الجزء الأول

عودة للموسوعة

الجزء الأول

موسى عليه السلام الجزء الأول



أثناء حياة يوسف علي السلام بمصر، تحولت مصر إلى التوحيد. توحيد الله سبحانه، وهي الرسالة التي كان يحملها جميع الرسل إلى أقواهم. لكن بعد وفاته، عاد أهل مصر إلى ضلالهم وشركهم. أما أبناء يعقوب، أوأبناء إسرائيل، فقد اختلطوا بالمجتمع المصري، فضلّ منهم من ضل، وبقي على التوحيد من بقي. وتكاثر أبناء إسرائيل وتزايد عددهم، واشتغلوا في الكثير من الحرف.

ثم حكم مصر ملك جبار كان المصريون يعبدونه. ورأى هذا الملك بني إسرائيل يتكاثرون ويزيدون ويملكون. وسمعهم يتحدثون عن نبوءة تقول إذا واحدا من أبناء إسرائيل سيسقط فرعون مصر عن عرشه. فأصدر الفرعون أمره ألا يلد أحد من بني إسرائيل، أي حتى يقتل أي وليد ذكر. وبدأ تطبيق النظام، ثم نطق مستشارون فرعون له، إذا الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، وهذا سينتهي إلى إفناء بني إسرائيل، فستضعف مصر لقلة الأيدي العاملة بها. والأفضل حتى تنظم العملية بأن يذبحون الذكور في عام ويهجرونهم في العام الذي يليه.

ووجد الفرعون حتى هذا الحل أسلم. وحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يقتل فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة. فلما اتى العام الذي يقتل فيه الغلمان ولد موسى. حمل ميلاده خوفا عظيما لأمه. خافت عليه من القتل. راحت ترضعه في السر. ثم اتىت عليها ليلة مباركة أوحى الله إليها فيها للأم بصنع صندوق صغير لموسى. ثم إرضاعه ووضعه في الصندوق. وإلقاءه في النهر.

كان قلب الأم، وهوأرحم القلوب في الدنيا، يمتلئ بالألم وهي ترمي ابنها في النيل، لكنها كانت تفهم حتى الله أرحم بموسى منها، والله هوربه ورب النيل. لم يكد الصندوق يلمس مياه النيل حتى أصدر الخالق أمره إلى الأمواج حتى تكون هادئة حانية وهي تحمل هذا الرضيع الذي سيكون نبيا فيما بعد، ومثلما أصدر الله تعالى أمره للنار حتى تكون بردا وسلاما على إبراهيم، كذلك أصدر أمره للنيل حتى يحمل موسى بهدوء ورفق حتى يسلمه إلى قصر فرعون. وحملت مياه النيل هذا الصندوق العزيز إلى قصر فرعون. وهناك أسلمه الموج للشاطئ.

رفض موسى للمراضع:

وفي ذلك الصباح خرجت زوجة فرعون تتسار في حديقة القصر. وكانت زوجة فرعون تختلف كثيرا عنه. فقد كان هوكافرا وكانت هي مؤمنة. كان هوقاسيا وكانت هي رحيمة. كان جبارا وكانت رقيقة وطيبة. وأيضا كانت حزينة، فلم تكن تلد. وكانت تتمنى حتىقد يكون عندها ولد.

وعندما مضىت الجواري ليملأن الجرار من النهر، وجدن الصندوق، فحملنه كما هوإلى زوجة فرعون. فأمرتهن حتى يفتحنه ففتحنه. فرأت موسى بداخله فأحست بحبه في قلبها. فلقد ألقى الله في قلبها محبته فحملته من الصندوق. فاستيقظ موسى وبدأ يبكي. كان جائعا يحتاج إلى رضعة الصباح فبكى.

