پترارك

فرانشسكوپترارك
Francesco Petrarch
وُلِد 20 يوليو1304
أريتسو
توفي 19 يوليو1374
Arquà Petrarca
الوظيفة رائد إنسانية النهضة
القومية إيطالي
الفترة عصر النهضة المبكر

فرانشسكوپتراركا Francesco Petrarca (عاش 20 يوليو1304 – 19 يوليو1374)، يُعهد بالإنگليزية باسم پترارك Petrarch، كان باحثاً وشاعراً إيطالياً، وأحد إنسانيي النهضة المبكرين. وكثيرا ما يُدعى پترارك "أبوالإنسانية". وفي القرن السادس عشر، خلق پييتروبمبونموذجاً للغة الإيطالية الحديثة مبنياً على أعمال پترارك وجيوڤاني بوكاتشيووخاصةً دانته أليگييري. هذا النموذج أيدته لاحقاً أكاديميا دلا كروسكا. حازت سونتاته على الاعجاب وجرى تقليدها على نطاق واسع في اوروبا أثناء النهضة وأصبحت نموذجاً للشعر الغنائي. كما عـُرِف پترارك بأنه من أول من استخدموا مصطلح العصور المظلمة.

حياته

النشأة والسنوات المبكرة

Petrarch revived the work and letters of the ancient Roman Senator Marcus Tullius Cicero

في عام 1302 نفسه، أي في العام الذي انتزع فيه حزب الأشراف السود حكم مدينة فلورنسا بالقوة، ونفوا دانتى وغيره من حزب الطبقة الوسطى البيض اتهم الاشراف الظافرون محامياً من البيض هوالسُر Ser (أي السيد اوالرئيس) بتراتشيوPetracceo بأنه زور وثيقة قانونية. ووصف بتراتشيوالتهمة بأنها حجة ماكرة للقضاء على حياته السياسية، فأبى حتى يمثل أمام القضاء ليحاكم عليها، فحكم عليها، فحكم عليه في غيابه، وخير بين حتى يؤدي غرامة باهظة أوتبتر يده اليمنى. وإذا كان قد ظل يرفض الحضور أمام المحكمة فقد صدر الأمر بنفيه من فلورنس، وصودرت أملاكه. فما كان منه إلا حتى فر إلى أريتسوهووزوجته. وفي هذه المدينة طلع فرانتشسكوبتراركا (كما سمى نفسه فيما بعد تظرفاً) على العالم على حين غفلة بعد عامين من نفيه.

وكانت بلدة أريتسوالصغيرة جِبليِة Ghibelline عارمة (أي تدين بالولاء السياسي للإمبراطورية الرومانية المقدسة لا للبابوات)، فكانت لذلك تعاني في القرن الرابع عشر جميع ما تعانيه المدن الإيطالية من المحن. وكانت فلورنس الجلفية Guelfic - أي التي تناصر البابوات على الأباطرة في النزاع القائم بينهما على السلطان السياسي في إيطاليا - قد أسقطت بأريتسوهزيمة منكرة عند كمبلدينوCampaldino (1189) وهي المعركة التي حارب فيها دانتي؛ فلما حل عام 1340 نفى جميع الجبليين الذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والسبعين من بلدة أريتسو، ثم خضعت تلك البلدة نفسها نهائياً لحكم فلورنس في عام 1384. وكانت أريتسوهذه هي البلدة التي ولد فيها ماسناس Maccenas في الزمن القديم، وهي التي شهدت في القرنين لخامس عشر والسادس عشر مولد جيورجيوڤاسارى Giorgio Vasari الذي أذاع شهرة النهضة، وپيتروأرتينوPietro Aretino الذي حط من شأنها وقتاً ما، وانجبت جميع بلدة في إيطاليا في ذلك العهد عبقرياً من العباقرة ثم نفته منها.

وهرول السيد بتراتشيونحوالشمال في عام 1312 ليرحب بالإمبراطور هنري السابع الذي كان يرجى في ذلك الوقت حتى ينقذ إيطاليا أوفي القليل من فيها من الجبليين. ولم يكن بتراتشيوفي ذلك العام يقل عن دانتي أملا وثقة في المستقبل، فنقل أسرته إلى پيزا Pizaa وانتظر فيها القضاء على الجلفيين الفلورنسين.

