الحكم المستنصر بالله

عودة للموسوعة

الحكم المستنصر بالله

تمثال الحكم الثاني في قرطبة، إسبانيا. ويوجد في الحرم المقدس للشهداء الذي اُفتتح في 1 أكتوبر 1976.
الدولة الأموية في الأندلس
تاريخ أموي
أمراء بني أمية في الأندلس
عبد الرحمن الداخل.
هشام الرضا.
الحكم بن هشام.
عبد الرحمن الثاني
محمد بن عبد الرحمن
المنذر بن محمد
عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن.
عبد الرحمن الناصر
خلفاء بني أمية في الأندلس
عبد الرحمن الناصر
الحكم المستنصر بالله.
هشام المؤيد بالله
محمد المهدي
هشام المؤيد بالله
سليمان المستعين بالله
علي الناصر لدين الله (بنوحمّود)
عبد الرحمن المرتضى
عبد الرحمن المستظهر بالله.
المستكفي بالله.
هشام المعتد بالله.


الحكم المستنصر بالله () هوتاسعُ الحكامِ الأندلسيين، في السلسلة المضىية المزدهرة، الخليفةُ الَحَكَم (الثاني) المُسْتَنْصِر بالله، (366-350هـ=976-961م)، وَرِثَ أباه الناصر لدين الله. تسلم الحُكْمَ وعمره سبعة وأربعون عاماً، حتى إذا أباه كان يداعبه قائلاً: "لقد طوّلنا عليك".. جميع ذلك أكسبه خبرة كبيرة منيرة، تتناسب ومسؤولياته. خليفةً لبلدٍ مَقامُه الريادة في الأمور كافة، ورِعايتها داخل البلاد وخارجها، شرقاً وغرباً، أَصدقاء وأَعداء، مما جعله مُؤهَّلاً لتولي كُلَّ المهمات. وقد تابع مسيرة والده في محاولاته للسيطرة على الشمال المسيحي ومد نفوذ الإسلام له، إلا أنه غلب عليه عدد من رجالات الدولة من الصنطقبة وجعفر المصحفي ونمودور المنصور بن أبي عامر وكذلك زوجته صبح البشكنسية. وقد امتاز المستنصر بحبه للفهم والفهم حيث حوث مخطته الكثير من المؤلفات التي كانت معروفه في عهده حتى حتى كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني أهدي إليه من بغداد من مؤلفه قبل حتى يتم تداوله في بغداد ذاتها، وكان يطالع الخط بنفسه وكان الفارابي المعروف أحد الذين اعتمد عليهم المستنصر للحصول على المؤلفات من العراق، وقد توفاه الله عام 362هـ وحكم وراءه ولده من صبح البشكنسية المعروف بهشام المؤيد بالله بضغط من المنصور بن أبي عامر وجعفر المصحفي وغالب الفتى.

خبرات متنوعة

أهم من ذلك: ما أكسبه أبوه من خبرات متنوعة، في مجالات الحياة كافة دون استثناء، طوال سني ولايته العهدَ، ليتسلم بلداً مستقراً مترقياً قوياً يحافظ عليه، مستمراً في إحسان ريادته وقيادته وحمايته. عَهِدَ إليه والدُه مبكراً أموراً كثيرة: مدنية واجتماعية ومعمارية وسياسية ودبلوماسية وفهمية وعسكرية، يستشيره فيها، وكذلك يُشير عليه، ويوليه غير قليل منها. جميع ذلك جعله متمرساً متمكناً في أداء مهماته، خبيراً في شؤون الحياة وطبائع الناس وإدارة البلد وسياساته. يتمتع بالأناة والحِلْم والاحتمال، حتى مع الأعداء، مع الحزم والتروي والإقدام، قلما غُلِبَ على أمره. وإذا كانت له ثُغرة، في غير ذلك، فهي كبوة فارس.

هكذا تربّى ودرج ونشأ، نموذجاً يحتذى.. كان ملتزماً التزاماً واضحاً، ظاهراً وباطناً، إلى حدٍ اعتزامه بترَ أشجار العِنب من الأندلس كافة، كخُطةً لمكافحة الخمر، على اعتبار أنها تُصنع منه. استشار، فقيل له: إنها تُصنع من التين وغيرِه كذلك، فتَراجع عن ذلك (المغرب:1-186).

