تسلق جبل ڤنتو

عودة للموسوعة

تسلق جبل ڤنتو

منظر جبل ڤنتومن ميرابل-أو-باروني

تسلق مونت ڤنتو:

ولقد هيأت لپترارك قصائده، وفكاهته المرحة، وإحساسه المرهف بالجمال في المرأة وفي الطبيعة، وفي السلوك، والآداب، والفنون، مكاناً في المجتمع المثقف، ولم يكن تنديده بأخلاق رجال الدين في أفنيون ليمنع عظماء هؤلاء الرجال من أمثال الأسقف جاكوموكولونا Giacomo Colonna أوأخاه الكردنال جوڤاني كولونا حتى يعرضا عليه ضيافتهما ومناصرتهما. وقد عمل ما تعمله الكثرة الغالبة منا فاستمتع وغفر قبل حتى يمل ويلعن، فقد كان يلهومع محظية له بين الفترات التي ينشد فيها أغانيه للورا. وولد له طفلان غير شرعيين. ووجد متسعاً من الوقت للأسفار، وجمع فيما يظهر مالا موفوراً، فنحن نجده في باريس عام 1331، ثم نجده بعدئذ في فلاندرز وألمانيا، ثم في روما عام 1336 يحل ضيفاً على آل كولنا Colonna. وقد هجرت خرائب سوق روما الكبرى أعمق الأثر في نفسه، فقد كشفت له عن قوة وفخامة قديمتين لا تتفقان مع ما كانت عليه تلك العاصمة المهجورة في العصور الوسطى من فقر وقذارة، وألح على خمسة من البابوات متعاقبين حتى يهجروا أڤنيون ويعودوا إلى روما، وإن كان هونفسه قد غادر روما وعاد إلى أفنيون.

وعاش سبع سنين بين أسفاره في قصره الكردنال كولنا في هذه المدينة الثانية، كان يجتمع فيها بأظرف الفهماء، ورجال الدين. والمحامين وحكام إيطاليا وفرنسا، وإنجلترا، ويوحي اليهم ببعض تحمسه للآداب القديمة. ولكنه كان يُغضبه ما في أفنيون من فساد ورِشا وخصام رجال الدين، وما يستمتعون به من فراغ منهك قاتل، واختلاط الكرادلة والسراري، والنزول بالمسيحية إلى الشئون الدنيوية. فلما كان عام 1337 ابتاع له منزلا صغيراً في ڤوكلوز Vaucluse "الوادي المغلق "- الذي يبعد عن أفنيون عشرين ميلاً جهة الشرق. ويجتاز الإنسان مناظر فخمة ذات روعة ليصل إلى ذلك المكان المنعزل، فلا يتمالك نفسه من الدهشة حين يشهد كوخاً صغيراً قائماً أمام صخرة تعلوها أجراف شامخة وعرة، ولكنه يلاطفه انسياب نهر السورگ Sorgue الهادئ الرجراج. ولم يستبق بترارك روسوإلى التسامي العاطفي بحبه فحسب، بل استبقه فوق ذلك إلى المتعة التي كان يستمدها من المناظر الطبيعية. انظر مثلا إلى ما خطه إلى صديق له يقول : " ألا ليتك تعهد ما أحس به من البهجة وأنا أجول، حراً وحيداً، بين الجبال والغابات، ومجاري الماء ". وفي عام 1336 ضرب المثل لغيره من السياح بأن تسلق قمة فنتوVentoux (التي تعلو6214 قدماً) لا لشيء إلا الرياضة، واجتلاء ما حولها من المناظر، وما يشعر به المنتصر من زهووخيلاء. وكان وهوفي فوكلوز في ذلك الوقت يرتدي زي الفلاح العامل، ويصيد السمك في الغدير، ويرتاض في حديقتين، ويقنع " بكلب واحد وخادمين لا أكثر ". ولم يكن يندم على شئ (لأن هيامه بلورا قد انصرف في أشعار الصيد) إلا على شدة بعده عن إيطاليا وشدة قربه من أفنيون.