وكانت پيزا لا تزال حتى ذلك الوقت من بين مفاخر المدن الإيطالية. نعم إذا تدمير أسطولها على يد اهل جنوى في عام 1284 قد أفقدها بعض أملاكها، وانقص تجارتها، وأن النزاع الذي قام بين الجبليين والجلفيين داخل أسوارها لم يهجر لها من القوة ما تستطيع حتى تفلت به من قبضة فلورنس التجارية صاحبة النزعة الاستعمارية، والتي كانت تتوق إلى السيطرة على نهر الآرنوحتى مصبه. ولكن أهلها البواسل كانوا يزهون بكنائسها الرخامية الفخمة، وابراجها المزعزعة، ومقابرها الشهيرة، وذلك الحقل المقدس Campo Santo الذي ملئ مربعه الأوسط بثرى الأرض المقدسة، والذي زينت جدرانه بعد قليل من ذلك الوقت بمظلمات من خلق تلاميذ جيتوGitto واللورندستي Lorenzetti، والذي خلدت قبوره المزدانة بالتماثيل ذكرى الموتى من الأبطال أوالأسخياء وإن لم يدم هذا التخليد إلا إلى حين. وفي جامعة بيزا عكف المشترع البارع بارتولوس Bartolus الساسوفرتووى of Sassoferrato بعد إنشائها بزمن وجيز على تعديل القانون الروماني ليوائم حاجات العصر الذي كان يعيش فيه، ولكنه صاغ فهم القانون في عبارات غريبة حمل عليه من أجلها بترارك وبوكاتشيوحملة شعواء. ولعل بارتولوس قد رأى من الحكمة حتى تكون لغة القانون غامضة لأنه كان يبرر اغتال الطغاة المستبدين، وينكر على الحكومات مصادرة أملاك الناس إلا بعد الإجراءات القانونية الواجب اتباعها في مثل هذه الأحوال(1).

وتوفي هنري السابع (1313) قبل حتى يقرر هلقد يكون إمبراطوراً رومانياً أولاقد يكون. وابتهج جلفيوإيطاليا بوفاته، ورأى السيد بتراتشيوأنه غير آمن على نفسه في بيزا فهاجر منها هووزوجته وابنته إلى أفنيون القائمة على ضفة نهر الرون حيث كان البلاط البابوي قد اقيم من عهد قريب، وحيث كانت التجارة آخذة في الأتساع السريع، فأتاحا فرصاً ثمينة للمحامي البارع في مهنته. وركبت الأسرة سفينة شراعية سارت بمحاذاة الساحل إلى جنوى، ولم ينس بترارك قط ما كان يتجلى أمامه من مناظر ساحل الرفييرا الإيطالي الرائعة - من مدن كأنها التيجان على هامات جبال تنحدر إلى بحار زرقاء مخضرة، يقول فيها الشاعر الشاب: ((إنها أشبه بالسماء منها إلى الارض))(2). ووجدت الأسرة بلدة أفنيون مليئة باصحاب المراتب العالية، فانتقلت منها إلى كاربنتراس Carpentras التي تبعد عنها نحوخمسة عشر ميلا نحوالشمال (1315)، وقضى فرانتسكوفي هذه البلدة الثانية أربع سنين سعيداً في تواكله وعدم مبالاته بما يحيط به. وانتهت هذه السعادة حين أوفد إلى منبلييه (1319-1323)، ومنها إلى بولونيا (1323-1326) لدراسة القانون.

وكان من شأن بولونيا حتى تسره، فقد كانت مدينة جامعية، مليئة بمرح الطلاب ومجونهم، يغمرها جوالتعليم، وتحمس التفكير الحر المستقل. وفي هذه المدينة كانت تدرس في هذا القرن الرابع عشر أولى مناهج التشريح الآدمي، وكانت فيها استاذات من النساء بلغت بعضهن - مثل نوفيلادندريا Novella d'Andrea (المتوفاة عام 1366) - من الجاذبية حدا جعل الرواة يصفونها - وصفا خياليا بلا شك - بأنها كانت تحاضر من تحت قناع لئلا يشغل الطلاب بجمالها عن عملها. وكانت بلدية بولونيا من أوليات البلديات التي ألقت عن كاهلها نير الإمبراطورية الرومانية المقدسة وأعربت استقلالها بشئونها. وكانت منذ ذلك العهد البعيد وهو1153 قد اختارت محافظها وظلت قرنين كاملين محافظة على حكومتها الديمقراطية، ولكنها منيت في عام 1325، وبترارك مقيم فيها، بهزيمة ساحقة على يد مودينا Modena لم يسعها إلا حتى تضع نفسها تحت حماية البابوية، فلما حل عام 1327 ارتضت حتىقد يكون قس معين من قبل البابا حاكما لها، ونسجت حول هذه الفترة من تاريخها كثير من القصص المريرة.