فاتىت زوجة فرعون إليه، وهي تحمل بين بيدها طفلا رضيعا. فسأل من أين اتى هذا الرضيع،يا ترى؟ فحدثوه بأمر الصندوق. فنطق بقلب لا يعهد الرحمة: لابد أنه أحد أطفال بني إسرائيل. أليس المفروض حتى يقتل أطفال هذه السنة؟

فذكّرت آسيا -امرأة فرعون- زوجها بعدم قدرتهم على وطلبت منه حتى يسمح لها بتربيته. جاز لها بذلك.

عاد موسى للبكاء من الجوع. فأمرت بإحضار المراضع. فحضرت سقمعة من القصر وأخذت موسى لترضعه فرفض حتى يرضع منها. فحضرت سقمعة ثانية وثالثة وعاشرة وموسى يبكي ولا يريد حتى يرضع. فاحتارت زوجة فرعون ولم تكن تعهد ماذا تعمل.

لم تكن زوجة فرعون هي وحدها الحزينة الباكية بسبب حمل موسى لجميع المراضع. فلقد كانت أم موسى هي الأخرى حزينة باكية. لم تكد ترمي موسى في النيل حتى أحست أنها ترمي قلبها في النيل. غاب الصندوق في مياه النيل واختفت أخباره. واتى الصباح على أم موسى فإذا قلبها فارغ يذوب حزنا على ابنها، وكادت تمضى إلى قصر فرعون لتبلغهم نبأ ابنها وليكن ماقد يكون. لولا حتى الله تعالى ربط على قلبها وملأ بالسلام نفسها فهدأت واستكانت وهجرت أمر ابنها لله. جميع ما في الأمر أنها نطقت لأخته: امضىي بهدوء إلى المدينة وحاولي حتى تعهدي ماذا وقع لموسى.

ومضىت أخت موسى بهدوء ورفق إلى جوار قصر فرعون، فإذا بها تسمع السيرة الكاملة. رأت موسى من بعيد وسمعت بكاءه، ورأتهم حائرين لا يعهدون كيف من الممكن أن يرضعونه، سمعت أنه يرفض جميع المراضع. ونطقت أخت موسى لحرس فرعون: هل أدلكم على أهل بيت يرضعونه ويكفلونه ويهتمون بأمره ويخدمونه؟

ففرحت زوجة فرعون كثيرا لهذا الأمر، وطلبت منها حتى تحضر السقمعة. وعادت أخت موسى وأحضرت أمه. وأرضعته أمه فرضع. وتهللت زوجة فرعون ونطقت: "خذيه حتى تنتهي فترة رضاعته وأعيديه إلينا بعدها، وسنعطيك أجرا عظيما على تربيتك له". إلى غير ذلك رد الله تعالى موسى لأمه كي تقر عينها ويهدأ قلبها ولا تحزن ولتفهم حتى وعد الله حق وأن حدثاته سبحانه تنفذ رغم أي شيء. ورغم جميع شيء.

نشأة موسى في بيت فرعون:

أتمت أم موسى رضاعته وأسلمته لبيت فرعون. كان موضع حب الجميع. كان لا يراه أحد إلا أحبه. وها هوذا في أعظم قصور الدنيا يتربى بحفظ الله وعنايته. بدأت تربية موسى في بيت فرعون. وكان هذا البيت يضم أعظم المربين والمدرسين في ذلك الوقت. كانت مصر أيامها أعظم دولة في الأرض. وكان فرعون أقوى ملك في الأرض، ومن الطبيعي حتى يضم قصره أعظم المدربين والمثقفين والمربين في الأرض. إلى غير ذلك شاءت حكمة الله تعالى حتى يتربى موسى أعظم تربية وأن يتعهده أعظم المدرسين، وأن يتم هذا كله في بيت عدوه الذي سيصطدم به فيما بعد تطبيقا لمشيئة الخالق.