كان حسنَ السيرة فاضلاً عادلاً، رفيقاً بالرعية، مُحباً للفهم وأهله، مُقرِّباً لهم ومُشجِّعاً إياهم على التأليف، يقترح عليهم الموضوعات. يُغْدِق عليهم ما يزيد على كفايتهم، ليتفرغوا للفهم، يُهيّئ لهم الخط، ويطلبها من الأقطار، ويبعث مَن يأتيه بها، يُطالعها ويُعلق عليها تعليقات يعتمدها الفهماء.

جمعت المخطةُ التي أنشأها، ما كان وزاد عليها زيادة كبيرة، بحيث ذُكِرَ أنها كانت تضم أربعمائة مجلد، إذا لم يكن أكثر. رُوِيَ: "أن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الخط أربعٌ وأربعون فَهرسة في جميع فَهرسة خمسون ورقة ليس فيها إلاّ ذكر الدواوين(الخط) فقط". (جمهرة ابن حزم: 100، المُغْرِب: 1-186 ، الحلة: 1-203). وفتحت المخطة للفهماء والدارسين، مجهزة بكل ما يحتاجون، تقدم لهم جميع الخدمات اللازمة، مجاناً. الخلاصة: كان من أهل الدين والفهم والاستقامة، راغباً في جَمْعِ العلوم الشرعية: والحديث وفنون الفهم الأخرى المتنوعة، ألا يُعَدّ مشروعَ عملِ موسوعاتٍ سبقاً فهمياً ونَقْلَة في مناهج التدوين الرقمي؟ كان عالماً أديباً شاعراً، يرتجل. (إما حتىقد يكون قد فُقِدَ شعرُه، فوصلنا قليلُه، وإما مهماته شغلته: كلاهما وارد، والثاني أغلب). يُرْوَى له شعر ارتجله، مُوَدِّعاً زوجتَه، متجهاً لمهمة عسكرية، غزوة يقودها إلى الشمال الإسباني: عجِبْتُ، وقد وَدّعتُها كيف من الممكن أن لم أَمُتْ وكيف انثنت عندَ الفراقِ يدي معي فيا مُقلتي العَبْرَى عليها اسكُبي دماً ويا كَبِدي الحَرَّى عليها تقَطَّعي (المُغْرِب: 1-187،الحُلَّة:1-203، نفح:1-395).

لابد حتى نتسقط حتى الأندلس بقيت مَقْصداً للقادمين إليها، مثلما رأينا في عهد أبيه. وما قيل هناك متوافر بتمامه هنا، وفود متتابعة من كافة الآفاق. تجد تفاصيله ضافية في الكثير من ثِقات مصادرنا (نفح:1-394384). ومن طرائف ما جرى في إحدى هذه الوِفادات الكثيرة المتكررة: حتى أَحَدَ حكام إسبانيا الشمالية "أُردونيوالرابع" ملك مملكة "قَشْتالَة وليون"، اتى في وفد إلى بَلاط "قُرْطبة"، في صحبة عشرين من وجوه أصحابه ( ومعهم غالب الناصري)، آخر شهر صَفَر سنة (351ه = 8-4-962م)، يطلب منها عوناً، فاستقبله الخليفة في مجلسه بمدينة "الزهراء" مقر الخلافة، ولكي يؤكد حاكم قشتالة ولاءه، أقسم على الوفاء بتعهداته، وزاد حتى قّدم ابنه رهينة على ذلك. وكانت مثل هذه الأُمور تتم مكتوبة، يتعهد فيها القادم أموراً: (1) حتى يهدموا الحصون التي تضر بالثغور (عند الحدود الأندلسية). (2) ألاّ يُظاهِروا (يعاونوا) أهلَ مِلَّتهم على الأندلس. (3) حتى يُنْذِروا (يبلِّغوا) بماقد يكون من هجوم قومهم على بلد الأندلس.

Mezquita de Córdoba.
Medina Azahara.

