الأدب العربي في العصر العباسي

عودة للموسوعة

الأدب العربي في العصر العباسي

الأدب العربي

حسب الفترة

العصر الجاهلي
صدر الإسلام
العصر الأموي
العصر العباسي
عصر الدول المتتابعة
العصر الأندلسي
العصر الحديث

أنواع

شعر(هاتى، مديح، غزل، فخر)
غير روائي (التصنيف والكتابات، التاريخ والجغرافيا، اليوميات)
روائي: (ملحمي، مقامات، معلقات، نثر)
نقد

حسب الجنسية

عراقي - سوري
لبناني - أردني
فلسطيني - سعودي
بحريني - قطري
إماراتي - عماني
يمني - كويتي
مصري - ليبي
تونسي - جزائري
مغربي - موريتاني
صومالي - سودني
جيبوتي

مدارس أدبية

مدرسة أبولو
مدرسة البعث والإحياء
مدرسة الديوان
مدرسة المهجر

انظر أيضاً

أدباء عرب
شعراء عرب
روائيون عرب

الأدب العربي في العصر العباسي، يتناول هذا الموضوع تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي الأول والثاني.

خلفية

لم يكن هيناً على الأمويين حتى يحتفظوا بملكهم طويلاً بعد عصر الراشدين، بسبب الثورات المتلاحقة التي كانت تنشب في وجههم وتنازعهم الحكم، ولاسيما ثورات الخوارج والشيعة والزبيريين.. ثم كانت ثورة العباسيين سنة 132هـ/750م آخر حلقة في سلسلة تلك الثورات، التي أنهكت دولة بني أمية وآلت إلى القضاء عليها.

كان في مقدمة ماتطلع إليه بنوالعباس التمركز في حاضرة جديدة بعيداً عن دمشق موطن الأمويين، وفي منأى عن الكوفة معقل الشيعة، وقد آثر الخليفة الثاني أبوجعفر المنصور لذلك مسقط قرية على دجلة تدعى بغداد على مقربة من مدينة بابل القديمة، واتخذها عاصمة لملكه وأطلق عليها لقب دار السلام مقتبساً ذلك من القرآن الكريم. وانصرف المنصور إلى إعمار حاضرته على خير وجه، فابتنى فيها القلاع والجسور، وأقام حولها الأرباض والسدود، ونشر في ربوعها الشوارع والأسواق. ثم ما لبثت المدينة حتى عمِّرت بمئات المساجد والمخطات، والأسواق والمنتزهات، فأمها الفهماء والأدباء، والمهندسون والصناع. ثم تعاظم شأن بغداد حتى بلغت في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، أوج ازدهارها، وغدت أبرز مركز حضاري في العالم، وأصبحت موئل الحركة الفكرية والفهمية والأدبية بلا منازع.

وقد ظلت البادية حتى ضحى هذا العهد ترفد المدن والحواضر بمواد اللغة والأخبار، والخطب والأشعار، بوصفها موطن الأصالة ومنبع الإبداع. ثم أخذ الرواة واللغويون ينتشرون في حواضر العراق ويتجمعون في مدنها، حتى اكتظت بهم الكوفة والبصرة فضلاً عن بغداد. وفي هذه المراكز الفهمية والأوساط الأدبية قامت حركة تدوين رائدة لم يكن لمثلها نظير. فنشط الرواة وكثر المؤلفون وراجت سوق الوراقين. وقد واكب ذلك على صعيد الأدب نبوغ عدد من الشعراء والكتَّاب الذين احتضنتهم هذه المدن، واتسم نتاجهم المنظوم والمنثور بكثير من ملامح الجدة والطرافة.

وما من ريب في حتى الاستقرار السياسي، ولاسيما بعد انقضاء طور الفتوح والقضاء على الفتن، قد ساعد على الالتفات إلى شؤون الأدب والفهم وقضايا الفلسفة والفكر، وجعل الظروف ملائمة لتدفق العطاء وتفجر الإبداع. وكان من المعهود حتى يولي الخلفاء جميع ذلك اهتمامهم ويحرصوا على تشجيع ذوي المواهب، يعينهم على ذلك ثراء كبير تجمع في خزائنهم من موارد البلاد الواسعة. بل إذا من الخلفاء أنفسهم من كان معروفاً بميله إلى الأدب وحبه للفهم مثل المهدي والرشيد، والأمين والمأمون، والمعتصم والمتوكل. كذلك سار أمراء بني العباس وولاتهم ووزراؤهم على غرار خلفائهم، فكان لكل منهم بلاط يقارب بلاط الخليفة أويضارعه، من مثل ما كان لآل برمك، وطاهر بن الحسين، وعبد الله بن طاهر، ثم الصاحب بن عبّاد وابن العميد وعضد الدولة والمهلبي وسيف الدولة الحمداني.

نص كتاب تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الأول، الدكتور شوقي ضيف. انقر على الصورة للمطالعة.

ويعد العصر العباسي أزهى العصور العربية حضارة ورقياً، كما أنه أطولها زمناً، إذ امتد حتى سنة 656هـ/1258م، حين تمكن هولاكوالمغولي بجحافله اللجبة من اجتياح بلاد العراق والشام والقضاء على الدولة العباسية في بغداد التي دامت ما يزيد على خمسة قرون.

وبوسع الباحث حتى يتبين عهدين كبيرين في هذه الحقبة العباسية المديدة: عهد قوة ومنعة عاش فيه الخليفة عزيز السلطان مهيب الجانب، ويعهد بالعهد المضىي الذي يصادف القرن الثاني وبعض القرن الثالث الهجري (القرنين الثامن والتاسع للميلاد)، وعهد انحلال سياسي، تخاذل فيه الخلفاء وضعفت في أيامهم هيبة الحكم. فما أطل القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، حتى غدت بلاد فارس في حوزة بني بويه، والموصل وديار بكر وديار ربيعة ومضر في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في قبضة محمد بن طغج ثم الفاطميين.

على حتى التفكك السياسي لم يصحبه بالضرورة تقهقر حضاري ولا تخلف فهمي، بل إذا الفكر العربي الإسلامي، بما أوتي من قوة دافعة أكسبته إياها القرون الأولى الوطيدة، استطاع حتى يمضي في طريق النضج والازدهار ويغمر الأرض بنور الفهم وألق الإبداع. فقد تعددت مراكز الإشعاع الحضاري، إضافة إلى مدن العراق، فكانت مكة والمدينة في الحجاز، والفسطاط والقاهرة في مصر، وحلب ودمشق في الشام، والري وهمذان في فارس ثم بخارى وسمرقند في ما وراء النهر،وغزنة في أفغانستان وجرجان في خرسان.

وكان طبيعياً في غمار هذا الوضع السياسي والاجتماعي حتى ينطوي ذلك المجتمع الجديد على تمازج في العادات والثقافات، وأن يفرز هذا العصر أصنافاً من العلوم وألواناً من الآداب، وأن يعكس ذلك على جميع صعيد في الحياة العامة وفي جملتها الحياة الأدبية.


الشعر

شهدت بواكير العصر العباسي نبوغ عدد وفير من الشعراء المبدعين الذين اتسمت أشعارهم بملامح الجدة وانطوت على رواء الحداثة، وبدا جلياً حتى الغلبة لم تعد لمنازع القديم ونماذجه الموروثة، إلى غير ذلك أخذت الأنظار تتجه إلى بشار بن برد [ر] وأبي نواس [ر] وأبي العتاهية [ر] ومسلم بن الوليد [ر ] والحسين ابن الضحاك [ر] وعلي بن الجهم [ر] وأمثالهم ممن فاضت قرائحهم بشعر حديث بات مهوى أفئدة الجيل. وقد تجلى هذا الانعطاف على لسان أبي عمروبن العلاء (ت154هـ/770م) وطبقته المحافظة من الرواة واللغويين الذين كانوا قيمين على حركة النقد والتأليف حين نطق: «قد حسن هذا الشعر وكثر، حتى لقد هممت بروايته».

