ديكارتية

عودة للموسوعة
Principia philosophiae, 1685

تنسب الديكارتية إلى ديكارت الفيلسوف الذي اعتمد على العقل في تأسيس فلسفته. نظرية الفهم أوالمنهج الديكارتي هوالمنهج الجديد في الفلسفة، وبسببه سمي ديكارت بـ"أبوالفلسفة الحديثة"، ويقوم المنهج الديكارتي على أساسين، هما:

  1. البداهة: أي التصور الذي يتولد في نفس سليمة منتبهة عن مجرد الأنوار العقلية.
  2. الاستنباط: أي العملية العقلية التي تنقلنا من الفكرة البديهية إلى نتيجة أخرى تصدر عنها بالضرورة.

ويستند المنهج الديكارتي إلى أربع قواعد هي :

  1. التسليم بيقينية المبادئ التي تبدوللعقل بسيطة وواضحة، لا تثير يقينيتها أي شك.
  2. تقسيم جميع معضلة إلى أجزائها.
  3. الانتنطق المنظم من المعروف والمبرهن عليه إلى المجهول، الذي يحتاج البرهان.
  4. عدم إغفال أي من مراحل البحث المنطقية.

عادة ما يرتبط اسم ديكارت بموضوع الشك فالشك هوأساس الديكارتية وهوالذي يقوم عليه التفكير العقلاني. وحلت الفلسفة الديكارتية القائمة على التحليل العقلي والمنطقي والقائمة على مبدأ الشك كوسيلة للوصول إلى الفهم محل الهرطقية القائمة على مبدأ الخرافة والاساطير والمفاهيم الغيبية التي تفسر الظواهر

مفهوم الشخص في الفلسفة الديكارتية

لعل أكبر وقع في تاريخ البحث الفلسفي المتعلق بسبر أغوار النفس الإنسانية منذ عهد سقراط الذي نادى الإنسان إلى فهم نفسه هواكتشاف مبدأ الكوجيطوعلى يد الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت. يمثل هذا الحدث ثورة حقيقية في حقل الممارسة النظرية التي تجعل من التفكير موضوعا لها. ولفهم هذه الثورة لابد من إلقاء ولونظرة خاطفة على تاريخ هذه الممارسة قبل مجيء ديكارت ليتسنى لنا إدراك وفهم مدى عمق التغير الذي أحدثه "أب العقلانية الحديثة" في النظرة إلى الذات المفكرة وكيفية التفكير فيها. ولتحقيق هذا الغرض نرى أنه من الضروري التذكير بالخطوط العريضة لنظريات الفهم لدى أكثر الفلاسفة السابقين شهرة من أجل مقارنتها مع نظرية ديكارت. وسوف يتم الهجريز على نظرية الفهم لدى جميع من أفلاطون وأرسطوالذين كان لهما تأثير كبير في تاريخ الفكر على امتداد قرون عديدة. ترتكز نظرية الفهم الأفلاطونية على مصادرة أساسية مفادها حتى الفهم تتحقق من خلال الانتنطق والارتقاء التدريجي من المعطى المحسوس إلى النموذج المعقول، حيث تميل الذات العارفة تدريجيا إلى التجرد من جميع ما له علاقة بالعالم المحسوس من أجل الاتصال بالعالم المعقول والارتقاء في مراتب الفهم إلى حتى يصل العقل إلى غايته القصوى وهي المشاركة في انسجام العالم المعقول وتناسقه الرياضي. وإذا كان أفلاطون قد جعل من العدد والماهيات الرياضية المبدأ الذي يقوم عليه انسجام العالم المعقول، فلأن العلاقات الرياضية في نظره تظل على الدوام ثابتة لا تتغير، وهوما يفسر خلود العالم. إذا عمل الفهم هنا لا يختلف عن عمل الوجود، إنه عمل المشاركة في الوجود؛ فقد أوضح أفلاطون في كتابه "الجمهورية" كيف من الممكن أن ينبغي حتىقد يكون النظام الاجتماعي لكي يتسنى للإنسان العيش في انسجام مع العالم المعقول كما يتصوره الحكماء. ومن هنا يمكن حتى نفهم لما أصبح الأفلاطونيون يولون أهمية قصوى لدور الصورة في عملية الفهم، وأصبحت فهم الموجودات عندهم تعني مشاركتها في صورها أونماذجها المثلى. ولما كانت الصورة هي التي تنقل الشيء من الوجود بالإمكان إلى الوجود بالعمل، ولما كانت تمثل حقيقة الشيء أوجوهره، أمكن القول بأن عمل الفهم كعمل الوجود، وهوما عبر عنه المفكر الأمريكي Pedro Amaral بقوله: To know something is just like being something ويعني ذلك، حسب قوله، حتى الفهم هي المشاركة في الوجود.، وتعني المشاركة أسلوبا في الحياة ينسجم مع مبادئ الوجود الحقيقي. يتمثل عمل الفهم، إذن، في قدرة العقل على حتى يصبح كموضوعه، أوحتىقد يكون مطابقا لموضوعه ومتماثلا معه، هذا مع الفهم حتى موضوع الفلسفة اليونانية هوالوجود بما هوموجود حسب تعبير أرسطو. ينسجم هذا التصور للفهم إلى حد ما مع نظرية الفهم الأرسطية. تتبلور الفهم في نظر أرسطومن خلال تشكل صورة الشيء في العقل. فإذا كان العقل يدرك صور الأمور، فإن تلك الصور تساهم بشكل أساسي في تشكل العقل. إلى غير ذلك يصبح العقل كموضوعه. ولذلك كان معيار الحقيقة في الفلسفة الأفلاطونية والفلسفة الأرسطية على حد سواء هومعيار التطابق أوالتماثل بين الفكرة والموضوع. وما قام به ديكارت هوأنه غير هذا التصور للفهم وكيفية تحققها رأسا على عقب: أفرغ العقل والعالم من الصور، وألقى بمبدأ التماثل جانبا وعوضه بعملية التمثل الذهني représentation؛ لم تعد الفهم تتحقق من خلال تماثل العقل مع موضوعه، بل من خلال التمثل الذهني للموضوع بطريقة لا مكان فيها للتماثل الطبيعي. وإذا كانت غاية الفهم في النظرية الأفلاطونية-الأرسطية هي تحقيق التماثل بين العقل والموضوع، فإن ديكارت انتقل بالفهم إلى مستوى أرقى من مستوى الإحاطة بالموضوع: لم يقف عند حدود تمثل الموضوع، بل جعل من التمثلات الذهنية نفسها موضوعا للتأمل العقلي، وبذلك دفع بعملية المعهدية إلى مستوى الميتا méta وهوالتفكير في التفكير، وقادته تجربته الوجودية إلى اكتشاف بعد جوهري حديث من أبعاد الوجود الإنساني، ألا وهوالوعي conscience. ولأول مرة في تاريخ الفلسفة، من الممكن بعد ابن سينا (أنظر منطقتنا: "تطور مفهوم النفس من المفهم الأول إلى الشيخ الرئيس")، أصبحت لهذا المفهوم دلالة تتجاوز معنى الإدراك الباطني الفوري المباشر، إلا حتى ديكارت لم يحدد دلالته بشكل صريح، وظل يركز على بيان أهمية الوعي ودوره في حياة الإنسان. الوعي باعتباره حجر الزاوية في بنية الشخص لدى ديكارت يمثل الوعي في نظر ديكارت الصفة المميزة للإنسان، والعنصر الحاسم في تصوره لمفهوم الشخص، وتكمن وظيفته في كونه يمكننا من الإدراك الفوري للذات المفكرة. يرى ديكارت بأن أكثر الأمور وضوحا في هذا العالم هي الأفكار، وتنطوي تأملاته على مصادرة صريحة إلى هذا الحد أوذاك مفادها حتى هناك نوعا خاصا من النشاط المعهدي الذي يجعلنا على اتصال بتفكيرنا ويمكننا من التعهد عليه والإحاطة به والتحكم فيه، وبذلك تنكشف لنا طبيعة الفكر وطبيعة الذات المفكرة. وهذا مثال يوضح هذه الفكرة: يستطيع زيد حتى يستوعب ويفهم عملية حسابية كعملية الجمع مثلا: 2+2=4 وهذه العملية الحسابية هي سلسلة من عمليات التفكير، وعندما نتأمل هذه السلسلة تنجلي طبيعة التفكير وطبيعة الذات المفكرة والموضوع المفكَّّر فيه، وهذه الأقانيم الثلاث هي مظاهر تجربتنا الذهنية. ولا يحتاج المرء إلى بذل أي مجهود لفهم أصل هذه التجربة المتمثل في الأنا المفكرة، أوالأنا الديكارتي، فهي تكشف عن نفسها بنفسها، ولا تستمد وجودها إلا من ذاتها باعتبارها ذاتا مفكرة، وهذه الذات مكتفية بذاتها، لا بحاجة في وجودها إلى شيء آخر. ولذلك لزم حتى تكون السمة المميزة للشخصية هي الحرية. فالشخص الذي حصل له الوعي بذاته باعتباره ذاتا مفكرة، هوبالضرورة كائن حر. إلى غير ذلك أصبح مفهوم الوعي عند ديكارت مرادفا لمفهوم الحرية..ذلك لأن الوعي يوجد في استقلال عن الجسد ولا يتأثر بالعامل البيولوجي ولا بعوامل المحيط الخارجي. ولكي تتضح الفكرة أكثر لابد من استعراض تصور ديكارت للإنسان، وهوما يستلزم تسليط بعض الأضواء على المبادئ أوالمصادرات الأساسية التي تقوم عليها فلسفته(*). ذكرديكارت في رسالتين وجههما للملكة إليزابيت بتاريخ 21 مايوو28 يونيومن عام 1643- واللتان يمكن اعتبارهما بمثابة ملخص مركزلنتائج "التأملات"- حتى فلسفته الميتافيزيقية تقوم على ثلاثة مفاهيم أولية، تمثل في نظره المرتكزات الأساسية لكل فهم إنسانية، وهي المفاهيم التيلدينا عن الروح، والجسد، والعلاقة بين الروح والجسد: يتعلق المفهوم الأول بتصورناللروح، ويضم العقل والإدراك الحسي والإرادة ومختلف النوازع الانفعالية؛ ويتعلق المفهوم الثاني بتصورنا للجسم، وهومفهوم الامتداد الذي تُرَد إليه أشكال الأجسام وهيئاتها وحركاتها؛ ويتعلق المفهوم الثالث بالعلاقة بين الروح والبدن، وهومفهوم الوحدة التي تتجلى من خلال قدرة الروح على تحريك البدن، وقدرة البدن على التأثير في الروح وإثارة انفعالاتها. يقوم تصور ديكارت للوجود بصفة عامة على ثنائية الروح والجسد: هناك، من جهة، عالم داخلي ذوطبيعة روحية ومن خصائصه التفكير وعدم الامتداد في المكان، ويضم الأفكار والمعتقدات والانطباعات الحسية وكل التجارب الذاتية؛ وهناك، من جهة أخرى، عالم خارجي ذوطبيعة مادية، وما يميزه هوالامتداد وانتفاء القدرة على التفكير، ويضم الأجسام الطبيعية والقوى الفيزيائية. وينطبق مبدأ ثنائية الوجود على الإنسان نفسه، وتتجلى من خلال ازدواجية الروح والبدن.

تأملات ديكارتية

هوسرل هوفيلسوف من أشد مأيدين المنهج الديكارتى إذا العلاقة بين الديكارتية والفينومينولوجيا بقدر ما هي علاقة إشكالية نقدية هي علاقة وطيدة، فديكارت هوبالنسبة لهوسرل الفيلسوف الذي قام بأهم اكتشاف في تاريخ الفلسفة أي اكتشاف قارة الكوجيتو، كما أنه يسمي الفينومينولوجيا في متنه هذا بكونها "ديكارتية جديدة". غير حتى هذا لا يعني حتى الفلسفة الهوسرلية مجرد طبعة جديدة للفلسفة الديكارتية، بل ثمة اختلاف منهجي وفلسفي ملحوظ بين المشروع الفلسفي الهوسرلي والمشروع الديكارتي فإذا كان ديكارت ينطلق من الشك، وإذا كان هذا الشك الديكارتي يطال وجود العالم فإن هوسرل ينطلق من "الإيبوخي" أي من التعليق، أي وضع العالم بين قوسين للإمساك بالشعور، ليتمكن بعد ذلك من نزع الأقواس عن العالم ودراسته كموضوع شعور. وإذا كان الحدس الديكارتي هوأساس حدس الكوجيتو، فإن الحدس الهوسرلي هوفضلاً عن ذلك إنصات إلى الأمور ذاتها بالعود إليها. كما حتى مدلول الأمور لا يعني، عند هوسرل، الموضوعات الحسية بمدلولها الوضعي، بل الشيء عند هوسرل هوالظاهرة ومحتواها العقلي، أي الظاهرة والماهية. إلا حتى هذا العود إلى الأمور ذاتها ليس خروجاً من الكوجيتوأوارتحالا عن أرضه، بل ليس ثمة -حسب هوسرل- فاصل بين الكوجيتووالكوجيتاتوم بين النويز والنويم. وهذا التعالق والتلازم يرتقي بالفينومينولوجيا إلى مستوى الثورة على نظرية الفهم التقليدية ببنياتها الموروثة التي عادة ما تفصل بين الذات والموضوع،وهي ثورة تسعى على المستوى الإبستمولوجي إلى تجاوز الاستحالات التي تسقط فيها نظرية الفهم التقليدية بفواصلها تلك.إلا حتى هذا الارتباط بالكوجيتووعدم الارتحال عنه له في الفكر الفينومينولوجي مدلول نقدي من جهة علاقة الفينومينولوجيا بالديكارتية. فالموقف النقدي من ديكارت يمس بالضبط النوى المفهومية المركزية في الديكارتية أي الكوجيتو: فهوسرل يرى حتى ديكارت لم يقدر قيمة هذا الاكتشاف، ولم يسكن قارة الكوجيتو،وذلك بسبب تشغيله للمنهج الرياضي فاستحال الكوجيتوعنده إلى مقدمة استنباطية ليس غير، بينما كان عليه -حسب هوسرل- حتى يسكن الكوجيتوويقيم بداخله، ويستكشفه.وهذا هوالمشروع الفلسفي الهوسرلي في متنه هذا "تأملات ديكارتية"، إنه إذا أردنا اختصاره في أوجز تعبير يمكن حتى نقول: إنه استكشاف الكوجيتو.

فماذا يجد هوسرل بداخل الكوجيتو؟ إنه يجد جميع شيء: فالكوجيتوحسب هوسرل ليس فقط "أنا أفكر" بل فيه أيضا موضوع التفكير، وهوأيضا كينونة متعالية، بل وذاتية بينية متعالية، تحضر بداخلها ذوات متعددة. وهذا الاستحضار للغير داخل الكوجيتويعتبره هوسرل تجاوزا للسقوط في الأنا وحدية التي انزلق فيها كوجيتوديكارت.

وفي هذا التمهيد، الذي نقدم في ما يلي ترجمته الكاملة، نجد بالإضافة إلى علاقة الفينومينولوجيا بالديكارتية. قراءة هوسرلية لوضعية الفلسفة والفهم في بداية القرن العشرين، تلك الوضعية التي يصفها ب"الأزمة" والتي يعتبر حتى الحل الأساسي لتجاوزها هوإعادة تأسيس الفلسفة والعلوم السائدة على أساس فلسفي جديد/قديم، أساس يتم تحصيله باستعادة التأمل الديكارتي، وتشغيله من جديد، وتجنيبه المزالق التي سقط فيها ديكارت. فلننصت إليه يتحدث عن ماهية "التأملات الديكارتية" وقيمتها. النص تمهيد

  1. "تأملات ديكارت" نموذج أصيل للعود الفلسفي إلى الذات:

إنني أشعر بالسعادة لتمكني من الحديث عن الفينومينولوجيا المتعالية في هذه الدار الموقرة المتميزة بين جميع الدور التي يزدهر فيها الفهم الفرنسي.وإن لدي أسبابا خاصة تفسر شعوري هذا، تتمثل في كون الدفعات الجديدة التي تلقتها الفينومينولوجيا إنما يرجع الفضل فيها إلى رونيه ديكارت، مفكر فرنسا الأكبر، إذ من خلال دراسة "تأملاته"،استطاعت الفينومينولوجيا الناشئة حديثاً حتى تتحول إلى نموذج حديث للفلسفة المتعالية، إلى درجة يمكن حتى نسميها على وجه التقريب ديكارتية جديدة، على الرغم من كونها وجدت نفسها مضطرة إلى استبعاد -تقريبا- جميع المضمون الممضىي المعروف عن الديكارتية، ومضطرة إلى تبديل بعض القضايا الديكارتية تبديلا جذريا. وبالنظر إلى هذه الاعتبارات أعتقد أنه باستطاعتي ن أكون واثقا، سلفاً، في أنني سأجد لديكم حفاوة مشجعة، إذا ما اخترت كنقطة انطلاق لي، من بين الموضوعات التي تعالجها تأملات في الفلسفة الأولى، تلك الموضوعات التي لها قيمة خالدة، في نظري، وخاصة إذا ما حاولت حتى أحدد فيما بعد السمات المميزة للتحولات والتجديدات التي أدت إلى ميلاد المنهج والقضايا المتعالية.

