مملكة القوط الشرقيين

عودة للموسوعة

مملكة القوط الشرقيين

مملكة القوط الشرقيين

493–553
مملكة القوط الشرقيين في أقصى اتساعها.
العاصمة راڤـِنـّا (من 493 حتى 540)
اللغات الشائعة اللاتينية، القوطية
الدين Arianism بين القوط،
Chalcedonian Christianity بين الرومان
الحكومة ملكية
الملك  
• 493–526
ثيودوريك العظيم (أول ملك)
• 552–553
تيا (آخر ملك)
الحقبة التاريخية أواخر العصر القديم
• معركة إزونسووڤرونا
489
• سقوط راڤـِنـّا
493
• بدء الحرب القوطية
535
• معركة مونس لاكتاريوس
553
Preceded by
Succeeded by
مملكة اودواسر
Byzantium under the Justinian dynasty

مملكة القوط الشرقيين، هي مملكة أسستها قبائل القوط الشرقيين في في شبه الجزيرة الإيطالية والمناطق المجاورة خلال الفترة بين عامي 489 و553 م (بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية). وصلت المملكة لأقصى اتساع لها في عهد ثيودوريك العظيم. سقطت المملكة على يد الإمبراطورية الرومانية الشرقية بالرغم من محاولات الدفاع المستميتة من قبل القوط.

التاريخ

التأسيس

██ گوتالاند التقليدية ██ جزيرة گوتلاند ██ حضارة ڤيل‌بارك، في مطلع القرن الثالث ██ حضارة چرنياخوڤ، في مطلع القرن الرابع ██ الامبراطورية الرومانية

أدى تصاعد نفوذ قبائل الهون في أوروبا الشرقية في القرن الرابع الميلادي وبالتدقيق عام 370 م أدى لدخول مملكة القوط الشرقيين تحت سيادتهم. في العقود التالية قطن القوط الشرقيون في البلقان وكانوا توابع للهون يحاربون معهم لصالحهم وليس لهم حق السيادة في الأراضي التي يسكنوا فيها.

استطاع القوط الشرقيون بمعاونة توابعهم السابقين الگپيد حتى ينالوا استقلالهم من الامبراطورية الهونية بعد موت حاكمها أتيلا الهوني الذي هزم أبناؤه أمام القوط وأعوانهم في معركة نيداوعام 454م.

انتقل القوط الشرقيون للسكنى في أراضي پانونيا خلال النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي. لعب القوط الشرقيون أدوارا سياسية وثقافية وعسكرية في جنوب شرق أوروبا مماثلة لحد كبير لما أداه أقرانهم الغربيون في نفس البقعة ولكن قبل حوالي قرن من الزمن وكما عمل القوط الغربيون قبلهم فقد انتقلوا من شرق القارة الأوروبية إلى غربها مخترقين بذلك أجزاء من الإمبراطورية الرومانية.

لم تكن بلاد الفرس إلا قطاعاً من تخوم يبلغ طولها عشرة آلاف ميل تتعرض فيها الإمبراطورية الرومانية المؤلفة من مائة أمة مختلفة للغزوفي أية نقطة وفي أية ساعة على أيدي قبائل لم تفسدها الحضارة، ولكنها تطمع في ثمارها. وكان الفرس وحدهم معضلة مستعصية على الحل، فقد كانوا يزدادون قوة لا ضعفاً؛ ولم يمض إلا قليل من الوقت حتى استعادوا جميع ما كان دارا الأول يبسط عليه سلطانه قبل ألف عام من ذلك الوقت - إلا قليلاً منه. وكان في غرب بلادهم العرب، ومعظمهم من البدوالفقراء؛ ولوإذا إنساناً في ذلك الوقت قد نطق إذا أولئك الأقوام الرحل الواجمين قد خط لهم حتى يستولوا على نصف الإمبراطورية الرومانية وعلى بلاد الفرس كلها لسخر من قوله هذا أحكم الساسة وأنفذهم بصيرة. وكان في جنوب الولايات الرومانية الإفريقية الأحباش، واللوبيون، والبربر، والنوميديون، والمغاربة، وكان هؤلاء كلهم يتربصون بالإمبراطورية الدوائر، وينتظرون على أحر من الجمر تداعي الحصون الإمبراطورية أوقوى البلاد المعنوية. ولاح حتى أسبانيا ستظل رومانية آمنة من الغزووراء جبالها المنيعة وبحارها التي لا يستطيع المغبرون اجتيازها؛ ولم يكن أحد يظن أنها ستصبح في هذا القرن الرابع ألمانية، وفي القرن الثامن بلاداً إسلامية. أما غالة فقد كانت وقتئذ تفوق إيطاليا اعتزازاً برومانيتها، كما تفوقها في النظام وفي الثراء، وفي الآداب اللاتينية من شعر ونثر؛ ولكنها كان عليها في جميع جيل حتى تدفع عن نفسها غارات النيوتون الذين كانت نساؤهم أعظم خصباً من حقولهم. ولم يكن في وسع الدولة الرومانية حتى تستغني إلا عن حامية قليلة لتدفع بها عن بريطانيا غارات الاسكتلنديين والبكتيين من الغرب والشمال؛ وغارات أهل الشمال والقراصنة السكسون من الشرق أوالجنوب؛ فقد كانت شواطئ النرويج بجميع أجزائها معششاً لهؤلاء القراصنة، وكان أهلها يرون الحرب أقل مشقة من حرث الأرض، ويعتقدون حتى الإغارة على السواحل الأجنبية عملاً شريفاً لذوي البطون الخاوية وفي أيام الفراغ. ويدعي القوط حتى موطنهم الأول هوجنوبي السويد وجزائرها الصغرى، ولا يبعد حتىقد يكون ذلك الموطن هوالإقليم المحيط بنهر الفستيولا Vistula؛ ولكنهم أياً كان موطنهم انتشروا باسم القوط الغربيين نحونهر الدانوب الجنوب، واستقروا باسم القوط الشرقيين بين نهري الدنيستر Dniester والدون Don. وفي قلب أوربا -الذي تحده انهار الفستيولا والدانوب، والرين- كانت تجول قبائل قدر لها حتى تغير خريطة أوربا وتبدل أسماء أممها: هي قبائل الثورنجيين، والبرغنديين، والإنجليز، والسكسون، والقوت، والفريزيين، والجبيديين، والكوادي، والوندال، والجرمانيون، والسوڤي، واللمبارد، والفرنجة. ولم يكن للإمبراطورية كلها -عدا بريطانيا- أسوار تصد تيار هذه الأجناس، وكل ما كان لها من هذا القبيل هوحصون أوحاميات في أماكن متفرقة على طول الطرق البرية أومجاري الأنهار التي كانت في أطراف الدولة الرومانية. وكانت تفوق البلاد الخارجية عن حدود الدولة الرومانية في نسبة مواليدها: وتفوقها هي على هذه البلاد في مستوى معيشة أهلها، مما جعل الهجرة إليها أوالإغارة عليها قضاء محتوماً لا مفر لها منه في ذلك الوقت، كما أنهما الآن قضاء محتوم على أمريكا الشمالية.

ولعل من واجبنا حتى نعدل بعض التعديل تلك الرواية التي تصف تلك القبائل الألمانية بأنها قبائل متبربرة. نعم إذا اليونان والرومان حين أطلقوا على أولئك الأقوام لفظ برابرة لمقد يكونوا يقصدون بذلك الثناء عليهم، وأكبر الظن حتى هذا اللفظ يقابل لفظ فرفارا في اللغة السنسكريتية، ومعناه الفظ الجلف، غير المثقف؛ وهوشديد الصلة أيضاً بلفظ بربر؛ ولكن اتصال الألمان مدى خمسة قرون بالحضارة الرومانية عن طريق التجارة والحرب كان لا بد حتى يهجر فيهم أثراً قوياً؛ وقبل حتى يحل القرن الرابع بزمن طويل كانوا قد تفهموا الكتابة وأقاموا لهم حكومة ذات قوانين ثابتة.وكانت مبادئهم الأخلاقية من الناحية الجنسية أرقى منها عند الرومان واليونان إذا استثنينا منهم قبائل الفرنجة المروفنجيين؛ وكثيراً ما كانوا يفوقون الرومان في الشجاعة، وكرم الضيافة، والأمانة، وإن كانت تعوزهم رقة الحاشية ودماثة الخلق، وهما الحلتان اللتان يتصف بهما المثقفون. (لسنا ننكر أنهم كانوا قساة القلوب، ولكنهم لمقد يكونوا أشد قسوة من الرومان؛ وأكبر الظن أنهم قد روعهم حتى يعهدوا حتى الشريعة الرومانية كانت تجيز تعذيب الأحرار لتنتزع منهم الشهادات أوالاعترافات. وكانت نزعتهم فردية إلى حد الفوضى، على حين حتى الرومان كانوا في الوقت الذي نتحدث عنه رُوِّضوا على حسن المعاشرة والميل إلى السلم. وكان أهل الطبقات العليا منهم يقدرون الآداب والفنون بعض التقدير، وقد اندمج منهم استلكو، ورسمر، وغيرهما من الألمان في الحياة الثقافية العليا التي كانت تسود المجتمعات في روما، وخطوا أدباً لاتينياً أقر سيماكوس أنه عثر فيه كثيراً من المتعة. وكان الغزاة بوجه عام -وخاصة القوط- يبلغون من الحضارة درجة تمكنهم من حتى يعجبوا بالحضارة الرومانية ويعترفوا أنها أرقى من حضارتهم، ويسعون لاكتسابها لا لتدميرها؛ وظلوا قرنين من الزمان لا يطلبون أكثر من حتى يسمح لهم بالدخول في بلاد الإمبراطورية والاستقرار في أراضيها المهملة؛ وطالما اشهجروا في الدفاع عنها بجد ونشاط. ولهذا فإنا إذا ما ظللنا نستخدم لفظ البراءة في حديثنا عن القبائل الألمانية في القرنين الرابع والخامس، فإنما نعمل ذلك بحكم العادة التي جعلت هذا اللفظ يجري به القلم، مع مراعاة هذه التحفظات والاعتذارات السالفة الذكر.

وكانت هذه القبائل التي تكاثر أفرادها قد دخلت بلاد الإمبراطورية في جنوب نهر الدانوب وجبال الألب بطريق الهجرة السلمية وبدعوة من الأباطرة في بعض الأحيان. وقد بدأ أغسطس هذه السياسة، فسمح للبرابرة حتى يستقروا داخل حدود الإمبراطورية ليعمروا ما خلا من أرضها، ويسدوا ما في فيالقها من ثغرات بعد حتى عجز الرومان عن تعمير أولاها وسد ثانيتها لقلة تناسلهم وضعف روحهم العسكرية. وجرى على هذه السنة نفسها أورليوس، وأوليان، وبروبوس. وقبل حتى ينصرم القرن الرابع كانت كثرة السكان في بلاد البلقان وفي غالة الشرقية من الألمان. وكذلك كان الجيش الروماني، وكانت مناصب الدولة السياسية منها العسكرية في أيدي التيوتون. وكانت الإمبراطورية في وقت من الأوقات قد صبغت أولئك الأقوام بالصبغة الرومانية، أما في الوقت الذي نتحدث عنه فإنهم هم الذين بربروا الرومان؛ فقد أخذ الرومان أنفسهم يرتدون ملابس من الفراء على طراز ملابس البرابرة، وأخذوا كذلك يرسلون شعورهم مثلهم، ومنهم من لبسوا السراويل، (البنطلون)، واستثاروا بذلك غضب الأباطرة، فأصدروا في غيظهم مراسيم بتحريم هذه الثياب. (397،416). واتىت القوة التي دفعت هذه القبائل إلى غاراتها الكبرى على الإمبراطورية الرومانية من سهول المغول النائية. وتفصيل ذلك حتى الزيونج-نوأوالهيونج-نوأوالهون - وهم فرع من الجنس الطوراني، كانوا في القرن الثالث الميلادي يحتلون الأصقاع الواقعة في شمال بحيرة بلكاش وبحر آرال. وكانت سحنتهم، كما يقول جرادنيس هي أقوى أسلحتهم:

فقد كانت ملامحهم الرهيبة تلقي الرعب في قلوب أعدائهم؛ ولعلهم هم لمقد يكونوا أقدر على الحروب من هؤلاء الأعداء. فقد كان أعداؤهم يستول عليهم الفزع فيفرون عبرهم لأن وجوههم الكالحة كانت تقذف الرعب في القلوب. ولأنهم كانت لهم في مكان الرأس كومة لا شكل لها فيها ثقبان بدل العينين. وهم يقسون على أولادهم من يوم مولدهم، لأنهم يبترون خدود الذكر بالسيف حتى يعودهم تحمل ألم الجروح قبل حتى يذوقوا طعم اللبن، ولهذا فإنهم لا تنبت لهم لحى إذا كبروا وتشوه ندب جروح السيوف وجوههم. وهم قصار القامة، سريعوالحركة، خفاف مهرة في ركوب الخيل، بارعون في استعمال الأقواس والسهام، عراض الأكتاف صلاب الرقاب؛ منتصبوالأجسام على الدوام.