وكان بترارك يحب الروح السائدة في بولونيا، ولكنه كان يبغض حرفية القانون: " وكان مما يتعارض مع ميويى ويؤلمني حتى أحصل فنا لا أربد ان امارسه ممارسة غير شريفة، ولا أستطيع حتى أمارسه بغير هذه الطريقة "(2). وكل ما كان يعنى به في الرسائل القانونية هو" ما كان فيها من إشارات يخطئها الحصر للعصر الروماني القديم ". ولهذا فإنه بدلا من حتى يفهم القانون قرأ جميع ما استطاع حتى يجده من كتابات فرجيل، وشيشرون، وسنكا. وفتح هؤلاء أمامه عالما جديداً في الفلسفة والفن الادبي، وشرع يفكر كما يفكرون، ويتوق إلى حتى بخط كما يخطون، ولما توفى أبواه (1326) هجر دراسة القانون، وعاد إلى أفنيون وألقى بنفسه في غمار الشعر القديم وآداب الغرام.

ويقول إذا يوم الجمعة الحزينة هواليوم الذي سقطت عيناه على المرأة التي كانت مفاتنها المتمنعة هي التي جعلته أشهر شعراء عصره. وقد وصفها وصفاً مفصلاً يفتتن به قارئه، ولكنه حرص على الاحتفاظ بسرية شخصيتها حرصاً حمل أصدقائه على الظن أنها من مبتكرات خياله الشعري، وأن جميع ما يبثها من عاطفة إنما هومن قبيل التسامح الشعري لا أكثر.

ولكننا لا يزال في وسعنا حتى نرى على الصفحة الاولى من نسخته الخاصة من ديوان فرجيل، التي تحرص مخطة أمبروز بميلان على الاحتفاظ بها وتعدها من أثمن كنوزها، لا نزال نرى الألفاظ التي خطها بخطه في عام 1348 بنصها: في سنة 1327 من ميلاد المس، وفي اليوم السادس من شهر إبريل، وفي الساعة الاولى، سقطت عيناي في كنيسة القديسة كلارا Santa Clara بأفنيون على لورا Laura التي تمتاز بفضائلها، والتي ذاعت شهرتها في أغاني. وفي تلك المدينة نفسها، وفي الشهر نفسه، وفي اليوم السادس بعينه، وفي الساعة الاولى ذاتها، من عام 1348 احتجب هذا الضوء من نهارنا.

ترى من كانت لورا هذه،يا ترى؟ لقد سجلت في أفنيون في اليوم الثالث من أبريل عام 1348 وصية أوصت بها سيدة تدعى لوراده ساد Laura de Sade زوجة الكونت هيوج ده ساد Hugue de Sade التي ولدت له أثنى عشر طفلاً. وأكبر الظن إذا هذه السيدة هي التي كان يهيم بها الشاعر، وكان زوجها من الأسلاف الأبعدين لأشهر رجل سادي في التاريخ. وتصف الرواية المأثورة نقشاً دقيقاً يعزى إلى سيمون مرتينى Simone Martini محفوظ الآن بمخطة فلورنس بأنه صورة لورا محبوبة بترارك، والصورة ذات وجه جميل رقيق، وفم ظريف، وأنف مستقيم، وعينين ناعستين توحيان بالتواضع والتفكير. ولسنا نعهد أكانت لورا قد تزوجت أم كانت أما شابة حين سقطت عليها عين بترارك أول مرة.

ومهما يكن من أمرها فإنها تلقت هيامه بها في هدوء، وأبعدته عنها، وشجعته في هيامه بها بتمنعها وصدودها. ويدلنا على ما كان في عاطفته نحوها من إخلاص في بعض الأحيان تأنيب ضميره له لما كان في هذه العاطفة من عنصر شهواني، وحمده الله على جميع ما كان لعدم استجابتها لحبه من أثر في تهذيب هذا الحب والسموبه.