وكبر موسى في بيت فرعون. كان موسى يفهم أنه ليس ابنا لفرعون، إنما هوواحد من بني إسرائيل. وكان يرى كيف من الممكن أن يضطهد رجال فرعون وأتباعه بني إسرائيل.. وكبر موسى وبلغ أشده.. (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا) وراح يتسار فيها. فوجد رجلا من اتباع فرعون وهويقتتل مع رجل من بني إسرائيل، واستغاث به الرجل الضعيف فتدخل موسى وأزاح بيده الرجل الظالم فقتله. كان موسى قويا جدا، ولم يكن يقصد اغتال الظالم، إنما أراد إزاحته فقط، لكن ضربته هذه قتلته. ففوجئ موسى به وقد توفي ونطق لنفسه: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ). ونادى موسى ربه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي). وغفر الله تعالى له، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

أصبح موسى (فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ). كان هذا حال موسى، حال إنسان مطارد، فهوخائف، يتسقط الشر في جميع خطوة، وهومترقب، يلتفت لأوهى الحركات وأخفاها.

ووعد موسى بأن لاقد يكون ظهيرا للمجرمين. لن يتدخل في المشاجرات بين المجرمين والمشاغبين ليدافع عن أحد من قومه. وفوجئ موسى أثناء سيره بنفس الرجل الذي أنقذه بالأمس وهويناديه ويستصرخه اليوم. كان الرجل مشتبكا في عراك مع أحد المصريين. وأدرك موسى بأن هذا الإسرائيلي مشاغب. استوعب أنه من هواة المشاجرات. وصرخ موسى في الإسرائيلي يعنفه قائلا: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ). نطق موسى حدثته واندفع نحوهما يريد البطش بالمصري. واعتقد الإسرائيلي حتى موسى سيبطش به هو. دفعه الخوف من موسى إلى استرحامه صارخا، وذكّره بالمصري الذي قتله بالأمس. فتوقف موسى، سكت عنه الغضب وتذكر ما عمله بالأمس، وكيف استغفر وتاب ووعد ألاقد يكون نصيرا للمجرمين. استدار موسى عائدا ومضى وهويستغفر ربه.

وأدرك المصري الذي كان يتشاجر مع الإسرائيلي حتى موسى هوقاتل المصري الذي عثروا على جثته أمس. ولم يكن أحد من المصررين يفهم من القاتل. فنشر هذا المصري الخبر في أراتى المدينة. وانكشف سر موسى وظهر أمره. واتى رجل مصري مؤمن من أقصى المدينة مسرعا. ونصح موسى بالخروج من مصر، لأن المصريين ينوون قلته.

لم يذكر القرآن الكريم اسم الرجل الذي اتى يحذر موسى. ونرجح أنه كان رجلا مصريا من ذوي الأهمية، فقد اطلع على مؤامرة تحاك لموسى من مستويات عليا، ولوكان شخصية عادية لما عهد. يعهد الرجل حتى موسى لم يكن يستحق القتل على ذنبه بالأمس.. لقد اغتال الرجل خطأ. فيجب حتى تكون عقوبته السجن على أقصى تقدير.

لكن رؤساء القوم وعليتهم، الذين يبدوا أنهم كانوا يكرهون موسى لأنه من بني إسرائيل، ولأنه نجى من العام الذي يقتل فيه جميع مولود ذكر، وجدوا هذه الفرصة مناسبة للتخلص من موسى، فهوقاتل المصري، لذا فهويستحق القتل.

خرج موسى من مصر على الفور. خائفا يتلفت ويتسمع ويترقب. في قلبه نادىء لله (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وكان القوم ظالمين حقا. ألا يريدون تطبيق عقوبة القتل العمد عليه، وهولم يعمل شيئا أكثر من أنه أعطى يده وأزاح رجلا فقتله خطأ؟

خرج موسى من مصر على عجل. لم يمضى إلى قصر فرعون ولم يغير ملابسه ولم يأخذ طعاما للطريق ولم يعد للسفر عدته. لم يكن معه دابة تحمله على ظهرها وتوصله. ولم يكن في قافلة. إنما خرج بمجرد حتى اتىه الرجل المؤمن وحذره من فرعون ونصحه حتى يخرج. اختار طريقا غير مطروق وسلكه. ولج في الصحراء مباشرة واتجه إلى حيث قدرت له العناية الإلهية حتى يتجه. لم يكن موسى يسير قاصدا مكانا معينا. هذه أول مرة يخرج فيها ويعبر الصحراء وحده.