وكانت الحروب صناعتهم، ورعاية الماشية رياضتهم، وبلادهم كما ورد في أحد أمثالهم "هي ظهور خيلهم". وتقدم أولئك الأقوام إلى الروسيا حوالي عام 355، مسلحين بالأقواس والسهام، مزودين بالشجاعة والسرعة، يدفعهم من خلفهم جدب بلادهم وضغط أعدائهم الشرقيين، فهزموا في زحفهم قبائل الألاني، وعبروا نهر الفلجا (372؟)، وهاجموا في أكرانيا القوط الشرقيين الذين كادوا حتى يصبحوا أقواماً متحضرين. وقاومهم إرمنريك المعمر ملك القوط الشرقيين مقاومة الأبطال، ولكنه هزم زمات بيده لا بيد أعدائه كما يقول بعض المؤرخين. واستسلم بعض القوط الشرقيين وانضووا تحت لواء الهون، وفر بعضهم متجهين نحوالغرب إلى أراضي القوط الغربيين الواقعة شمال الدانوب. والتقى جيش من القوط الغربيين بالهون الزاحفين عند نهر الدنيستر، فأسقط به الهون هزيمة منكرة، وطلب بعض من نجوا من القوط الغربيين إلى ولاة الأمور الرومان في البلاد الواقعة على نهر الدانوب حتى يأذنوا لهم بعبور النهر والإقامة من مؤيزيا وتراقية. وأوفد الإمبراطور ڤالنز إلى عماله حتى يجيبوهم إلى طلبهم على شرط حتى يسلموا أسلحتهم ويقدموا شبانهم ليكونوا رهائن عنده. وعبر القوط الغربيين الحدود، ونهب موظفوالإمبراطورية وجنودها أموالهم غير مبالين بما يجللهم عملهم هذا من عار. واتخذ الرومان الذين افتتنوا ببناتهم وغلمانهم، أولئك الغلمان والبنات عبيداً لهم وإيماء، ولكن المهاجرين استطاعوا بفضل الرشا التي نفحوا بها ولاة الأمور الرومان حتى يحتفظوا بأسلحتهم. وبيع لهم الطعام بما يباع به في أيام القحط، فكان القوط الجياع يبتاعون شريحة اللحم أورغيف الخبز بعشرة أرطال من الفضة أوبعبد، بل إذا القوط قد اضطروا في آخر الأمر حتى يبيعوا أطفالهم بيع الرقيق لينجوا من هلاك جوعاً. ولما بدت عليهم أمارات التمرد نادى القائد الروماني زعيمهم فرتجيرن إلى وليمة وفي نيته حتى يقتله؛ ولكن فرتجيرن نجا وأثار حمية القوط المستيئسين وحرضهم على القتال، فأخذوا ينهبون، ويحرقون، ويقتلون، حتى أصبحت تراقية كلها تقريباً خراباً يباباً تعاني الأمرين من جوعهم وغيظهم. وأسرع فالنز من بلاد الشرق لملاقاتهم والتحم بهم في سهول هدريانوبل، ولم يكن معه إلا قوة صغيرة معظم رجالها من البرابرة الذين كانوا في خدمة روما (378). وكانت النتيجة، كما يقول أميانوس "أشنع هزيمة حلت بجيوش الرومان منذ معركة كاني" التي حدثت قبل ذلك اليوم بخمسمائة وأربع وتسعين سنة. وفيها تفوق الفرسان القوط على المشاة الرومان، وظلت حركات الفرسان وفنونهم العسكرية من ذلك اليوم حتى القرن الرابع عشر هي المسيطرة على فن الحرب الآخذ في الاضمحلال. وهلك في هذه المعركة ثلثا الجيش الروماني، وأصيب فالنز نفسه بجرح بالغ، وأشعل القوط النار في الكوخ الذي آوى إليه، ومات الإمبراطور ومن كان معه محترقين بالنار. وزحفت الجموع المنتصرة إلى القسطنطينية، ولكنها عجزت عن اختراق وسائل الدفاع التي أقامتها ومنيكا أرملة فالنز. وأخذ القوط الغربيون، ومن انضم إليهم من القوط الشرقيين والهون الذين عبروا الحدود غير المحمية عند نهر الدانوب، يعيثون فساداً في بلاد البلقان من البحر الأسود إلى حدود إيطاليا.


المملكة في إيطاليا

خريطة مملكة القوط الشرقيين في إيطاليا والبلقان.
ضريح ثيودوريك الأكبر في راڤـِنـّا

لم تقفر الإمبراطورية في هذه الأزمة من الحكام القادرين. فقد نقل الجيش ومجلس الشيوخ تاج الإمبراطورية إلى فلنتنيان وهوجندي فظ مقطوع الصلة بالثقافة اليونانية يذكرنا بفسبازيان. وعين فلنتنيان أخاه الأصغر فالنز، بموافقة مجلس الشيوخ، أوغسطس وإمبراطوراً على الشرق، واختار هولنفسه الغرب الذي كان يظهر أشد خطراً من الشرق. ثم أعاد تحصين حدود إيطاليا وگالة، وأعاد إلى الجيش قوته ونظامه، وصد مرة أخرى الغزاة الألمان إلى ما وراء نهر الرين، وأصدر من عاصمته ميلان تشريعات مستنيرة حرم فيها على الآباء اغتال الأبناء، وأنشأ الكليات الجامعية، ووسع نطاق المساعدات الطبية الحكومية في روما، وخفض الضرائب، وأصلح النقد الذي تقلصت قيمته، وقاوم الفساد السياسي، ومنح جميع سكان الإمبراطورية حرية العقيدة والعبادة. وكان لهذا الإمبراطور عيوبه ونقاط ضعفه. من ذلك كان يقسوأشد القسوة على أعدائه؛ وإذا جاز لنا حتى نصدق سقراط المؤرخ فإنه شرع الزواج باثنتين لكي يجيز لنفسه حتى يتزوج جستينا، التي غالت زوجته في ووصف جمالها له. ومع هذا كله فقد كان موته العاجل مأساة كبرى حلت بروما. وخلفه ابنه جراتيان على عرش الإمبراطورية في الغرب، وسار فيها سيرة أبيه عاماً أوعامين، ثم أطلق العنان للهووالصيد، وهجر أزمة الحكم إلى موظفين فاسدين عرضوا جميع المناصب والأحكام للبيع. لهذا خلعه القائد لكسموس عن العرش وغزا إيطاليا ليحاول تنحية فلنتنيان الثاني خلف جراتيان وأخيه غير الشقيق عن ولاية الملك، ولكن ثيودوسيوس الأول الأكبر الإمبراطور الجديد على الشرق زحف غرباً، وهزم الغاصب، وثبت الشاب فلنتنيان على عرشه في ميلان.

وكان ثيودوسيوس من أصل أسباني، أظهر مواهبه الحربية ومهارته في القيادة أسبانيا، وبريطانيا، وتراقية. وكان قد أقنع القوط المنتصرين بالانضواء تحت لوائه بدل حتى يحاربوه، وحكم الولايات الشرقية بحكمة وروية في جميع شيء إلا في عدم تسامحه الديني؛ فلما تولى الملك روع نصف العالم بما اجتمع فيه من صفات متناقضة هي جمال خلقه، ومهابته، وغضبه السريع ورحمته الأسرع، وتشريعاته الرحيمة، وتمسكه الصارم بمبادئ الدين القويم. وبينا كان الإمبراطور يقضي الشتاء في ميلان وقع في تسالونيكي (سالونيكا) اضطراب كان من خصائص تلك الأيام. وكان سببه حتى بُثريك نائب الإمبراطور في ذلك البلد قد سجن سائق عربة محبوب من أهل المدينة جزاء له على جريمة خلقية فاضحة، فطلب الأهلون إطلاق سراحه، وأبى بثريك حتى يجيبهم إلى طلبهم، وهجم الغوغاء على الحامية وتغلبوا عليها، وقتلوا الحاكم وأعوانه ومزقوا أجسامهم إرباً، وطافوا بشوارع المدينة متظاهرين يحملون أشلاءهم دلالة على ما أحرزوه من نصر. ولما وصلت أنباء هذه الفتنة إلى مسامع ثيودوسيوس فاستشاط غضباً وبعث بأوامر سرية تقضي بأن يحل العقاب بجميع سكان تسالونيكي. فدعى أهل المدينة إلى ميدان السباق لمشاهدة الألعاب، ولما حضروا انقض عليهم الجند المترصدون لهم وقتلوا منهم سبعة آلاف من الرجال والنساء والأطفال، (390). وكان ثيودوسيوس قد بعث بأمر ثان يخفف به أمره الأول ولكنه وصل بعد فوات الفرصة.

وارتاع العالم الروماني لهذا الانتقام الوحشي وخط الأسقف أمبروز الذي كان يجلس على كرسي ميلان ويصرف منه على شؤون الأبرشية الدينية بالجرأة والصلابة الخليقتين بالمسيحية الحقه، خط إلى الإمبراطور يقول إنه (أي الأسقف) لا يستطيع بعد ذلك الوقت حتى يقيم القداس في حضرة الإمبراطور إلا إذا كفر ثيودوسيوس عن جرمه هذا أمام الشعب كله. وأبى الإمبراطور حتى يحط من كرامة منصبه بهذا الإذلال العلني وإن كان في خبيئة نفسه قد ندم على ما عمل، وحاول حتى يدخل الكنيسة، ولكن أمبروز نفسه سد عليه الطريق، ولم يجد الإمبراطور بداً من الخضوع بعد حتى قضى عدة أسابيع يحاول فيها عبثاً حتى يتخلص من هذا المأزق، فجرد نفسه من جميع شعائر الإمبراطورية، ودخل الكنيسة دخول التائب الذليل، وتوسل إلى الله حتى يغفر له خطاياه (390). وكان هذا الحادث نصراً وهزيمة تاريخيين في الحرب القائمة بين الكنيسة والدولة.

ولما عاد ثيودوسيوس إلى القسطنطينية تبين حتى فالنتنيان الثاني؛ وهوشاب في العشرين من عمره، عاجز عن حل المشاكل التي تحيط به. فقد خدعه أعوانه وجمعوا السلطة كلها في أيديهم المرتشية، واغتصب أربوجاست الفرنجي الوثني قائد جيشه المرابط السلطة الإمبراطورية في غالة، ولما قدم فلنتنيان إلى فين ليؤكد فيها سيادته اغتال غيلة. وحمل أربوجاست على عرش الغرب تلميذاً وديعاً سلس القياد يدعى اوجنيوس وبدأ بعمله هذا سلسلة من البرابرة صانعي الملك. وكان أوجينوس مسيحياً: ولكنه كان وثيق الصلة بالأحزاب الوثنية في إيطاليا إلى حد جعل أمبروز يخشى حتى يصبح يولياناً ثانياً. وزحف ثيودوسيوس مرة أخرى نحوالغرب ليعيد إلى تلك الأنحاء السلطة الشرعية ويردها إلى الدين القويم. وكان تحت لوائه جيش من الهون والقوط، والألاني، وأهل القوقاز، وأيبيريا، وكان من بين قواده جيناس القوطي الذي استولى فيما بعد على القسطنطينية، واستلكوالوندالي الذي دافع في المستقبل عن روما، وألريك القوطي الذي نهبها. ودارت بالقرب من أكويليا معركة دامت يومين، هزم فيها أربوجاست وأوجينوس؛ فأما أوجينوس فقد ذبح بعد حتى أسلمه جنوده، وأما أربوجاست فقد اغتال نفسه بيده. واستدعى ثيودوسيوس ابنه هونوريوس وهوغلام في الحادية عشرة من عمره ليقيمه إمبراطور على الغرب، ورشح ابنه أركاديوس البالغ من العمر ثماني عشر سنة ليكون إمبراطور معه على الشرق ثم توفي بعدئذ في ميلان منهوكاً من كثرة الحروب ولما يتجاوز الخمسين من عمره. وانقسمت بعد موته الإمبراطورية التي طالما وحدها، ولم يجتمع ضمها مرة أخرى بعد ذلك الوقت إلا في فترة قصيرة تحت حكم جستنيان.

وكان ولدا ثيودوسيوس شخصين ضعيفين مخنثين، درجا في مهد الأمن والدعة الموهن للعزيمة، فلمقد يكونا خليقين بأن يوجها سفينة الدولة فيما يحيط بها من عواصف، وإن كانت أخلاقهما لا تقلان طيبة عن نواياهما. وسرعان ما أفلت زمام الأمور من أيديهما، وأسلما أعمال الدولة الإدارية والسياسة -إلى وزيرهما- إلى روفينوس المرتشي الشره في الشرق، وإلى استلكوالقدير المجرد من الضمير في الغرب. ولم يلبث هذا الشريف الوندالي حتى زوج ابنته مارية بهونوريوس في عام 398 راجياً حتى يصبح بهذا الزواج جداً لإمبراطور وصهراً لآخر. ولكن هونوريوس أثبت أنه مجرد من العاطفة تجره من الفطنة، فكان يقضي وقته في إطعام الدجاج الإمبراطوري ويحبوهذا الدجاج بحبه وعطفه، حتى ماتت مارة عذراء بعد حتى لبثت زوجة عشرة سنين.

وكان ثيودوسيوس قد جعل القوط يجنحون إلى السلم باستخدامهم في الحرب، وبتقديم معونة سنوية من المال لهم بوصفهم حلفاء له؛ ولكن خلفه بتر عنهم هذه المعونة، ولما اتى استلكوسرح جنوده الوط؛ وقام المحاربون المتعطلون يطلبون المال والمغامرات وهيأ لهم ألريك زعيمهم الجديد كليهما واستعان على ذلك بمهارة بزَّ بها الرومان في الحرب وفي السياسة على السواء، ونطق لأتباعه إنه لا يدري كيف من الممكن أن يَخضع القوطُ ذووالأنفة والرجولة ويعملون أجزاء عند الرومان أواليونان الضعفاء المنهوكين، بدل حتى يعتمدوا على بسالتهم وقوة سواعدهم فيقتطعوا من الإمبراطورية المتداعية المحتضرة مملكة لهم،يا ترى؟ وقاد ألريك في السنة التي توفي فيها ثيودوسيوس قوط تراقية كلهم تقريباً وزحف بهم على بلاد اليونان، واجتاز ممر ترموبيلي دون حتى يلقي مقاومة، وذبح جميع من لقي في طريقه من الرجال الذين في سن العسكرية، وسبى النساء، وخرب بلاد البلوبونيز، ودمر هيكل دمتر في إليوسيز، ولم يبق على أثينة إلا بعد حتى افتدت نفسها بفدية استنفدت معظم ثروتها غير العقارية. واتى استلكولينقذها ولكنه وصل إليها بعد فوات الفرصة، فاستدرج القوط إلى مسقط غير حصين، ولكن ثورة شبت في إفريقية اضطرته إلى حتى يعقد معهم هدنة عاد بعدها إلى العرب. ثم سقط ألريك ميثاق حلف مع أركاديوس أجاز فيه ثانيهما للأول حتى يستقر أتباعه من القوط في إبيروس، وبسط السلم لواءه بعدئذ على الإمبراطورية أربع سنين.

