«الدستور» تعيد نشر رواية «أوراق العذراء» لـ«مجيد طوبيا» (الفصل الثالث)

تعيد «الدستور» نشر  فصل جديد من رواية «أوراق العذراء»، التي تعود إلى عام ١٩٦٨ للكاتب والأديب الراحل  مجيد طوبيا، التي وافته المنية صباح اليوم.

وتوجهت إلى سينما كان بها فيلم خرافى عن الكواكب البعيدة.. عن كوكب نسيت اسمه.. جميع سكانه من النساء الفاتنات!

قامت مجموعة منهن بالهبوط إلى الأرض بقصد خطف بعض الرجال!، ودهشت لأن معظم الرجال قاوموا فاتنات الفضاء.

«لماذا يشرد ذهنى إلى منيرة؟.. لماذا تلح هذه المرأة علىّ؟!».

عدت إلى الشاشة مرة ثانية، وكانت السفينة فى طريق عودتها إلى الكوكب الغريب.

شردتُ مرة ثانية فرأيتنى ألقى بنفسى إلى مياه القناة وأسبح.. الضفة الغربية أبعد من سطح كوكب النساء.. كم مترًا عرض هذه القناة؟

ظل الشط يتباعد ويتباعد.. لابد أن أنجو.. عبرت بحر الرمال ولا بد أن أعبر هذا الكابوس الأزرق.

خرجت من دار العرض وعدت إلى الفندق.. منحت عامل الاستقبال عدة قروش وأنا أبتسم فى وجهه.. ألمحت له فى حرص إن كان بإمكانى إحضار امرأة!

قال وهو يمرجح القروش بين كفيه:

- لو عرف صاحب الفندق ذلك سيطردنى وأنا صاحب عيال.

ضحك «سمير» من طلبى ومضى يثرثر فى أمور مختلفة.. ثم فجاة توقف متفكهًا:

- أخبرنى أولًا أيها الجندى المتقاعد: كيف فررتم أمام العدو؟!

تأملت الفوضى الشاملة التى تعربد فى غرفته وهو يكمل سخريته.

-«قيل إنه ما إن بدأ القتال فى سيناء حتى أخذ بعض الجنرالات سياراتهم السريعة وفروا تاركين جنودهم دون أوامر!

وعندما عبروا كوبرى الفردان ــ قبل تدميره طبعًا ــ رآهم أحد المزارعين فسألهم: ماذا حدث؟ لماذا تهربون؟.. أشاروا إلى سيناء وقالوا: إنها الحرب.. الحرب.. هناك.

لم أبتسم ولم أعلق.. ضحك هو على نكتته! وذهب لإعداد الشاى.

صمت الغرفة أصابنى بالوجوم.. نفس الوجوم الذى ساد بيننا حين انتشر الخبر كحريق القطن فى يوم حار.. تمكن العدو من تدمير مقاتلاتنا فى أقل من نصف نهار وهى راقدة فوق ممراتها وانفردوا بالسماء!

كنا نوعين من الرجال: جنودًا محترفين ونحن.

الأغلبية من جنود الاحتياط.. استدعينا على عجل من حياتنا المدنية قبل أيام قليلة.. استقبلنا ملازم شاب وهتف مصدومًا:

- أحرب هى.. أم مظاهرات؟

نفس الملازم هو من حمل لنا فى ساعة حزينة خبر الانسحاب مع الانتشار.

دمرنا كل ما لا نقدر على حمله معنا أو يعوقنا عن خفيف الحركة.. ثم بدأنا السير مقتفين آثار من سبقونا.. وسرنا.. سرنا.

لكزنى «سمير» فى كتفى:

- نهبط فى هذه المحطة.. دقائق ونكون فى بيت أم وزة.

تركنا شارع مصر والسودان بعماراته العالية الأنيقة.. مررنا أمام قسم شرطة.

ثم ضاق الطريق واتسخ وأصبح ترابيًا مزدحمًا بالأطفال والكلاب والحُفر.

نحن الآن فى عزبة الدامور.

مضينا بين قطيع من الماعز ودجاج وكتاكيت.. استقبلتنا امرأة عملاقة مرحبة بسمير.. قدمنى لها على أنى مخرج تليفزيونى فابتسمت وقالت:

- جاى تدوّر على وجه جديد يا سى الأستاذ.