موسى في مدين:

ظل يسير بنفسية المطارد حتى وصل إلى مكان. كان هذا المكان هومدين. جلس يرتاح عند بئر عظيمة يسقي الناس منها دوابهم. وكان خائفا طوال الوقت حتى يرسل فرعون من وراءه من يقبض عليه.

لم يكد موسى يصل إلى مدين حتى ألقى بنفسه تحت شجرة واستراح. نال منه الجوع والتعب، وسقطت نعله بعد حتى ذابت من مشقة السير على الرمال والصخور والتراب. لم تكن معه نقود لشراء نعل جديدة. ولم تكن معه نقود لشراء طعام أوشراب. لاحظ موسى جماعة من الرعاة يسقون غنمهم، ووجد امرأتين تكفان غنمهما حتى يختلطا بغنم القوم، أحس موسى بما يشبه الإلهام حتى الفتاتين في حاجة إلى المساعدة. تقدم منهما وسأل هل يستطيع حتى يساعدهما في شيء.

نطقت إحداهما: نحن ننتظر حتى ينتهي الرعاة من سقي غنمهم لنسقي. سأل موسى: ولماذا لا تسقيان؟ نطقت الأخرى: لا نستطيع حتى نزاحم الرجال. اندهش موسى لأنهما ترعيان الغنم. المفروض حتى يرعى الرجال الأغنام. هذه مهمة شاقة ومتعبة وتحتاج إلى اليقظة. سأل موسى: لما ترعيان الغنم؟ فنطقت واحدة منهما: أبونا شيخ كبير لا تساعده صحته على الخروج جميع يوم للرعي. فنطق موسى: سأسقي لكما.

سار موسى نحوالماء. وسقى لهم الغنم مع بقية الرعاة. وفي رواية حتى أن الرعاة قد وضعوا على فم البئر بعد حتى انتهوا منها صخرة ضخمة لا يستطيع حتى يحركها غير عدد من الرجال. فحمل موسى الصخرة وحده. وسقى لهما الغنم وأعاد الصخرة إلى مكانها، وهجرهما وعاد يجلس تحت ظل الشجرة. وتذكر لحظتها الله وناداه في قلبه: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).

عادت الفتاتان إلى أبيهما الشيخ.

سأل الأب: عدتما اليوم سريعا على غير العادة؟! نطقت إحداهما: تقابلنا مع رجل كريم سقى لنا الغنم. فنطق الأب لابنته: امضىي إليه وقولي له: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) ليعطيك (أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).

مضىت واحدة من الفتاتين إلى موسى، ووقفت أمامه وأبلغته رسالة أبيها. فنهض موسى وبصره في الأرض. إنه لم يسق لهما الغنم ليأخذ منهن أجرا، وإنما ساعدهما لوجه الله، غير أنه أحس في داخله حتى الله هوالذي يوجه قدميه فنهض. سارت البنت أمامه. هبت الرياح فضربت ثوبها فخفض موسى بصره حياء ونطق لها: سأسير أنا أمامك ونبهيني أنت إلى الطريق.

وصلا إلى الشيخ. نطق بعض المفسرين إذا هذا الشيخ هوالنبي شعيب. عمر طويلا بعد موت قومه. وقيل إنه ابن أخي شعيب. وقيل ابن عمه، وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب الذين آمنوا به. لا نعهد أكثر من كونه شيخا صالحا.

قدم له الشيخ الطعام وسأله: من أين قدم وإلى أين سيمضى،يا ترى؟ حدثه موسى عن قصته. نطق الشيخ: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). هذه البلاد لا تتبع مصر، ولن يصلوا إليك هنا. اطمأن موسى ونهض لينصرف.