ومن هذه البقعة الصغيرة من الأرض أثار بترارك نصف العالم الأدنى. وكان يجب حتى يخط الرسائل لأصدقائه، وإلى البابوات والملوك، والأموات من المؤلفين، وإلى الأبناء الذين لم يولدوا بعد. وكان يحتفظ بصور من هذه الرسائل، ولما تقدمت به السن كان يسلس كبرياءه بمراجعتها وإعدادها للنشر بعد وفاته. وتعد هذه الرسائل المصوغة في لغة لاتينية جزلة، ولكنها تضاهي لغة شيشرون، أبرز ما بقى من آثار قلمه. وقد وجه في بعضها إلى الكنيسة نقداً بلغ من شدته حتى أبقاها سراً فلم تنشر إلا بعد حتى توفي وأصبح آمناً على نفسه. ذلك أنه وإن قبل في إخلاص، كما يظهر للعيان، عقائد الكنيسة الكاثوليكية كاملة، كان يقيم بروحه مع الأقدمين: فكان يخط إلى هوميروس، وشيشرون، وليڤي، كأنهم رفاق له أحياء، ويتحسر لأنه لم يولد في أيام البطولة، أيام الجمهورية الرومانية. وكان من عادته حتى يطلق اسم ليليوس Laelius على واحد ممن يراسلهم، وأسم سقراط على واحد آخر. وقد أوحى إلى أصدقائه حتى يبحثوا عن المخطوطات الضائعة في الآداب اللاتينية واليونانية، وأن ينقلوا النقوش القديمة، ويجمعوا المسكوكات القديمة، لأنها وثائق تاريخية قيم. وحث ولاة الأمور على حتى ينشئوا دور الخط العامة. وكان يجعل نفسه قدوة فيعمل بما يدعوإليه: فكان في أسفاره يبحث عن النصوص الأدبية القديمة ويبتاعها لأنها "تجارة أعظم قيمة من جميع ما يعرضه العرب أوأهل الصين " (6)، وينقل بخط يده المخطوطات التي لا يستطيع شراءها، ولما عاد إلى موطنه استأجر النساخين وأسكنهم معه في داره. وكان يزدهي بنسخة من هوميروس أوفدت إليه من بلاد اليونان، ورجا مرسلها حتى يبعث اليه بنسخة من مؤلفات يوربديز. وكان يصحب معه أينما رحل النسخة التي لديه من أشعار ڤرجيل، ويسجل على الصفحة الأولى منها الحوادث البارزة في حياة أصدقائه. ولسنا ننكر حتى العصور الوسطى قد حافظت على كثير من الآداب الوثنية القديمة، وأن بعض الدارسين في تلك العصور قد أولعوا بهذه الآداب، ولكن بترارك عهد من إشارات عثر عليها في هذه المؤلفات حتى روائع لا حصر لها قد نسيت أووضعت في غير المكان اللائق بها، وجعل همه الكشف عنها.

ويسميه إرنست رينان Renan "أول الرجال المحدثين " لأنه "خلق في العالم الغربي اللاتيني حنيناً رقيقاً إلى الثقافة القديمة "(7). على حتى هذا الوصف لا يكفي لتحديد معنى "الحداثة " التي لم تكتف بإعادة الكشف عن أدب العالم القديم، بل أحلت الأدب الطبيعي محل الأدب الخارق للطبيعة، وجعلته مصدر اهتمام بني الإنسان. وبهذا المعنى أيضا يستحق بترارك حتى يوصف بالرجل "الحديث "، فهووإن كان نقياً معتدلاً في تقواه يُحيره في بعض الأحيان ما يحدث للإنسان في الدار الآخرة، فإن ما بعثه من الاهتمام بالعالم القديم كان هومنشأ اهتمام عصر النهضة بحياة الإنسان على هذه الأرض، وعدم تحريم الملاذ الحسية، وتمجيد الحياة الدنيوية بدلا من الخلود الشخصي. على حتى بترارك لم يكن يخلوقلبه من العطف على وجهة نظر العصور الوسطى، وقد أنطق في محاوراته عن احتقار الدنيا De Contemptu Mundi القديس أوغسطين بشرح جيد لهذه النظرة. ولكنه وضع نفسه في هذه الأحاديث الخيالية موضع المدافع عن الثقافة الزمنية والشهرة الدنيوية. وكانت هوة سحيقة تفصل بين مزاجي دانتي وبترارك وإن كان ثانيهما قد بلغ السابعة عشرة من عمره حين توفى أولهما. والنقاد مجمعون على أنه أول الكتاب الإنسانيين، وأول محرر عبر في وضوح وقوة عما للإنسان من حق في الاهتمام بهذه الحياة الدنيا، وفي الاستمتاع بما تحتويه من جمال، وبذل الجهد في زيادته. والعمل على حتى يستحق الثناء من الأجيال المقبلة، وقصارى القول أنه كان أبا النهضة.

الهامش


انظر أيضاً

  • إدموند برك

المراجع

  • Bishop, Morris Petrarch and His World. ; Bloomington, Indiana. Indiana University Press 1963
  • Blumenberg, Hans, The Legitimacy of the Modern Age (tr. Robert M. Wallace). Cambridge, Massachusetts: MIT Press, 1983.
  • Burckhardt, Jacob. The Civilization of the Renaissance in Italy, (1868) tr. Middlemore; New York, Macmillan 1890.
  • Michael Kimmelman, "NOT Because it's There", New York Times, June 6, 1999.
  • O'Connell, Michael, "Authority and the Truth of Experience in Petrarch's 'Ascent of Mount Ventoux,'" Philological Quarterly, 62 (1983),
  • Thorndike, Lynn; Johnson, Francis R; Kristeller, Paul Oskar; Lockwood, Dean P; Thorndike, Lynn (January 1943). "Renaissance or Prenaissance?". Journal of the History of Ideas. University of Pennsylvania Press. 4 (1): 65–74. ISSN 0022-5037. JSTOR 2707236. |access-date= requires |url= (help)

وصلات خارجية

  • IV 1
تاريخ النشر: 2020-06-04 13:59:12
التصنيفات: Pages using citations with accessdate and no URL, أعمال القرن 14, تاريخ تسلق الجبال, رسائل, پترارك

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

مواعيد قطارات السكة الحديد فى الوجهين البحرى والقبلى

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:21:46
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 41%

البرج: حجز كمية من الكيف وحبس شخصين

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:24:41
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 68%

ترمب يعود لمنصة "إكس" لأول مرة منذ تعليق حسابه في يناير 2021

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:08:00
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 91%

قانون التأمينات يحدد حالات قطع معاش المستحق أبرزها زواج الأرملة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:21:47
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 50%

28 جامعة حكومية و27 خاصة و12 أهلية.. مؤسسات التعليم الجامعى بمصر فى أرقام

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:21:43
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 48%

تحذيرات من زيادة ارتفاع درجات حرارة المحيطات الفترة المقبلة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:21:50
مستوى الصحة: 36% الأهمية: 49%

أعراض وأسباب عدم التوازن الهرموني في الجسم

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:21:40
مستوى الصحة: 39% الأهمية: 37%

قسنطينة: توقيف متهمين بمحاولة السطو على منزل

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:24:46
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 69%

تعرف على مواعيد تسليم وحدات سكن مصر فى القاهرة الجديدة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:21:31
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 48%

وصول مئات المهاجرين إلى جزر متفرقة فى اليونان

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:21:38
مستوى الصحة: 36% الأهمية: 41%

سكيكدة: اختناق مروري بسبب الركن العشوائي بازدواجية بني بشير

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:24:56
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 54%

سعر الذهب اليوم الجمعة 25-8-2023 في مصر.. اعرف عيار 21 بكام - اقتصاد

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:20:24
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 66%

"السلام عليكم".. تحية كريستيانو رونالدو بالعربية تشعل مواقع التواصل

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:08:25
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 91%

أسما شريف منير تكشف لـ"تليفزيون اليوم السابع" سر نيولوك حلاقة الشعر

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:21:48
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 38%

أولاد خلوف بميلة: حبس شخص في قضية سرقة محلات تجارية

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:24:52
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 51%

"الأوقاف" تعلن انطلاق 10 قوافل دعوية كبرى اليوم

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:21:35
مستوى الصحة: 31% الأهمية: 49%

بريغوجين... جراءة أدَّت إلى الهلاك

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:08:28
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 96%

ابنة شريف منير تفاجئ الجميع "حليقة الرأس"

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:07:47
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 88%

أبرز فوائد زيت البرتقال.. يحسن المزاج ويقضى على نمل المطبخ

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-08-25 06:21:36
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 47%

تحميل تطبيق المنصة العربية