حصن الأحزان
ركب السلطان صلاح الدين الأيوبي إلى الحصن الذي كانت الفرنج قد بنوه في عام 574 هـ بالقرب من صفد، وحفروا فيه بئرا وجعلوه لهم عينا، وسلموه إلى الدواية، فقصده السلطان فحاصره ونقبه من جميع جهاته، وألقى فيه النيران وخربه إلى الأساس، وغنم جميع ما فيه، فكان فيه مائة ألف بترة من السلاح ومن المأكل شيء كثير، وأخذ منه سبعمائة أسير فقتل بعضا وأوفد إلى دمشق الباقي، ثم عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا، غير أنه توفي من أمرائه عشرة بسبب ما نالهم من الحر والوباء في مدة الحصار، وكانت أربعة عشر يوما، ثم إذا الناس زاروا مشهد يعقوب على عادتهم، وقد امتدحه الشعراء فنطق بعضهم:
بحمدك أعطاف القنا قد تعطفت ** وطرف الأعادي دون مجدك يطرف
شهاب هدى في ظلمة الليل ثاقب ** وسيف إذا ما هزه الله مرهف
وقفت على حصن المحاض وإنه ** لموقف حق لا يوازيه موقف
فلم يبد وجه الأرض بل حال دونه ** رجال كآساد الثرى وهي ترجف
وجرد سلهوب ودرع مضاعف ** وأبيضٌ هندي ولدنٌ مهفهف
وما رجعت أعلامك البيض ساعة ** إلا غدت أكبادها السود ترجف
كنائس أغياد صليب وبيعة ** وشاد به دين حنيف ومصحف
صليب وعباد الصليب ومنزل ** لنوالٍ قد غادرته وهوصفصف
أتسكن أوطان النبيين عصبة ** تمين لدى أيمانها وهي تحلف
نصحتكم والنصح في الدين واجب ** ذروا بيت يعقوب فقد اتى يوسف
ونطق آخر:
هلاك الفرنج أتى عاجلا ** وقد آن تكسير صلبانها
ولولم يكن قد دنا حتفها ** لما عمّرت بيت أحزانها
من كتاب خطه القاضي الفاضل إلى بغداد في خراب هذا الحصن
وقد قيس عرض حائطه فزاد على عشرة أذرع وبترت له عظام الحجارة جميع فص منها سبعة أذرع، إلى ما فوقها وما دونها، وعدتها تزيد على عشرين ألف حجر، لا يستقر الحجر في بنيانه إلا بأربعة دنانير فما فوقها، وفيما بين الحائطين حشومن الحجارة الضخمة الصم، أتوا بها من رؤوس الجبال الشم، وقد جعلت شعبيته بالكلس الذي إذا أحاطت بالحجر مازجه بمثل جسمه، ولا يستطيع الحديد حتى يتعرض إلى هدمه.
وفيها: أبتر صلاح الدين ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بعلبك.
وأغار فيها على صفت وأعمالها، فقتل طائفة كبيرة من مقاتليها، وكان فروخ شاه من الصناديد الأبطال. وفيها: حج القاضي الفاضل من دمشق وعاد إلى مصر فقاسى في الطريق أهوالا، ولقي ترحا وتعبا وكلالا، وكان في العام الماضي قد حج من مصر وعاد إلى الشام، وكان ذلك العام في حقه أسهل من هذا العام.
وفيها: كانت زلزلة عظيمة انهدم بسببها قلاع وقرى، ومات خلق كثير فيها من الورى، وسقط من رؤوس الجبال صخور كبار، وصادمت بين الجبال في البراري والقفار، مع بعد ما بين الجبال من الأقطار.
وفيها: أصاب الناس غلاء شديد وفناء شريد وجهد جهيد، فمات خلق كثير بهذا وهذا.
المصادر
- ابن كثير: البداية والنهاية.