نطقت ابنة الشيخ لأبيها همسا: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ). سألها الأب: كيف من الممكن أن عهدت أنه قوي؟ نطقت: حمل وحده صخرة لا يحملها غير عدد رجال. سألها: وكيف عهدت أنه أمين؟ نطقت: رفض حتى يسير خلفي وسار أمامي حتى لا ينظر إلي وأنا أمشي. وطوال الوقت الذي كنت أحدثه فيه كان يضع عينيه في الأرض حياء وأدبا.

وعاد الشيخ لموسى ونطق له: أريد يا موسى حتى أزوجك إحدى ابنتي على حتى تعمل في رعي الغنم عندي ثماني سنوات، فإن أتممت عشر سنوات، فمن كرمك، لا أريد حتى أتعبك، (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). نطق موسى: هذا اتفاق بيني وبينك. والله شاهد على اتفاقنا. سواء قضيت السنوات الثمانية، أوالعشر سنوات فأنا حر بعدها في الذهاب.

يخوض الكثيرون في تيه من الأقاصيص والروايات، حول أي ابنتي الشيخ تزوج، وأي المدتين قضى. والثابت حتى موسى تزوج إحدى ابنتي الشيخ. لا نعهد من كانت، ولا ماذا كان اسمها. وهذه الأمور سكت عنها السياق القرآني. إلا أنه استنادا إلى طبيعة موسى وكرمه ونبوته وكونه من أولي العزم. نرى أنه قضى الأجل الأكبر. وهذا ما يؤكده حديث ابن عباس رضي الله عنهما. إلى غير ذلك عاش موسى يخدم الشيخ عشر سنوات كاملة.

موسى ورعي الغنم:

وكان عمل موسى ينحصر في الخروج مع الفجر جميع يوم لرعي الأغنام والسقاية لها.

ولنقف هنا وقفة تدبر. إذا قدرة الإلهية نقلت خطى موسى -عليه السلام- خطوة بخطوة. منذ حتى كان رضيعا في المهد حتى هذه اللحظة. ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون. وألقت عليه محبة زوجة فرعون لينشأ في كنف عدوّه. ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل نفسا. وأوفدت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج من مصر. وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهووحيد مطارد من غير زاد ولا استعداد. وجمعته بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر. ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف.

هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه، قبل النداء والتكليف. تجربة الرعاية والحب والتدليل. تجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس، وتجربة الندم والاستغفار. وتجربة الخوف والمطاردة. وتجربة الغربة والوحدة والجوع. وتجربة الخدمة ورغي الغنم بعد حياة القصور. وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من تجارب صغيرة، ومشاعر وخواطر، وإدراك وفهم. إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من الفهم والحكمة.

إن الرسالة تكليف ضخم شاق، يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والفهم، إلى جانب وحي الله وتوجيهه. ورسالة موسى تكليف عظيم، فهومرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أعتى ملوك الأرض في زمانه، وأشدهم استعلاء في الأرض. وهومرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه. فاستنقاذ قوم كهؤلاء عمل شاق عسير.

فتجربة السنوات العشر اتىت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى -عليه السلام- وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة. فلحياة القصور جوا وتنطقيد خاصة. أما الرسالة فهي معاناة لجماهير من الناس فيهم الغني والفقير، المهذب والخشن، القوي والضعيف، وفيهم وفيهم. وللرسالة تكاليفها من المشقة ومن التجرد أحيانا، وقلوب أهل القصور في الغالب لا تصبر طويلا على الخشونة والحرمان والمشقة.

فلما استكملت نفس موسى -عليه السلام- تجاربها، وأكملت مرانها، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغرة. قادت القدرة الإلهية خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه، ومقر أهله وقومه، ومجال عمله. إلى غير ذلك نرى كيف من الممكن أن صُنِعَ موسى على عين الله، وكيف تم إعداده لتلقي التكليف.