ثم توالى ظهور الشعراء النوابغ في العصر العباسي المديد، ومنهم أبوتمام [ر] والبحتري [ر] وابن الرومي [ر] وابن المعتز [ر] ودعبل [ر].. ومن بعدهم أبوالطيب المتنبي [ر] وأبوفراس الحمداني [ر] والشريف الرضي [ر] وأبوالعلاء المعري [ر]، وسواهم، وكان حتى اتسع مجال القول، وارتقت أساليب التعبير وعهد الشعر العربي أزهى عهوده.

أغراض الشعر

نص كتاب تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الثاني، الدكتور شوقي ضيف .انقر على الصورة للمطالعة.

حرص شعراء العصر العباسي ونقاده بوجه عام على حتى يدور شعرهم في فلك الأغراض الموروثة، وأن تنتسج أغراضه على منوال الفحول المتقدمين. فحافظ المديح على منزلته السالفة تبعاً لارتباطه الوثيق ببلاط الخلفاء والملوك، ومجالس الأمراء والولاة، ولكونه السبيل الأول للحظوة عند أولي الأمر، والطريق الأقصر لبلوغ الشهرة المنشودة.

المديح

وكما اقترن شعر المديح بالموقف السياسي في العصر الأموي، حين كان للخليفة شعراؤه الذين يمدحونه وينالون عطاياه، بقي الحال على هذا الغرار في ظل الحكم العباسي، فاصطنع خلفاؤه شعراء موالين لهم لزموهم في حلهم وترحالهم، وخصوهم بمدائحهم وذادوا عن حقهم في حكم المسلمين. وقد ظهر في عهد الخلفاء الأوائل عدد وفير من هؤلاء الشعراء مثل بشار وأبي العتاهية والسيد الحميري وأبي نواس والفضل الرقاشي وسلم الخاسر وأبي دلامة ومروان بن أبي حفصة ومطيع بن إياس وأشجع السلمي ومنصور النمري. وقد فاق الخليفة المهدي سلفيه في تقريب الشعراء وإكرامهم، فأكثروا فيه القول وغالوا في الثناء.

ومضى الخليفة هارون الرشيد بعد ذلك إلى مدى أبعد في رعاية الشعر وتقريب الشعراء طوال حكم قوي زاهر دام اثنتين وعشرين سنة. ويقول الرواة إنه لم يجتمع بباب أحد ما اجتمع ببابه من الشعراء، ومن مداحه ابن مناذر وأبوالشيص ومروان بن أبي حفصة والعماني ومسلم ابن الوليد وربيعة الرقي.. فضلاً عن أبي العتاهية وأبي نواس وسلم الخاسر، وأصبح لإطراء الممدوح حيز أكبر لدى شعراء هذا العصر.

وقد غاص عدد من الشعراء عهدئذ في حمأة السياسة وخاضوا بشعرهم معركة ولاية العهد بني الأمين والمأمون، فانتصر بعضهم لهذا وبعضهم لذاك في قصائد تداخلت فيها المعاني المدحية والآراء السياسية.

كذلك ظل الشاعر في العصر العباسي حريصاً على رسم الخصال الرفيعة والقيم المثلى في شخصية الممدوح، إذ ما زالت سجايا الكرم والشجاعة، والحلم والحزم، والنجدة والمروءة، والعفة والشهامة، موضع إجلال المجتمع العربي الإسلامي. ومضى الشعراء يبدون أضرب البراعة والفن ضمن هذا الإطار الرحيب من الصفات الأصيلة المثلى. وكان ما قام به خلفاء بني العباس وقادتهم وولاتهم من جلائل الأعمال، وتصديهم لخصوم الدولة المتمردين عليها في الداخل، ولأعدائها المتربصين بها في الخارج، خير ما أثار قرائح الشعراء وأذكى مدائحهم بعناصر البطولة والبأس. وقد تجلى ذلك لدى الشاعر أبي تمام (ت231هـ/846م) الذي ارتفع ببعض قصائده إلى مستوى يقارب الملاحم، وآخى فيها بين شعر المديح وشعر الحرب، مقدماً بذلك للأدب العربي نموذجاً جديداً متطوراً من الشعر الحماسي الأصيل.

وعلى هذا الغرار مضى أبوالطيب المتنبي (ت354هـ/965م) بعد قرون من الزمان، مشيداً بفوزات سيف الدولة الحاسمة ومعاركه المظفرة في قتال دولة الروم المتاخمة.

غير حتى موضوع المديح لم يبرأ من بعض العيوب التي شابتها في هذا العصر، وفي مقدمتها المبالغة والتهويل، فلم يعد ما نطقه الأوائل مثلاً في صدد شعر زهير بن أبي سلمى من أنه «لم يكن يمدح الرجل إلا بما فيه» منحى مطلقاً، بل أسرف الشعراء على أنفسهم في ذلك، وغالوا أحياناً في إسباغ الصفات الخارقة على ممدوحيهم.

ومن هذا القبيل قول أبي نواس في الخليفة الأمين:

وأخفـت أهــل الشــرك حتى إنــه لتخافــك النطـف التي لــم تخلق


الهاتى

أما الهاتى، وهوالغرض الذي يقابل عادة غرض المديح، فقد انعطف في مساره عما كان عليه في العصر الأموي، فخفتت فيه نزعة تحقير الخصم بسبب وضاعة أصله ونسبه، أوخمول مكانة أبيه وجده، أوضآلة شأن عشيرته وقبيلته. إذ لم تعد للأنساب تلك الأهمية البالغة التي كانت لها في سالف العهد، بعد همود حدة العصبيات القبلية وانصهار أكثر القبائل في بوتقة المجتمع المتحضر الحديث. فهجرز الهاتى أوكاد، في إبراز المعايب الشخصية اللاصقة بذات المهجووما تنطوي عليه نفسه من مثالب. وهذا المنحى أدخل في رحاب التصوير والفن، وأبعد عن مجال القذف والشتم.

وكثيراً ما كانت المهاجاة تستعر بين الشعراء أنفسهم فيكثر في قصائدهم ذكر المثالب والمعايب، وقد يتجاوزون الحدود إلى التحقير والتسفيه. وقد عهد بذلك بشار بن برد وأبونواس وأبوعيينة المهلبي وابن الرومي ودعبل الخزاعي وعبد الصمد بن المعذل، حتى إذا الأمر بلغ ببعضهم حد التعرض للخلفاء أنفسهم، شأن الشاعر الهاتى دعبل (ت246هـ/860م) الذي لم يتورع عن هاتى الرشيد والمأمون والمعتصم والواثق. وقد قرن الخليفتين الأخيرين معاً في قوله:

خليفة مــات لــم يحزن له أحــد وآخر قام لم يفرح به أحـــد

كذلك تنوعت أنماط الهاتى تبعاً لتعدد أوجه الحياة في هذا المجتمع العباسي المتحضر. فابن الرومي (ت283هـ/896م) الذي عاش في عصر اكتظ بالجواري والقيان مثل جلنار وبستاق وبدعة وشاجي ودريرة وغناء وظلوم ووحيد وغيرهن من مطربات مجالس الولاة والوزراء، تعرض في شعره لهؤلاء وغيرهن كما تعرض معاصره البحتري وسواه، وكان طبيعياً حتى يقرظ بعضهن إعجاباً بأصواتهن وأن يهجوأخريات لم يجد في غنائهن ما يروقه.