في أية مملكة ذات سناء، بل في أي ميدان من ميادين الفكر المتألق
عثرت الطبيعة على النموذج الذي صاغت على مثاله
هذه الصورة الرقيقة الباهرة التي تمثل هنا
على ظهر الأرض ما صنعته الطبيعة في السماء،يا ترى؟
وأية حورية من ساكنات عيون الماء، وأية روح من أرواح الحراج
نشرت مثل هذه الذؤابات المضىية
على متن الهواء،يا ترى؟ وأي قلب عهد أمثال هذه الفضائل،يا ترى؟
وإن كانت أكبر فضائلها قد انطوت على موتى
إن من لا يتطلع إلى عينيها اللتين اكتمل فيهما الجمال
إنما يبحث عن الجمال السماوي بلا جدوى،
ومن لا يرى هاتين المقلتين النيرتين الزرقاوين تشعان الضياء
لا يعهد كيف من الممكن أن يذعن الحب ويصد
وليس يعهد حلوأنفاسها إلا من عهد
حلوحديثها وضحكها

وكان في هذه الأثناء يعيش في بروفانس، بلاد شعراء الفروسية الغزلين، وكان صدى أغانيهم لا يزال يتردد في أفنيون، وصار بترارك، كما صار دانتي من قبله بجيل من الزمان من هؤلاء الشعراء الغزلين على غير فهم منه، يعبر عن عاطفته بألف حيلة وحيلة من الحيل الشعرية. وكان قرض الشعر وقتئذ من مسببات اللهوالشائعة. وقد بلغ من شيوعه حتى شكا بترارك في إحدى رسائله من حتى المحامين، ورجال الدين، بل وخادمه الخاص نفسه قد عمدوا كلهم إل قرض الشعر، ويقول إنه يخشى ألا يمضى وقت طويل حتى "تشرع الماشية نفسها حتى تخور شعراً " (3). وقد ورث عن بلاده بحر الأغاني، وربط بينه وبين الشعر المقفى العسير الذي ظل مائة عام يشكل الشعر الإيطالي ويقف في سبيله، وألف في خلال الإحدى والعشرين السنة التالية، وهوسائر على ضفاف الجداول، أوبين التلال، أوراكع خاشع أثناء صلوات المساء أوالقداس، يتحسس طريقه بين صيغ الأفعال والصفات، في سكون حجرته، تقول إنه ألف في خلال هذه السنين سبع أغان ومائتي أغنية، وقصائد أخرى متنوعة عن لورا الحية الولود. وجمعت هذه الأغنيات والقصائد في نسخ مخطوطة وسميت الكندسنير Canzoniere أوكتاب الأغاني، فأثارت خيال شباب إيطاليا، ورجالها، ورجال الدين فيها. ولم ير أحد حرجا في حتى مؤلفها، حين لم يجد طريقا للرقى إلا طريق الكنيسة، قد تيفخ%-@أي حلق شعر اليافوخ وهوكناية عن أنه انتظم في سلك رجال الدين. (المترجم)@

وانتظم في المراتب الصغرى من مراتب الكنيسة، وأخذ يسعى للحصول على الرتب الكهنوتية.وأما لورا نفسها فلعلها قد اعتراها الخجل، واهتزت مشاعرها- حين سمعت حتى شَعرها، وأنفها، وشفتيها... كانت يتغنى بها من البحر الأدرياوي إلى نهر الرون. ولم يحدث قط من قبل فيما أنقذ من الضياع من أدب العالم حتى عبر إنسان عن عاطفة الحب هذا التعبير الكامل المختلف الأنواع أوبمثل هذه الأساليب الشعرية التي بذل فيها الكثير من الجهد والعناء، ففيه نجد جميع تلك الأوهام المتكلفة الظريفة المنبعثة عن الرغبات المصوغة شعراً، ونجد شعلة الحب الملتهبة قد شذبت تشذيبا عجيبا حتى احتواها الوزن والقافية. وفي هذا يقول الشاعر نفسه: "ما من صخرة، مهما بردت، إلا ستشتعل من هذه الساعة وتحترق تحسراً إذا مستها أغاني ".