أحضرت لكل منا طبق كسكسى ثم استأذنت دقائق.

همس «سمير»:

- ألا تذكرك هذه المرأة بعوالم محمد على فى الثلاثية يا سى الأديب؟!

سألت إن كان المكان آمنًا! فقال:

- أنت الآن فى أكثر الأماكن أمنًا فى الشرق الأوسط.. زوج أم وزة مخبر فى الشرطة! وهذا المكان يمكنه أن يمدّك بما تحتاجه من خدامات ودادات.. لكن أعوذ بالله من غضب الله شهود زور.. لأ.. حرام!

دخل زوج أم وزة مرحبًا فى أدب جم!.. له عينان لامعتان ذكرتانى بعينىّ الثعلب الصغير الذى كان يحمله أحد العربان ونحن نعبر «بحر يوسف» مع أبى وآخرين.

أردت أن أربت على رأسه مداعبًا، فنظر لى متوترًا فى حذر فخفتُ منه.

عادت «أم وزة» ولاحظت أن نظراتها لا تلتقى مع عينى الثعلب المكار.. ضحكت فى لزوجة باردة وأخذتنى إلى غرفة معتمة بها سرير.

شبح امرأة فى الثلاثين من عمرها.. صغيرة الوجه تنزع عن شعرها أستك مطاط. مررت أصابعها على ثوبها وكأنها تحدد لى معالم بضاعة جئت لفتح مظاريف مناقصة شرائها.. تركتنا العملاقة وحدنا ودون أن أنطق بكلمة بدأت الشابة فى خلع ملابسها.. ثم توقفت عندما لاحظت وقفتى كالصنم.. اقتربت وبدأت فى فك أزرار قميصى.

فى أوتوبيس العودة.. انحشرنا وسط الزحام.. رائحتى تشبه كل الركاب.

عرق ممزوج بفضلات بشرية ومرارة!

سألت «سمير» عن المرأة التى نمت معها فقال:

جارة أم وزة.. وتتقاسمان الأجرة سويًا.

هل يعلم زوجها؟

زوج مَنْ؟!

أم وزة.. سيدة فاضلة وزوجها رجل محترم خدوم.. هو سند سكان الحى فى قسم الشرطة.. هذه الأرض أملاك دولة بدأت بعدة أكشاك خشبية سكنها عمال المزلقانات، ورويدا رويدا جاء أقاربهم وبلدياتهم، ومن ثم جذبت كل من يتمنى امتلاك منزل بسيط لا يكلفه سوى ألفين من الطوب الأحمر وتعريشة من الخشب المتهالك، والسقيفة عبارة عن لوحات الإعلانات التى يسرقونها من فوق أعمدة النور.

لا تندهش مثل القروى الساذج.. الفقر يا صديقى لا أقارب له ولا ضهر.

لكن وجود عين لهم فى القسم هو الضمان الكامل للبقاء على قيد الحياة.

فاجأنى بأن المخبر زوج أم وزة صاحب مزاج غريب.. التلصص على الزبائن من فتحة الباب!.. قارن بينه وبين وزير إنجليزى كان يهوى مراقبة الجماع الجنسى من خلف زجاج غرف التحقيق، وكان يبرر ذلك بأن مفاتيح البشر تظهر حين ممارسة الجنس.

لست وحدك يا صديقى من تعانى من انسحاب المرض.. البلد كله أصابته النكسة فى مقتل. 

استمر «سمير» فى تقمص دور المحلل العسكرى وقال: 

الانتصارات تنسب عادة للقادة، بينما الهزائم للظروف.. وفى جميع الأحوال يموت الجنود على كل حال.

لا تزعل يا صديقى فقد فعلها الإنجليز من قبلكم وفروا فى معركة «دنكرك»، والفرنسيون تركوا «هتلر» يجتاح «فرنسا» كلها فى ساعات.

فى الليل كان نومى هادئًا، دون أن يزعجنى الصداع ولم تأت «منيرة» فى أحلامى.

عقدت اتفاقية مع بائع الصحف المجاور لمقهى سطوحى.. يترك لى الجرائد الثلاث أقرؤها ثم أعيدها إليه مقابل قرش صاغ.

كاتب يطالب بحرب شعبية شاملة توزع فيها قطع السلاح على كل مواطن.. قال فى فيتنام حدث ذلك، وكاتب آخر يسخر من أفكاره الرومانسية.