طرفةٌ أُخرى حدثت، في غيرها: أوفد أكبرُ حكامهم في الشمال الغربي من شبه الجزيرة الأندلسية (الإيبيرية)، وفداً إلى قرطبة برئاسة أُمِّه يطلب عوناً ومعاهدة سلم "فأخرج الحَكَمُ لتلقيها أهلَ دولته واحتفل لقدومها في يوم مشهود مشهور، فوصلت وأُسْعِفت، وعُقِدَ السلمُ لابنها كما رغبت... وحُمِلَت على بغلةٍ فارهة.. ثم عاودت مجلس الحَكَم للوَداع، وانطلقت" (نفح:1-385).


الثقافة

لماذا وبماذا ظُلِمَ؟: ربما بسبب حيازة الأندلس هذا التقدم والرقي والحملة الحضارية، إلى جانب السبق الفهمي المجيد الفريد، واقتران ذلك كله بالسيادة والعزة والتمكن السياسي، مما جعلها أكبر قوة حضارية، يقصدها الناس بتنوع الأهداف لأنفسهم؛ ينهلون ويتزودون ويتفهمون، وهي في ذلك شامخة بارعة منيرة الأكناف. وحتى مع من حاولوا النيل من لآلئها، ثم طاشت سهامهم وإن أَثّرَت لوقت فوجدوا حتى دفع الاتهام إليها أسهل عليهم، وأثره علينا أشد، وأسهل شيوعاً، وأصعب رداً، مع حتى زيفه مكشوف. وعندما يشيع من خلال الدراسات، ويصل إلى دوائر أهله، وربما المأخوذين، يغدومثل المنافذ، يُصْبِح شيوعُه أكثر وأكبر، ورده أبعد وأكثر، حيث يستقر.

ولذلك فإن السعي لدراسة هذه الأمور، بدوافع فهمية متعمقة جادة مُؤَصَّلة، تُحتمل متاعبها وتكاليفها، أداءً لواجب الفهم والرغبة في إظهار الحقيقة، القائمة على الارتباط بهذه المهمة واستشعار الرغبة في خدمتها، ارتباطاً بانتمائها، وتحقيقاً لأداء التزاماتها، واحتمالاً لأعبائها ولوثقلت، هوالمفتاح لكشف حقائقها المدهشة المفاجئة، التي من الممكن لم تكن تخطر على بال. وهذا يكلف صاحبَه الكثيرَ، ليس مادياً، أكثر منه مسقطياً وفهمياً وميدانياً، والمجرب حكيم! إن جميع مَن اطلع على حقائق الحضارة الإسلامية وحياتها، من ينابيعها، إذا كان محايداً، لا يحتاج إلى مرشد إضافي ليدرك روعتها، من خلال مصادرها أوزيارة ما بقي من آثارها، كما هوالحال بالنسبة للأندلس!

لذلك فإن جميع من زارها خلال أيامها الممكنة من دارسيهم وزائريهم وتجارهم، دُهِشَ وذُهِلَ وفوجئ، فوصف ذلك بأقوى عبارة. ولعله يكفي هنا إيراد بعض الإشارات السريعة المتنوعة، نقلاً عن الآخرين من غير أهلها، أوالمعادين لها:

  1. ما نطقته الراهبة الألمانية (Heroswitha)، حين زارت قرطبة في القرن 4ه = 11م ودُهِشَت؛ لِمَا رأته مِن تقدمها وروعتها وعُمرانها، فوصفتها بأنها: "دُرَّة العالم".
  2. ما ذكره تاجر أوروبي، تردد على الأندلس، وتعامل مع أهلها تجارياً.. جرب خلقهم وتعاملهم وأمانتهم المعهودة، نطق: "كنا نثق بحدثة التاجر الأندلسي غير المكتوبة أكثر مما نثق بحدثة التاجر الأوروبي المكتوبة".
  3. معلوم حتى الأندلس سقطت سنة (897ه=1492م) عندها بدأ العبث والعيث والنكث، بكل شيء، للقضاء على الإسلام وأهله، بالوسائل كافة، منها: تحويل المساجد في الحال إلى كنائس. وبالنسبة لمسجد قرطبة الجامع، بدأوا بتشويهه وتغيير معالمه والعبث به؛ وذلك بهدم جانب منه؛ لإقامة هيكل كنسي مكانه في الداخل. خطوا إلى ملك إسبانيا "شارل الخامس (1558م) الذي كان يرعى الحرب ضد الإسلام، يستأذنونه في ذلك ولم يكن رآها فأذن لهم ونفذوه. ثم زار قرطبة بعد ذلك، فلما رآه ندم عليه، ونطق لهم: "لقد بنيتم هنا ما يمكن بناؤه في أي مكان وهدمتم أثراً وحيداً في العالم".
Herbolario.
Volumen del Corán de Al-Ándalus.