ولكن الشعب الإيطالي قد تلقى هذه المعاني الحلوة مصوغة في أروع ما عهدته لغته من الأنغام الموسيقية: رقيقة، ظريفة، منسجمة، مزدانة بالخيال الساطع الوقاد، الذي يظهر دانتى بازائه في بعض الأحيان خشناً فجاًّ، فها هي ذي الآن تلك اللغة الفخمة المجيدة التي انتصرت فيها الحركات على الحروف الساكنة، قد بلغت الآن درجة سامية من الجمال لم ترق إليها لغة ما إلى يومنا هذا. إذا في وسع الأجنبي الذي ليس من أهل هذه اللغة حتى يترجم ما فيها من الأفكار، ولكن منذا الذي يستطيع حتى يترجم ما فيها من موسيقى؟ :


مونت ڤنتو

ولقد هيأت لبترارك قصائده، وفكاهته المرحة، وإحساسه المرهف بالجمال في المرأة وفي الطبيعة، وفي السلوك، والآداب، والفنون، مكاناً في المجتمع المثقف، ولم يكن تنديده بأخلاق رجال الدين في أفنيون ليمنع عظماء هؤلاء الرجال من أمثال الأسقف جياكوموكولونا Giacomo Colonna أوأخاه الكردنال جيوفاني كولونا حتى يعرضا عليه ضيافتهما ومناصرتهما. وقد عمل ما تعمله الكثرة الغالبة منا فاستمتع وغفر قبل حتى يمل ويلعن، فقد كان يلهومع محظية له بين الفترات التي ينشد فيها أغانيه للورا. وولد له طفلان غير شرعيين. ووجد متسعاً من الوقت للأسفار، وجمع فيما يظهر مالا موفوراً، فنحن نجده في باريس عام 1331، ثم نجده بعدئذ في فلاندرز وألمانيا، ثم في روما عام 1336 يحل ضيفاً على آل كولنا Colonna. وقد هجرت خرائب سوق روما الكبرى أعمق الأثر في نفسه، فقد كشفت له عن قوة وفخامة قديمتين لا تتفقان مع ما كانت عليه تلك العاصمة المهجورة في العصور الوسطى من فقر وقذارة، وألح على خمسة من البابوات متعاقبين حتى يهجروا أفنيون ويعودوا إلى روما، وإن كان هونفسه قد غادر روما وعاد إلى أفنيون.

وعاش سبع سنين بين أسفاره في قصره الكردنال كولنا في هذه المدينة الثانية، كان يجتمع فيها بأظرف الفهماء، ورجال الدين. والمحامين وحكام إيطاليا وفرنسا، وإنجلترا، ويوحي اليهم ببعض تحمسه للآداب القديمة. ولكنه كان يُغضبه ما في أفنيون من فساد ورِشا وخصام رجال الدين، وما يستمتعون به من فراغ منهك قاتل، واختلاط الكرادلة والسراري، والنزول بالمسيحية إلى الشئون الدنيوية. فلما كان عام 1337 ابتاع له منزلا صغيراً في فوكلوز Vaucluse "الوادي المغلق "- الذي يبعد عن أفنيون عشرين ميلاً جهة الشرق. ويجتاز الإنسان مناظر فخمة ذات روعة ليصل إلى ذلك المكان المنعزل، فلا يتمالك نفسه من الدهشة حين يشهد كوخاً صغيراً قائماً أمام صخرة تعلوها أجراف شامخة وعرة، ولكنه يلاطفه انسياب نهر السورج Sorgue الهادئ الرجراج. ولم يستبق بترارك روسوإلى التسامي العاطفي بحبه فحسب، بل استبقه فوق ذلك إلى المتعة التي كان يستمدها من المناظر الطبيعية. انظر مثلا إلى ما خطه إلى صديق له يقول : " ألا ليتك تعهد ما أحس به من البهجة وأنا أجول، حراً وحيداً، بين الجبال والغابات، ومجاري الماء ". وفي عام 1336 ضرب المثل لغيره من السياح بأن تسلق قمة فنتوVentoux (التي تعلو6214 قدماً) لا لشيء إلا الرياضة، واجتلاء ما حولها من المناظر، وما يشعر به المنتصر من زهووخيلاء. وكان وهوفي فوكلوز في ذلك الوقت يرتدي زي الفلاح العامل، ويصيد السمك في الغدير، ويرتاض في حديقتين، ويقنع " بكلب واحد وخادمين لا أكثر ". ولم يكن يندم على شئ (لأن هيامه بلورا قد انصرف في أشعار الصيد) إلا على شدة بعده عن إيطاليا وشدة قربه من أفنيون.