كانت المعركة بطرفيها تستنزف صفحات الجرائد الرئيسية، بينما الصفحات الأخيرة تتحدث عن الدبّة «محاسن» فى حديقة الحيوانات وقد رزقت بمولود ذكر سمّوه «الشاطر».

الصفحات الفنية تتابع أخبار من سافروا إلى بيروت لإنهاء بعض الأعمال الفنية.

صحفى شاب يسخر من تقليعة البدل التى يرتديها الفنان «نور الشريف».

الصفحة الثانية من الأخبار تتحدث عن ظاهرة الشعرة التى يجدها كل من يفتح كتاب «القرآن الكريم» ويتساءل الجميع: هل هى للرسول عليه الصلاة والسلام أم للحسين ابن بنته؟!

لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. زجاج المنازل مازال باللون الأزرق وسواتر الطوب الأحمر أمام العمارات، حتى الفيلات القديمة بنت أسوارًا أمام النوافذ التى تطل على البدرومات نظرًا لاستعمالها كمخابئ وقت الغارة.

عامل الاستقبال يبلغنى أن أذهب إلى مقر الجريدة.. جمعة عبدالغفور يود مقابلتى.

يبدو أنه يود معرفة نتيجة موقعة الزيتون!

بعد اتصال هاتفى بمكتب جمعة، زم موظف الأمن شفتيه وقال: ليس على مكتبه.

فسألت عن الأستاذة «منيرة كامل».

فأخبرنى أنها فى مهمة صحفية بإحدى مدن القنال وستعود خلال أيام.

تحايلت عليه أن يعاود الاتصال بمكتب جمعة.

أمام باب الجريدة حاول رجل عجوز تجاوز السلسلة الحديدية التى تغلق حيزًا مخصصًا لسيارة رئيس مجلس إدارة الأهرام.. فشل الرجل وطاح على وجهه.

أسرعت لمساعدته فى الوقوف وهو يصرخ من شدة الألم.. أمسك بركبته وظل يسب ويلعن الباشوات الجدد وأبناء الفلاحين الذين تخلصوا من الإقطاع وصاروا هم أشد من الإقطاع شراهة لحب التملك.

أوقفت سيارة تاكسى وساعدنى آخرون فى وضع الرجل على المقعد.. أصر على ركوبى بجانبه.

فرحت كثيرًا عندما نطق باسمه الأستاذ «محمد عودة» الكاتب الكبير.

قلت له: لن تصدق أنى قرأت كل حرف خططته!

سألنى عن ماذا كنت أفعل بمبنى الهيكل.. ابتسمت لطرافة الإسقاط بين هيكل سليمان وهيكل حسنين. 

عندما ذكرت له اسم «منيرة كامل» قال فى لغة حازمة:

لا تنتظر منها وساطة! هى سيدة لا تعرف الزيف ولا النفاق.. لو كنت موهوبًا فسوف تحارب من أجلك.. عدا ذلك.. لألألألأ.

١٥ يومًا وتعود لننزع الجبيرة.. فنظر الأستاذ «عودة» للطبيب وقال:

- هل أستطيع الكتابة يا دكتور؟!

فضحك الطبيب وقال: نعم يا أستاذنا ولكنك فى إجازة مؤقتة من ركل النظام بالشلاليت.

أصبحت ودون عقد أعمل سكرتيرًا للكاتب الكبير!

تفتح لى مدام «عائشة» زوجة الأستاذ باب الشقة وأتناول الفطور بصحبتهما.

ثم نبدأ العمل.. كتابة مقال.. توصيل أوراق لمبنى جريدة.. مشوار حتى جامعة القاهرة.. استلام كتاب من ناشر.. ثم الغداء بعد الثالثة ظهرًا.

أصبحت اللوكاندة لا تمثل لى سوى مرتبة حزينة ووسادة تشبه ضرع امرأة عجوز.

بيت مدام «عيشة» عوضنى عن جو الأسرة الذى حرمت منه.. الطهى المنزلى أعاد لوجنتى تورّد الريف ومذاق السمن البلدى، ومكتبة الأستاذ أقنعتنى بأن سور الأزبكية عبارة عن مكب زبالة بلا رائحة.