ظلموه بانادىءين

والآن ماذا نطقوا: لَحِقَت الخليفةَ الحَكَمَ المستنصر مسألتان، سَرَتا عند بعض الدارسين، وهما تترددان هنا وهناك، وهما عموماً متداخلتان: (1) إذا استعداداته لا تتجاوز الاهتمام بالكتاب لا غير. (2) إنه أنس بالحياة الهادئة لا يصلح للحرب والقتال.

الرد على الفريتين

أولاهما: ما الذي يمنع حتىقد يكون العالِمُ مُقاتلاً،يا ترى؟ على العكس تماماً، حيث إذا تاريخنا مليءٌ بذلك، لا سيما في الأندلس! فهل المحارب هوذلك الذي يُكْثِر القتل، وشيمته الهتك والفتك، لا يرعوي ولا يهتدي بِشِرْعة أوخلق أوعهد كريم،يا ترى؟ نعم، ذلك ليس عندنا، لكنه كائن عندهم، كما عهدناه في تاريخ اللقاءات والحروب، من أمثال الطواغيت: "السيد الكنبيطور"!! (493ه = 1099م)، الذي استباح مدينة بلنسية، وأحرق من أهلها أحياءً، رغم عهود الأمان، وسيده الفونسوالسادس (502ه=1109م)، الذي ضرب وخرب ونقض العهود، بعد إبرامها، في مدينة "طليطلة" وغيرها، ورئيس الكنيسة الإسبانية "فرانسيسكوخمينس ثسنيروس" Francisco Ximenes de Cisneros الذي ارتكب جريمة حرق ما قُدِّرَ بنحومليون مخطوط، سنة (904ه = 1499م)، في غرناطة بعد سقوطها بسبع سنوات، رغم العهود والمواثيق والمعاهدات، التي تَكَرَّر التوقيعُ عليها، من جهات رسمية وكنسية. أما لقاءاتنا لهم ولغيرهم، فقد هجرزت في الأندلس غالباً، خدمةً للعقيدة، ثم حمايةً للبلد وَرَدَّاً للعُدوان، وليس البِدْءَ به، كما كانوا يعملون. مع حفظ العهود.

وتاريخ الفهماء لا سيما في الأندلس، مليءٌ به. فهم رُوَّاد الجهاد المتقدمون، بتطوع على الدوام، وكانوا قادته ومن الشهداء فيه، دفاعاً وحماية ورعاية، والشواهد متضافرة لا تغيب. جميع ذلك يتم بسمت الفروسية الحقة، الملتزمة بأخلاقياتها العالية. ثم إذا الاهتمام بالفهم مؤشر مهم، حرصاً على قيام المجتمع على قواعده. وإن انغلاق الحياة في وجهه يجعلها مهددة بالانهيار، يقودها إلى الخراب سريعاً. وإن الفهم أحد أبرز ممسكات ومقومات الحياة الجادة، وبه تُحفظ وتقوم وتدوم، لاسيما بالنسبة للمجتمع المسلم، الذي بُنِيَ منهجُه السليم على أساسه، وبه أقام تلك الحضارة وأتى بتلك المُنْجَزات الفريدة. والمقصود ذلك الفهم الشرعي المُقَوِّم الذي انبثق منه ما عداه من العلوم، بأحلى صورة، وعياً وتحديداً وتجديداً. فكان لا بد من رعاية ذلك المستوى المُتَرَقي، الذي كان توافقاً انسيابياً متناسقاً متعانقاً. فكان اهتمام الحَكَم المستنصر بالفهم ثمرة طبيعية لمسيرة الحياة الإسلامية ونموها الحضاري. ذلك من مميزات نوعية بناء المجتمع المسلم ومقوماته، ليس مجرد فهم أياً كان؛ بل هوالفهم الحق والاستبصار الكوني الرفيع، به وحده تسموالحياة الإنسانية وتنموحضارتها. كان الخليفة المستنصر متنوعَ الخبرات والإمكانيات والطاقات، ملبياً لاحتياجات الحياة كافة والمهمات اللازمة لمسؤولياته ولم يكن مفتقداً لواحدة منها. هذا ما رأيناه، إلى درجة حتى ملوك الشمال الإسباني كانوا يتسابقون لكسب وُدِّهِ والاستجابة لكل مطالبه، بخضوع تام وانكسار، إذا لم تعتبره ذلة، كما هومدوّن للعديد منهم، كما أشرنا إلى عمل "أردونيوالرابع الرديء"، الذي رهن ولده، وكان لقاؤه بالخليفة المستنصر يوماً مشهوداً (نفح: 1-384، 393388). كما مثلته اللوحة المنشورة. أكثر من ذلك: حتى ملوك العُدْوَة المغربية أتوه طائعين مبايعين (نفح: 1-385).