ما يلفت انتباه جميع مبتدئ في الفلسفة هونظام أفكار "التأملات"، وتسلسلها المدهش، فلنذكر هنا بالفكرة الموجهة لهذه التأملات: إنها تهدف إلى إصلاح جذري للفلسفة، بحيث تصبح فهماً قائماً على أسس مطلقة، وإن هذا الهدف يتطلب، حسب ديكارت، إصلاحات موازية في جميع العلوم، لأن -هذه العلوم- ليست في نظره سوى الأجزاء التي يتكون منها الفهم الكلي، أي الفلسفة. ولا يمكن لهذه العلوم حتى تصبح علوما بحق إلا باندراجها داخل الوحدة النسقية للفلسفة. والحال أنه إذا نظرنا إلى هذه العلوم، في سياق تطورها التاريخي، سنلاحظ حتى الذي ينقصها هوخاصية الحقيقة، تلك الخاصية التي تسمح لها بأن ترجع كلها في نهاية التحليل إلى حدوس مطلقة لا يمكن تخطيها. لهذا يصبح من الضروري إعادة تأسيس البناء الذي يمكن حتى يطابق فكرتنا عن الفلسفة كوحدة كلية للعلوم، والقائمة على أساس مطلق. إذا ضرورة إعادة البناء هذه، التي فرضت نفسها على ديكارت، تجسدت لديه في شكل فلسفة متجهة نحوالذات.

حقا لابد، في البداية، لكل من يريد حتى يصبح فيلسوفاً حتى يعود إلى ذاته ولومرة واحدة أثناء حياته، وأن يحاول في داخل ذاته قلب جميع المعارف التي سلم بها حتى ذلك الحين، ثم بعد ذلك يحاول إعادة بنائها من جديد. إذا الفلسفة -الحكمة- هي على نحوما عمل شخصي بالنسبة للفيلسوف، فالفلسفة ينبغي حتى تنشأ بوصفها فلسفته، وأن تكون حكمته هو، ومعهدته الخاصة، التي على الرغم من أنها تنزع نحوما كوني، فإنها يجب حتى تظل نتيجة لتحصيله الشخصي، وأنقد يكون بمقدوره تبريرها، من ولها وخلال جميع فترة من مراحلها، باعتماد على حدوسه المطلقة. ومنذ اللحظة التي قررت فيها السعي نحوهذه الغاية، هذا القرار الذي هووده القادر على حتى يكفل لي الحياة والنموالفلسفيين، فإنني أكون ضمنيا قد اعترفت في الوقت نفسه بما في معهدتي من فقر. ومنذ تلك اللحظة تبين لي أنه لابد حتى أتساءل ابتداء: كيف من الممكن أن يتأتى لي إيجاد منهج يمنحني طريقا أسلكه فأصل إلى الفهم الحقيقي. إذا تأملات ديكارت إذا ليست مجرد عمل خاص بالفيلسوف ديكارت وحده، ولا هي بالأحرى مجرد أسلوب أدبي استخدمه لعرض رؤاه الفلسفية. بل إذا هذه التأملات -هي على العكس من ذلك- ترسم النموذج الأصيل لنوع التأملات الضروري لكل فيلسوف يبدأ عمله، والتي هي وحدها الكفيلة بتوليد فلسفة ما.