لم أغير من عاداتى سوى حفلات السينما الصباحية.. أنهى يومى مع العائلة الكريمة لألحق حفلة السادسة مساء وأحيانًا كثيرة التاسعة والأخيرة.

قرأ الأستاذ محاولتى الأولى لكتابة الرواية ولمعت عيناه فرحًا.. لكنه نصحنى بأن أكتب قصصًا قصيرة ليرى مدى تكثيفى وإيجازى للمشهدية.

بعد الغداء همست فى أذنى مدام «عيشة» نصيحة تقدر بألف جنيه:

هذه ليست أيام الروايات.. إنها أيام أفلام الهلس ومراسلى الحرب وقصص الصفحة الواحدة.

ــ يا أستاذ.. ألم تسألنى عن جمعة عبدالغفور؟

تركت له المظروف الذى يحوى مقالة الأستاذ وصعدت لأقابل جمعة.

المصعد معطل.. هكذا تقول الورقة المعلقة على الباب الصلب.. حاولت تفادى سيدتين بدينتين تصعدان الدرج ببطء السلاحف.

حاولت إيجاد ثغرة بينهما فلم أفلح.

فى البداية كنت أجد صعوبة.. لكنى الآن أتسلق الشجرة بيسر وسهولة.

أركن ظهرى على فرع قوى وأمسك منظارى المُقرب.. أمسح عدسته فى رفق وحرص. فى البداية لا شىء واضح.. مجرد تقوسات هلامية.

أدار ظابط البعد البؤرى العدسات لتظهر الصورة واضحة وحادة على شبكة عينى.

الرمال الصفراء تظهر جليّة.. العدو يرتدى نفس لونها والشمس حارقة.

كلأ خفيف محروق.. تموجات رملية وصمت مخيف.

فى البداية كان المنظار يصيبنى بالصداع ودوار خفيف، لكن اختفاء العدو داخل ممرات خندقية جعل قرون الاستشعار فى رأسى تتغلب على الصداع، وفكرة اصطياد جندى قنصًا جعلت منى منتبهًا حاضر الذهن.

أعرف أن العدو عندما يخرج من خلف تلك الأكوام الرملية يسرع فى حركة متموّجة.

يثير من حوله زوبعة من آلاف الذرات الخفيفة تسير فوق الأرض يجرها من خلفه.

فأستنتج بطريقة حاسمة أنه يتحرك فى إحدى نوباته الاستكشافية، وعلى الفور تتقدم أمامى مشكلة عسيرة شديدة التعقيد للتفرقة بين نوعين من التحركات.

فهو إن قام بعشرة تحركات فإن تسعة منها يكون الغرض هو التضليل والتمويه لخداعى.

وواحد فقط يقوم به بقصد معين، وعلىّ أن أميز هذا الواحد لأبلغ القناص الكامن تحتى على فرع آخر. 

هذه أيام أفلام الهلس ومراسلى الحروب وقصص الصفحة الواحدة

تمكن العدو من تدمير مقاتلاتنا فى أقل من نصف نهار وهى راقدة فوق ممراتها وانفردوا بالسماء!.. كنا نوعين من الرجال: جنودًا محترفين ونحن

الأغلبية من جنود الاحتياط.. استدعينا على عجل من حياتنا المدنية

عزبة الدامور بدأت بعدة أكشاك خشبية سكنها عمال المزلقانات، ورويدا رويدا جاء أقاربهم وبلدياتهم، ومن ثم جذبت كل من يتمنى امتلاك منزل بسيط لا يكلفه سوى ألفين من الطوب الأحمر

ملخص ما جرى

كانت مشاهد الهزيمة تتداعى على رأس صاحبنا وهو ينتظر «ظهور العذراء» فى الزيتون!

هو يربط بين الهزيمة النفسية للمصريين والبحث عن «مُخلص».

فى عصر الهزائم يبحث الجميع عن «معجزات» لتضميد الجراح.

فى هذه اللحظة كانت «منيرة» تطارده أيضًا، فلا يستطيع الانفصال عنها، بل يمنى النفس بها.

بدا مهزومًا يبحث عن «مُخلص» له ولو على «فراش المتعة».

كيف ذهب إلى «فراش المتعة» وكيف تداعت مشاهد الهزيمة.. تعالَ معى نقرأ معًا.

تاريخ الخبر: 2022-04-07 15:21:23
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 47%
الأهمية: 66%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية