منطقة حول الرسم

منطقة حول الرسم Les Essais sur la peinture هي احدى مؤلفات المفكر الفرنسي ديني ديدرو، الذي كان ولا يزال يعتبر واحداً من كبار مفكري العصر التنويري، والذي كان الأكثر موسوعية من بين جميع المفكرين والكتاب التنويريين - في تلك العقود الحاسمة في تاريخ الفكر الإنساني والتي استبقت قيام الثورة الفرنسية بل مهّدت له، في ذلك الحين -، على خط تبحث شؤون فن الرسم ونظرياته، بين مؤلفاته الكثيرة الأخرى، التي طاولت الفلسفة والأدب والمسرح والحوارات الفكرية وأدب الرسائل وأدب الرحلات. والحال ان هذا لم يكن غريباً أبداً، على هذا المفكر الذي ارتبط باسمه واحد من أبرز المشاريع الفكرية المؤسسة في تاريخ التراث الإنساني: «الموسوعة». ونحن نعهد حتى ديدروالذي عيّن عام 1747 مديراً للمجموعة من الأدباء والكتاب والرسامين الذين تصدوا لإصدار تلك الموسوعة، واصل اشتغاله عليها حتى عام 1772، حين نشر آخر جزءين من المجموعة التي تضم اللوحات، وآخر جزء، من النصوص الموسوعية نفسها. وديدرواشتغل أولاً على المشروع مع زميله دالامبير، ثم بعد ذلك، ومنذ العام 1758، انفرد وحيداً في ادارة المشروع، مع عشرات الباحثين والكتاب المساعدين، ما وفّر له خلفية معهدية مدهشة مكّنته لاحقاً من وضع خط متفردة تطاول الكثير من الفنون وضروب الاهتمامات الفكرية. ومن بين تلك الخط، كتاب «دراسة حول الرسم» الذي صدر مستقلاً عام 1795 ليعتبر فتحاً في مجاله.

والحقيقة حتى ذلك المفكر الموسوعي، ومنذ زمن طويل قبل ذلك، لم يكن يخفي اهتمامه بالفن، هوالذي أشرف طوال عقود من السنين على عشرات الفنانين الذين أنجزوا مئات من اللوحات لـ «الموسوعة»، بل كان من فرط اهتمامه بفن الرسم لا يخفي سروره حين يقوم فنان ما، من اصدقائه أومن بين المتعاونين معه، برسم «بورتريه» له... غير انه كان يفضل دائماً - انطلاقاً من ذلك - ان تتّسم الرسوم، سواء كانت للموسوعة أوله شخصياً، بنزعة طبيعية واقعية، كان يفضلها عن أية نزعة سواها... فهوما كان يريد أبداً للفن حتى يحاكي شيئاً آخر غير الطبيعة، وهوبالتحديد ما كان يريد له أبداً حتىقد يكون غوصاً في السيكولوجية البشرية، أوفي موضوعات رومنطيقية أوحتى دينية. «ليست هذه هي وظيفة الفن» كان يقول. وهولكي يضفي بعداً نظرياً جلياً على قوله هذا، كما على تفضيلاته، وضع ذلك الكتاب الذي كان من سوء طالعه أنه لم ينشر في شكله النهائي والمستقل إلا عام 1895، أي بعد تسع سنوات من موت مؤلفه. مع ان ديدروكان خطه قبل ذلك بزمن... وتحديداً خلال الشهور التالية على انتهاء عمله في «الموسوعة».

ليس «دراسة حول الرسم» كتاباً ضخم الحجم، غير ان ديدروعهد كيف من الممكن أن يكثف في صفحاته المحدودة عدداً كبيراً من الأفكار والنظريات، التي بدت في نهاية التحليل متلائمة تماماً، مع واقعية الأفكار التنويرية وطبيعيتها نفسها، ولا سيما فكرتاها الرئيستان: الأولى التي تقوم على إعطاء المكان الأول في اللوحة للإنسان - والثانية التي تقوم على فرضية ان الطبيعة هي أم الكون وبالتالي أم الفنون. غير ان واحدة من سمات هذا الكتاب الأساسية تكمن أيضاً في تقنياته. فديدرو، مثل مفهم رسم حقيقي في مدرسة متخيلة، عمد في بداية كتابه الى وضع مخطط تدريجي وتفضيلي لسلّم الفنون من الرسم الى لعبة الضوء والظل، الى فكرة استخدام الألوان. وقد كان من الواضح ان ديدروفي هذه الصفحات المعهدية والنقدية الموزّعة على هذه الشاكلة، إنما كان يضفي بعداً تنظيرياً على كتاباته النقدية المتفرقة في هذا المجال الفني نفسه والتي جمعها في كتابه «الصالونات» الذي كان صدر في أجزاء متفرقة بين 1759 و1781. ولعل الجزء الأهم في هذا العرض هوذاك الذي يتوقف فيه ديدروعند نظرية الألوان في الرسم، إذ انه هنا يركّز على فكرة رئيسة تقول ان على الألوان ان تكون طبيعية للغاية. ذلك حتى الفن في نظره ليس سوى «محاكاة مباشرة للطبيعة».