وإذا التفتنا الآن إلى محتوى "التأملات"، الذي يظهر غريبا بالنسبة لنا حاليا، سنجد فيه عودا ثانيا إلى "أنا" الفيلسوف، بمعنى حديث وأكثر عمقا، وهوعود إلى "أنا" الأفكار الخالصة. ويتم هذا العود بمنهج الشك الشهير والمدهش. ومادام لا يعهد له هدفا غير الوصول إلى فهم مطلقة، فهولذلك يمتنع عن الاعتراف بالوجود لأي شيء، ما لم يكن هذا الشيء في مأمن تام من جميع ما يمكن حتى يضعه موضع الشك. إنه يخضع جميع ما يظهر مؤكدا في عالم التجربة والفكر إلى نقد منهجي، من جهة إمكانيات الشك التي يمكن حتى يستحضرها، ويحاول اكتساب مجموعة من المعطيات البدهية بداهة مطلقة، وذلك بنفي جميع ما يمكن حتى يؤدي إلى الشك فيها. وإذا طبقنا هذا المنهج على يقين التجربة الحسية التي يعطى لنا فيها العالم في الحياة اليومية، سنرى حتى هذا اليقين لا يثبت بتاتا أمام النقد. ولذا فإنه في هذه الفترة الأولية، لابد من وضع وجود العالم موضع التعليق. أما فيما يخص الحقيقة المطلقة، التي لا يشوبها شك، فإن الذات المتأملة لا تستبقي سوى ذاتها، وذلك من حيث هي أنا خالص لأفكارها، إنها تحتفظ بذاتها وكأنها موجود لا يمسه شك، ويستحيل حذفه من الوجود، حتى ولوكان هذا العالم غير موجود. وابتداء من هذه اللحظة فإن الأنا الذي تم إرجاعه على هذا النحوسيحقق نمطا من التفلسف هونمط الأنا وحدي، وسيتجه نحوالبحث عن طريق برهانية يستطيع حتى يجد من خلالها في داخله الخاص خارجية موضوعية. إننا نفهم كيف من الممكن أن نهج ديكارت مبتدئا بالاستدلال على وجود الله، وحقيقته، ليستنبط موضوعية الطبيعة، وثنائية الجواهر المتناهية، وبحدثة موجزة، إننا نفهم كيف من الممكن أن استنبط الأرضية الموضوعية للميتافيزيقا وللعلوم الموضوعية، كما استنبط هذه العلوم نفسها. وكل هذه الاستدلالات تتم باتباع المبادئ المحايثة للأنا، التي هي مبادئ فطرية فيه.

  1. ضرورة إنجاز بداية جديدة وجذرية في الفلسفة:

إن جميع ما ذكرناه هومن عمل ديكارت. بيد أننا نتساءل: هل يستحق الأمر حتى نتعب أنفسنا في سبيل الكشف عن معنى خالد يكمن خلف هذه الأفكار،يا ترى؟ وهل تزال لهذه الأفكار قدرة على دفق قوى جديدة وحية في زماننا هذا؟

إنها بالتأكيد واقعة تدفع نحوالتفكير: فالعلوم الوضعية لم تعر "التأملات" كثير اهتمام، مع حتى هذه التأملات كانت تهدف إلى حتى تقدم لها الأساس العقلي المطلق. سليم إذا هذه العلوم أخذت تشعر اليوم في سياق تطورها بالغموض الذي يلف أسسها ذاتها، بعد التطور الرائع الذي شهدته خلال القرون الثلاثة السابقة. لكنها رغم ذلك لم تحاول الرجوع إلى "تأملات ديكارت" حتى في الإطار الذي تحاول فيه تجديد أسسها. وإن الذي يسترعي الانتباه، من جهة أخرى، هوحتى تصبح "التأملات" معاصرة في حفل الفلسفة الآن، وأنقد يكون هذا بمنحى خاص جدا، وهذا راجع بالضبط إلى ما تحمله هذه "التأملات" من عود إلى "الأنا أفكر" الخالص. فديكارت يفتتح بتأملاته نمطا جديدا في التفلسف، إذ بمجيئه غيرت الفلسفة وجهتها تغييرا كليا، وانتقلت بنقلة جذرية، من الموضوعية الساذجة إلى الذاتية المتعالية، تلك الذاتية التي يظهر أنها في سير حثيث نحوالتشكل في صورة نهائية، على الرغم من كون المحاولات المتجددة باستمرار، والتي كانت تسعى إلى تحقيق هذا الهدف، كانت دائما ناسيرة. لكنني أتساءل هنا: أيمكن حتىقد يكون هذا السعي الدائم خلوا من معنى خالد،يا ترى؟ ألا يحملنا التاريخ هذه المهمة النبيلة فنكون من ثم مدعوين نحن جميعا إلى المشاركة في إنجازها؟