وفي هذه السنين الأربع ألقى سينيسيوس القوريني، وهوأسقف نصف مسيحي ونصف وثني، خطاباً في القسطنطينية أمام حاشية أركاديوس المترفة وصف فيها في وضوح وقوة المشكلة التي تقابلها روما وبلاد اليونان والتي لا بد لها حتى تتخذ فيها واحدة من اثنتين. وكان مما نطقه في هذه الخطبة: كيف من الممكن أن تستطيع الإمبراطورية البقاء إذا ظل أهلها يتهربون من الخدمة العسكرية، ويكلون الدفاع عنها إلى الجنود المرتزقة، تجندهم من الأمم التي تهدد كيانها،يا ترى؟ وعرض على الولاة الأمور حتى يضعوا حداً للترف والنعيم، وأن يجيشوا جيشاً من أهل البلاد بالتطوع أوالتجنيد الإجباري يدافع عنها وعن حريتها؛ وأهاب بأركاديوس وهونوريوس حتى ينفضا عنهم غبار الخمول وأن يوجها ضربة قاصمة إلى جموع البرابرة الوقحين الذين في داخل الإمبراطورية، وأن يردوهم إلى مرابضهم وراء البحر الأسود ونهري الدانوب والراين. وصفق رجال الحاشية إعجاباً بما حواه خطاب سينيسيوس من عبارات منمقة بليغة، ثم عادوا من فورهم إلى ولائمهم وكان ألريك في هذه الأثناء يرغم صناع الأسلحة في أبيروس على حتى يصنعوا لرجاله القوط جميع ما هم في حاجة إليه من الحراب والسيوف والخوذ والدروع.

وفي عام 401 غزا إيطاليا، بعد حتى نهب جميع ما مر ب في طريقه من البلاد، وهرع آلاف من اللاجئين إلى ميلان ورافنا، ثم فروا منهما إلى روما. واحتمى الزراع في داخل المدن المسورة، وجمع الأغنياء جميع ما استطاعوا نقله من ثروتهم، وحاولوا وهم في شدة الذعر حتى يعبروا البحر إلى كورسكا، وسردينية، وصقلية. وجرد استلكوولايات الدولة من حامياتها ليجمع منها جيشاً يستطيع صد تيار القوط الجارف، وانقض به عليهم في بولنتيا في صباح يوم عيد القيامة من عام 402 حين وقفوا أعمال النهب ليؤدوا الصلاة. ونشبت بين الجيشين معركة لم تكن فاصلة، ارتد على أثرها ألريك إلى روما التي لم تكن فيها من يدافع عنها، ولم يغادر إيطاليا إلا بعد حتى نفحه هونوريوس برشوة سخية.

وكان الإمبراطور الوجل قد فكر أثناء زحف ألريك على ميلان حتى ينقل عاصمته إلى غالة، أما الآن فقد أخذ يبحث له عن مكان آخر أعظم منها أمناً، فوجد ذلك المكان في رافنا، التي تجعلها المناقع والبحيرات الضحلة، منيعة من البر، والشواطئ الرقراقة مستعصية على العدومن جهة البحر. ولكن العاصمة الجديدة أخذت ترتجف من الخوف كالعاصمة القديمة حين زحف ردجيسيوس البربري بجيش تبلغ عدته مائتي ألف مقاتل من الألاني، والكوادي، والقوط الشرقيين، والوندال، وعبر بهم جبال الألب، وهاجم مدينة فلورنتيا الناشئة. وفي هذه العصيبة برهن استلكومرة أخرى على براعته في القيادة، فهزم الجحفل المختلط بجيش أقل منه عدداً، وساق ردجيسيوس مكبلاً بالأغلال أمام هونوريوس، وتنفست إيطاليا الصعداء مرة أخرى، وعادت حاشية الإمبراطور، من أشراف وأميرات، وأساقفة، وخصيان، وطيور داجنة وقواد إلى ما ألفته من ترف، وفساد، ودسائس.

وكان أولمبيوس وزير الإمبراطور، يغار من استلكوويرتاب في نواياه. فقد ساءه حتى يتغاضى القائد العظيم، كما بدا له، عن هرب ألريك المرة بعد المرة. وخيل إليه أنه قد كشف ما بين القائد الألماني والغزاة الألمان من عطف كامن. واحتج على الرشا التي نفح بها ألريك أووعد بها بناء على طلب استلكو. وتردد هونوريوس في إقصاء الرجل الذي لبث ثلاثة وعشرين عاماً يقود جيوش روما من نصر إلى نصر، والذي أنجى الغرب مما كان يتهدده من أخطار؛ فلما حتى أقنعه أولمبيوس بأن استلكويأتمر به ليجلس ابنه هوعلى العرش، وافق الشاب الوجل على اغتال قائده، وأوفد أولمبيوس من فوره سرية من الجند لينفذوا قرار الإمبراطور. وأراد أصدقاء استلكوحتى يقاوموا ولكنه أمرهم ألا يعملوا ومد رقبته للسيف. وبعد بضعة أشهر من هذا الحادث عاد ألريك إلى إيطاليا.

كانت الدولة الرومانية الغربية في أواخر القرن الرابع تطالعنا بصورة معقدة مركبة من الانتعاش والاضمحلال، ومن النشاط والعقم الأدبي، ومن الأبهة السياسية والانحلال العسكري. وكانت غالة في هذه الأثناء تزدهر ويعمها الرخاء، وتنازع إيطاليا في جميع الميادين؛ فقد كان عدد الغاليين في الإمبراطورية عشرين مليوناً أويزيدون من سكانها الذين يقربون من سبعين مليوناً، في حين حتى الإيطاليين لا يكادون يبلغون ستة ملايين؛ وأما من عدا هؤلاء وأولئك فكانت كثرتهم من الشرقيين الذين يتحدثون اللغة اليونانية. وقد استحالت روما نفسها منذ بداية القرن الثاني بعد الميلاد مدينة شرقية من الأجناس التي تسكنها. لقد كانت روما من قبل تعتمد في حياتها على الشرق كما كانت أوربا الحديثة تعتمد في حياتها على فتوحها ومستعمراتها إلى أواسط القرن العشرين، وكانت الفيالق الرومانية تستحوذ على غلات ولاياتها التي تزيد على عشرة، وتنتزع منها معادنها الثمينة التي كانت تنساب في قصور الظافرين وخزائنهم. أما في الوقت الذي نتحدث عنه فقد انقضى عهد الفتوح وبدأ عهد التقهقر والتراجع، واضطرت إيطاليا إلى الاعتماد على مواردها البشرية والمادية التي اضمحلت اضمحلالاً ينذر بأشد الأخطار من جراء تحديد النسل، والقحط والوباء، والضرائب الفادحة، والإتلاف والحرب. ولم تزدهر الصناعة يوماً ما في شبه الجزيرة الصقلية؛ ولآن وقد أخذت تفقد أسواقها في الشرق وفي غالة، لم يعد في وسعها حتى تعول سكان المدن الذين كانوا يحصلون على الكفاف من العيش بالكدح في الحوانيت وفي البيوت. وكانت الكجلييا أونقابات أصحاب الحرف تعاني الأمرين من جراء عجز أفرادها عن بيع أصواتهم في دولة ملكية مطلقة كان التصويت فيها نادراً. وكسدت التجارة الداخلية، وانتشر قطاع الطرق، وأخذت الطرق التي كانت من قبل مضرب الأمثال في العظمة تضمحل وتتحطم وإن ظلت وقتئذ أحسن من أي طريق في العالم كله قبل القرن التاسع عشر.

وكانت الطبقات الوسطى قبل ذلك الوقت عماد حياة المدن في إيطاليا؛ أما الآن فقد ضعفت هي الأخرى من جراء الانحلال الاقتصادي والاستغلال المالي؛ فقد كان جميع ذي مال يخضع لضرائب مطردة الزيادة لإعالة بيروقراطية آخذة في الاتساع، وأهم ما تقوم به من الأعمال هوجباية الضرائب. وكان الهاتىون الفكهون حين يشكون من هذه الحال يقولون إذا "الذين يعيشون على الأموال العامة أكثر عدداً من الذين يمدونهم بهذه الأموال.

وكانت الرشا تستنفد الكثير مما يجبى من الضرائب؛ وسن ألف قانون وقانون لمقاومة اختلاس إيرادات الحكومة أوأملاكها، والكشف عن هذه الاختلاسات ومعاقبة مرتكبيها، وكان الكثير من الجباة يفرضون على البسطاء أكثر مما يجب حتى يؤدوه؛ ويحتفظون بالزيادة لأنفسهم؛ وكان في وسعهم في لقاء هذا حتى يخففوا الضرائب عن الأغنياء نظير جعل يأخذونه منهم.

وكان الأباطرة يبذلون غاية جهدهم لكي تراعى الأمانة في جبايتها؛ من ذلك حتى فلنتيان الثاني عين في جميع بلدة موظفاً يسمى "المدافع عن المدينة" ليحمي أهلها من حيل الجباة، وأعفى هونوريوس المدن التي كانت تعاني الأزمات المالية مما كان متأخراً عليها من الضرائب. ومع هذه فإن بعض سكان المدن -إذ صدقنا قول سلفيان - كانوا يفرون إلى خارج الحدود ليعيشوا تحت حكم الملوك البرابرة الذين لم يتفهموا بعد فن جباية الضرائب كاملاً؛ فقد بدا لهم حتى عمال الخزنة أشد رهبة من العدو". وكان من أثر هذه الظروف حتى قلت الرغبة في النسل فأخذ عدد السكان في النقصان، وبقيت آلاف الأفدنة من الأراضي الصالحة للزراعة بوراً لا تجد من يفلحها، فنشأ من ذلك فراغ اقتصادي اجتمع إلى ما بقي في المدن من ثروة فأدى إلى اجتذاب البرابرة الذين كانوا في أشد الحاجة إلى تلك الأرض. ووجد كثيرون من أصحاب الأراضي الزراعية أنهم عاجزون عن أداء الضرائب أوالدفاع عن مساكنهم ضد الغزاة أواللصوص، فتخلوا عن أملاكهم لمن هم أكبر منهم من الملاك أوأعظم قوة، وعملوا عندهم زراعاً، وأخذوا على أنفسهم يقدموا لسادتهم قدراً معيناً من غلة الأرض ومن العمل والوقت، وعلى حتى يضمن لك أولئك السادة ما يكفيهم من العيش، ويحموهم في وقتي السلم والحرب. وبهذا كانت إيطاليا، التي لم تعهد فيما بعد الإقطاع بمعناه الكامل، من أوائل الأمم التي عدت أسس هذا الإقطاع. وكانت خطة شبيهة بهذه تحدث في مصر وإفريقية وغالة.

وكان الاسترقاق آخذاً في الزوال على مهل، وسبب ذلك ألا شيء في الحضارة الراقية يعدل أجر الرجل الحر أومرتبه أومكتسبة من حيث هودافع اقتصادي للعمل والإنتاج. ولم يكن كدح الأرقاء مجزياً من هذه الناحية إلا حين يكثر عددهم؛ وكانت أعباء الاحتفاظ بهن قليلة؛ ولكن نفقات الحصول عليهم زادت حين لم تعد الفيالق الرومانية تنقل إلى بلادها ثمار النصر من الآدميين؛ يضاف إلى هذا حتى فرار الأرقاء من سادتهم أصبح الآن أمراً يسيراً بسبب ضعف الحكومة؛ هذا إلى أنه كان لا بد من العناية بهم إذا سقموا أوتقدمت بهم السن. ولما حتى زادت تكاليف الأرقاء رأى سادتهم حتى يحافظوا على الأموال التي استثمروها فيه بحسن معاملتهم له؛ ولكن أولئك الأسياد كان لا يزال لهم على عبيدهم حق الحياة والموت، وإن كان هذا الحق مقيداً ببعض القيود، كما كان في مقدور السيد حتى يستعين بالقانون للقبض على العبد الآبق، وأن يشبع شهوته الجنسية مع من يهوى منهم رجالاً كانوا أونساءً؛ وهل أدل على هذا من حتى بولينوس البلائي كان يفخر بطهارة ذيله في شبابه حين "كبحت جماح شهواتي... فلم أستجيب لعشق امرأة حرة... واكتفيت بالإماء اللاتي كن في بيتي".

