القطيعة وإستعادة الوعي والحرية (مقال)

عودة للموسوعة

القطيعة وإستعادة الوعي والحرية (منطق)

القطيعة واستعادة الوعي والحرية

للمحرر أحمد الشيخ مستشار رئيس مجلس إدارةقناة الجزيرة الفضائية


أحمد الشيخ

 

يقول ذلك المواطن التونسي, الذي غزا ما يعهد بشيب البحر المتوسط شعره "لقد هرمنا نحن أيها الشباب أما أنتم عمليكم نعول وبكم نشد الرحال". 

أشاهده جميع يوم على شاشة الجزيرة وهويذكرني بإخفاق أجيالنا, وأنا ابن الحادية والستين, في التصدي للفشل وانتزاع الحرية المستلبة تحت حراب الملك العضوض وإن اختلفت الأسماء والمسميات.

يوما من العام 1962, وقد ظهر الترانزستور ابتاع والدي لنا مذياعا, فانفتح بيتنا على الدنيا وعلى "الإعلام العالمي" في حدوده آنذاك ووفق مقتضيات العصر.

كانت هيئة الإذاعة البريطانية وكانت إذاعة القاهرة وصوت العرب , وكنت أقف على شرفة منزلنا وأستمع إلى خطابات جمال عبد الناصر المسجلة عبر صوت العرب, وإلى جميع ما يغازل حلم صبي يقبل على الشباب ولم يلج أبوابه بعد.

وكان جارنا وقريبنا أبوعبد الله حريصا على جاره وقريبه, فاتى يوما إلى والدي وحذره من مغبة حمل صوت المذياع على إذاعة صوت العرب, فآذان النظام مفتوحة وعملاؤه يترصدون, حتى في مثل قريتنا, التي لم تعهد آنذاك الكهرباء ولا الإسفلت ولم تخرج في مظاهرة قط.

نصحني أبي بالتعقل, وإن كان هوالذي جلب علينا نعمة الراديو، أونقمته إذا تحققت مخاوف أبي عبد الله. هوالذي ابتاع الراديوليستمع لخطابات "جمال" كما كان يناديه, ولإذاعة دهاقنة لندن العارفين بكل الخبايا، كما كان يؤمن.

كان العالم العربي قبل حتى يدخل الراديوبيتنا, وبعد حتى دخله يموج بالمظاهرات المنددة بالاستعمار, والمطالبة بالانعتاق من براثنه, وبقيام الدولة القطرية المستقلة. يساريون وإسلاميون وقوميون عرب وفهمانيون وشيوعيون وغيرهم جميع يغني على ليلاه, ولا يجمعون على لحن وطني يجمعهم, وكان كثير منهم يرى في طرف خارجي نصرة له.

حتى إذا مظاهرة خرجت يوما في منطقة عشيرج الفقيرة بجنوب العراق, فهتف المتظاهرون المعدمون قائلين "تقدم مهداوي تقدم، عشيرج بترة من السوفييت". والمهداوي لمن لا يفهم شيوعي عراقي بارز اغتال بعد انقلاب البعثيين في بغداد.

لقد ترعرعنا على شعارات وأغاني تلك الحقبة, ننشد وحدة عربية وتحررا من الاستعمار, ونغني للثورة الجزائرية ولفلسطين, ونهتف للجمهورية الجديدة في اليمن, ونندد بالرجعية والرجعيين وعملاء الاستعمار والإمبريالية.

ما كان أكثر شعاراتنا آنذاك وما أجملها! لكن الأجيال التي حملتها ما صمدت يوما في مظاهرة في ساحة عامة في عاصمة عربية, بل سرعان ما كانت تجر ذيول الهرب أمام عصا القمع الغليظة, ويختفي القائمون عليها في زنازين النظام سنين عددا, فخفنا وهرمنا جميعا ولم نحقق ما نشدنا.

