً مبدئياً منذ اندلاع الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، أيدت فيه الحق ووقفت ضد الباطل بلا أي تنازلات".

ولفت إلى أن بلاده تتمتع بعلاقات جيدة مع روسيا، وأردف قائلاً: "الآن حريق ما لم يخمد فإنه سيؤثر على الجميع، نحن نبذل جهوداً كبيرة لإخماد الحريق.. نعمل من أجل وقف إطلاق نار إنساني يتبعه دائم من خلال إجراء محادثات مع الجانبين".

الأهمية الجيوسياسية

لعب الهجوم الروسي على أوكرانيا وما يحمله من مخاطر أمنية واقتصادية في منطقة البحر الأسود في تعزيز مكانة تركيا خاصة أنها عضو في الناتو وتتحكم بحركة عبور السفن عبر مضيقَيْ البوسفور والدردنيل البحرييْن.

وحول ذلك، يقول اللواء المتقاعد فخري إرينيل لـ"TRT HABER" التركية: "أعتقد أن الأهمية الجيوستراتيجية لتركيا، ستزداد مرة أخرى في نظر كل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، إذ سيعود دور تركيا الذي لعبته في الحرب الباردة إلى الواجهة مرة أخرى".

وتابع: "يحاول الناتو تشكيل ما نسميه فريق عمل البحر الأسود. حتى الآن، لم تنظر تركيا إليه نظرة إيجابية في إطار تبني علاقات متوازنة مع كل من روسيا وأوكرانيا"، مشيراً إلى أن ذلك سيفضي إلى أنه "من غير الممكن أبداً للناتو أن يكون فعالاً في البحر الأسود بدون مكانة تركيا في هيكلة هذه العملية".

ويضيف إرينيل: "لهذا السبب، ازدادت أهمية تركيا في كل جانب، سياسياً وعسكرياً"، معرباً عن اعتقاده بازدياد أهمية اتفاقية مونترو للمضايق "أكثر بكثير من السابق".

وفي هذا الصدد، اعتبرت تركيا الهجوم الروسي على أوكرانيا حرباً، وعليه نفّذت المادة 19 من اتفاقية مونترو، فأعلن وزير الخارجية التركي أن تركيا ستطبق أحكام المعاهدة "بكل شفافية"، وقال: "ستمر 4 سفن روسية عبر مضيق البوسفور في 27-28 شباط/فبراير. وحسب المعلومات المتوفرة لدينا، فإن ثلاثة منها غير مسجلة في القواعد (العسكرية) في البحر الأسود، لذلك طلبنا من روسيا عدم إرسالها، وأجابت أن (هذه السفن لن تمر عبر المضيق)".

بدوره، لفت السفير المتقاعد ميثات ريندي الانتباه إلى مسؤولية تركيا على المضايق وقال إن "تنفيذ مونترو يجب أن يستمر، على الرغم من كل الصعوبات، فقد ظل البحر الأسود في سلام لمدة 86 عاماً من خلال اتفاقية مونترو لعام 1936".

وأضاف أن "تركيا تتحمل هذه المسؤولية حالياً، لذلك لابدّ من الاستمرار في تطبيق الاتفاقية".

وقد أدركت أيضاً الولايات المتحدة دور تركيا في إدارة المضايق، إذ قالت مساعدة وزير الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولان، خلال جلسة خاصة للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ بخصوص أوكرانيا، إن تركيا اتخذت "خطوات قوية" لمنع مرور السفن الحربية عبر المضايق في إطار اتفاقية مونترو، مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

تركيا دولة محورية في قطاع الطاقة

تصدر روسيا ما يقرب من ثلث الغاز الذي تستهلكه أوروبا، وقد شكلت العقوبات المفروضة على موسكو طرقا بديلة للطاقة. وفي هذه الحالة، فإن الدولة المتميزة في نقل الغاز هي بلا شك تركيا.