الرثاء

أما غرض الرثاء فمن الطبيعي حتى تظل له منزلته السامية في النفوس لانبثاقه من عاطفة الحزن الواري في جميع زمان ومكان. غير حتى فن الرثاء ارتقى في هذا العصر، واكتسب غنى وعمقاً، بفضل شعراء كبار أبدعوا فيه وفي سائر أغراض الشعر، وفي طليعة شعراء الرثاء أبوتمام الذي قيل عنه «مداحة نواحة»، ومن بعده ابن الرومي الذي عهد برثاء أولاده.

كذلك افتن الشعراء في هذا الغرض تبعاً لتشابك العلاقات الاجتماعية في ذلك العصر، وتوطد صلاتهم مع أولي الأمر. إذ لم يمت خليفة ولا وزير، ولا قائد ولا عظيم، إلا رثوه رثاء حاراً وأبَّنوه تأبيناً رائعاً، مبرزين في قصائدهم جميع ما كان يتحلى به الفقيد في حياته من مناقب وما كان له من فضل.

وكم ألمت بهذا العصر العباسي المديد أحداث جائحة وفتن طاغية وجدت لها في النفوس صدى أليماً وتجلت على ألسنة الشعراء مراثي دامعة. وحدث حتى اجتاح الزنج البصرة في فتنة هواتى حين زحفوا إليها من ظاهر المدينة، فاستباحوها وأعملوا فيها يد التخريب والتنكيل. وراع هذا النبأ الفاجع ابن الرومي فنطق في رثاء المدينة المنكوبة قصيدة تعد من أروع الشعر مطلعها:

ذاد عــن مقلتي لذيــذ المنـــام شـــغلها عنه بالدموع الســـجام

ولم يكن هذا النمط من رثاء المدن معهوداً في الشعر العربي،ولكن أحوال ذلك العصر المتفجر اقتضت مواكبة الشعر لها. ولعل هذه القصيدة باكورة رثاء الممالك الذي أخذ في الظهور فيما بعد ولاسيما إثر سقوط بغداد بيد التتار القساة، وإثر تساقط دويلات المسلمين في الأندلس بيد الفرنجة.

وقد تستدعي حقيقة الموت من الشاعر حتى يتأمل في طبيعة الحياة وحال الدنيا،فيكون له من ذلك نظرات وآراء،ولاسيما بعد حتى تشبع الشعراء بأفكار ثقافات أغنت معارفهم وعقولهم، ومن هذا القبيل كثير من شعر أبي العتاهية في الوجود والعدم، والحياة والموت، والبقاء والفناء.

ولأبي العلاء المعري (ت449هـ/1058م) فلسفة أعمق في هذا الصدد تبعاً لغنى فكره ونفاذ بصيرته، حين عمد إلى رثاء صديقه الأثير أبي حمزة الفقيه في قصيدته المشهورة التي مطلعها:

غير مجــد فـي ملتي واعتقـادي نـــوح بــاك ولا ترنـــم شـــــاد

فقد استطاع أبوالعلاء حتى يحلق في أجواء علوية سامية وينظر من خلالها إلى الكون والحياة نظرة كلية شاملة وبذلك ارتفع في رثائه من نطاق الحادثة الفردية المحدودة إلى رحاب الإنسانية الكاملة.

كل ذلك يعني حتى هذه المراثي تغاير في كثير من ملامحها معهود شعر الرثاء الذي يغلب عليه النواح وتبلل قوافيه الدموع.

الغزل

وقد اكتسب الغزل في العصر العباسي غنى ومضاء لارتباطه بعاطفة الحب الغلابة في النفس الإنسانية. وأقبل الشعراء إقبالاً كبيراً علىالنظم فيه، فكثر كثرة بالغة وازدهر ازدهاراً واسعاً. غير حتى الاتجاهين اللذين غلبا في العصر الأموي وهما الغزل العفيف والغزل الصريح لم يسيرا في العصر العباسي على ذلك النحوالمتوازن. فقد أخذ الغزل العفيف في التضاؤل، في عصر تكاثرت فيه النحل والآراء، واحتدمت المنازع والأهواء، وقلما عهد المجتمع العباسي طائفة من شعراء الحب النقي الطاهر كالذين عهدتهم من قبل بوادي الجزيرة وربوع الحجاز، مثل قيس بن ذريح وجميل بن معمر وعروة بن أذينة. ولعل العباس بن الأحنف وقلة من أمثاله الشعراء الذين تعذبوا في عشقهم يمثلون بقية ذلك المنحى، وإن لم يبلغوا فيه شأوالعذريين قبلهم. فالعباس بن الأحنف (ت192هـ/808م) قصر شعره، أوكاد، على التغني بعاطفته ومشاعره.

ولعلي بن الجهم غزل كثير أجاد فيه تصوير لواعج حبه. وقد برع في مقدماته الغزلية الرقيقة ولاسيما ما كان يستهل به مدائحه للخلفاء. ومن ذائع غزله في صدد مديحه للمتوكل:

عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

واشتهر البحتري بالغزل، لما اتسمت به ألفاظه من سهولة ورقة وعباراته من عذوبة وسلاسة، وقد أحب علوة الحلبية، ونطق فيها جل غزله.

وغزل الشريف الرضي (ت406هـ/1016م) على تأخر عهده من أبرز الشواهد على نبل الشعور وعفة اللسان، فضلاً عن سمومكانة وحملة نسب، وقصائده الجميلة التي اشتهرت بالحجازيات نفثات شجية أثارت كوامن نفسه المضطربة.

أغراض أخرى

ولعل أبرز انعطاف طرأ على الشعر العربي في العصر العباسي هوانبثاق غرضين آخرين أضيفا إلى سائر الأغراض المعهودة في الشعر العربي، وهما غرض المجون والزندقة، وغرض الزهد والتصوّف.ومع حتى لهذين الغرضين جذوراً في الشعر العربي القديم، إلا أنهما بلغا في هذا العصر المدى من التطرف. لقد انطوى المجتمع الإسلامي في العصر العباسي على كثير من التعقيد، وعرض له كثير من الاختلال. وكان ذلك كله بسبب التبدل الشديد الذي أصاب الحياة الاجتماعية والفكرية والدينية. إذ التفت الناس إلى حياة الدعة واللهونتيجة انقضاء فترة الجهاد والفتح، فازدهرت التجارة وحركة القوافل، وتكاثر المتمولون وهجرزت الثروة في جيوب فئة من الأغنياء. ونشطت تبعاً لذلك حركة المتاجرة بالرقيق، وانتشرت أسواق النخاسة، وشاع اقتناء الجواري والغلمان، بعد حتى انصبت عناصر أعجمية كثيرة على الحياة العربية من فرس وروم وهجر، حاملة معها نزعاتها ونزواتها، وعاداتها وأهواءها، فكثرت عناصر الموالي، وتزعزعت القيم،وضعفت الأعراف والتنطقيد. إلى غير ذلك برزت الزندقة لتغدومظهراً من مظاهر المروق من الدين وفساد العقيدة، كما برز المجون مظهراً آخر من مظاهر التحلل في الأخلاق والسلوك، والاستهتار بالقيم والأعراف. وقد تطرّف الشعراء في ذلك،من أمثال بشار وأبي نواس ومطيع بن إياس، حين أطلقوا لأنفسهم عنان القول، وخرجوا عن نطاق الحشمة والوقار. ولم يفتقد الأدب ذلك الحب العذري أوالعفيف، وما اتسمت به من ملامح الطهر والنقاء، بل ابتلي بنمط شاذ مستحدث من الشعر الهابط في مضمونه لم يعهده العرب من قبل، وهوالتغزل بالمذكر. كما لم يعد الكثيرون يجدون حرجاً في استهلك الخمرة وارتكاب المعاصي متحللين من جميع خلق ودين.