عودة موسى لمصر:

ترى أي خاطر راود موسى، فعاد به إلى مصر، بعد انقضاء الأجل، وقد خرج منها خائفا يترقب،يا ترى؟ وأنساه الخطر الذي ينتظره بها، وقد اغتال فيها نفسا،يا ترى؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع الملأ من قومه ليقتلوه؟

إنها قدرة الله التي تنقل خطاه كلها. لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة والوطن. وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا. ليؤدي المهمة التي خلق لها.

خرج موسى مع أهله وسار. اختفى القمر وراء أسراب من السحاب الكثيف وساد الظلام. اشتد البرق والرعد وأمطرت السماء وزادت حدة البرد والظلام. وتاه موسى أثناء سيره. ووقف موسى حائرا يرتعش من البرد وسط أهله.. ثم حمل رأسه فشاهد نارا عظيمة تشتعل عن بعد. امتلأ قلبه بالفرح فجأة. نطق لأهله: أني رأيت نارا هناك.

أمرهم حتى يجلسوا مكانهم حتى يمضى إلى النار لعله يأتيهم منها بخبر، أويجد أحدا يسأله عن الطريق فيهتدي إليه، أويحضر إليهم بعض أخشابها المشتعلة لتدفئتهم.

وتحرك موسى نحوالنار. سار موسى مسرعا ليدفئ نفسه. يده اليمنى تمسك عصاه. جسده مبلل من المطر. ظل يسير حتى وصل إلى واد يسمونه طوى. لاحظ شيئا غريبا في هذا الوادي. لم يكن هناك برد ولا رياح. ثمة صمت عظيم ساكن. واقترب موسى من النار. لم يكد يقترب منها حتى نودي: (أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

نظر موسى في النار فوجد شجرة خضراء. حدثا زاد تأجج النار زادت خضرة الشجرة. والمفروض حتى تتحول الشجرة إلى اللون الأسود وهي تحترق. لكن النار تزيد واللون الأخضر يزيد. كانت الشجرة في جبل غربي عن يمينه، وكان الوادي الذي يقف فيه هووادي طوى.

ثم ارتجت الأرض بالخشوع والرهبة والله عز وجل ينادي: يَا مُوسَى

فأجاب موسى: نعم.

نطق الله عز وجل: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ

ازداد ارتعاش موسى ونطق: نعم يا رب.

نطق الله عز وجل: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى

انحنى موسى راكعا وجسده كله ينتفض وخلع نعليه.

عاد الحق سبحانه وتعالى يقول: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) (طه)

زاد انتفاض جسد موسى وهويتلقى الوحي الإلهي ويستمع إلى ربه وهويخاطبه.

نطق الرحمن الرحيم: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى

ازدادت دهشة موسى. إذا الله سبحانه وتعالى هوالذي يخاطبه، والله يعهد أكثر منه أنه يمسك عصاه. لما يسأله الله إذن إذا كان يعهد أكثر منه؟! لا ريب حتى هناك حكمة عليا لذلك.

أجاب موسى: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى

نطق الله عز وجل: أَلْقِهَا يَا مُوسَى

رمى موسى العصا من يده وقد زادت دهشته. وفوجئ بأن العصا تتحول فجأة إلى ثعبان عظيم الحجم هائل الجسم. وراح الثعبان يتحرك بسرعة. ولم يستطع موسى حتى يقاوم خوفه. أحس حتى بدنه يتزلزل من الخوف. فاستدار موسى فزعا وبدأ يجري. لم يكد يجري خطوتين حتى ناداه الله: يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ.

عاد موسى يستدير ويقف. لم تزل العصا تتحرك. لم تزل الحية تتحرك.