إن حالة الانقسام التي توجد عليها الفلسفة حاليا، والنشاط المضطرب الذي تبذله، يدعونا إلى التفكير فانطلاقا من منظور الوحدة الفهمية لا تزال الفلسفة الغربية، منذ منتصف القرن الأخير، في حالة من الانحطاط البين، بالمقارنة مع العهود السابقة. إذ اختفت الوحدة تماما، سواء في رسم الهدف أوفي وضع الإشكاليات أوتحديد المنهج. ولقد تحول الإيمان الديني عند بداية العهد الحديث إلى مجرد تعاقد خارجي، ثم ما لبث حتى أمسك إيمان حديث بالإنسانية العاقلة وأخذ يرقيها: إنه الإيمان بفلسفة وفهم مستقلين. ومنذ ذلك الحين أصبح من اللازم حتى توجه الثقافة الإنسانية بأكملها، وتضاء برؤى فهمية، ومن ثم تصلح وتطور إلى ثقافة جديدة ومستقلة.

إلا حتى هذا الإيمان الجديد ما لبث حتى أصابه الفقر خلال الزمن، فكف بالتالي عن حتىقد يكون إيماناً حقيقياً.ولم تكن هذه النتيجة بلا سبب، إذ ماذا نملك بالعمل؟إنه بدل فلسفة واحدة وحية، نملك ركاماً من التآليف الفلسفية، الذي يتنامى إلى ما لا نهاية، ولكنه مفتقر إلى الرابط الداخلي.وبدل الصراع الجاد بين النظريات المتضاربة التي تدل حتى في خصامها دلالة كافية على تضامنها الداخلي، وعلى الاشتراك في الأسس، وإيمان أصحابها الذي لا يتزعزع بفلسفة حقيقية، لدينا أشباه عروض وانتقادات، ولدينا فقط ما يشبه التعاون الحقيقي، والتعاضد في العمل الفلسفي.أما الجهود المتبادلة، والإحساس بالمسؤوليات، وروح التعاون الجاد، الذي يستهدف تحقيق نتائج ذات قيمة موضوعية، أي نتائج طهرها النقد المتبادل، وقادرة على الصمود أمام جميع نقد لاحق، فليس ثمة أي شيء من هذا له وجود الآن. إذن كيف من الممكن أنقد يكون بالإمكان وجود درس وتعاون حقيقيين؟أليس هناك عدد من الفلسفات يساوي تقريبا عدد الفلاسفة ؟وبالتأكيد هناك أيضا مؤتمرات فلسفية، ولكن ليست الفلسفات هي التي تلتقي فيها، بل الذي يلتقي فيها هم الفلاسفة فقط، فالذي ينقص هده الفلسفات هو"مكان" روحي مشهجر، حيث يمكنها حتى تتلامس ويخصب بعضها بعضا.سليم إذا الوحدة من الممكن تكون محفوظة على نحوأفضل داخل بعض"المدارس"أو"الاتجاهات" ولكن هذه الانقسامية إلى مدارس هي ذاتها التي تسمح لنا بالتشبث بتقويمنا للحالة العامة التي توجد عليها الفلسفة، أوعلى الأقل التشبث بالنقاط الأساسية لهذا التقويم.

أليس هذا الواقع المشؤوم يشبه إلى حد بالغ، الواقع الذي صادفه ديكارت في شبابه؟أليس هذا أوان إحياء نزعته الجذرية في الفلسفة؟ألا يجب علينا إخضاع الإنتاج الفلسفي المكثف، الذي يصدر في أيامنا هذه إلى القلب الديكارتي، هذا الإنتاج المضطرب الذي اختلطت فيه التنطقيد الكبيرة بالبدايات والمحاولات الجديدة، مع أبحاث أدبية دارجة، لا تجهد نفسها لكي تعطي، بل تكتفي بإحداث أثر فقط.ألا نحتاج إذاً إلى "تأملات في الفلسفة الأولى" جديدة،يا ترى؟ أليست هذه الفوضى التي تطبع الواقع الراهن راجعة إلى حتى دفعات "التأملات" فقد فقدت ما فيها من حيوية أولى، بسبب اختفاء روح المسؤولية الفلسفية الجذرية ؟ما هوالمعنى الأساسي لكل فلسفة حقة ؟أليس هوالسعي إلى تخليص الفلسفة من جميع حكم مسبق ممكن، لنجعل منها فهما مستقلا بالعمل، فهماً يتحقق بالبداهات النهائية المستمدة من الذات نفسها، والتي يجد فيها الفهم تبريره المطلق؟أليست هذه الضرورة التي لا يعتقد أحد في كونها مبالغة، تنتمي إلى ماهية جميع فلسفة حقة؟