وثمة نزوات كثيرة اشتهر بها أبونواس وتجلت في أقواله وأفعاله، إنه يخاطب ساقية في الحانة بحدثات طافحة بالاستهتار والتحدي:

ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ولا تســقني سراً إذا أمــكن الجهر

حتى إذا بعضهم جهر بالزندقة ومنهم بشار ابن برد وحماد عجرد والحسين بن الضحاك وصالح بن عبد القدوس وسواهم، وقد عهد أكثرهم بالمجون والتهتك. والملاحظ حتى هذه النزعات المتطرفة قد برزت في مدن العراق كالبصرة والكوفة وبغداد نتيجة انصباب فئات كبيرة من الأعاجم على سكان تلك الحواضر، حاملة معها نحلها الغريبة، من بوذية وزرادشتية ومانوية وغير ذلك.

وطبيعي داخل ذلك المجتمع الحافل الذي كان يضطرب بتيارات شتى حتى تتعدد النزعات، وتتعارض الاتجاهات. ولم يكن بوسع مجتمع عميق الجذور ورث القيم العربية وتشبع بالروح الإسلامية حتى يتقبل الزيغ والانحراف، ويرتضي الطيش والمروق. لقد هال الأتقياء وذوي الغيرة على الدين والأخلاق ما تعرض له ذلك الجيل من غزولأفكاره ومعتقداته، وفساد في قيمه وسجاياه. ورأوا حتى خير سبيل إلى النجاة من تلك الشرور العودة إلى جوهر الدين والتمسك بحبل الله. إلى غير ذلك اشتد تيار الزهد والتقشف في لقاء نزوع الآخرين إلى المجون والتحلل. وقد غلا بعض هؤلاء في التضييق على أنفسهم غلوأولئك في تحللهم واستهتارهم. فدأبوا على الوعظ والتعبد، وحضوا على حياة النسك ونبذ حطام الدنيا.

ويعد الشاعر أبوالعتاهية الذي عاش في صدر العصر العباسي ممثل تيار الزهد في الشعر العربي، حين أكثر من نظم قصائده الزهديات وبرع فيها، حتى إنه جعل من ذلك الشعر غرضاً جديداً انضم إلى سائر الأغراض المعهودة.

وقد نظم في غرض الزهد شعراء كثيرون، منهم سفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك ومحمود الوراق ومالك بن دينار، إضافة إلى أبي نواس في أواخر حياته.

ثم أخذ تيار الزهد يخرج عن بساطته ويزداد اتساعاً وتعقيداً، فلم يعد أعلامه يكتفون بالوعظ والتذكير بالموت، والإكثار من ذكر القيامة والنار، بل راحوا يرتكزون إلى أصول فكرية وفلسفية، انبثق منها في نهاية الأمر ممضى التصوف. وقد تجلى مفهوم الحب الإلهي في عصر مبكر لدى رابعة العدوية (ت135هـ أو185هـ) الزاهدة العابدة، التي ينطق إنها استخدمت لأول مرة لفظة الحب للتعبير عن إقبالها على الله، وإعراضها عن جميع ما سواه.

وهذا الحب الإلهي هوالمحور الذي دار حوله اهتمام المتصوفة لأنه الحب الأمثل الذي يفنون فيه فناء يحقق لهم السعادة والاطمئنان.

ثم أخذ الفكر الصوفي ينطوي على كثير من التعقيد بعمل مؤثرات دخيلة على الإسلام من بوذية وإغريقية ومسيحية. وكان حتى ظهر في السنين العباسية المتأخرة عدد من الشعراء الأعلام في التصوف مثل الحسين بن منصور الحلاج (ت309هـ/921م) الذي تم فيه تطبيق حكم القتل، وكان يعتقد باتحاد الناسوت، أي الروح الإنساني، باللاهوت، أي الروح الإلهي. كما ظهر في أواخر العصر العباسي عدد من كبار المتصوفة الذين نظموا أشعاراً كثيرة عرضوا فيها ممضىهم بأسلوب رامز يعتمد تعابير العشاق وألفاظ المحبين، مثل ابن الفارض (ت632هـ/1234م) الذي يقول في إحدى قصائد ديوانه الصغير الشهير متغنياً فيها بخمرة الوحدة الإلهية:

شــربنا على ذكر الحبيب مدامــة سكرنا بها من قبل حتى يخلق الكرم

وقد أفاض في عرض ممضىه في المجاهدة ونظرته في وحدة الوجود ضمن مطولة شعرية بلغت سبعمئة وستين بيتاً، وتعهد بنظم السلوك.


خصائص الشعر

اتسع مجال القول على صعيد الشعر والنثر في أدب العصر العباسي، تبعاً لاتساع مناحي الحياة وتشعبها في هذا الطور المتألق من حضارة العرب. فتكاثرت الموضوعات التي تناولها الشعراء فضلاً عن الأغراض الشعرية التي نظموا فيها. من ذلك توسعهم في وصف مشاهد الطبيعة المتنوعة، مثل وصف الربيع لأبي تمام وللبحتري وكذلك ما وصف به أبوالطيب المتنبي شعب بوان في بلاد الفرس.

وأوغل شعراء هذا العصر في وصف الأيك والحمائم، والرياض والحياض، والأزهار والثمار،حتى حفلت دواوين البحتري وابن الرومي وأبي بكر الصنوبري وأمثالهم بهذه الأوصاف الجميلة التي انطوت على التشبيهات الطريفة والألوان البهيجة.

وقد عني أبوبكر الصنوبري (ت334هـ/945م) بوصف الحدائق والبساتين، والورود والرياحين، حتى اشتهر بأشعاره (الروضيات)، وهويشير إلى هذا المنحى الأثير لديه في قوله:

وصف الرياض كفاني حتى أقيم على وصف الطلول، فهل في ذاك من باس

وكان لوصف المدن والمنشآت العمرانية حيز آخر في قصائد الشعراء الذين عاش معظمهم في الحواضر، وعهدوا حياة البلاط ومجالس الأمراء، فوصفوا القصور والرياض وكثيراً من مظاهر الحضارة الجديدة ومناحي الحياة المستحدثة. فوصف البحتري قصر الجعفري الممرد، كما وصف بركة المتوكل التي كانت آية في الحسن بفضل إبداع هندستها.

وفي الوقت نفسه التفت شعراء العصر العباسي في أحوال قليلة إلى شؤون تتصل بحياة عامة الناس بعيداً عن بلاط الخلفاء وقصور الأمراء.

ومن الموضوعات الجديدة على هذا الصعيد الشعبي وصف ابن الرومي لبسطاء الناس وكادحيهم، وما كان يمتاز به بعضهم من براعة في مهنتهم، كوصفه للخباز وللحمال ونطقي الزلابية.. في مبترات شعرية حافلة بالصور الطريفة.

ولعل في طليعة ما طرأ على معاني الشعر العباسي من تطور، على صعيد آخر، أنها جنحت للرقة والعذوبة، بفضل غلبة الحضارة وانصنطق الأذواق، كما اتسمت في جانب منها بالابتكار والعمق، تبعاً لنضج العقل العربي وتوسع آفاقه. كذلك امتازت معاني الشعر بالجدة والطرافة بعد حتى قيض لها شعراء أفذاذ عهدوا بقوة فنهم وشدة براعتهم وسعة ثقافتهم. وكان لشعر الغزل وشعر الوصف نصيب واف من ملامح الحداثة التي أغنت الشعر العربي وزادته رونقاً وبهاء.

وتجلى الإبداع الشعري في هذا العصر من خلال اختراع المعاني وابتكار الصور ونفاذ الرؤية.