نعم, لقد خفنا نحن الأجيال التي تجاوزت منتصف العقد الرابع, فنكصنا على أعقابنا. فمنا من ارتد وأصبح جزءا من النظام القمعي الذي تظاهر وهتف ضده, ومنا من استسلم للسلبية, يريد السلامة غنيمة عند الإياب ويكتفي بوظيفة وزوجة وأبناء وبيت وسيارة وإجازة صيف, ومنا من هاجر وذاب في بلدان الاستعمار التي كان يطالب بالتحرر منها. ومنا من ظل في مجاهل النسيان في ريف معدم, أوعشوائية صفيح على أطراف مدينة ظالمة, أوفي مخيم ينغل بالبؤس والشقاء. وقلة منا من ثبتوا فاستشهدوا أوقضوا وراء القضبان.

أشاهد ذلك التونسي الهرم جميع يوم, فيذكرني بنفسي وبأقراني, فأتحسس كما يعمل رأسي وألوي على ذاتي ندما, إذ كنت ممن وهنوا فخافوا وانتظروا أبناءهم أوأحفادهم, ليعيدوا إلى نفوسهم وميض جسارة ما اعتادت عليه, فتراها تغالبه بالحمية والقلق والخشية على الأولاد والأحفاد والوظيفة.

وأشاهد شابا في ميدان التحرير يقول "لا تخافوا تعالوا فوالله لن يستطيعوا حتى يقفوا أمامكم". وأتمنى لوأني أستطيع الرجوع بالأيام القهقرى, لعلي استوعب علة الجسارة التي تعمر كيان هذا الشاب, ولكن هيهات! هؤلاء شباب ما عاصروا الاستعمار, ولا مخاض قيام الكيانات القطرية العربية وولادتها من رحم الاستعمار. عاشوا جميع أعمارهم فما عهدوا إلا حاكما واحدا في معظم الأحيان آمرا ناهيا, يختزل في ذاته المتضخمة الوطن بأرضه وناسه وبكل آماله وآلامه.

ويأتي هذا الشباب المتوثب الجسور ليدخل في تلك الذات المتضخمة إبرة إرادته, فتنفس مثل فقاعة هواء خاوية.

هم ما خافوا فأدركوا خواء الحكام! أما أجيالنا فقد كانت تنظر وهي خائفة, إلى هالات إما صنعها الاستعمار ووَطَّنها في هرم السلطة في فترة ما بعد الاستقلال المُتوهَّم في أحيان كثيرة, وإما اتىت إلى الحكم بعد انقلابات عسكرية سمت نفسها ثورات, وإما بعد ثورات حقيقية انتصرت, ولكن قادتها نكصوا على مبادئ الثورة وعلى أنفسهم, فأقاموا ديكتاتورية الثورة فوق هامات شعبها.

لكن هذه التي نعيش اليوم مع هتافاتها المدوية ثورات شعبية أصيلة انطلقت من دون أيديولوجية حزبية أوتعصبات قومية أودينية, وعليها تعلق الشعوب العربية آمالها في غد يضعها في مصاف دول العالم المتحررة والمتقدمة.

وبانتظار ذلك الغد الجميل الذي تترقبه الأمة, لا بد للثورة من "قطيعة" مع الماضي, وان كان لا يحق لأحد منا نحن أبناء أجيال الفشل حتى ننصح, ولكنها ليست نصيحة بل مجرد رأي. والقطيعة هنا ليست مع الأمة ودينها وقوميتها وتراثها, كما تفهمه الجماهير بكل بساطة باعتبار هذه الحدثات الثلاث عناصر مكونة للهوية.

نحتاج إلى قطيعة مع مفاهيم الملك العضوض التي سادت الساحة منذ ذلك "الانقلاب" على العصر الراشدي العظيم ولا تزال تتحكم بنا حتى اليوم. فقد أبدع فهماؤنا المسلمون في جميع مناحي الحياة بما خطوا وألفوا, إلا في مجال نظام الحكم وتداول السلطة, فلم يصدر عنهم ما يذكر.

وكيف وقد كان ذلك سيودي بكل من يخالف "المأمون" في قضية محنة خلق القرآن إلى السجن. لا بد من قطيعة ترفض أي نهج مشابه لنظم الملك العضوض، رغم حتى أحدا قد يقول إذا أولئك قد حفظوا الدين ونشروه وعززوا مفاهيم الأمة. وهذا سليم إلى حد ما لكنه لا ينفي عنهم صفة الملك العضوض.