إن هذه الفرية لم يقلها أي من أهل الأندلس، الذين أثنوا عليه وسارعوا دون استثناء إلى بيعته، التي حملتها وفودهم القادمة إلى قرطبة (نفح: 1-388386)، بل نطقها غيرهم، وهوما يشير على الافتراء. فوق هذا وذاك وأمام الروعة العالية، لك حتى تعجب جميع العجب، كيف من الممكن أن وصف المستشرقُ الهولندي الشهير المتخصص بالأندلس "رينهات دوزي" Reinhart Dozy (1883م) هذا الخليفةََ (وخطَ الفهم) بأنه: "دودة خط"؟! جَرَّده حتى من إنسانيته، وجرى تداول هذا الوصف لدى آخرين! أهكذا تكون الأمانة الفهمية وأداء التزاماتها الحقة؟! أما ثانيتهما: فهي أنه أنس الحياة الهادئة الهانئة الوادعة وأحلاسها (لايفارقها)، لا يصلح للحرب والقتال. إنه وإن كان هذا الأمر متداخلاً مع السابق، لكنه تظل إضافة تتعلق به وتتناسب معه: ذلك أنه مثلما كان قائد َعِلْمٍ ورائدَ فقهٍ، كان كذلك صاحب ميدان يجول ويصول، سواء بسواء؛ فيمكن حتى يُوصَفَ بأنه الخليفة صاحب السيف والقلم، يجيد كليهما في وقته.

"وقد ظنه الأعداء من حوله كذلك عملاً، فبدأوا بالتصرف على هذا الأساس، حيث عندما توفي الناصر طَمِعَ الجَلالِقة (شَمالي إسبانيا) في الثغور (الحدود)، فغزا الحكم المستنصر بنفسه واقتحم" (نفح: 1-382)، لكنه كان يحب السلام. وحسن الجوار الذي كان غريباً يظنونه ضعفاً؛ فأثبت لهم: أنه كما في الفهم عَلَم هوفي الحرب بطل.. وكان. "وعندها أتته وفود ملوكهم يتسابقون ويتنافسون، يقدم جميع واحد أكثر من غيره، ليُؤْثَر عند الخليفة، وفي دولة الحَكَم هَمَّتْ الرومُ (سكان الشَمال الإسباني) بأخذ مواضع من الثغور، فقوّاها بالمال والجيوش، وغزا بنفسه، وزاد في القطيعة على الروم وأذلهم" (سير أعلام النبلاء: 8-270).

قابلت الأندلس مدة خلافة الحَكَم (ستة عشر عاماً) الكثير من الأحداث العسكرية مع إسبانيا الشمالية، عالجها جميعاً بروح الجندية العالية والعسكرية الحكيمة والقيادة الناجحة، سواء تلك التي قادها بنفسه أووَجَّه إليها قادتَه وجندَه، براً وبحراً، من داخل الجزيرة الأندلسية أومن خارجها. جميع ذلك كان يتم وأهلُ الأندلس جميعاً مُوَحَّدون، يداً واحدة خلف قيادتهم وخليفتهم، وكان قدوة لهم في جميع الأمور، ولم نكد نسمع أحداً قابل الدولة أوكوّن جبهة وقام ضدها، بل ولا تخلّف عن دعوة لواجب مهما كان؛ بل العكس كانوا يتنافسون في ذلك، مهما كانت الأخطار؛ ومن هنا زاد ظهور البطولات وكثر الأعلام، من النساء والرجال . ومن الأخطار الخارجية التي قابلتها الأندلس أيام الخليفة الحكم، تلك الهجمات الثلاثة البحرية، التي قام بها "النورمانديون"، المعروفون باسم: "الفايكنج" (سكان الشمال = البلدان الإسكندنافية: الدانمارك، والنرويج، والسويد) لكن الذين هاجموا الأندلس كانوا من الدنمارك: Eng.The Vikings، Norsemen Sp.Los Vikingos، hombres del norte الهجوم الأول: بداية رجب سنة (355ه = 23-6-966م) (نفح: 1-383). الهجوم الثاني: بداية رمضان سنة (360ه = 76-971م). الهجوم الثالث: بداية سنة (361ه = أواخر 971م).