وغلب على جانب من الشعر فكر الفلاسفة وفهماء الكلام، واقتحمته ألفاظهم واصطلاحاتهم، كالجوهر والعرض والشك واليقين، مثل شعر أبي العتاهية الذي ينم على آثار المانوية الفارسية وعقيدتها الثنائية:

لكــــل إنســـــان طبيعتـــان


خير وشـر وهمــا ضــدان

وكل شيء لاحق بجوهره


أصــغره متصــل بــأكبــره


أومثل شعر بشار الذي تظهر فيه أصداء مذاهب العصر وأفكاره مثل قضية الجبر والاختيار:

طبعــت علــى ما فيَّ غيـــر مخير


هواي ولوخيرت كنت المهذَّبا

أريد فلا منح، ومنح ولم أرد


وقصــر فهمـي حتى أنال المغيبا

على حتى هذا المنحى في التحديث لم يرق المحافظين الذين تمسكوا بعمود الشعر التقليدي، ونهج القصيدة الموروث، إذ الشعر في رأيهم لا يحتمل وطأة الحقائق الذهنية المجردة،والاصطلاحات الفلسفية المعقدة، والمنطق الذهني الصارم. ورأى البحتري في مثل ذلك بدعة في الأدب لم يعهدها فحول المتقدمين،ولم يجنح إليها امرؤ القيس إمام الشعراء:

كلفتمـــونا حـــــدود منطقكــم والشعر يغني عن صدقه كذبه

أما المبنى الشعري فقد تعرض لتغير ملموس في بعض نماذجه، سواء على صعيد الأوزان أوصعيد الأسلوب. فقد مالت القصائد إلى القصر وسارت المبترات على الألسنة ولاسيما في مجال الغزل والهاتى والزهد والحكم... كذلك آثر الشعراء البحور القصيرة مثل بحر الهزج والمجتث والمقتضب، كما جنحوا للأوزان المجزوءة في بحور الوافر والكامل والبسيط والخفيف.

كذلك جددوا في القوافي تخفيفاً من وطأة القافية الواحدة الغالبة، فأحدثوا نوعاً من النظم سموه «المزدوج»، وهوفي الغالب من بحر الرجز يختص فيه جميع شطرين في البيت بقافية واحدة، وتليها قافية مغايرة في البيت التالي إلى غير ذلك. وقد استعاره الفرس وسموه «المثنوي». وشاع المزدوج لدى أبي العتاهية الذي نظم مطولة بالغة الطول عهدت بذات الأمثال، وقد ضاع معظمها.

وقد ساغ هذا النمط العروضي الميسر للنحاة والفقهاء وسائر الفهماء، فأكثروا فيه المنظومات التعليمية، كما آثره أبان اللاحقي فيما نظمه من أقاصيص كليلة ودمنة، وسواه ممن نظموا في شؤون الفهم والدين والتاريخ. ولا ريب في حتى شيوع الغناء والرغبة في تلحين الأشعار في المحافل والأسمار من أبرز ما أسهم في رواج هذه الأنماط الجديدة التي تعد من خفائف النظم.

واستتبع هذا المنحى إيثار الألفاظ السهلة المأنوسة، حتى كادت تنحصر الغرابة اللفظية لدى فئة الرجاز البداة أول الأمر ثم آل أمرهم إلى الانزواء.

ومن جهة أخرى على هذا الصعيد الأسلوبي غلبت الصنعة على مبنى الشعر، وأوغلت فيه أضرب التزويق والتزيين، فكثرت فيه الزخارف اللفظية والمحسنات البديعية، ويعد أبوتمام وابن المعتز في طليعة أصحاب هذا الممضى الفني، إذ جدا في طلبه وأكثرا منه حتى عهدا به.

وازداد الشعراء إيغالاً في الصنعة مع مضي الزمن، وغدا الشعر لديهم معرضاً للتزيين والتلوين كقول الوأواء الدمشقي (385هـ/994م):

فأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقيت ورداً، وعضت على العُنّاب بالبرد

كذلك اكتسب الخيال غنى ومضاء، فغدت الصور الشعرية متسمة بالتلوين والتعقيد، وخرج التشبيه عن بساطته المعهودة وأطرافه الواضحة المحددة.

فحين يود أبوتمام وصف الطبيعة يستخدم نوافر الأضداد، وعندما يتعاورها الصحووالمطرقد يكون لذلك في مرأى الشاعر منظر معجب:

مطر يــذوب الصحــومنه وبعده صحويكاد من النضارة يمطر

وبالإجمال اكتسب الشعر العباسي تبعاً لمواكبته هذا العصر الحضاري كثيراً من ملامح الجدة والطرافة. حتى ليمكن القول إنه بفضل ما انطوى عليه من جمال التعبير، وطرافة التصوير، وسموالخيال، وجدة المعنى، وسعة الثقافة وغنى الفكر...، غدا فناً مزدهراً وعاش عصره المضىي.

ملامح البيئة

من الطبيعي حتى تكون شخصية الأديب جماع عوامل ومؤثرات تسهم في تكوينه وتتجلى في نتاجه، في طليعتها جملة معارفه وموروثه الأدبي ومعطيات بيئته وعصره. إذا انتشار العرب في الأمصار من بلاد خراسان والسند إلى أقصى المغرب والأندلس، نتيجة للفتوح الإسلامية، أدى إلى ظهور بعض الملامح القطرية في الشعر العربي، كما حتى اختلاف البيئات المحلية أدى إلى خلق بعض الألوان والطعوم المتمايزة لدى بعض الشعراء. غير حتى هذه الملامح لم تبلغ المدى الذي يفضي إلى إبداع أدب إقليمي. فقد ظلت عناصر التوحيد أقوى من عناصر التباين، وذلك لأسباب كثيرة، لعل أهمها طبيعة العرب المحافظة التي تتجلى في نزعتها السلفية وحرصها على سماتها القبلية وموروثها الشعري، ومنها سلطان اللغة العربية الذي ينطوي على معطيات ركينة من التفكير وأنماط خاصة من مناحي التصوير وأساليب التعبير، فضلاً عن الافتتان بالقرآن الكريم وهالته المقدسة في نفوس العرب على اختلاف جموعهم وتباعد بلدانهم، ثم ما يتصل بذلك من تعلق روحي بالحجاز، معقل الفصحى ومهبط الوحي وموئل الرسول. وهذا ما يفسر تحدث الشاعر العربي وهوفي أقصى الأندلس عن الجمل والسراب وذكره البان والفهم.. وكثير من شعراء العصر العباسي كانت حياتهم قسمة بين دمشق وبغداد وحلب، أوبين الشام والعراق ومصر، أوبين أقطار المشرق وبلاد المغرب. وإن من أرّخوا للأدب العربي على أساس من التقسيم الإقليمي، وأسبقهم أبومنصور الثعالبي في كتابه المشهور «يتيمة الدهر»، ثم العماد الأصفهاني الذي مضى على غراره في كتابه «خريدة القصر» لم يلزموا أنفسهم بهذا الفصل الجغرافي بين هذه البلدان والأنطقيم، فبدت لدى شعرائهم ملامح التشابه أوضح من ملامح التباين، وأكثر ما وصفت به أنطقيم العرب لا يتعدى الافتتان بمواطن الحسن والجمال في جميع منها ونحوذلك مما يكادقد يكون قاسماً مشهجراً بين كثير من البلدان.