وكان معظم الأغنياء يعيشون الآن في بيوتهم الريفية بمنجاة من ضجيج المدن وغوغائها، غير حتى الجزء الأكبر من ثروة إيطاليا كان لا يزال ينصب في روما؛ ولم تكن المدينة العظيمة، كما كانت من قبل، عاصمة الدولة، وقلّما كانت ترى الإمبراطور، ولكنها ظلت مركز الحياة الاجتماعية والذهنية في الغرب. وفي روما كانت أعلى درجات الطبقة الأرستقراطية الإيطالية الجديدة. ولم تكن هذه، كما كانت من قبل، طبقة وراثية، بل كانت طائفة يختارها الأباطرة بين الفينة والفينة على أساس الملكية العقارية. وكان أعضاء مجلس الشيوخ يعيشون بأعظم مظاهر الأبهة والفخامة وإن كان مجلسهم قد فقد بعض هيبته وكثيراً من سلطانه. وكانوا يشغلون بعض المناصب الإدارية الهامة ويظهرون فيها كثير من المقدرة والكفاية، ويقيمون الألعاب العامة على نفقتهم الخاصة. وكانت بيوتهم غاصة بالخدم مملوءة بالأثاث الغالي الثمن، وليس أدل على ذلك من حتى طنفسة واحدة قد كلفت صاحبها ما قيمته أربعمائة ألف ريال أمريكي. وتكشف رسائل سيماركوس وسيدنيوس. كما يكشف شعر كلوديان عن الناحية الطيبة من حياة أولئك الأشراف الجدد، وما تمتاز به من نشاط اجتماعي وثقافي، وخدمة للدولة وولاء لها؛ وما كان بينهم من صداقة ورقة، وإخلاص متبادل بينهم وبين أزقابلم، وحب لأبنائهم وعطف عليهم.

لكن قس من مرسيلية عاش في القرن الخامس قد صور الحالة في إيطاليا وگالة بصورة أقل جاذبية من الصورة السابقة. فقد عالج سلفيان في كتابه "عن حكومة الله" (حوالي 450) نفس المشكلة التي أوحت إلى أوغسطين بكتابه "مدينة الله" وإلى أورسيوس بكتابه "التاريخ ضد الوثنيين"-وهي كيف من الممكن أن يستطاع التوفيق بين الشرور الناجمة من غزوات البرابرة وبين العناية الإلهية الرحيمة الخيرة،يا ترى؟ وقد أجاب سلفيان عن هذا السؤال بأن الآلام يقاسيها سكان الإمبراطورية إذا هي إلا قصاص عادل لما كان متفشياً في العالم الروماني من استغلال اقتصادي، وفساد سياسي، واستهتار أخلاقي؛ ويؤكد لنا أنا لا نستطيع حتى نجد بين البرابرة مثل ما نجده بين الرومان من ظلم الأغنياء للفقراء، لأن قلوب البرابرة أرق من قلوب الرومان؛ ولوحتى الفقراء وجدوا وسيلة للانتنطق لهاجروا بقضهم وقضيضهم ليعيشوا تحت حكم البرابرة. يواصل هذا الواعظ الأخلاقي وصفه فيقول إذا الأغنياء والفقراء، والوثنيين والمسيحيين، في داخل الإمبراطورية كلهم غارقون في حمأة من الفساد لا يكاد التاريخ يعهد لها مثيلاً؛ فالزنى، وشرب الخمر قد أصبحا من الرذائل المألوفة في هذه الأيام، كما أضحت الفضيلة والاعتدال مثار السخرية ومبعث الآلاف من الفكاهات القذرة؛ وصار اسم المسيح لفظاً تدنسه أفواه الذين يسمونه إلهاً. ويمضي هذا التاستس الثاني فيدعونا إلى حتى ننظر إلى الفرق بين هذا كله وبين ما يتصف به الألمان من قوة وشجاعة، ومن مسيحية مليئة بالتقي خالية من التعقيد، ومن لين في معاملتهم للرومان المغلوبين، ومن ولاء متبادل بينهم، ومن عفة قبل الزواج، ووفاء بعده. لقد ذهل جيسريك الزعيم الوندالي إذ عثر حين استولى على قرطاجنة المسيحية أنه لا يكاد يخلوركن فيها من بيت للنادىرة، فما كان منه إلا حتى أغلق هذه المواخير وخير العاهرات بين الزواج والنفي. وجملة القول حتى العالم الروماني سائر إلى الانحطاط جسيماً، وقد فقد جميع ما كان يتصف به من شجاعة أدبية، وهجر الدفاع عنه إلى الأجانب المأجورين. ويختتم سلفيان هذا الوصف بقوله إذا الإمبراطورية الرومانية "إما حتى اكون قد ماتت وإما أنها تلفظ آخر أنفاسها"؛ وإذ كنا نراها في ذروة ترفها وألعابها، فإنها تضحك حين تموت.

تلك هي صورة مروعة، ظاهر فيها الغلو، لأن البلاغة قلّما تصحبها الدقة، وما من شك في حتى الفضيلة قد توارت حياء في ذلك الوقت كما تتوارى الآن، وأفسحت الطريق للرذيلة، والبؤس، والسياسة، والجريمة. ويرسم أوغسطين صورة لا تقل عن هذه الصورة قتاماً يهدف بها إلى مثل هذه الغاية الأخلاقية؛ فهويشكومن حتى الكنائس كثيراً ما تخلومن المصلين لأن البنات الراقصات في دور التمثيل يجتذبن الناس منها بما يعرضنه من فتنتهن السافرة. وكانت الألعاب العامة لا تزال تشهد اغتال الأسرى والمجرمين ليستمتع الناس بهذه المناظر البشعة في أعيادهم. وفي وسعنا حتى نتصور ما في هذه المناظر من قسوة حين نقرأ ما يقوله سيماكوس من أنه أنفق ما قيمته 900.000 ريال أمريكي في إقامة حفلة واحدة، ومن حتى المجالدين السكسون التسعة والعشرين الذين سقط الاختيار عليهم ليقاتلوا في المجتلد قد فوتوا عليه غرضه بأن خنقوا بعضهم بعضاً فانتحروا جميعاً قبل حتى تبدأ الألعاب. وكان لروما في القرن الرابع 175 عيداً في العام، منها عشرة تقام فيها مباريات المجالدين، وأربعة وستون تعرض فيها ألعاب الوحوش، وما بقي منها بعد ذلك تعرض فيه مناظر في دور التمثيل. واغتنم البرابرة فرصة ولع الرومان بهذه المعارك الزائفة فانقضوا على قرطاجنة، وأنطاكية، وترير Trier حين كان الأهلون منهمكين في مشاهدتها في المدرجات أوحلبات اقتتال الوحوش. وحدث في عام 404 حتى أقيمت في روما ألعاب للمجالدين احتفالاً بذكرى فوز استلكوفي بولنتيا نصراً مشكوكاً فيه. وحين بدأ الدم يراق قفز راهب شرقي يدعى تلمكس من قاعدة النظارة إلى المجتلد ونادي بوقف القتال. ولكن النظارة استشاطوا غضباً فأخذوا يرجمونه بالحجارة حتى قتلوه؛ وأثر هذا المنظر في الإمبراطور هونوريوس فأصدر مرسوماً بإلغاء ألعاب المجالدين . أما السباق فقد بقي حتى عام 549 حين قضى عليه استنزاف الحروب القوطية لثروة المدن.

أما من الناحية الثقافية فلم تشهد روما منذ أيام بلني وتاستوس عصراً نشطت فيه الثقافة مثل ما نشطت في ذلك الوقت. لقد كان جميع إنسان مولعاً بالموسيقى حتى لقد شكا أميانوس من أنها قد حلت محل الفلسفة، وأنها قد "حولت الخط إلى مقابر"؛ وهويصف لنا أراغن مائية ضخمة، وقيثارات في حجم المركبات. وكانت المدارس كثيرة العدد، ويقول سيماكوس إذا جميع إنسان كان يجد الفرصة سانحة لتنمية ملكاته. وكانت "جامعات" الأساتذة الذين تؤدي لهم الدولة رواتبهم تفهم النحو، والبلاغة، والأدب، والفلسفة لطلاب اتىوا إليها من جميع الولايات الغربية، وذلك في الوقت الذي كان فيه البرابرة المحيطون بالدولة يدرسون فنون الحرب. إذا جميع حضارة ثمرة من ثمار شجرة الهمجية الصلبة وهي تسقط حين تسقط عند أبعد نقطة من جزع هذه الشجرة.

واتى إلى المدينة التي يبلغ عدد سكانها مليوناً من الأنفس حوالي عام 365 يوناني سوري، كريم المحتد، وسيم الخلق، يدعى أميمانوس مرسلينوس الإنطاكي. وكان من قبل جندياً تحت قيادة أرسينوس في أرض الجزيرة، واشهجر بنشاط في حروب قنسطنطيوس ويوليان وجوفيان. وقد عاش هذا الرجل عيشة الجد والعمل قبل حتى يشتغل بالكتابة. ولما عاد السلام إلى ربوع الشرق ارتحل إلى روما وأخذ على عاتقه إتمام العمل الذي بدأه ليفي وتاستوس، وذلك بكتابة تاريخ الإمبراطورية من عهد نيفا إلى عهد فالنز. وخط بلغة لاتينية عسيرة معقدة، تشبه اللغة الفرنسية إذا ما خطها ألماني؛ وكان من مسببات هذا العسر والتعقيد في كتاباته كثرة ما قرأه من كتابات تاستوس وطول الزمن الذي كان يتحدث فيه اللغة اليونانية. وكان هذا الرجل وثنياً سافراً، من المعجبين بيوليان، ومن الذين يزدرون الترف الذي كان يعزوه إلى أساقفة روما؛ ولكنه رغم هذا كله كان بوجه عام منزهاً عن الهوى فيما خط، يمتدح كثيراً من فضائل المسيحية، ويلوم يوليان على تقييده الحرية الفهمية، ويقول إذا هذا خطأ يجب "أن يقضي عليه بالسكوت الأبدي". وكان قد حصل من الفهم أقصى ما يسمح وقت الجندي له بتحصيله. وكان يؤمن بالشياطين والسحر، ويقتبس من شيشرون أكبر المعارضين للقدرة على فهم الغيب مما يؤيده به هذه العقيدة. ولكنه كان إلى حد كبير رجلاً شريفاً لا يداجي ولا يجامل، عادلاً مع جميع الناس وجميع الأحزاب؛ "لا أزين قصتي بالألفاظ الخداعة، أمين على الحقائق إلى أبعد حدود الأمانة". وكان يكره الظلم، والبذخ، والمظاهر الكاذبة، ويجهر برأيه فيها أينما وجدت؛ وكان آخر المؤرخين اليونان والرومان الأقدمين، وكان جميع من اتى بعده في العالم اللاتيني مجرد إخباريين.

لكن مكروبيوس قد عثر في هذه المدينة نفسها، أي في روما، التي كانت أخلاقها في نظر أميانوس وضيعة متعاظمة فاسدة، مجتمعاً من الناس، يجملون ثراءهم باللطف والكياسة، والثقافة، ومحبة الناس. وكان مكروبيوس هذا في أول الأمر من رجال الفهم مولعاً بالخط وبالحياة الهادئة، لكننا نجده في عام 399 يعمل مبعوثاً للإمبراطور في أسبانيا. وقد أصبح تعليقه على كتاب شيشرون المسمى "أحلام سبيو" الوسيلة التي انتقل بها تصوف الأفلاطونية الجديدة وفلسفتها إلى عامة الشعب. وخير خطه على الإطلاق هوكتاب الساترناليا أوعيد زحل الذي لا يكاد كتاب تاريخي في الخمسة عشر قروناً الأخيرة يخلومن مقتبسات منه. وهومجموعة من (غرائب الأدب) أورد فيه المؤلف ما حصله من معلومات غير متجانسة في أيام جده ودراسته، ولياليه الطوال التي قضاها ينقب في بطون الأسفار. وقد تفوق في كتاباته على ألوس جليوس في الوقت الذي كان يسطوعليه، ذلك بأنه صاغ المادة التي أخذها عنه في صورة محادثة خيالي بين رجال حقيقيين هم پروتكستاتوس وسيماخوس، وفلافيان، وسرفيوس وغيرهم ممن اجتمعوا ليحتفلوا بعيد الساترناليا بالخمر الطيب، والطعام الشهي، والنقاش الفهمي. وألقيت في هذا النقاش على الطبيب ديزاريوس أسئلة فهمية منها: هل الطعام البسيط خير من الطعام المتعدد الألوان،يا ترى؟ ولم يندر حتى ترى امرأة سكرى،يا ترى؟ ولم يسكر المسنون من الرجال على الدوام،يا ترى؟ هل طبيعة الرجال أقل أوأكثر حرارة من طبيعة الناس؟. ويدور النقاش حول التقويم، وفيه تحليل طويل لألفاظ فرجيل، ونحوه، وأسلوبه، وفلسفته، وسرقاته؛ وفيه فكاهات مأخوذة من جميع العصور، ورسالة عن الولائم الدسمة، والأطعمة النادرة. وتبحث في المساء مسائل أخف من هذه يتسلى بها هؤلاء الفهماء منها: لم تحمر وجوهنا من الخجل وتصفر من الخوف؟-ولم يبدأ الصلع من أعلى الرأس،يا ترى؟ وأيهما أسبق من الآخر الفرخ أوالبيضة،يا ترى؟

ونجد في مواضع متفرقة من هذا الخليط المهوش فقرات سامية كالتي يتحدث فيها بريتكستاتوس عن الرق فيقول:

لن أقدر الناس بمراكزهم بل بآدابهم وأخلاقهم، لأن الثانية ثمرة طباعنا أما الأولى فهي نتيجة الصدفة.. وينبغي لك يا إفنجيلوس حتى تبحث عن أصدقائك في منزلك لا في السوق العامة ولا في مجلس الشيوخ. عامل عبدك بالرفق والحسنى، وأشركه في حديثك، وأدخله أحياناً في مجالسك الخاصة. وقد عمل أباؤنا على محوالكبرياء من نفس السيد والخجل من نفس العبد بأن سموا الأول "والد الأسرة" وسموا الثاني "أحد أفراد الأسرة" وإن عبيدك ليبادرون إلى احترامك أكثر من مبادرتهم إلى خوفك.