وفي هذا السياق، أكد جوليان بوبوف، رئيس المعهد الأوروبي لكفاءة الطاقة بالمباني، وزير البيئة البلغاري الأسبق، أهمية التعاون بين تركيا والاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة في ضوء التقنيات الموجودة والتطورات الحالية، مضيفاً أن "هذا التعاون يمكن أن يسفر عن عدة حلول جديدة فيما يخص أمن الطاقة، كما سيساعد في خفض الاعتماد على الغاز الطبيعي المستورد خاصة الغاز الروسي".

في حين يرى السفير المتقاعد ريندي في تصريحات لـ"TRT HABER" التركية، أن الغاز الإيراني والعراقي الذي سيمر عبر تركيا سيكون بديلاً لأوروبا، ويضيف قائلاً: "إذا كان الاتحاد الاوروبي لن يشتري الغاز الطبيعي من روسيا فإنه يتعين عليه أن يجد مصادر أخرى، ومن هنا تأتي أهمية خطوط أنابيب الطاقة التي تمر عبر تركيا".

ويتابع: "ربما في المستقبل قد يأتي نقل الغاز الطبيعي العراقي عبر تركيا على جدول الأعمال، كما نأمل أن يصنع الغرب بطريقة ما السلام مع إيران التي تملك احتياطيات هائلة من الغاز الطبيعي".

إلى ذلك، فقد بدأت شركات عالمية متضررة من الحرب الروسية الأوكرانية، نقل مقار عملها من روسيا إلى تركيا، باعتبارها "ملاذاً آمناً في المنطقة" و"قاعدة مهمة للتجارة".

وعلى وجه الخصوص، ركزت الشركات الأمريكية التي تحتل المركز الثاني في استثمارات رأس المال الدولية، على إجراء زيارات عمل لتركيا من أجل معرفة إمكانات التعاون وتقييم الفرص الاستثمارية في البلاد.

الاتحاد الأوروبي

تعد تركيا أحد الشركاء الرئيسيين للاتحاد الأوروبي في المنطقة، وكلاهما يشتركان العديد من الملفات، إلا أنه بالرغم من ذلك فإن مساعي تركيا منذ عام 2004 للحصول على عضوية كاملة في الاتحاد لم تكلل بالنجاح حتى الآن، في حين أن العلاقات بين الطرفين ليست على المستوى المطلوب.

لكن الهجوم الروسي غيّر السياسات الأمنية للقارة الأوروبية، فأصبح من الصعب جدا بناء جدار حماية بدون تركيا، وفي هذا السياق، طلب الرئيس أردوغان الثلاثاء من الاتحاد الأوروبي استئناف "مفاوضات الانضمام" مع أنقرة عشية قمة أوروبية في بروكسل بشأن هجوم روسيا على أوكرانيا.

وفي ختام لقاء عقده في أنقرة مع رئيس الوزراء الهولندي مارك روته قال أردوغان: "نتوقع من الاتحاد الأوروبي أن يفتح بسرعة فصول مفاوضات الانضمام ويبدأ مفاوضات الاتحاد الجمركي دون الانجرار وراء حسابات ضيقة".

وتأتي تصريحات أردوغان في وقت تعود فيه بلاده بقوة إلى الساحة الدولية بسبب الهجوم الروسي وجهود الوساطة التي ابذلها، وسط تفهّم أكبر من الاتحاد لدور تركيا في المنطقة.

وتعليقاً على ذلك يقول ريندي: "بعد هذه الحرب، سيجلس الاتحاد الأوروبي ويعيد تقييمه، لقد تعلم الكثير بالطبع.. آمل أن يتفهم موقف تركيا ودورها في الهيكل الأمني ​​الأوروبي الجديد خلال مرحلة التقييم هذه، ويتصرف وفقاً لذلك".

وفي حين أعلن الاتحاد الأوروبي استراتيجية جديدة للدفاع والأمن، أطلق عليها: "البوصلة الاستراتيجية"، إذ تعد تركيا جزءاً أساسياً منها، تحافظ تركيا على قنوات اتصالها مفتوحة خلال الحرب، ولم تشارك في عقوبات الدول الغربية، بينما تسعى للعب دور بارز في إحلال السلام وكان ذلك قد تمثل بنجاحها في جمع وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا في أنطاليا قبل أيام.

TRT عربي - وكالات