الحارثون في الصخر!!
الحارثون في الصخر!!
تشدني الذكريات والتأملات إلي عصر لم أعش أيامه, ولكنني أتوسم أحداثه من خلال قراءاتي لأدباء ذلك العصر.. ويمضي بي التأمل والذكري علي أرض صلبة قاسية, يسعي عليها الأديب أو الفنان في ذلك الحين, يلهب وراء محراثه أو قلمه فكلاهما سواء يضرب في أرض عنيدة ويحفر في عقول متحجرة.. لا حافز ولا مشجع ولا حتي حداء, جهد فردي وعرق ينصب من جباه الكادحين, طه حسين, والحكيم, والعقاد, والمازني, وسلامة موسي. وغيرهم كثيرون, يسعون في صحراء مترامية الأطراف إلي هدف بعيد وهو أقرب إلي السراب, ورغم صلابة الأرض وقسوة ذلك العصر بكل ما فيه مساوئ وصل المحراث وصاحبه إلي أرض استوت بعد الكفاح والعرق وإلي عقول تفتحت وكان عليها أن تتفتح وأن تفيق في عصر أفاق فيه الحديد والحجر!
وجاءت ثورة 23 يوليو المباركة, فتية قوية تنبض بالحياة, نبض العروق الملموس والمحسوس في كل ميدان.. وميدان الفن والأدب واحد من الميادين التي دب فيها النشاط وسعت عليه الأقلام والفرشاة.. واستوت الأرض تحت أقدام الزاحفين, ولم يعد للممرات وجود فالأرض رخوة خصبة مرتوية تنتظر البذار, والبذور كثيرة ومتنوعة تنوء بحملها العقول والأكتاف.. وكان أن ساد عصر ذهبي للفن والأدب في الخمسينات وأوائل الستينات.. معرض في كل أسبوع وكتاب كل ست ساعات وحصاد يخلب الألباب ويشبع النفوس ويروي الظامئين.
وكان لي نصيب صغير عند الطرف البعيد من الأرض الخصبة وكان لي كتاب نشرته الدار القومية للطباعة والنشر هو كتاب الناس والكلاب.. وبعد نشر الكتاب قال لي بعض العاملين بالدار: هل من جديد؟ وقلت يومها: عندي الكثير ولكنه يحتاج إلي مجرد (تبييض) علي الآلة الكاتبة, وكان الرد منهم حلوا منغما لم أتوقع سماعه: هات ما عندك ونحن علي استعداد لتبييضه وكتابته علي الآلة الكاتبة, هات ما عندك وإن كان مكتوبا بالقلم الرصاص!.
وشغلتني بعثة دراسية أكثر من عام, لم أنس خلالها هوايتي, ولم أنس خلالها شخصين عظيمين كان لهما أكبر الأثر في المضي في هوايتي الأدبية أولهما هو رئيس تحرير هذه الجريدة الكاتب الكبير. الأستاذ أنطون نجيب مطر. الذي كان له فضل إفساح المجال أمامي للكتابة علي صفحات هذه الجريدة وكانت الثمرة هي كتابي الأول, وثانيهما هو الكاتب الكبير الأستاذ محمد زكي عبدالقادر الذي كتب عني دون أن يعرفني وشجعني علي البعد وأطراني علي صفحات جريدة الأخبار بكلام أخجل قلمي والجم فمي عن شكره. وذكرت للرجلين العظيمين فضلهما وتشجيعهما لي فعكفت علي الكتابة والتخزين حتي أتخمت أدراجي بالعديد من القصص القصير والطويل.. وانتهت البعثة العلمية بالخير والحمد لله.
وعدت إلي الدار أعرض إنتاجي مكتوبا ومنمقاعلي ورق مصقول لامع, وملئي يقين أنه سيجد سبيله إلي أفواه المطبعة تلتهمه في نهم واشتياق, ولكنني أحسست وأنا أرتقي الدرجات بصلابة الأرض وقسوة الصعود.. ثم تأكدت من ذلك بعد حين.. وصدمت !
لقد تحولت الأقلام الخلابة الهادفة إلي أقلام مذهبة الغطاء توقع وتبصم وتقرر المصائر بجرة من أسنانها الذهبية,, لقد اتسعت الغرف وفرشت أرضها بالسجاد العجمي النادر, وأتخمت بأرائك مبطنة بالجلد النفيس, لقد استطاعت المكاتب الأرو وتضاءلت من فوقها الأجساد, لقد كبرت الكراسي التي تدور فوق المحاور فدارت بعقول الجالسين عليها في استرخاء.. تكيف الهواء وطراوة المكان وعظمة المنصب كلها قد عادت بالأرض الرخوة الخصبة إلي صلابة العشرينات وقسوة الثلاثينات من عمر هذا القرن العجيب!
ومن نكد الأيام أن يناقشك القول جاهل أسكره المنصب, وأن يشرح (بتشديد الراء) عملك قصاب لا يفرق بين المبضع والساطور.
وإنتاج الفنان هو عروقه وهو أنفاسه, والعروق لا تحتمل النزف والأنفاس لا تقوي علي استنشاق الهواء العطن!.
لترقد الأوراق إذن في الأدراج, فالظلام أهون من النار الحارقة, ليكتب عليها النوم حتي يفيق الغافلون.. لتبق البذور في مخازنها حتي تعود الأرض إلي ما كانت عليه من خصوبة وارتواء!.. ثم كان لقاء مع الصديق الأديب الأستاذ عادل زكي ودار الحديث عن الأدب والفن. وكانت فكرة عن إنشاء ناد فني أدبي يكون حقلا خصبا للمواهب الجديدة وتحدثنا بعد ذلك كثيرا عن الإمكانيات وعن المكان وعن وزارة الثقافة وعن احتياجنا إلي تعضيدها ومساعدتها.. وإلي أن تكتمل الجهود وإلي أن تنتهي المساعي علي خير أردد علي صفحات هذه الجريدة الحبيبة نداء إلي كل ذي موهبة صادقة, وأهتف بالأقلام المؤمنة المخلصة الفتية, أن تحولي إلي محاريث, فالأرض صلبة والأيام رمال قاسية, والجهد المرتقب يستوجب عرقا غزيرا ترتوي به الرمال.. والرمال لن تصلح لزرع إلا إذا رواها العرق وندتها الدموع!!