وكانت ندوة شبيهة بهذه الندوة هي التي رحبت في عام 394 بأن ينضمم إليها شاعر شاءت الأقدار حتى يتغنى بمجد روما في ساعة احتضارها. ولد كلوديوس كلوديانوس كما ولد أميانوس، في بلاد الشرق، وكانت لغته الأصلية هي اللغة اليونانية. ولكنه تفهم اللاتينية بلا ريب في حداثة سنه، لأنه كان يخط بها أسلوب سلس. وبعد حتى أقام في روما زمناً قصيراً نزح إلى ميلان، واستطاع حتى يجد له مكاناً في أركان حرب استلكو، ثم صار شاعراً غير رسمي لبلاط الإمبراطور هونوريوس، وتزوج سيدة ذات ثراء من أسرة شريفة. وكان كلوديوس يترقب حتى تواتيه الفرصة الكبرى ولا يحب حتى يموت وهوخامل الذكر. ولذلك كان يمدح استلكوبقصائد عصماء ويهاجم أعداءه بقصائد أخرى حوت أقذع الألفاظ. وعاد إلى روما في عام 400 ولقي منها أعظم آيات الشكر والترحاب حين مدح المدينة الخالدة في قصيدة "عن قنصلية استلكو" لا تقل روعة عن قصائد فرجيل نفسه:

أيا قنصل الناس جميعاً، ويا من تضارع الآلهة في المنزلة، وأنت حامي المدينة التي لا تدانيها مدينة يحيط بها الهواء الذي على سطح الأرض، ولا تبلغ مداها العين، ولا يتصور جمالها الخيال، ولا يوفيها صوت مهما علا حقها من الثناء. إنها تحمل هامتها المضىية تحت ما جاورها من النجوم، وتحاكي بتلالها السبعة السبع السموات العلي. هي أم الجيوش والشرائع التي عنت لجبروتها الأرض بأجمعها وكانت أقدم مهد للعدالة على ظهر الأرض. تلك هي المدينة التي نشأت نشأة متواضعة، ولكنها امتدت إلى القطبين وبسطت سلطانها من مكانها الصغير حتى بلغ مداه منتهى ما يصل إليه ضياء الشمس... فهي دون غيرها من البلاد قد فتحت صدرها لاستقبال من غلبتهم على أمرهم، وعاملت الجنس البشري معاملة الأم الرؤوم لا معاملة الحاكم المتغطرس، فحمته وخلعت عليها اسمها، ودعت من هزمتهم إلى مشاركتها في حقوق المواطنية، وربطت الشعوب البعيدة برباط المحبة. وبفضل حكمها السلمي أصبح العالم كله وطناً لنا، نعيش فيه أينما شئنا، وأصبح في مقدورنا حتى نزور ثول ونرتاد براريها التي كانت من قبل تقذف الرعب في القلوب، والتي أصبح ارتيادها الآن نزهة هينة، وبفضلها يستطيع جميع من أراد حتى يشرب من مياه الرون ويعب من مجرى نهر العاصي، وبفضلنا صرنا كلنا شعباً واحداً.

وأراد مجلس الشيوخ حتى يعبر لكلوديوس عن شكره واعترافه بفضله فأقام في سوق تراجان تمثالاً "لأجَلّ الشعراء" الذي جمع بين سلاسة فرجيل، وقوة هومر. وقضى كلوديان بعض الوقت يقرض الشعر في موضوعات تدر عليه المال، ثم وجه مواهبه وجهة أخرى فأنشأ قصيدته "اغتصاب بسبرين" وقص فيها السيرة القديمة وصور البر والبحر وأسبغ على تلك الصورة من رقيق النغم ما يعيد إلى الذاكرة روايات الحب اليونانية في العصر الذي ظهرت فيه أول مرة. وبلغه في عام 408 حتى استلكوقد اغتال غيلة، وأن الكثيرين من أصدقاء هذا القائد قد قبض عليهم وأعدموا. واختفى الرجل بعدئذ من ميدان التاريخ فلم نعهد باقي قصته.

وبقيت في روما كما بقيت في الإسكندرية أقليات وثنية كبيرة العدد، وكان فيها حتى نهاية القرن الرابع سبعمائة هيكل وثني. ويبدوحتى جوفيان وفلنتنيان الأول لم يغلقا الهياكل التي فتحها يوليان؛ فظل القساوسة الرومان حتى عام 394 يجتمعون في مجامعهم المقدسة، وظلت أعياد اللوبركاليا يحتفل بها بكل ما فيها من شعائر نصف همجية، كما ظلت الطريق المقدسة نتردد فيها بين الفينة والفينة أصداء خوار الأثوار التي تساق للضحية.

وكان أعظم الناس إجلالاً بين الوثنيين في روما في أيامها الأخيرة هوفتيوس بريتكستاتوس، زعيم الأقلية الوثنية في مجلس الشيوخ. وكان الناس جميعاً يعترفون بفضائله-باستقامته، وفهمه، ووطنيته، وحياته العائلية اللطيفة. ومن الناس من يقول إنه يماثل كاتووسنسناتوس؛ ولكن الزمان يذكر أكثر منه صديقه سيماخوس (345-410)، الذي ترسم رسائله صورة رائعة ساحرة للأرستقراطية التي كانت تظن نفسها مخلدة وهي تحتضر. وحتى أسرته نفسها قد بدت أنها من المخلدين: فقد كان جده قنصلاً في عام 364، وكان هونفسه حاكماً في عام 384، وقنصلاً في عام 391. وكان ابنته بريتورا، وحفيده قنصلاً في عام 485 بعد وفاة جده، وكان اثنان من أحفاده قنصلين في عام 522. وكان هوذا ثروة طائلة؛ فقد كانت له ثلاثة قصور ريفية بالقرب من روما، وسبعة أخرى في لاتيوم، وخمسة على خليج نابلي، فضلاً عن قصور أخرى مثلها في أماكن أخرى من إيطاليا؛ وبفضل هذه القصور "كان في وسعه حتى يسافر من أقصى شبه الجزيرة إلى أقصاها ثم يأوي إلى منزله في جميع مكان يحل به". ولا يذكر لنا التاريخ حتى أحداً من الناس كان يحسده على ثروته، لأنه كان ينفق منها بسخاء وينميها بحياة الدرس، والخدمة العامة، والأخلاق الفاضلة، وأعمال البر والإنسانية، التي لا تعهد فيها شماله ما تعمل يمينه. وكان من أصدقائه الأوفياء مسيحيون ووثنيون، وبرابرة رومان. ولعله كان يضع وثنيته قبل وطنيته؛ فقد كان يظن حتى الثقافة التي يمثلها ويستمع بها وثيقة الصلة بالدين القديم، وكان يخشى حتى يؤدي سقوط أيهما إلى سقوط كليهما. ويعتقد حتى المواطن بإخلاصه للشعائر القديمة يحس أنه حلقة في سلسلة مترابطة متصلة أحب اتصال-تمتد من رميولوس إلى فلنتنيان، وأن هذا الإخلاص يبعث في نفسه حب المدينة وحب الحضارة التي نشأت بفضل الأجيال المتعاقبة خلال ألف عام. وقد استحق كونتس أورليوس سيماخوس بفضل أخلاقه الطيبة حتى يختاره مواطنوه ممثلاً لهم في آخر كفاحهم الرائع في سبيل آلهتهم.

وقد استطاع أمبروز حتى يجعل الإمبراطور جراتيان مسيحياً متحمساً لدينه، وأغراه تحمسه للدين القديم حتى يعلن على الملأ حتى العقيدة النيقية فريضة واجبة على جميع الشعوب الخاضعة لحكمنا الرحيم"، وأن إتباع غيرها من العقائد "مفتونون مسلوبوالعقول"، وفي عام 382 أمر ألا تؤدي خزانة الإمبراطورية أوخزائن البلديات أية إعانات لإقامة الاحتفالات الوثنية، أوللعذارى الفستية أوالكهنة الوثنيين، ثم صادر الأراضي التي تملكها الهياكل، جماعات الكهنة، وأمر أتباعه بأن يحملوا من قاعة مجلس الشيوخ في روما تمثال إلهة النصر الذي أقامه فيها أغسطس في عام 29 ق. م، والذي ظل اثنا عشر جيلاً من الشيخ يقسمون بين يديه يمين الولاء للإمبراطور؛ وانتدب مجلس الشيوخ وفدا برياسة سيماخوس يشرح لجراتيان قضية تمثال النصر هذا. ولكن جراتيان أبى حتى يستقبل الوفد، وأمر ينفي سيماخوس من روما (382)؛ وفي عام 383 اغتال جراتيان وبعث هذا الأمل في مجلس الشيوخ فأوفد وفداً إلى خليفته على العرش؛ وكانت الخطبة التي ألقاها سيماخوس بين يدي فلنتنيان الثاني آية من آيات الدفاع البليغ، وكان مما نطقه فيها إنه ليس من الحكمة في شيء حتى يقضي هذا القضاء العاجل المفاجئ على شعائر دينية ظلت طوال ألف عام مرتبطة أشد الارتباط باستقرار النظام الاجتماعي وبهيبة الدولة، ثم نطق: "ماذا يهمنا، في آخر الأمر، أي طريق يسلكا إنسان ليصل به إلى الحقيقة،يا ترى؟ والحق حتى في وسع الناس حتى يصلوا إلى فهم هذا السر العظيم من طريق واحد".

وتأثر فلنتنيان الشاب بهذا القول، ويقول أمبروز إذا من كان في المجلس الإمبراطوري من المسيحيين أنفسهم قد أشاروا على الإمبراطور بإعادة تمثال النصر إلى مكانه، ولكن أمبروز، وكان في ذلك الوقت غائباً في بعثة دبلوماسية الدولة، تغلب على المجلس برسالة قوية مليئة بالكبرياء والغطرسة أسلها إلى الإمبراطور. وعدد فيها حجج سيماخوس حجة بعد حجة، ثم دحضها كلها بما وهب من قوة وبلاغة. وقد حوت هذه الرسالة ما يعد في الواقع تهديداً للإمبراطور بإخراجه من حظيرة الدين إذا أجاب الوفد إلى طلبه، "وقد يحدث في وسعك حتى تدخل الكنيسة ولكنك لن تجد فيها قساً يستقبلك، أوأنك قد نجدهم فيها ليحرموا عليك دخولها". وكان من أثر ذلك حتى رفض فلنتنيان طلب مجلس الشيوخ.

وبذل الوثنيون في إيطاليا مجهوداً آخر في عام 393، فأعربوا الثورة وخاطروا في سبيل غايتهم بكل شيء. وكان ثيودوسيوس قد أبى حتى يعترف بالإمبراطور يوجنيوس نصف الوثني، فرأى هذا الإمبراطور حتى يستعين بوثني الغرب في دفاعه عن نفسه، فأعاد تمثال النصر إلى مكانه. وتباهى بقوله إنه حين تم له النصر على ثيودوسيوس سيربط خيله في الكنائس المسيحية. وسار نقوماكس خوس فلافيانوس زوج ابنة سيماخوس، على رأس جيش ليساعد به يوجنيوس، فقاسمه الهزيمة وانتحر. وزحف ثيودوسيوس على روما، وأرغم مجلس الشيوخ على حتى يعلن إلغاء الوثنية بجميع أشكالها (394). ولما نهب ألريك روما حسب الوثنيون حتى ما أصاب هذه المدينة التي كانت من قبل سيدة العالم من إذلال كان نتيجة غضب الآلهة الذين تخلت عنهم. وفككت حرب الأديان هذه وحدة الشعب. وحطمت قواه المعنوية، ولما حتى وصل إليهم سيل الغزوالجارف لم يجدوا وسيلة يقابلونه بها إلا تبادل اللعنات والصلوات المتنافرة.


الحرب القوطية

عملة معدنية مرسوم عليها Theodahad (534-536)، صُكت في روما. He wears the barbaric moustache.
توتيلا يزيل أسوار فلورنسا: صورة توضيحية من مخطوطة Chigi لكتاب ڤيلاني.

عقب أولمبيوس على الأمر القاضي بقتل استلكوبأمر آخر يقضي بقتل آلاف من أتباعه ومنهم رؤساء فيالقه البربرية. وكان ألريك يتحين الفرصة السانحة له وراء جبال الألب، فوجد في هذا فرصته السانحة ولم يدعها تفلت من يده؛ فنطق إذا الربعة الآلاف من الأرطال المضىية التي وعد الرومان بأدائها إليه لم تصله بعد، ونطق إنه في نظير هذا المال يرضى حتى يقدم أنبل الشباب القوطي ضماناً لولاته في مستقبل الأيام. فلما رفض هونوريوس طلبه اجتازا جبال اللب ونهب أكويليا وكرمونا، وضم إليه ثلاثين ألفاً من الجنود المرتزقة الذين أغضبهم اغتال زعمائهم، وزحف بطريق فلامنيوس حتى وصل إلى أسوار روما (408). ولم يلق في هذا الزحف مقاومة اللهم إلا من راهب واحد نطق له إنه قاطع طريق، فرد عليه إلريك بجواب حيره إذ نطق له إذا الله نفسه قد أمره بهذا الغزو. وارتاع مجلس الشيوخ كما ارتاع في أيام هنيبال، ودفعه الروع إلى ارتكاب أعمال وحشية. فقد افترض حتى أرملة استلكوكانت تساعد ألريك فأمر بقتلها؛ ورد ألريك على هذا ببتر جميع الطرق التي يمكن حتى يصل منها الطعام إلى العاصمة، وسرعان ما أخذ الناس يموتون فيها من الجوع، وشرع الرجال يقتل بعضهم بعضاً، والنساء يقتلن أبنائهن ليتخذنهم طعاماً. وسار وفد من أهل المدينة إلى ألريك ليسأله عن شروط الصلح، وهددوه بأن ألف ألف من الرومان على استعداد لمقاومته، فتبسم ضاحكاً من قولهم وأجابهم "حدثا ازداد سمك القش كان حصده أيسر". ثم رق قلبه فرضى حتى ينسحب إذا منح جميع ما في المدينة من مضى وفضة، وكل ما تحتويه من ثروة منقولة قيمة. ولما سأله المبعوثون: "وأي شيء بعد هذا يبقى لنا؟" أجابهم في ازدراء: "حياتكم". وآثرت روما حتى تمضي في المقاومة؛ ولكن الجوع اضطرها حتى تطلب شروطاً جديدة للاستسلام؛ فقبل ألريك منها 5000 رطل من المضى وثلاثين ألف رطل من الفضة، وأربعة آلاف قباء من الحرير، وثلاثة آلاف من جلود الحيوان، وثلاثة آلاف رطل من الفلفل.