لقد فرض الإنجليز وثيقة " ماجنا كارتا" Magna Carta على الملك العضوض عام 1212, وحققوا للشعب المستوى الأولى على طريق الملكية الدستورية والديمقراطية, أي قبل 46 عاما من تدمير بغداد على يد هولاكووأفول شمس الخلافة العباسية أفولا عمليا عام 1258.

ومع حتى المقام هنا ليس بمقام درس في الأسباب التي حالت دون ظهور ما يشبه "الماغنا كارتا" في الفكر العربي الإسلامي آنذاك, لا بد ونحن نتطلع إلى غد هذه الثورات الشبابية من التمسك بمعطيات الزمن الراهن في الحكم الرشيد، فليس ثمة من البشر من هومعصوم من الخطأ إذا تعلق الأمر بأمور الدنيا وشؤون الناس. فلا بد من قطيعة مع مفهوم الذات المتضخمة التي تزعم رعاية الرعية وتجسد الاقتصاد الريعي الذي تجاوزته الدنيا وتتحكم فيه.

فلا ذات إلا ذات الأمة, إذ هي مصدر السلطات وهي في مجموعها لا تجمع على باطل. وإن كانت هي كذلك, فكل واحد من أبنائها يصبح راعيا ومسؤولا عن رعيته, إذ هوعلى ثغر لا يجوز له حتى يتنكب عنه أويدير ظهره له. فهل كانت طائرات الغرب وصواريخه ستدك ليبيا "بموافقتنا" لولا تلك الذات المتضخمة التي جعلت الوطن في منزلة أدنى منها.

لا بد من قطيعة مع العصبوية القومية والقبلية التي أنتجت مثل تلك الذوات المتضخمة، فما اليوم مثل الأمس، وإن كان معظمنا يلوذ ببعده القبلي في بعض الأحيان, فذلك ناتج عن غياب فكرة المواطنة في إطار عقد اجتماعي يكفل للإنسان حقه, علا مقامه القبلي أم دنا.

وهذا ما لا بد للثورات الشبابية من حتى تجسده وتصر عليه, وأن تبقي جذوة الثورة متقدة, حتى تصبح الثورة ومكاسبها هي ما يجمع الجميع في وطن المواطنة والعقد الاجتماعي بعيدا عن القبلية وتحيزاتها. فكم انتابني القلق وأنا أسمع المتحدثين من الثوار الليبيين ومن أتباع معمر القذافي وذاته المتضخمة يعزفون على وتر القبيلة استنهاضا لدور لها في الصراع.

لن تختفي القبيلة من وجدان المرء شعورا بأصله وامتدادا له، بل علينا حتى نبتر مع توظيفاتها التي تتجاوز المواطنة الجامعة كما هوحالنا في الوطن العربي، ففي أكثر من بلد عربي تعصف القبلية بالقضاء وتقفز فوقه, وتنفي الكفاءة معيارا في التوظيف فيوكل العمل لمن هوغير أهل له, بل إذا موارد البلاد توزع في أحيان كثيرة بناء على الاعتبارات القبلية وفي ضوء تحالفات السلطة مع الوشائج القبلية فتقوم مصالح مشهجرة بينهما على حساب مصالح الأغلبية.. فحتى مخالفة السير أحيانا يتقرر مصيرها لحظة حتى يعهد اسم قبيلة أوعشيرة مرتكبها!

لا بد من قطيعة مع كثير من تأويلات النص وتفسيرات التراث أومفاهيمه, حتى نستطيع حتى نخرج بمفاهيم تعزز مكانتنا بين الأمم في القرن الحادي والعشرين. فها هي أنظمتنا اليوم, تخرج حدثا اصطدمت بشعوبها لتذكرهم بأن طاعة ولي الأمر واجبة, وأن الخروج عليه حتى وإن حاد عن الحق وجانب العدل غير جائز في شرع الله!

لا بد من قطيعة مع ما ترسخ عبر قرون من العتمة والقمع من قيم وتنطقيد تحط من قدر الإنسان, وتنفي دور المرأة وتدعوإلى التواكل والقدرية, وتنكر دور الفرد في صياغة حياته باعتباره مخلوقا مكلفا باختياره تكليفا منوطا بالعقل والأهلية.