كما آثر الأندلسيون بلادهم الجميلة بحبهم ومحضوها إعجابهم، بل إذا بعضهم كابن خفاجة عثر في ربوعها جنة أخرى:

يــا أهــل أنـدلس لله دركـــم


ماء وظل وأنهار وأشــجار

ما جنة الخلد إلا في دياركم


ولوتخيرت هذه كنت أختار


من هذا القبيل شعر يبرز جمال ضفاف بردى ودجلة والنيل، ومفاتن غوطة دمشق وشعب بوان، ومحاسن قرطبة والزهراء... إذ قلّما يتعدى الأمر هذه الرؤى الجمالية لتلك الأنطقيم. وذلك يفضي إلى القول إنه قلما يلمس لدى شعراء العصر العباسي - على اختلاف أنطقيمهم وتباعدها - سمات فنية تلفهم وتميزهم على صعيد الصنعة والمعاني والصور وسائر العناصر الأسلوبية، إلا ما كان لديهم من مقومات شخصية ومعطيات ذاتية، أومن ملامح حضرية أوبدوية. إلى غير ذلك كان أبوتمام، الشامي المنبت، هورائد الصنعة البديعية في الشعر العربي، ويشاركه في هذه الريادة أيضاً ابن المعتز العراقي أحد رؤوس ممضى البديع. كما حتى البحتري صوّر الطبيعة في المشرق أوصنوه الصنوبري يقابله ابن خفاجة في الأندلس، ومثل هذا التشارك تجده أيضاً على صعيد سائر أغراض الشعر من مديح وغزل ورثاء، وعلى صعيد الأساليب وسائر الظواهر الفنية لدى شعراء جميع إقليم من الأنطقيم العربية. أعلام الشعر: حفل العصر العباسي بعدد وفر من الشعراء الأعلام لم يحظ بمثلهم أي عصر آخر ومنهم:

بشار بن برد، وأبونواس، وأبوالعتاهية، ومسلم بن الوليد، وأبوتمام، ودعبل الخزاعي، والبحتري، وابن الرومي، وابن المعتز، وأبوفراس الحمداني، والمتنبي، والشريف الرضي، وأبوالعلاء المعري، وابن الفارض.

النثر

ضروب النثر:

الخطابة

نشطت الخطابة السياسية في مطلع هذا العصر، إذ اتخذتها الثورة العباسية أداتها في بيان حق بني العباس في الخلافة. وكان من خطباء هذا العصر خلفاؤه الأوائل مثل أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور والمهدي والرشيد، وآل بيتهم ومنهم داوود بن علي وأخوته عبد الله وسليمان وصالح وأبناؤهم. وقد وصفهم الجاحظ بأنهم «لم يكن لهم نظراء في أصالة الرأي وفي الكمال والجلالة... مع البيان العجيب والغور البعيد. وكانوا فوق الخطباء وفوق أصحاب الأخبار».

وخطبهم، لا تكاد تختلف من حيث شكلها ومضمونها عن الخطابة في صدر الإسلام والعصر الأموي، إذ غدا من مقتضيات الحياة السياسية العربية حتى يشهر اللسان في مثل هذه الأحوال إلى جانب السلاح.

ولما تم الأمر لبني العباس وقضوا على أعدائهم الأمويين، ثم على شركائهم الشيعة، خفتت حدة القول، ولم يعد ثمة ما يحفز الخطباء على التصدي للناس، واصطناع الترهيب والترغيب.

كذلك ضؤلت الخطابة في الجيوش بعد حتى انقضى عهد الفتوح. وصار الكثير من الجنود من الجيش الإسلامي نفسه من الأعاجم، فرساً أوهجراً، لا يفقهون العربية ولا يتأثرون ببلاغتها. ولم يعد للخطابة في النفوس بوجه عام ما كان لها من منزلة في عصر الراشدين والأمويين، حين كانت الفن العربي الأصيل الذي كان قوامه البديهية والارتجال. إلى غير ذلك انحسرت الخطابة في ضحى العصر العباسي، وكاد شأنها يقتصر على فئة الوعاظ وأئمة المساجد، ولم تعد تتجاوز في غالب الأحوال نمط الخطابة الدينية.

الكتابة

وكان من الطبيعي تبعاً لذلك، ولاسيما في هذا الطور المتحضر، حتى تحل الكتابة، مع توالي الأيام محل الخطابة، وأن يقوم كتاب الدواوين ومدبجوالرسائل بتحبير القراطيس وإعداد التقارير. ثم تشعبت أشكال التعبير، لتغدوأقدر على استيعاب مناحي الفكر المتعددة ومنازع الحياة المتجددة.

كانت الترجمة إحدى ضرورات الحركة الفهمية التي نشطت بفضل فئة نابهة من الأعاجم يتألف معظمها من السريان والفرس. وبذلك انصبت في بحيرة الثقافة العربية جداول شتى، مختلفة المذاق من تلك الثقافات الوافدة. وعادت حركة النقل بالخير على لغة العرب الأصيلة وأدت إلى ازدهار أنماط من النثر، كالنثر الفني والأدبي،والنثر الفهمي، والنثر الفلسفي. وغدت الكتابة وعاء لعلوم العصر الكثيرة ومعارفه الغزيرة، بعد حتى ولج العرب عوالم التدوين الرقمي والتأليف والترجمة من أوسع الأبواب. وليس الغرض هنا التوقف عند الكتابة الديوانية التي شاع أمرها في الأوساط الرسمية والإدارية، مما يتصل بشؤون البلاغات والبيانات، والمواثيق والصكوك، والتولية والغزل.

غير حتى ما يعني الباحث منها هونمط معين لعله أدخل في فن الأدب وهوالمعروف بالتوقيعات، أي العبارات الوجيزة التي كان يعلق بها خلفاء بني العباس الأوائل على موضوع حمل إليهم، أوقضية في أيديهم، فيذيلون ذلك بقلمهم ويمهرونه بتوقيعهم. وكان طبيعياً في هذا الصدد حتى تقصر الجملة وتختصر العبارة، تبعاً لضيق وقت الخليفة وغزارة المعروض عليه. من هذا القبيل ما سقط به الخليفة أبوجعفر لأهل الكوفة في ذيل رسالة تظلم تجاه واليهم: «كما تكونوا يولَّ عليكم». وما سقط به هارون الرشيد إلى عامله في خراسان وقد شكا إليه سوء الأحوال: «داوجرحك لا يتسع»، وما سقط به المأمون لوال فاسد: «قد كثر شاكوك، وقل شاكروك. فإما اعتدلت، وإما اعتزلت...».

ومثل هذه العبارات المقتضبة أشبه ما تكون بجوامع الحدث التي امتاز بها فصحاء العرب الأوائل الذين اتسموا بالحرص على الإيجاز، وهي على أية حال منسوجة على منوال أنقى عبارات البلغاء.

أما النثر الأدبي الحقيقي فلم يتوطد إلا بفضل المحرر المنشئ عبد الله بن المقفع (ت142هـ/759م) بعد حتى تسلم شعلة هذا الفن من صديقه الناثر الرائد عبد الحميد المحرر، الذي لقي مصرعه في إثر الثورة العباسية، ولم يقيض له المضي إلى شوط أبعد في هذا المضمار. فقد تجلى فن النثر في أدب الرسائل أول الأمر في نهايات العصر الأموي وبدايات العصر العباسي، فخط ابن المقفع رسائله على غرار رسائل عبد الحميد، وهي منطقات طوال تتناول موضوعاً معيناً، لعل أشهرها «رسالة الصحابة» أي في آداب الصحبة والمعاشرة والسلوك، ولاسيما مصاحبة السلطان والولاة، والحكام والقادة، والأعوان والبطانة. ثم ما للرعية والجند من حقوق يجب عطاؤها، وما عليهم من واجبات ينبغي أداؤها، فرسالة الصحابة، وهي بمنزلة خطاب مفتوح إلى الخليفة، ذات صبغة سياسية - إدارية، تهتم بشؤون الحكم وسياسة الدولة.

إن فن الرسالة لا يختلف في جوهره عن فن الخطابة إلا من حيث الحجم، فللخطبة حيز محدود من الزمان على حين قد تطول الرسالة لتقرأ بأناة وتمعن. فهما نمطان أولونان من النثر الأدبي، فقد درج العرب على حتى يخطوا الرسالة في المقصد الكبير، ويلقوا الخطبة في الحدث الجليل. ويمكن القول مع ذلك حتى الكتابة انتسجت على منوال الخطابة، وإنه على طريق الخطباء سار الكتاب، حتى غدت الكتابة آخر الأمر الوريث الشرعي للخطابة.