وفي هذا الوقت عينه فر عدد لا يحصى من البرابرة الأرقاء من أسيادهم الرومان وانضموا تحت لواء ألريك. وكأن الأقدار شاءت حتى تعوض الرومان عن هذه الخسارة، ففر من جيش ألريك قائد قوطي يدعى ساروس وانضم إلى هونوريوس، وأخذ معه قوة كبيرة من القوط، وهاجم بها جيش البرابرة الرئيسي. وعد ألريك هذا العمل نقضاً للهدنة التي سقطها الطرفان، فعاد إلى حضار روما. وفتح أحد الأرقاء أبواب المدينة للمحاصرين؛ وتدفق منه القوط، واستولى العدوعلى المدينة الكبرى لأول مرة في ثمانمائة عام 410. ولبثت ثلاثة أيام مسرحاً للسلب والنهب بلا تمييز بين أماكنها أوأهلها اللهم إلا كنيستي القديسين بطرس وبولس فلم يمسسهما أحد بسوء، وكذلك نجا اللاجئون الذين احتموا فيهما. غير أنه لم يكن من المستطاع السيطرة على من كان في الجيش البالغ عدده أربعين ألف مقاتل من الهون والأرقاء. فذبح مئات من أغنياء المدينة، واغتصبت نساؤهم ثم قتلن، وبلغ من كثرة القتلى حتى لم يعد من المستطاع دفن الجثث التي امتلأت بها الشوارع. وسقط في أيدي الغزاة آلاف من الأسرى بينهم أخت لهونوريوس غير شقيقة تدعى جلا بلاسيديا. وأخذ الفاتحون جميع ما سقط في أيديهم من المضى والفضة؛ وصهرت التحف الفنية للاستيلاء على ما فيها من معادن نفيسة، وحطم العبيد السابقون روائع فني النحت والخزف وهم فرحون مغتبطون انتقاماً منهم لما كانوا يعانونه من فقر وكدح، هما اللذان أثمرا هذا الجمال وهذه الثروة. ثم أعاد ألريك النظام وزحف بجيشه جنوباً ليفتح صقلية؛ ولكنه أصيب بالحمى في هذه السنة عينها ومات بها في كوسنزا. وحول الأرقاء مجرى نهر بوسنتوليفسحوا مكاناً آمناً رحباً ينشئون فيه قبره، ثم أعيد النهر إلى مجراه الأصلي، وقتل العبيد الذين بهذه الأعمال مبالغة في إخفاء المكان الذي دفن فيه.

واختير أتلف (أدلف Adolf) صهر ألريك ليخلفه في ملكه ورضى الملك الجديد حتى يسحب جيشه من إيطاليا إذا تزوج بلاسيديا، ومنح القوط بوصفهم أحلاف روما المتعاهدين معها غالة الجنوبية بما فيه نربونة وطُلوشة (طولوز)، وبردو، ولتكون مملكة لهم يحكمونها مستقلة استقلالاً ذاتياً. ورفض هونوريوس الشرط الخاص بالزواج، لكن بلاسيديا قبلته، وأعرب الزعيم القوطي أنه لا يبغي تدمير الإمبراطورية، بل يريد المحافظة عليها وتقويتها، وسحب جيشه من إيطاليا، وأنشأ مملكة للقوط الغربيين في غالة مستعيناً على إنشائها بمزيج من الدهاء السياسي والقوة الحربية. وكانت هذه المملكة من الوجهة النظرية خاضعة للإمبراطورية، وتخذ طلوشة عاصمة لها عام 414. وقتل الزعيم القوطي بعد سنة واحدة، واعتزمت بلاسيديا من فرط حبها له حتى تعيش من بعده أرملة طول حياتها ولكن هونوريوس وهبها للقائد قنسطنطيوس. ولما توفي قنسطنطيوس عام 421 وهونوريوس عام 423 أصبحت بلاسيديا وصية على ابنها فلنتنيان الثالث، وحكمت الإمبراطورية الغربية ثلاثين عاماً حكماً يشرف بنات جنسها.

وكان الوندال حتى في أيام ناستون، أمة قوية كثيرة العدد تمتلك الأجزاء الوسطى والشرقية من روسيا الحالية. وكانوا قبيل حكم قسطنطين قد زحفوا جنوباً إلى بلاد المجر، ولما بدد القوط الغربيون ضمهم في إحدى الوقائع الحربية، طلب الباقون منهم حتى يؤذن لهم بعبور الدانوب ودخول الإمبراطورية الرومانية. ووافق قسطنطين على طلبهم هذا، وظلوا سبعين عاماً يتكاثرون ويتضاعف عددهم في بنونيا. وأثارت فوزات ألريك حميتهم؛ ولما سحبت الدولة فيالقها من وراء جبال الألب لتدافع بها عن إيطاليا، تفتحت لهم أبواب الغرب واستهوتهم بثروته، حتى إذا كان عام 406 زحفت جموع كبيرة من الوندال، والألاني، والسيوفي وعبرت نهر الرين وعاثت فساداً في بلاد غالة، ونهبوا مينز وذبحوا كثيراُ من أهلها، ثم تحركوا شمالاً إلى بلجيكا، ونهبوا مدينة تيير Tier العظيمة وأحرقوها. ثم أقاموا الجسور على نهري الموز والآين ونهبوا ريمس، وأمين، وأراس، وتورناي، وواصلوا الزحف حتى كادوا يبلغون بحر المانش. ثم اتجهوا نحوالجنوب وعبروا نهري السين واللوار ودخلوا أكوتانيا وصبوا غضبهم الوحشي على جميع مدنها تقريباً ما عدا طلوسة، التي دافع عنها إكسبريوس دفاع الأبطال. ووقفوا عند جبال البرنس، ثم ولوا وجههم نحوالشرق ونهبوا نربونة، وشهدت غالة من التخريب والتدمير الكامل ما لم تشهد له مثيل من قبل.

وفي عام 409 دخلوا أسبانيا وكان عددهم وقتئذ نحومائة ألف. وكان الحكم الروماني في تلك البلاد قد أثقل كاهل أهلها بالضرائب، وأدخل فيها إدارة منظمة، وجمع الثروة في ضياع واسعة، وجعل الكثرة الغالبة من سكانها عبيداً، أورقيق الأرض، أوأحراراً يعانون ويلات الفقر المدقع. ولكن أسبانيا كانت بفضل ما فيها من استقرار وسلطان للقوانين أعظم ولايات الإمبراطورية رخاء، وكانت مريدة، وقرطاجنة، وقرطبة، وأشبيلية، وطركونه من أغنى مدائن الإمبراطورية وأعظمها ثقافة. وانقض الوندال والسيوفي والألاني على هذه الشبه الجزيرة التي كانت تبدوآمنة حصينة، وأعملوا فيها السلب والنهب عامين كاملين حتى لم ينجح فيها مكان من جبال البرنس إلى جبل طارق، بل إذا فتوحهم امتدت إلى سواحل إفريقية الشمالية. وأدرك هونوريوس أنه عاجز عن حماية الأراضي الرومانية بالجيوش الرومانية، فأغرى القوط الغربيين بالمال الوفير ليردوا إليه أسبانيا. وقام ملكهم القدير واليا بهذا العمل بعد عدة وقائع حربية أحكم خططها عام 420، فارتد السويفي إلى شمالي أسبانيا، كما ارتد الوندال إلى إقليم الأندلس الذي لا يزال يسمى باسمهم حتى اليوم، وأعاد ولاية أسبانيا إلى حوزة الإمبراطورية، وكشف بذلك عما في أخلاق ساسة الرومان من غدر ونكث بالعهود.

وكان الوندال لا يزالون يتوقون إلى الفتح والخبز، فعبروا البحر إلى أفريقا عام 429. وإذا جاز لنا حتى نصدق بروكبيوس، وجردانيس قلنا إنهم اتىوا إليها بدعوة من بنيفاس حاكم أفريقية الروماني ليستعين بهم على منافسه إيتيوس الذي خلف استلكو، لكن هذه السيرة لا تعتمد على مصدر موثوق به. ومهما يكن من أمرها فإن ملك الوندال كان قادراً على خلق هذه الخطة. وكان جيرسيك ملك الوندال ابناً غير شرعي لعبد رقيق، وكان أعرج لكنه قوي الجسم، متقشفاً زاهداً، لا يهاب الردى في القتال، يلتهب غيظاً إذا غضب، ويقسوأشد القسوة على عدوه ولكنه عبقري لا يغلب في شؤون الحرب والمفاوضة. ولما هبط غلى أفريقية انضم إلى من كان معه من الوندال، والآلاني، من جند، ونساء، وأطفال المغاربة الأفريقيين الذي ظلوا عهوداً طوالاً حانقين على الحكم الروماني، كما انضم إليهم الدناتيون المارقون الذين كانوا يقاسون أشد أنواع الاضطهاد من المسيحيين أتباع الدين القويم. ورحب هؤلاء وأولئك بالغزاة الفاتحين وبالحكم الجديد. ولم يستطع بينفاس حتى يحشد من سكان شمالي أفريقية الروماني البالغ عددهم ثمانية ملايين إلا عدداً ضئيلاً يساعد جيشه الروماني. ولما هزمته جحافل جيسريك هزيمة منكرة تقهقر إلى هبوحيث أثار القديس أوغسطين الطاعن في السن حمية السكان فهبوا يدافعون عن بلدهم دفاع الأبطال، وقاست المدينة أهوال الحصار أربعة عشر شهراً كاملة (430-431)، انسحب بعدها جيسريك ليلقي جيشاً رومانياً آخر، وأسقط به هزيمة منكرة اضطر على أثرها سفير فلنتنيان إلى حتى يسقط شروط هدنة يعترف فيها باستيلاء الوندال على فتوحهم في أفريقية. وحافظ جيسريك على شروط الهدنة حتى غافل الرومان وانقض على قرطاجنة الغنية واستولى عليها دون حتى يلقي أية مقاومة عام 439. وجرد أشراف المدينة وقساوستها من أملاكهم ونفاهم أوجعلهم أقنان أرض. ثم استولى على جميع ما وجده من متاع سواء منه ما كان لرجال الدين أولغيرهم من الأهلين، ولم يتردد في الالتاتى إلى التعذيب للوقوف على مخابئه.

وكان جيسريك لا يزال وقتئذ في شرخ الشباب، وكان إدارياً قديراً أعاد تنظيم أفريقية وجعل منها دولة ذات ثراء عليه المال الوفير، ولكن أسعد أوقاته كان هوالوقت الذي يشتبك فيه في القتال. وقد أنشأ له أسطولاً ضخماً، نهب به سواحل أسبانيا، وإيطاليا، وبلاد اليونان. وكان يفاجئ تلك البلاد حتى لم يكن أحد يدري أي الشواطئ سترسوفيها سفنه المثقلة بالفرسان، ولم تنتشر القرصنة في غرب البحر المتوسط طوال أيام الحكم الروماني دون حتى تلقى مقاومة كما انتشرت في تلك الأيام. واضطر الإمبراطور في آخر الأمر حتى يعقد الصلح مع ملك البرابرة ليحصل بذلك على القمح الذي تطعم منه رافنا وروما، ولم يكتف بذلك بل وعده حتى يزوجه إحدى بناته. وكانت روما في هذه الأثناء لا تزال تضحك وتلعب لاهية عما سيحل بها بعد قليل من دمار.

وكانت ثلاثة أرباع قرن انقضت مذ دفع الهون أمامهم البرابرة الغزاة بعبورهم نهر الفلجا. ثم تباطأ بعد ذلك زحف الهون نحوالغرب فكان هجرة على مهل، وكان أشبه بانتشار المستعمرين في القارة الأمريكية منه بفتوح ألريك وجيسريك. وما لبثوا حتى استقروا بعدئذ شيئاً فشيئاً في داخل بلاد المجر، وبالقرب منها، وأخضعوا لحكمهم كثيراً من القبائل الألمانية.

ومات روا ملك الهون حوالي عام 433 وأورث عرشه بليدا وأتلا ابني أخيه. ثم اغتال بليدا- بيد أتلا كما يقول بعضهم- حوالي عام 444، وتولى أتلا (ومعنى اللفظ باللغة القوطية الأب الصغير) حكم القبائل المتنوعة الضاربة شمال نهر الدانوب من الدن إلى الرين. ويصفه جردانس المؤرخ القوطي وصفاً لا نعهد مقدار ما فيه من الدقة فيقول:

هورجل ولد في هذا العالم ليزلزل أقدام الأمم، هوسوط عذاب سلط على الأرض، روع سكان العالم أجمع بما انتشر حوله من الشائعات في خارج البلاد، وكان جباراً متغطرساً في قوله، يقلب عينيه ذات اليمين وذات الشمال، يظهر في حركات جسمه ما تنطوي عليه نفسه من قوة وكبرياء. وكان في الحق أخاً غمرات محباً للقتال، ولكنه يتمهل فيما يقدم عليه من أعمال، وكان عظيماً فيما يسدي من نصح، غفوراً لمن يرجومنه الرحمة، رؤوفاً بمن يضع نفسه تحت حمايته. وكان قصير القامة، عريض الصدر، كبير الرأس، صغير العينين، رقيق شعر اللحية قد وخطه الشيب. وكان أفطس الأنف، أدكن اللون، تنم ملامحه على أصله.