لقد أدى الحنين إلى فلسفة حية، في أيامنا هذه إلى نهضات عديدة.إلا أننا نتساءل:أليست النهضة الفلسفية الوحيدة المثمرة حقا هي بطبيعة الحال تلك التي تقوم على بعث "تأملات ديكارتية" جديدة، ليست من أجل تبني هذه التأملات في جميع أجزائها، ولكن من أجل الكشف عن المعنى العميق للعود الجذري إلى "الأنا أفكر" الخالص؟لكن تحيى من بعد القيم الخالدة التي تصدر عنه؟إن هذا هوعلى الأقل، الطريق الذي قادنا إلى الفينومينولوجيا المتعالية.

وسوف نجتاز هذا الطريق معاً، وسنبحث كفلاسفة عن نقطة انطلاق، ونحن لا نملكها بعد، فلنحاول حتى نتأمل على الطريقة الديكارتية، ومن البدهي أنه يجب علينا التحلي بيقظة نقدية كبيرة وأن نكون على استعداد دائم لتغيير الفلسفة الديكارتية القديمة، حيثما تدعون الضرورة إلى ذلك.

اقرأ أيضاً

  • عقلانية (فهم نفس)

مراجع

  1. ^ "معلومات عن ديكارتية على مسقط universalis.fr". universalis.fr. مؤرشف من الأصل في 24 يوليو2019.
  2. ^ "معلومات عن ديكارتية على مسقط britannica.com". britannica.com. مؤرشف من الأصل في أربعة سبتمبر 2019.
  3. ^ "معلومات عن ديكارتية على مسقط jstor.org". jstor.org. مؤرشف من الأصل في 25 مايو2019.
تاريخ النشر: 2020-06-01 20:14:31
التصنيفات: العصر الذهبي الهولندي, تأسيسية, تاريخ الفلسفة, رينيه ديكارت, عقلانية, مثنوية, مدارس فلسفية, نظرية نظرية العلم, ديكارتية, بوابة فلسفة/مقالات متعلقة, جميع المقالات التي تستخدم شريط بوابات

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

«مساندة الطفل» لـ«عكاظ»: نسبة انخفاض العنف في رمضان - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-02 12:24:19
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 69%

إصابة ثلاثة قاصرين بإطلاق النار بمدرسة في فنلندا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-02 12:25:10
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 65%

كومباني: "التحكيم في الدوري الإنجليزي دون المستوى"

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2024-04-02 15:06:26
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 57%

3 أسباب لاختلاف مبلغ معاش الضمان الاجتماعي من شهر لآخر السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-04-02 12:24:27
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 62%

مزراوي يغيب عن تداريب بايرن ميونخ قبل مواجهة هايدنهايم بداعي المرض

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2024-04-02 15:06:23
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 61%

تعيين عبد الحكيم أمين مديرا عاما منتدبا لـ”إفريقيا غاز”

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-02 12:24:24
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 62%

ملك الأردن يتقدم بالتعازي لمنظمة "وورلد سنترال كيتشن"

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-02 12:23:06
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 52%

أمطار خفيفة على الشرقية ومتوسطة إلى غزيرة في بقية المناطق السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-04-02 12:24:28
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 64%

الاتحاد الأوروبي يدين الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف موظفي إغ

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-02 12:22:51
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 69%

إصابة ثلاثة قاصرين بإطلاق النار بمدرسة في فنلندا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-02 12:25:15
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 57%

إصابات في إطلاق نار بمدرسة في فنلندا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-02 12:23:01
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 70%

السعوديات يتجاوزن مليون موظفة في «التأمينات» - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-02 12:24:18
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 68%

إسبانيا تطالب حكومة الاحتلال بتوضيح ملابسات مقتل عمال الإغاث

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-02 12:22:56
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 63%

تحميل تطبيق المنصة العربية