"كلها كانت تظهر تجاه السواحل الغربية في المحيط الأطلسي (البحر الكبير)، ابتداء من مدينة "الأُشْبُونة" الأندلسية، (لشبونة عاصمة البرتغال اليوم)، ثم إلى السواحل الجنوبية الأندلسية، ثم يهربون بقواربهم المُعَدّة الماهرة، لمهمات الهجوم. لكن البحرية الأندلسية كانت تقابلهم وتنال منهم ومن سفنهم، قتلاً وإغراقاً. وفي جميعها تقريباً كانوا يعودون خائبين، ذاهبين بعيداً نحوالشمال (مُشَمِّلين). وكان ذلك يتم بإشراف الحكم بنفسه وحوله مستشاروه وقادته العسكريون. وحين ظهرت بوادر الخطر من السواحل الجنوبية على البحر المتوسط، مضى إلى مدينة "المَرِيَّة" Almeria، أكبر ميناء أندلسي على البحر المتوسط، في رجب سنة (353ه = -9-964م)، لرعاية أموره والنظر في استعداداته. يحف به قادتُه الأنجاد، حيث كانت مياه ذلك الميناء تضم وحْدَها ثلثَمائة سفينةٍ حربية، جاهزة ومستعدة ومتمكنة.. مضى وفي جحفل لجبٍ من نجدة الأولياء وأهل المراتب، ولما أَحَلّ "إلبيرة" (مدينة هناك)، وَرَدَ عليه كتابُ "أحمد بن يَعْلى من طُرْطُوشة" (شَمالاً) بنصر الله العزيز وصنعه الكريم على الروم، ووافى المَرِيَّة، وأشرف على أمورها، ونظر إلى أسطولها وجدده، وعُدَّتُهُ يومئذٍ ثلاثمائة بترة، وانصرف إلى قرطبة" (الإحاطة: 1-479478). إذن هوجمع بين الاثنتين: العِلْم (في السلم) والحرب، على حد سواء.

وقد جمع "ابن الخطيب الوزير الغرناطي" (776ه)، ذلك بكلام مُوجَز مُعَبِّر: "وكان (الحكم المستنصر بالله) مَلِكاً جليلاً، عظيم الصيت رفيع القدر عالي الهمة، فقيهاً بالممضى عالماً بالأنساب، حافظاً للتاريخ جَمّاعاً للخط مُحِباً للفهم والفهماء، مشيراً للرجال من جميع بلد، جمع الفهماء من جميع قطر، ولم يكن في بني أُمية أعظم همة ولا أجل رتبة في الفهم وغوامض الفنون منه. واشتهر بهمته بالجهاد، وتُحُدِّث بصدقاته في المحول، وأَمَّلته الجبابرة والملوك" (الإحاطة: 1-478). إن هذا التوصيف المُبْتَسَر غير المنصف المفتعل، الذي نطق به آخرون بعد الأندلس، هم بعض الدارسين في العصور المتأخرة، لاسيما من الأوروبيين ومَن تابعهم، بدوافع شتى، كلها بعيد عن الفهم والحقيقة والإنصاف. وهذا مما حمل بعضاً من الأوروبيين المنصفين، ومنهم الإسبان، للتصدي للرد على ذلك وبيان زيفه، بفهمية ودراية وحياد. وإن كان منه ما أُثير لدى توليه الخلافة من الملوك المجاورين في الشمال الإسباني، لكنهم عند المحك عهدوا وأقلعوا وخضعوا، وأتوا إلى بَلاط قرطبة يتسابقون طالبين وده، كما أُشير إليه. ذلك "أن الحكم المستنصر اعتلى كرسيَ المُلْك ثاني يوم وفاة أبيه يوم الخميس، وقام بأعباء المُلْك أتَمَّ قيام، وأَنفذ الخط إلى الآفاق بتمام الأمر له" (نفح: 1-386).