وكان يختلف عن غيره من البرابرة في أنه يعتمد على الختل أكثر من اعتماده على القوة. وكان يحكم شعبه باستخدامه خرافاته لتقديس ذاته العليا، وكان يمهد لفوزاته بما يذيعه من القصص المبالغ فيها عن قسوته، ولعله هوالذي كان ينشئ هذه القصص إنشاء، حتى لقد سماه أعداؤه المسيحيون آخر الأمر "بسوط الله"، وارتاعوا من ختله ارتياعاً لم ينجهم من إلا القوط. وكان أمياً لا يستطيع القراءة أوالكتابة، ولكن هذا لم ينقص من ذكائه الفطري. ولم تكن أخلاقه كأخلاق المتوحشين، فقد كان ذا شرف، وكان عادلاً، وكثيراً ما أظهر أنه أعظم كرماً وشهامة من الرومان. وكان بسيطاً في ملبسه ومعيشته، معتدلاً في مأكله ومشربه، يهجر الترف لمن هم دونه ممن يحبون التظاهر بما عندهم من آنية فضية ومضىية، وسروج، وسيوف وأثواب مزركشة تشهد بمهارة أصابع أزقابلم، وكان لأتلا عدد كبير من أولئك الأزواج ولكنه كان يحتقر ذلك الخليط من وحدة الزواج والنادىرة الذي كان منتشراً عند بعض الطوائف في رافنا وروما. وكان قصره بيتاً خشبياً ضخماً أرضه وجدرانه من الخشب المسوى بالمسحج، ولكنه يزدان بالخشب الجميل الصقل والنحت، فرشت فيه الطنافس والجلود ليتقي بها البرد، وكانت عاصمة ملكه قرية كبيرة أغلب الظن أنها كانت في مكان بودا الحالية؛ وقد ظل بعض المجريين حتى هذا القرن يطلقون على هذه المدينة إتزلنبرج أي مدينة أتلا.

وكان في الوقت الذي نتحدث فيه عنه عام 444 أقوى رجل في أوربا، وكان ثيودوسيوس الثاني إمبراطور الدولة الشرقية، وفلنتنيان إمبراطور الغرب يعطيانه الجزية يشتريان بها السلام، ويتظاهرون أمام شعوبهما بأنها ثمن لخدمات يؤديها أحد أقيالها. ولم يكن أتلا، وهوقادر على حتى ينزل إلى الميدان جيشاً خمسمائة ألف مقاتل، يرى ما يحول بينه وبين السيادة على أوربا كلها وبلاد الشرق بأجمعها. ففي عام 441 عبر قواده وجنوده نهر الدانوب، واستولوا على سرميوم ، وسنجديونوم (بلگراد) ونيسوس (نيش) وسرديكا Sardica (صوفيا)، وهددوا القسطنطينية نفسها. وأوفد ثيودوسيوس الثاني جيشاً لملاقاتهم، ولكنه هزم، ولم تجد الإمبراطورية الشرقية بداً من حتى تشتري السلم بحمل الجزية السنوية من سبعمائة رطل من المضى إلى ألفي رطل ومائة. وفي عام 447 ولج الهون تراقية، وتساليا، وسكوذيا، (جنوبي روسيا) ونهبوا سبعين مدينة وساقوا آلافاً من أهلها أرقاء. وأضيفت السبايا إلى أزواج المنتصرين، ونشأ من ذلك جيل اختلطت فيه دماء الفاتحين والمغلوبين هجر آثاراً من الملامح المغولية في الأنطقيم الممتدة من الشرق حتى بافاريا، وخرجت غارات الهون بلاد البلقان تخريباً دام أربعة قرون، وأتى على نهر الدانوب حين من الدهر لم يعد فيه كما كان طريق التجارة الرئيسي بين الشرق والغرب، واضمحلت لهذا السبب المدن القائمة على شاطئيه.

ولما حتى استنزفت أتلا دماء الشرق بالقدر الذي ارتضاه ولى وجهه نحوالغرب وتذرع لغزوه بحجة غير عادلة. وخلاصة تلك الحجة حتى هونوريا أخت فلنتنيان الثالث كانت قد نفيت إذا القسطنطينية بعد حتى اعتدى على عفافها أحد رجال التشريفات في قصرها. وتلمست هونوريا أية وسيلة للخلاص من النفي فلم تر أمامها إلا حتى تبعث بخاتمها إلى أتلا وتستجيره ليساعدها في محنتها، واختار الملك الداهية، الذي كانت له أساليبه الخاصة في الفكاهة، حتى يفسر إرسال الخاتم بأنه عرض منها للزواج بها، فطالب من فوره بهونوريا وبنصف الإمبراطورية الغربية بائنة لها، ولما احتج وزراء فلنتنيان على الطلب أعرب أتلا الحرب. هذا هوالسبب الظاهري، أما السبب الحقيقي فهوان مرسيان Marcian الإمبراطور الجديد في الشرق أبى حتى يستمر على أداء الجزية وان فلنتنيان قد حذا حذوه.

وفي عام 450 زحف أتلا ومعه نصف مليون رجل على نهر الرين، ونهبوا تريير ومتز وأحرقوها وقتلوا أهلها. فقذف ذلك الرعب في قلوب غالة كلها فقد فهموا حتى الغزاة ليس على رأسهم جندي متمدين كقيصر، أومسيحي -ولوكان من أتباع أريوس- مثل ألريك أوجيسريك، بل كان الزاحف عليهم هوالهوني الرهيب، سقوط الله المبعوث لعذاب المسيحيين والوثنيين على السواء لما هنالك من فرق شاسع بين أقوالهم وأعمالهم. واتى ثيودريك الأول ملك القوط المعمر لينقذ الإمبراطورية من محنتها وانضم إلى الرومان بقيادة إيتيوس، والتقت الجيوش الضخمة في حقول قطلونيا بالقرب من ترويس، ودارت بينها معركة من أشد معارك التاريخ هولاً، جرت فيها الدماء انهاراً، حتى لينطق إذا 162.000 رجل قد قتلوا فيها من بينهم ملك القوط البطل المغوار؛ وانتصر الغرب في هذه المعركة نصراً غير حاسم، فقد تقهقر أتلا بانتظام، وأنهكت الحرب الظافرين، أولعلهم كانوا منقسمين على أنفسهم في خططهم، فلم يتعقبوا أتلا وجنوده ولهذا غزا إيطاليا في العام التالي.

وكانت أول مدينة استولى عليها في زحفه هي أكويليا، وقد دمرها تدميراً قضى عليها قضاء لم تقم لها بعده قائمة حتى اليوم، أما فرونا وفبسنزا فقد عوملنا بشيء من اللين والرحمة واشترت بافيا وميلان نفسيهما من الغزاة بتسليم جميع ما فيهما من ثروة منقولة. وبعد هذا فتحت الطريق إلى روما أمام أتلا؛ وكان جيش إيتيوس قليل العدد لا يقوى على أية مقاومة جدية، ولكن أتلا تباطأ عند نهر البو، وفر فلنتنيان الثالث إلى روما، ثم أوفد إلى ملك الهون وفداً مؤلفاً من البابا ليوالأول واثنين من أعضاء مجلس الشيوخ. وما من أحد يفهم ما جرى حين اجتمع هذا الوفد بأتلا. وكان ليورجلاً مهيب الطلعة، يعزوإليه المؤرخون معظم ما أحرزه الوفد من نصر لم ترق فيه دماء. وكل ما يذكره التاريخ عن هذا النصر حتى أتلا قد ارتد لأن الطاعون فشا بين جنوده، ولأن مئونتهم كانت آخذة في النفاد، ولأن مرسيان كان المدد من الشرق عام 452.

وقاد أتلا جحافله فوق جبال الألب وعاد بها إلى عاصمته في بلاد المجر، متوعداً إيطاليا بالعودة إليها في الربيع التالي إذا لم ترسل إليه هونوريا، ليتخذها زوجة له. وقد استعاض عنها في هذه الأثناء بشابة تدعى إلديكوضمها إلى نسائه. وكانت هذه الفتاة هي الأساس التاريخي الواهي لسيرة المسماة نِبل أنجليد. واحتفل بزفافها له احتفالاً أثقلت فيها الموائد بالطعام والشراب. ولما أصبح الصباح عثر أتلا ميتاً في فراشه إلى جانب زوجته الشابة، وكان سبب موته انفجار أحد الأوعية الدموية، فكتم الدم الذي تدفق منه نفسه وقضى عليه عام 453. وقسمت مملكته بين أولاده، ولكنهم عجزوا عن المحافظة عليها، فقد دبت الغيرة بينهم ورفضت القبائل التي كانت خاضعة لأبيهم حتى تظل على ولائها لهؤلاء الزعماء المتنازعين، ولم تمض إلا بضع سنين حتى تبترت أوصال الإمبراطورية التي كانت تهدد بإخضاع اليونان والرومان والألمان والغاليين لحكمها، وتطبع وجه أوربا وروحها بطابع آسية، ومحيت اليونان من الوجود.

سقوط روما

توفيت بلاسيديا في عام 450، وانفرد فلنتنيان بالملك يخبط فيه خبط عشواء، وكان من اوخم أخطائه عاقبة حتى انصت إلى نصيحة بترونيوس مكسموس فقتل إيتيوس الذي وقف زحف أتلا عند ترويس كما انصت هونوريوس إلى أولمبيوس فقتل استلكوالذي وقف زحف ألريك عند يولتثيا. ولم يكن لفلنتنيان ولد ذكر ولم يرتح إلى رغبة إيتيوس في حتى يزوج ابنه بودوشيا ابنة فلنتنيان. وانتابت الإمبراطور نوبة جنونية من الغضب فأوفد في طلب إيتيوس، وذبحه بيده عام 454. ونطق له رجل من رجال الحاشية: "مولاي، لقد بترت يمينك بشمالك" ولم تمض على هذا العمل بضعة أشهر حتى استطاع بترونيوس حتى يغري رجلين من أتباع إيتيوس بقتل فلنتنيان، ولم يهتم أحد بتعقب القاتلين لأن القتل كان قد اصبح من عهد بعيد البديل الوحيد للانتخاب. واختار بترونيوس نفسه للجلوس على العرش، وأرغم يودكسيا أرملة فلنتنيان على ان تتزوجه؛ كما أرغم بودوشيا على حتى تتزوج ابنه بلاديوس. وإذا جاز لنا حتى نصدق أقوال بروكبيوس، فإن يودكسيا استعانت بجيسريك، كما استغاثت هونوريا قبل ذلك بأتلا. وكان لدى جيسريك من الأسباب ما يجعله يلبي هذه الاستغاثة: فقد أصبحت روما غنية مرة أخرى على الرغم من انتهاب ألريك لها، ولم يكن الجيش الروماني بالجيش القوي الذي يستطيع الدفاع عن إيطاليا. وأبحر ملك الوندال بأسطول قوي لا يغلب عام 455، ولم يقف أحد بينه وبين أستيا وروما إلا بابا أعزل ومعه بعض قساوسة روما. ولم يقوالبابا ليوفي هذه المرة على إقناع الفاتح بالارتداد عن روما، وكل ما استطاع حتى يحصل عليه منه هووعده بأن يمتنع عن ذبح السكان وتعذيبهم وإحراق المدينة. وأسلمت المدينة أربعة أيام كاملة للجند ينهبون فيها ويسلبون؛ ونجت الكنائس المسيحية، ولكن جميع ما كان باقياً في المعابد من كنوز نقل إلى سفن الوندال، وكان من بين هذه الغنائم المناضد المضىية، والماثلات ذات الشعب السبع، وغيرها من الآنية المقدسة التي اتى بها تيتوس Titus من هيكل سليمان إلى روما منذ أربعة قرون. ونهب كذلك جميع ما كان في القصر الإمبراطوري من المعادن الثمينة، والحلي، والأثاث وكل ما كان باقياً في بيوت الأغنياء من أشياء ذات قيمة واتخذ آلافاً من الأسرى عبيداً، وفرق بين الأزواج وزوجاتهم، وبين الأبناء وآبائهم، وأخذ جيسريك الإمبراطورة يودكسيا وابنيهما معه إلى قرطاجنة؛ وزوج يودوسيا ابنه هونريك؛ وأوفد الإمبراطورة وبلاسيديا (صغرى ابنتيهما) إلى القسطنطينية استجابة لطلب الإمبراطور ليوالأول. ولم يكن انتهاب روما على هذا النحوفي واقع الأمر تخريباً لا يراعي فيه عهد أوقانون، بل كان يتفق مع الشرائع القديمة للحروب. لقد ثأرت قرطاجنة لنفسها من قسوة روما عليها في عام 146 وكانت في انتقامها هذا رقيقة رحيمة.

وضربت الفوضى وقتئذ أطنابها في إيطاليا. ذلك حتى خمسين عاماً من الغزووالقحط والوباء قد هجرت آلاف الضياع مخربة، وآلاف الأفدنة بوراً؛ ولم يكن هذا لأن تربتها أنهكت من الاستغلال، بل لأن هذا الأراضي أعوزها الرجال؛ وأخذ القديس أمبروز (حوالي عام 420) يرثي لخراب بولونيا ومودينا، وبياسنزا ونقص عامرها، ووصف البابا جلاسيوس (حوالي 480) أنطقيم واسعة في شمالي إيطاليا بأنها تكاد تكون مقفرة من الآدميين.