وفي لقاء ذلك كله لا بد من إقبال على العصر إقبالا غير منبت عن جذور الأمة وهويتها ورسالتها, إقبالا على الوسائل, كما عمل مفجروهذه الثورات العظيمة, يوازيه إقبال وأخذ بالغايات والأهداف في عصر التنوير الإنساني لتصبح الحرية هي أسمى القيم, بها ينتزع الإنسان حقه إذا استعصى عليه ظالم أوأنكره.

وبها وعلى أسسها يقيم قيمه ونظمه ومنها يضع قواعد إدارة شؤون حياته، فالحرية هي ما غاب عنا دهورا ودهورا، وها نحن نستعيدها ونستعيد معها وعينا بكوننا أمة واحدة, إذا ثار فيها شعب ثار معه الآخرون وإن انتكس أحدها نال الوهن الآخرين على السواء.

ومن هنا لا بد من إقبال على فكر الوحدة العربية ولوفي بعده الوجداني أولا, حتى يتسنى لنا حتى نحققه واقعا وبناء على مصالحنا المشهجرة. فنحن أمة شابة تحتل رقعة في منتصف العالم تبلغ مساحتها حوالي 14.000.000 وقع مربع, وبتعداد سكان يزيد عن 360 مليون إنسان.

ولونظرنا إلى طبيعة ومقومات قيام الدول العظمى في العصر الحديث, لوجدنا حتى أهمها الرقعة الجغرافية الشاسعة, والعدد من السكان القادر على إعمار تلك الرقعة وحمايتها. فمساحة الولايات المتحدة هي9.830.000 كم مربع ومساحة الصين 9.598.094 وقع مربع ومساحة أوروبا مجتمعة هي 10.180.000 وقع مربع. أما عدد سكان الوطن العربي فيزيد عن سكان الولايات المتحدة بحوالي 50 مليونا.

وهذا لا يعني حتى نشوء الدولة العظمى يصبح أمرا محتوما، ذاك لأن قيامها يستدعي وحدة أقطار الأمة أولا وأخذها بروح العصر من قيم الحرية والعدالة بين الناس، فلا مستقبل من دون حرية على مستوى الفرد والجماعة ومن دون عدل يحقق الإنصاف في توزيع الثروات ويعمق الانتماء للوطن ويعمم خيرات التنمية على الجميع, فللمحروم الحق في حتى يثور وألا ينتمي. أوليس لافتا للنظر في لساننا العربي حتى الانتماء والتنمية حدثتان تشهجران في نفس الأصل الاشتقاقي؟

إنها مجرد خاطرة من أحد من أخفقوا في تحقيق الثورة قبل عقود وانتظروا أبناءهم وأحفادهم كي يعملوا، وقد يجد فيها ضربا من الحلم، لكن همتهم صانعة الثورات قادرة على تحقيق جميع الأحلام.


المصدر: الجزيرة

تاريخ النشر: 2020-06-04 09:52:00
التصنيفات: مقالات الجزيرة, الجزيرة, الثورات العربية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الاتحاد الأوروبي يفتح تحقيقا بحق علي إكسبرس في قضية منتجات مزورة

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-11-06 15:07:01
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 100%

ألسنة النار والانفجارات تضيء سماء غزة ليلا وسط قصف دام

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-11-06 15:06:58
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 85%

الرئيس الجزائري يدعو إلى رفع دعوى قضائية ضد إسرائيل (فيديو)

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-11-06 15:07:18
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 86%

دوكوري: "لا أريد المشاركة في كأس أفريقيا مع مالي.. سأبقى مع إيفرتون"

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2023-11-06 15:06:19
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 57%

حرب غزة: ما مدى وحدة الإسرائيليين وراء نتنياهو؟

المصدر: BBC News عربي - بريطانيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-11-06 15:06:40
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 89%

"واشنطن بوست": نافذة الفرص لإجراء مفاوضات ملائمة لكييف قد أغلقت

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-11-06 15:07:13
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 100%

تحميل تطبيق المنصة العربية