وفي اللقاء، لا يظهر ديدروهنا شديد الاهتمام بما كان يسمّى في زمنه «سحر الرسم»... إذ، بالنسبة اليه، كان من السهل على أيّ كان حتى يتفهم كيف من الممكن أنقد يكون رساماً جيداً، ويحقق - تقنياً - ما شاء من رسوم جيدة... أما التلوين، فإنه، في رأيه «هبة من هبات الطبيعة»... لأن التلوين هوالذي «يعطي فناناً من الفنانين طابعه الخاص، ويمكّنه من حتى يدخل في تواصل مباشر مع مخيلة الجمهور». بالنسبة الى ديدرو، من المؤكد حتى السمة الأساسية لعمل الفنان، بل لـ «مزاجه أيضاً»، إنما تكمن في «قدرته على التلوين وفي الأسلوب الذي يتبعه في التلوين: وهنا قد يحدث كافياً لنا، يقول ديدرو، حتى نرصد أسلوب الفنان في نشر ألوانه فوق سطح الملّونة، وكيف يوزع الألوان هذه، من ثمة، فوق اللوحة نفسها، لكي نأخذ لأنفسنا فكرة واضحة عن قدراته الفنية وعن قوته التعبيرية في الفن». والتناسق، بالنسبة الى ديدرو، هوقانون التلوين الرئيس. وهناك ضروب تناسق سهلة، بسيطة، تسرّ النظر، لكنها في معظم الأحيان تكون متسقطة، بل منتظرة بحيث لا تشكل أية مفاجأة حقيقية للناظر، فلا تكون اللوحات الحاملة لها، في نهاية الأمر سوى لوحات عادية سرعان ما تلفظها الذاكرة، حتى وإن ظلت معلقة أمام العيون... هذا النوع من التلوين، وبالتالي هذا النوع من اللوحات، هوالنوع الحرفي الذي لا تكون اللوحة فيه سوى تكرار لما سبقها من لوحات. ولكن في اللقاء «يمكن التعهد إلى الفنان الخلاق والعبقري» من خلال ريشته «المندفعة»، التي «تبحث وتبحث من دون هوادة عن التلوين الحقيقي المدهش وغير المتسقط، مع انه يظهر طالعاً مباشرة من صلب الطبيعة». ان الفنان الذي يعنيه ديدروهنا انما هوذاك الذي «من دون كلل أوملل يخلق ضروب التناسق الأكثر جدة والأكثر صعوبة، لاعباً في معظم الأحيان على ضروب تناقض شديدة الجرأة».

لقد صاغ ديني ديدرو(1713 - 1784) نصوص هذا الكتاب المكثف، في شكل حيوي وملوّن، كما حال الكلام المحكي بين أصدقاء يتناقشون... وهذا ما أضفى على هذا النص، في رأي مؤرخي حياة ديدرووعمله تلك «الحرارة التي لا تضاهى» والتي «تتسم بها عادة جميع أنواع السجالات الصاخبة»، ما جعل الكتاب يبدو، في نهاية الأمر، معبّراً عن أرقى ما كانت نظريات الفن توصّلت اليه خلال القرن الثامن عشر الفرنسي. ونعهد ان ديني ديدروكان واحداً من كبار مفكري ذلك العصر، بحياته المكرسة كلياً للفكر والفهم، وقدرته الهائلة على الاستفزاز، وبخاصة انطلاقاً من مضمون بعض خطه التي حرّمتها الكنيسة، وظل القرن العشرون الفرنسي الواعي، الى فترة قريبة جداً، غير قادر على تحمّلها. وقد خط ديدروكثيراً، وفي مجالات عدة، خارج اطار عمله الموسوعي والفلسفي الكبير.