ونقص سكان روما نفسها من مليون ونصف إلى ثلاثمائة ألف في قرن واحد؛ واختص الشرق وقتئذ دون غيره بجميع المدائن الكبرى في الإمبراطورية. وهجر الناس الكمبانيا المحيطة بروما والتي كانت من قبل ملآى بالضياع الخصبة والقصور الصغيرة ولجأوا إلى المدن المسورة ليحتموا فيها من غارات العداء؛ وانكمشت المدن نفسها فلم تعد تزيد مساحة أرضها على أربعين فداناً أونحوها كي تكفي موارد أهلها تسويرها وحمايتها من العداء؛ وكثيراً ما كانت السوار يبنى على عجل من أنقاض دور التمثيل والباسلقات والهياكل التي كانت من قبل بهجة المدن الإيطالية وسبب رونقها. على حتى روما قد بقي فيها قليل من الثروة حتى بعد جيسريك، وانتعشت هي وغيرها من المدن الإيطالية فيما بعد تحت حكم ثيودريك واللمباردين: ولكن الفقر العام الذي حل في عام 470 بالحقول والمدن، وبأعضاء مجلس الشيوخ والعامة على السواء، سحق أرواح الشعب الذي كان من قبل عظيماً وأذل نفسه، فملك عليه اليأس والاستسلام قلبه، وتشكك في الآلهة كلهم عدا بريابوس واستولى عليه وجل كوجل الأطفال جعله يهاب تبعات الحياة، وجُبْنٌ غاضب ثائر يندد بكل استسلام ويفر من جميع الواجبات الحربية، وكان يصحب هذا الانحطاط الاقتصادي والحيوي عفن ينخر سوسه في جميع طبقات الشعب، في أرستقراطية في وسعها حتى تخدم لكنها عاجزة عن حتى تحكم، وفي رجال الأعمال المنهمكين في مكاسبهم الشخصية انهماكاً يحول بينهم وبين العمل لإنقاذ شبه الجزيرة، وفي قواد ينالون بالرشوة أكثر مما يستطيعون نيله بقوة السلاح، وبيروقراطية متشعبة متخمة خربت رواتبها خزائن الدولة، وفسدت فساداً مستعصياً على العلاج وقصارى القول حتى جذع هذه الشجرة العظيمة قد تعفن، وآن لها حتى تسقط.

وتوالت على عرش الإمبراطورية في السنين الخيرة من حياتها طائفة من الأباطرة ليس فيهم من هوفوق المتوسط. فقد أعرب القوط في غالة قائداً لهم يدعى أفتوس إمبراطوراً عام 455، ولكن مجلس الشيوخ أبى حتى يقره، فاستحال أسقفاً؛ ولم يدخر ماجوريان (456-461) جهداً في إعادة النظام، ولكن رئيس وزرائه رسمر القوطي الغربي أنزله عن العرش. وكان سفيروس (461-466) آلة صماء في يد رسمر يعمل ما يشاء، وكان أنثيميوس (467-472) فيلسوفاً نصف وثني لا يرضى بالغرب؛ فما كان من رسمر إلا حتى ضرب عليه الحصار وقبض عليه وأمر بقتله وحكم أوليبريوس برعاية رسمر شهرين عام 472؛ ثم توفي ميتة غريبة في ذلك الوقت إذ كانت ميتة طبيعية. وسرعان ما خلع جليسريوس عام 473، وظلت روما عامين يحكمها يوليوس نيبوس. وبينا كانت هذه الأحداث جارية في إيطاليا، انقض عليها خليط آخر من البرابرة -الهرولي، والإسكيري ، والروجي (وغيرهم من القبائل التي كانت من قبل تعترف بحكم أتلا. وقدم في الوقت نفسه بنونيائيٌّ يدعى أرستيز Orestes فخلع نيبوس، وأجلس ابنه رميولوس (الملقب أوغسطولس استهزاء به) على العرش عام 475. وطلب الغزاة الجدد إلى حتى يعطيهم ثلث إيطاليا، فلما أبى ذبحوه وأجلسوا قائدهم أدوسر على العرش بدل رميولوس عام 476، ولم يكن هذا القائد -وهوابن إدكون وزير أتلا- مجرداً من الكفايات. وقد بدأ بأن جمع مجلس الشيوخ المرتاع، وعن طريقه عرض على زينون الإمبراطور الجديد في الشرق حتى تكون له سيادة على جميع الإمبراطورية على شرط حتى يحكم أدوسر إيطاليا بوصفه وزيراً له، ورضى زينون بهذا العرض وانتهت بذلك سلسلة الأباطرة الغربيين.

ويبدوحتى أحداً من الناس لم ير في هذا الحادث "سقوطاً لروما" بل بدا لهم على عكس هذا أنه توحيد مبارك للإمبراطورية وعودتها إلى ما كانت عليه في عهد قسطنطين. وقد نظر مجلس الشيوخ في روما إلى المسألة هذه النظرة، وأقام في روما تمثالاً لزينون، ذلك حتى اصطباغ الجيش، والحكومة، والزراع، في إيطاليا بالصبغ الألمانية قد ظل يجري زمناً بلغ من طوله حتى بدت معه النتائج السياسية تحولاً عديم الشأن على سطح الحياة القومية.

أما الحقيقة التي لا نزاع فيها فهي حتى أدوسر كان يحكم إيطاليا بوصفه ملكاً عليها دون حتى يعبأ بزينون. ذلك حتى الألمان قد فتحوا في واقع الأمر إيطاليا، كما فتح جيسريك أفريقية، وكما فتح القوط الغربيون أسبانيا، وكما كان الإنجليز والسكسون يفتحون بريطانيا: والفرنجة يفتحون غالة، ولم يعد للإمبراطورية العظمى في الغرب وجوب.

وترتب على فتوح البرابرة هذه نتائج لا حصر لها، لقد كان معناها من الناحية الاقتصادية تحول الحياة من المدن إلى الريف. ذلك حتى البرابرة كانوا يعيشون على الحرث، والرعي، والصيد، والحرب، ولمقد يكونوا قد تفهموا بعد العمال التجارية المعقدة التي تنتعش بها المدن، وكان فوزهم إيذاناً بالقضاء على الصبغة المدنية للحضارة الغربية قضاء دام سبعة قرون. وأما من الوجهة العنصرية فإن هجرات البرابرة المتعددة أدت إلى امتزاج حديث بين العناصر البشرية -وإلى دخول دم ألماني غزير في إيطاليا، ودم غالي في أسبانيا، ودم أسيوي في روسيا والبلقان وبلاد المجر. ولم يعِد هذا الامتزاج للقوة والنشاط إلى الإيطاليين أوالغاليين بطريقة خفية معجزة الدرك، بل إذا ما وقع لم يزد على إفناء الأفراد والسلالات الضعيفة بسبب الحروب وغيرها من ضروب التنافس، وعلى اضطرار جميع إنسان لأن ينمي قوته. وحيويته، وشجاعته، وصفات الرجولة التي طمس معالمها طول الاستسلام إلى الأمن والسلام؛ وعلى تأثير الفقر في عودة أساليب للحياة أصح وأكثر بساطة من الأساليب التي ولدها ترف المدن واعتماد الأهلين على الرزاق التي تقدمها لهم الحكومة.

وأما من الوجهة السياسية فقد أحلت الفتوح صورة دنيا من الملكية محل صورة عليا منها. فقد زادت من سلطان الأفراد وقللت من سلطان القوانين ومن اعتماد الناس عليها لحمايتهم. واشتدت النزعة الفردية وازداد العنف. وفي الناحية التاريخية حطمت الفتوح الهيكل الخارجي لذلك الجسم الذي تعفن من الداخل، وأزالت من الوجود، بوحشية يؤسف لها، نظاماً من الحياة، شاخ ووهن وبلي، وفقد جميع قدرة على التجدد والنماء، رغم ما كان فيه من فضائل النظام والثقافة، والقانون؛ وبهذا أصبح من المستطاع حتى تبدأ حياة جديدة غير متأثرة بالماضي. فانمحت إمبراطورية الغرب ولكن دول أوربا الحديثة قد ولدت- لقد ولج إيطاليا قبل المسيح بألف عام غزاة من الشمال، أخضعوا أهلها لسلطانهم، وامتزجوا بهم وأخذوا عنهم حضارتهم، وبنوا وإياهم في خلال ثمانية قرون حضارة جديدة. وبعد المسيح بأربعمائة عام تكررت العملية نفسها، ودارت عجلة التاريخ دورة كاملة، وكانت البداية هي نفسها النهاية، ولكن النهاية كانت على الدوام بداية.

حكام مملكة القوط الشرقيين

  • ثيودوريك العظيم (ثيودوريك العظيم) 489-526
  • أثالاريك 526-534
  • Theodahad (Thiudahad) 534-536
  • Witiges (Wittigeis) 536-540
  • Ildibad (Hildibad) 540-541
  • Eraric the Rugian (Heraric, Ariaric) 541
  • توتيلا (بودويلا) 541-552
  • تيا (ثيا، تِـيا) 552-553

الثقافة

العمارة

فسيفساء تصور قصر ثيودوريك الأكبر في مصلى قصره في سان أپوليناره نوڤو.

لأن عمر المملكة كان قصيراً، لم يظهر أي اندماج بين الشعب وفنونهم. ومع ذلك، فتحت حكم ثيودوريك وأمالاسونثا، كان هناك عمليات ترميم واسعة النطاق للمباني الرومانية القديمة، واستمر طراز العمارة المدنية الرومانية. في راڤـِنـّا، أنشئت كنائس ومباني أثرية جديدة، ولا يزال الكثير منها باقياً.

بنيت كنيسة القديس سانت أپولينار نوڤو، وومعموديتها، ومصلى الأساقفة باستخدام الرسومات الزخرفية والطراز المعماري الروماني المتأخر، لكن في ضريح ثيودوريك يظهر بوضوح العناصر القوتية الصريحة، مثل عدم استخدام الطوب في إنشاءاتها، سوى ألواح الحجر الجيري الضخمة الإسترية، أوالأسطح الحجرية المكونة من بترة واحدة تزن 300 طن.

الأدب

في الثقافة الشعبية

الهامش

 a: The exact date and circumstances surrounding Amalasuntha's execution remain a mystery. In his Secret History, Procopius proposes that Empress Theodora might have had a hand in the affair, wishing to get rid of a potential rival. Although generally dismissed by historians such as Gibbon and Charles Diehl, Bury (Ch. XVIII, pp. 165-167) considers that the story is corroborated by circumstantial evidence.

المصادر

  1. ^ ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

الهوامش

المراجع الأولية

  • Procopius, De Bello Gothico, Volumes I-IV
  • Jordanes, De origine actibusque Getarum ("The Origin and Deeds of the Goths"), translated by Charles C. Mierow.
  • Cassiodorus, Chronica
  • Cassiodorus, Varia epistolae ("Letters"), at the Project Gutenberg
  • Anonymus Valesianus, Excerpta, Pars II

المراجع الثانوية

  • Edward Gibbon, History of the Decline and Fall of the Roman Empire Vol. IV, Chapters 41 & 43
  • Amory, Patrick (2003). People and Identity in Ostrogothic Italy, 489-554. Cambridge University Press. ISBN .
  • Barnwell, P. S. (1992). Emperor, Prefects & Kings: The Roman West, 395-565. UNC Press. ISBN .
  • Burns, Thomas S. (1984). A History of the Ostrogoths. Boomington.
  • Bury, John Bagnell (1923). . Macmillan & Co., Ltd.
  • Heather, Peter (1998). The Goths. Blackwell Publishing. ISBN .
  • Wolfram, Herwig (1997). The Roman Empire and its Germanic peoples. University of California Press. ISBN . Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

نطقب:Early Germanic Kingdoms

تاريخ النشر: 2020-06-04 11:51:05
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, صفحات بها أخطاء في البرنامج النصي, Pages using infobox country with unknown parameters, Commons category link is locally defined, انحلالات 553, دول ومناطق تأسست في 493, شعوب جرمانية قديمة, قوط شرقيون, تاريخ الشعوب الجرمانية, إيطالية القوطية الشرقية, بلدان سابقة في البلقان, بلدان سابقة في شبه الجزيرة الإيطالية, بلدان سابقة في اوروبا, تاريخ إيطاليا

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

تعرف على إصابة «يوسف بدوي» صاحب ذهبية الكاراتيه بوهران

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-06-28 21:21:36
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 55%

بالأسماء.. 9 مساجد في خطة ترميم «مساجد آل البيت» 2022

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-28 21:21:24
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 60%

التعليم: صدور قرار ترقيات 2015 للمعلمين قريبا

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-06-28 21:21:46
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 49%

مجلس إدارة نقابة المهن الموسيقية يرفض استقالة هانى شاكر

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-06-28 21:21:41
مستوى الصحة: 30% الأهمية: 36%

مجلس إدارة اتحاد الكرة يعقد اجتماعا غدا لإعلان المدير الفنى للمنتخب

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-06-28 21:21:45
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 35%

أحمد سامي يعلن تشكيل سيراميكا لمواجهة الزمالك

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-06-28 21:21:43
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 44%

بعد تأكد رحيل بن شرقي .. الزمالك في مفاوضات مع لاعب أخر

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-06-28 21:21:27
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 56%

إزالة مخالفات زراعات الأرز بمركز الفرافرة

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-06-28 21:21:31
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 51%

وزير البترول يستعرض موقف مشروعات قطاعى التكرير والبتروكيماويات

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-28 21:21:19
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 67%

الرئيس السيسى يعزى ملك الأردن هاتفيا فى ضحايا حادث ميناء العقبة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-06-28 21:21:47
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 40%

أحمد سامي يُعلن قائمة سيراميكا كيلوباترا لمواجهة الزمالك

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-06-28 21:21:28
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 66%

الصحة: لقاح كورونا يعطى مناعة مؤقتة ويجب الحصول على الجرعة التنشيطية

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-06-28 21:21:42
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 49%

حازم إمام: نفاضل بين اسمين للمنتخب وسيتم حسمه غدا باجتماع اتحاد الكرة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-06-28 21:21:40
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 43%

تحميل تطبيق المنصة العربية