نطق الله سبحانه وتعالى لموسى: خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى

مد موسى يده للحية وهويرتعش. لم يكد يلمسها حتى تحولت في يده إلى عصا. عاد الأمر الإلهي يصدر له: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ

وضع موسى يده في جيبه وأخرجها فإذا هي تتلألأ كالقمر. زاد انفعال موسى بما يحدث، وضع يده على قلبه كما أمره الله فمضى خوفه تماما..

اطمأن موسى وسكت. وأصدر الله إليه أمرا بعد هاتين المعجزتين -معجزة العصا ومعجزة اليد- حتى يمضى إلى فرعون ليدعوه إلى الله برفق ولين، ويأمره حتى يخرج بني إسرائيل من مصر. وأبدى موسى خوفه من فرعون. نطق إنه اغتال منهم نفسا ويخاف حتى يقتلوه. توسل إلى الله حتى يرسل معه أخاه هارون. طمأن الله موسى أنه سيكون معهما يسمع ويرى، وأن فرعون رغم قسوته وتجبره لن يمسهما بسوء. أفهم الله موسى أنه هوالغالب. ونادى موسى وابتهل إلى الله حتى يشرح له صدره وييسر أمره ويمنحه القدرة على الدعوة إليه. ثم قفل موسى راجعا لأهله بعد اصطفاء الله واختياره رسولا إلى فرعون. انحدر موسى بأهله قاصدا مصر.

يفهم الله وحده أي أفكار عبرت ذهن موسى وهويحث خطاه قاصدا مصر. انتهى زمان التأمل، وانطوت أيام الراحة، واتىت الأوقات الصعبة أخيرا، وها هوذا موسى يحمل أمانة الحق ويمضي ليقابل بها بطش أعظم جبابرة عصره وأعتاهم. يفهم موسى حتى فرعون مصر طاغية. يفهم أنه لن يسلمه بني إسرائيل بغير صراع. يفهم أنه سيقف من دعوته موقف الإنكار والكبرياء والتجاهل. لقد أمره الله تعالى حتى يمضى إلى فرعون. حتى يدعوه بلين ورفق إلى الله. أوحى الله لموسى حتى فرعون لن يؤمن. ليدعه موسى وشأنه. وليركز على إطلاق سراح بني إسرائيل والكف عن تعذيبهم. نطق تعالى لموسى وهارون : (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ). هذه هي المهمة المحددة. وهي مهمة يفترض أن تصطدم بآلاف العقبات. إذا فرعون يعذب بني إسرائيل ويستعبدهم ويكلفهم من الأعمال ما لا طاقة لهم به، ويستحيي نسائهم، ويذبح أبنائهم، ويتصرف فيهم كما لوكانوا ملكا خاصا ورثه مع ملك مصر. يفهم موسى حتى النظام المصري يقوم في بنيانه الأساسي على استعباد بني إسرائيل واستغلال عملهم وجهدهم وطاقاتهم في الدولة، فهل يفرط الفرعون في بناء الدولة الأساسي ببساطة ويسر،يا ترى؟ مضىت الأفكار واتىت، فاختصرت مشقة الطريق. وحمل الستار عن مشهد اللقاءة.



الأجزاء : < الجزء الأول | الجزء الثانى | الجزء الثالث | الجزء الرابع >



قصص الأنبياء | موسى عليه السلام

تاريخ النشر: 2020-06-04 05:11:16
التصنيفات:

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

توطين إنتاج أصناف الموز المناسبة للزراعة في السعودية السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-04-02 21:24:23
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 58%

نقل الفنان محروس الهاجري لمستشفى الحرس الوطني - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-02 21:24:13
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 69%

تسجيل وتوثيق 70 موقعا أثريا جديدا في السجل الوطني للآثار السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-04-02 21:24:20
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 64%

الجوازات تدشن البوابات الإلكترونية بمطار الملك خالد الدولي السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-04-02 21:24:22
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 52%

مركب تكرير السكر ببمورداس سيكون جاهزا قبل نهاية 2024

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-02 21:24:14
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 60%

تحميل تطبيق المنصة العربية