وما لبث ابن المقفع حتى خطا خطوة أخرى في مضمار النثر الأدبي الوليد حين دبج كتابيه الصغيرين «الأدب الصغير»، و«الأدب الكبير»، وهما في واقع الأمر أشبه برسالتين مطولتين، أوهما بتعبير آخر بمنزلة جسر بين الرسالة المحدودة والكتاب النثري الكامل.

أما كتاب «كليلة ودمنة» الذي نقله ابن المقفع إلى العربية من لغة قومه البهلوية، فيعد لبنة أساسية وكبيرة في صرح النثر العربي الزاهر. وهومثال بارز على ظاهرة تمازج الثقافات ولاسيما بين الآداب الهندية والفارسية والعربية. ومع حتى الكتاب أعجمي الأصول وليس من إبداع العرب في معظمه، فقد انتزع إعجاب الأدباء والنقاد، برغم انتمائه إلى وثنية الهنود ومانوية الفرس. فأقاصيص كليلة ودمنة تضع قارئها في جومحبب، تتعانق فيه الحقيقة والخيال، في تآلف معجب شائق،حافل بالطرافة والغرابة، حيث الحيوانات الناطقة تملأ ربوعه وجنباته، بالحركة والحياة. ومن خلال الحديث بين كليلة وأخيه دمنة ينعقد الحوار المعهود، وتتوالى الأقاصيص واحدة في إثر واحدة، آخذاً بعضها برقاب بعض: فالحيوانات هي وحدها الشخصيات التي تدور من حولها الأحداث، ولكن هذه الحيوانات في الوقت نفسه كائنات تمثل البشر، وهونماذج من الناس تحس وتفكر، وتحب وتبغض، وتنجح وتخفق.. إنها في حقيقة الأمر رموز للناس في خيرهم وشرهم، وقوتهم وضعفهم، وفطنتهم وغبائهم، وسعادتهم وشقائهم.

وإزاء فيض العلوم وازدهار المعارف في ضحى العصر العباسي حفل المجتمع الإسلامي بأعداد وفيرة من الفهماء والكتاب والقصاصين والوعاظ والمؤرخين والفقهاء وفهماء الكلام والفلسفة والمفسرين والمشرعين وأعلام الفكر وأنباه التأليف... واتسعت لذلك كله مناحي القول، ونشط الحوار، وحمي الجدال.

وكان الجاحظ (ت255هـ/868م) أبرز ممثل لهذا الخضم الزاخر على صعيد الفكر الأدبي، وفي مجال الترسل والتأليف. وكتابه «البيان والتبيين» مرآه جلية وأمينة للحياة الأدبية الحافلة عند العرب، بما انطوت عليه من روائع الشعر وبدائع النثر وطرائف الأخبار. وكتابه «البخلاء» صورة متألقة لنماذج بشرية انطوت نفوسها على سمات وملامح برع الجاحظ في سبر أغوارها ورسم معالمها، وتصوير منازعها. وكتابه «الحيوان» نمط طريف بين موضوعات لم تكن معهودة لدى المؤلفين، فعالم الحيوان عالم واسع فسيح الأراتى اقتحمه الجاحظ مزوداً بثقافة موسوعية عريضة، ونظر فاحص ثاقب، وفكر نقدي ناضج.

وغدا طبيعياً في هذا العصر حتى تكون الطوابع الذهنية غالبة في أكثر أنماط الكتابة ومضامينها، لأن النثر أصلاً وعاء العقل، والشعر ترجمان الشعور. فنشطت كتابات الفهماء والفلاسفة والفقهاء وكذلك رؤوس الفرق من معتزلة ومرجئة وشيعة، وأيضاً المجوس والزنادقة والملاحدة. وفي غمار هذه الحياة الفكرية الموارة والبيئة الحضارية الحافلة، اشتد الحوار وحمي التناظر واحتدم الجدال، ولاسيما ما دار بصدد قضايا مهمة كالشعوبية والزندقة ومسائل خلق القرآن والجبر والاختيار... وقد اكتسب بعض هذه المناظرات شهرة واسعة وطابعاً حاسماً، كالذي احتدم في أواخر القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي بين الخوارزمي وبديع الزمان.

كذلك امتد هذا المنحى إلى الأدباء والنقاد فظهرت خط جمة اتخذت من الموازنة بين الشعراء محوراً لها، ككتاب الحسن بن بشر الآمدي (ت371هـ/981م) في «الموازنة بين الطائيين»: أبي تمام والبحتري، وكتاب القاضي الجرجاني (ت392هـ/1001م) في «الوساطة بين المتنبي وخصومه».

واتخذت ظاهرة الموازنة بين أمرين أشكالاً كثيرة وتناولت موضوعات متنوعة،ومنها اهتمام المتحدثين بالموازنة بين مساوئ الديك ومحاسنه، وبين منافع الكلب ومضاره، أوالمفاضلة بين الديك والطاووس. وفي خضم هذه الحياة الفكرية بدا حتى الحقيقة غدت نسبية وأنه يمكن حتىقد يكون لكل قضية وجهان، وفي جميع مسألة قولان، وشاع لدى بعضهم حتى يؤيد موضوعاً ويثبته، وأن يدحضه في الوقت نفسه وينقضه، وذلك فيما يشبه المنحى السفسطائي. من ذلك ما ترويه بعض خط الأدب من حتى الخليفة في مجلسه طلب مرة من أحدهم حتى يصف له كأساً كانت في يده، فما كان منه إلا حتى نطق: «أبمدح أوبذم؟»، فنطق الخليفة: «صفها بمدح» نطق: «تريك القذى وتقيك الأذى» ومضى على هذا الغرار من ذكر محاسنها، وحين طلب إليه حتى يصفها بذم، وصفها بقوله: «سريع كسرها، بطيء جبرها» مصوّراً على التومعايبها.

وكان لمثقفي الولاة والوزراء تأثيرهم في إذكاء هذه الروح من تشجيع التباري والتنافس، فالوزير أبوعبد الله العارض يقول للمحرر أبي حيان التوحيدي (ب410هـ/1019م): «أحب حتى أسمع كلاماً في مراتب النظم والنثر، وإلى أي حد ينتهيان، وعلى أي شكل يتفقان. وأيهما أجمع للفائدة، وأرجع بالعائدة، وأدخل في الصناعة، وأولى بالبراعة». وقد أورد أبوحيان في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» صورة من هذه المفاضلة المسهبة. ولا ريب في حتى هذه الحركة الفكرية الدائبة التي اتخذت عهدئذ من النثر وعاء رحيباً لها كانت مبعث اهتمام المناطقة والمتحدثين ومهوى أفئدة الناشئة والمتأدبين.

على حتى ارتقاء أساليب النثر في ظل ازدهار الحياة العقلية استتبع تكاثر المصطلحات المستحدثة كالهيولى والصورة والجوهر والعرض والحد والعنصر، والألفاظ الدخيلة مثل الترياق والآيين والاسطقس.. وكان متسقطاً إزاء فيض الأفكار الجديدة والألفاظ الدخيلة والأسماء الغريبة ألا تنطوي بعض النصوص والكتابات على اليسر المعهود، وأن يستغلق فهمها أحياناً على مدارك الكثيرين من أوساط الناس، حين كانت تصدمهم مظاهر التعقيد وملامح الغموض فيما يسمعون ويقرؤون. وكما ضاق البحتري ذرعاً في هذا العصر مزج حدود المنطق وقضايا الذهن في فن الشعر، واستنكر أحد الأعراب ما سمعه في مجلس بعض النحاة فنطق ساخراً متعجباً: «أراكم تتحدثون بكلامنا، في كلامنا، بما ليس في كلامنا».