نجد الثناء والإشادة العالية في جميع ما وَصَلَنا، من ثِقات المؤرخين وعموم الكُتَّاب الأندلسيين، من أهل وقته المتقدمين ومَن بعدهم من المتأخرين الأندلسيين، ومن نقل عنهم من أهل الفهم والتحري والنقد، حتى من المشارقة كالمضىي (748ه)، كلهم اعتبر أعمال الخليفة الحكم المستنصر وسياسته واختيار عماله وقضاته ومسؤوليه ورعايته للمجتمع، رجاله ونسائه وأُسره، والقادمين إليه والمدعوين إليه من خارج الأندلس، جميع ذلك دُرَّةً في قِلادة ذلك العصر الأندلسي المجيد المتحضر المنير، بحق وجَدارة وواقعية، وإحدى حَلقاته الوَضَّاءة المُتلألئة الباهرة؛ بل وعمل ذلك الكثير من الدارسين الأوروبيين والإسبان بالذات، وبقوة الحقائق القوية الشامخة المشهودة البديهة.'


المصدر:

مجلة المجتمع : تراجم تاريخ: 12/04/2008 د.عبدالرحمن علي الحَجّي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي''''

قبله:
عبد الرحمن "الناصر لدين الله"
الخلافة الأموية في الأندلس
بعده:
هشام المؤيد بالله
تاريخ النشر: 2020-06-04 12:54:33
التصنيفات: خلفاء أمويون, حكام أندلسيون, أمويو الأندلس, مواليد 915

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

"التضامن" تبدأ اليوم صرف معاشات شهر مارس

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:22:21
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 49%

رابط الاستعلام عن فاتورة التليفون الأرضي شهر مارس 2023

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:21:41
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 60%

اعترافات المتهم بقتل طالب جامعي بطعنه نافذه : انا ماكنتش اعرفه

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:21:19
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 63%

هل الأورام الليفية خطرة على النساء.. وما هى خيارات العلاج؟

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:20:58
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 66%

زلزال بالقرب من سواحل جواتيمالا بقوة 5.6 درجة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:21:32
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 61%

مينا شحاتة: ما الفائدة من الترجمة إن كنا لا نُقدّر ثقافات الغير؟

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:21:49
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 58%

حظك اليوم الأربعاء 1 مارس 2023 لجميع مواليد الأبراج المائية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:20:59
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 59%

دفن فى مكة.. وفاة لاجئ سورى سافر 73 يومًا بالدراجة لأداء العمرة (فيديو)

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:22:32
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 40%

بالأسماء.. إصابة شخصين فى حادث على طريق «الإسماعيلية - بورسعيد»

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:21:15
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 50%

الباز: الناس تخشى الاعتراف بالإنجازات بسبب إرهاب الإخوان

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:21:01
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 64%

مجدى بدران: الدولة استثمرت كل إمكانياتها لتعديل المنظومة الصحية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:21:00
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 63%

آلاف الوظائف الخالية لجميع المؤهلات والتخصصات.. التقديم مفتوح

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:22:23
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 42%

طلاب تعليم الإسكندرية يوجهون رسائل توعية بالمناخ

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:21:16
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 50%

مسعود شومان: ليس من حق الناشر إجراء تعديل فى نصوص الكتاب

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:21:50
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 52%

مصرع فتاة سقطت من إحدى العقارات السكنية فى مرسى مطروح

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:21:18
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 62%

سوسن بدر تروج لـ مسلسلها الرمضانى «جميلة»

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:21:25
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 70%

الجيش الأوكراني: روسيا تنشر مزيدا من السفن في البحر الأسود

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:22:42
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 68%

موسكو تتهم واشنطن بأنها أحد عوامل التصعيد الفلسطيني الإسرائ

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:22:38
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 61%

الباز : تراجع الأسعار كابوس لأعداء البلد

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-03-01 03:20:57
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 59%

تحميل تطبيق المنصة العربية