وفي الوقت نفسه إبَّان القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي انبثق في الحياة الأدبية نمط نثري مستحدث عهد بالمقامات، وهونثر قصصي يغلب عليه التأنق اللفظي والتزيين البديعي ويجنح أحياناً في مضمونه إلى السخرية والنادىبة، ويمكن القول إذا هذا الفن ولد كاملاً بفضل موهبة الناثر القدير بديع الزمان الهمذاني (ت398هـ/1007م)، فهوفي مقامته المسماة «البغدادية» يسوق الحكاية على لسان الراوية الموهوم الذي اخترع شخصيته وأطلق عليه اسم عيسى بن هشام وقد يسند إليه أحياناً دور البطل بالإضافة إلى ذلك كما في مقامته البغدادية: «اشتهيت الازاد وأنا ببغداد، وليس معي عقد على نقد. فخرجت أنتهز محاله، حتى أحلني الكرخ. فإذا أنا بسوادي يسوق بالجهد حماره، ويطرز بالعقد إزاره. فقلت: ظفرنا والله بصيد. وحياك الله أبا زيد...».

ومثل هذا النمط الشائق من فنون القول استهوى شباب ذلك الجيل، إذ وجدوا فيه مذاقاً طريفاً ينطوي على المرح والهزل، ويبتعد عن الرصانة والجهد. كما وجدوا في أسلوبه صياغة جميلة ترضي نزوعهم إلى التأنق اللفظي والزخرفة الأسلوبية. وهذا ما حفز ناثراً بارزاً آخر بعد ذلك على المضي قدماً في ممارسة هذا الفن النثري وهوالقاسم بني علي الحريري (ت516هـ/1222م) ولكنه تمادى في اصطياد السجع وسائر المحسنات البديعية إلى حد التصنع والتكلف. كما حتى مقاماته قصرت عن المقامات السالفة، لأن منشئها لم يكن يضارع بديع الزمان في موهبته، فأتت مقاماته قليلة الرونق أشبه بمتون لغوية مسجوعة.

خصائص النثر الفنية

وعلى صعيد الأسلوب في نثر العصر العباسي فقد اغتنت ملامحه وتنوعت أنماطه. فقوام التعبير عند ابن المقفع مشاكلة اللفظ للمعنى، مع توخي الاقتصاد في الألفاظ والوضوح في المعاني إذ البلاغة عنده «هي التي إذا سمعها الجاهل افترض أنه يحسن مثلها»، فكان همه جلاء الفكرة وإيصال المعنى، ولهذا لم يكن يلوي على صنعة أوتنمق ولا وشي أوتزيين. غير حتى السنين التي أعقبت ذلك حملت مع التعقيد الحضاري ما يوازيه من التعقيد الأسلوبي، على غرار ما كان أيضاً من حال الشعر، فطالت العبارة لتكون أقدر على استيعاب الفكرة، وحل الإطناب في القول محل الإيجاز المعهود. وحرص الكتاب على حتى تتسربل جملهم فيما بينها بإيقاع الازدواج أوالتوازن، من مثل ما جنح إليه سهل بن هارون (ت215هـ/830م) والجاحظ، أول الأمر، ثم ما زاد فيه أبوحيان التوحيدي، وما استكثر منه ابن العميد (ت360هـ/830م)، والصاحب ابن عباد (ت385هـ/995م).

ثم مضى الناثرون على هذا الصعيد من تدبيج كتاباتهم والتأنق في عباراتهم إلى المدى الأقصى، وذلك في أواخر القرن الرابع الهجري، وما تلاه من قرون. فجدّوا في طلب الزخرفة والتنميق. ولم يقتصر طلب السجع والزخرف على أصحاب المقامات بل كاد يضم ذلك معظم الأدباء والناثرين. وقلما نأى محرر منشيء في العهود العباسية المتأخرة عن هذه المظاهر التزيينية في النثر العربي. فأبوالعلاء المعري في كتابه «الفصول والغايات» الذي كاد يقصره على مناجاة الخالق بعبارات طافحة بالغرابة اللفظية ومثقلة بالسجع الممجوج: «أقسم بخالق الخيل، والعيس الواجفة بالرحيل، تطلب بموطن جليل، والريح لهابة بليل، بين السوط ومطامع سهيل، إذا الكافر لطويل الويل، وإن القمر لمكفوف الذيل، شعر النابغة وهذيل، وغناء الطير على الغيل...».

ولم يحل القرن السادس الهجري حتى غلب التصنع على النثر العربي وبسط طابعه على معظم النتاج الأدبي في ذلك العصر. ولعل ما يبعث على الرضى حتى بعض أنماط الكتابة النثرية لم تنجرف مع هذا المد التعبيري المتكلف، بل ظلت بريئة إلى حد بعيد من معظم هذه القيود اللفظية والزخارف البديعية، إلا قليلاًَ من السجع بين الألفاظ وبعضاً من التوازن بين الجمل فحافظت خط المؤلفين ومصنفات الفهماء بالإجمال على الأسلوب المرسل ولاسيما مؤلفات النقد الأدبي والتراجم والتاريخ وتقويم البلدان ونحوها. وخير مثال على هذا الترسل ما خطه أبوالفرج الأصفهاني وعبد القاهر الجرجاني... وامتد هذا المنحى النثري المطلق إلى ما بعد العصر العباسي، وتجلى في نثر ابن خلدون وأمثاله من أصحاب الأسلوب المرسل.

أعلام النثر

ظهر في هذا العصر عدد جم من الكتاب والمؤلفين منهم ابن المقفع والجاحظ وابن قتيبة وأبوالفرج الأصفهاني وابن العميد وأبوحيان التوحيدي وبديع الزمان الهمذاني والحريري.

المصادر

  1. ^ عمر الدقاق. "الأدب العربي في العصر العباسي". الموسوعة العربية. Retrieved 2013-02-11.
تاريخ النشر: 2020-06-04 11:39:44
التصنيفات: أدب عربي, عباسيون

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

El-Ahly.com يكشف الراعي الجديد الأقرب لقميص الأهلي

المصدر: الأهلى . كوم - مصر التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:17:04
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 43%

حرب الطرق تقتل 17 شخصا في أسبوع و600 مليون سنتيم حصيلة المخالفات

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:17:19
مستوى الصحة: 64% الأهمية: 77%

إقامة مباراة الأهلي والهلال في السودان بدون جمهور

المصدر: الأهلى . كوم - مصر التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:17:06
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 40%

شوبير: الأهلي قدم لموسيماني «عرضا لن يغيره».. ولم يتوصلا لاتفاق

المصدر: الأهلى . كوم - مصر التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:17:03
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 39%

شراكة اقتصادية “خضراء” تجمع المغرب والاتحاد الأوروبي

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:17:20
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 71%

طقس الخميس..أجواء مستقرة في مختلف مناطق المملكة

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:17:18
مستوى الصحة: 70% الأهمية: 80%

الكنيسة الارثوذكسية تنعي البطريرك أنطونيوس بطريرك الكنيسة الإريترية

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:17:15
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 50%

«المتفائل» هاني الناظر .. حاضر في كل بيت

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:17:14
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 65%

الأرصاد تكشف موعد استقرار الأحوال الجوية

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:17:12
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 57%

المغرب يقترب من إبرام صفقة مركبات أوكرانية متطورة

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:16:59
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 66%

المغرب يُعِدُّ خطة للتعايش مع فيروس "كورونا" هذه أبرز محاورها

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:16:59
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 69%

عباس يؤكد على دور المغرب في الدفاع عن القضية الفلسطينية

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:17:21
مستوى الصحة: 71% الأهمية: 80%

الفريق زاهر عبدالرحمن أحد أبطال حرب أكتوبر فى ذمة الله

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:17:16
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 53%

جمارك مطار برج العرب الدولي تضبط تهريب كمية من الأدوية بشرية

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:17:17
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 69%

«كساب» و«عبدالمنعم» محرران مثاليان.. ومكافأة تميز لـ«فواز» و«ونافع»

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-02-10 00:17:14
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 66%

تحميل تطبيق المنصة العربية