ومن هذه البقعة الصغيرة من الأرض أثار بترارك نصف العالم الأدنى. وكان يجب حتى يخط الرسائل لأصدقائه، وإلى البابوات والملوك، والأموات من المؤلفين، وإلى الأبناء الذين لم يولدوا بعد. وكان يحتفظ بصور من هذه الرسائل، ولما تقدمت به السن كان يسلس كبرياءه بمراجعتها وإعدادها للنشر بعد وفاته. وتعد هذه الرسائل المصوغة في لغة لاتينية جزلة، ولكنها تضاهي لغة شيشرون، أبرز ما بقى من آثار قلمه. وقد وجه في بعضها إلى الكنيسة نقداً بلغ من شدته حتى أبقاها سراً فلم تنشر إلا بعد حتى توفي وأصبح آمناً على نفسه. ذلك أنه وإن قبل في إخلاص، كما يظهر للعيان، عقائد الكنيسة الكاثوليكية كاملة، كان يقيم بروحه مع الأقدمين: فكان يخط إلى هوميروس، وشيشرون، وليفي، كأنهم رفاق له أحياء، ويتحسر لأنه لم يولد في أيام البطولة، أيام الجمهورية الرومانية. وكان من عادته حتى يطلق اسم ليليوس Laelius على واحد ممن يراسلهم، وأسم سقراط على واحد آخر. وقد أوحى إلى أصدقائه حتى يبحثوا عن المخطوطات الضائعة في الآداب اللاتينية واليونانية، وأن ينقلوا النقوش القديمة، ويجمعوا المسكوكات القديمة، لأنها وثائق تاريخية قيم. وحث ولاة الأمور على حتى ينشئوا دور الخط العامة. وكان يجعل نفسه قدوة فيعمل بما يدعوإليه: فكان في أسفاره يبحث عن النصوص الأدبية القديمة ويبتاعها لأنها "تجارة أعظم قيمة من جميع ما يعرضه العرب أوأهل الصين " (6)، وينقل بخط يده المخطوطات التي لا يستطيع شراءها، ولما عاد إلى موطنه استأجر النساخين وأسكنهم معه في داره. وكان يزدهي بنسخة من هوميروس أوفدت إليه من بلاد اليونان، ورجا مرسلها حتى يبعث اليه بنسخة من مؤلفات يوربديز. وكان يصحب معه أينما رحل النسخة التي لديه من أشعار فرجيل، ويسجل على الصفحة الأولى منها الحوادث البارزة في حياة أصدقائه. ولسنا ننكر حتى العصور الوسطى قد حافظت على كثير من الآداب الوثنية القديمة، وأن بعض الدارسين في تلك العصور قد أولعوا بهذه الآداب، ولكن بترارك عهد من إشارات عثر عليها في هذه المؤلفات حتى روائع لا حصر لها قد نسيت أووضعت في غير المكان اللائق بها، وجعل همه الكشف عنها.

ويسميه رينان Renan "أول الرجال المحدثين " لأنه "خلق في العالم الغربي اللاتيني حنيناً رقيقاً إلى الثقافة القديمة "(7). على حتى هذا الوصف لا يكفي لتحديد معنى "الحداثة " التي لم تكتف بإعادة الكشف عن أدب العالم القديم، بل أحلت الأدب الطبيعي محل الأدب الخارق للطبيعة، وجعلته مصدر اهتمام بني الإنسان. وبهذا المعنى أيضا يستحق بترارك حتى يوصف بالرجل "الحديث "، فهووإن كان نقياً معتدلاً في تقواه يُحيره في بعض الأحيان ما يحدث للإنسان في الدار الآخرة، فإن ما بعثه من الاهتمام بالعالم القديم كان هومنشأ اهتمام عصر النهضة بحياة الإنسان على هذه الأرض، وعدم تحريم الملاذ الحسية، وتمجيد الحياة الدنيوية بدلا من الخلود الشخصي. على حتى بترارك لم يكن يخلوقلبه من العطف على وجهة نظر العصور الوسطى، وقد أنطق في محاوراته عن احتقار الدنيا De Contemptu Mundi القديس أوغسطين بشرح جيد لهذه النظرة. ولكنه وضع نفسه في هذه الأحاديث الخيالية موضع المدافع عن الثقافة الزمنية والشهرة الدنيوية. وكانت هوة سحيقة تفصل بين مزاجي دانتي وبترارك وإن كان ثانيهما قد بلغ السابعة عشرة من عمره حين توفى أولهما. والنقاد مجمعون على أنه أول الكتاب الإنسانيين، وأول محرر عبر في وضوح وقوة عما للإنسان من حق في الاهتمام بهذه الحياة الدنيا، وفي الاستمتاع بما تحتويه من جمال، وبذل الجهد في زيادته. والعمل على حتى يستحق الثناء من الأجيال المقبلة، وقصارى القول أنه كان أبا النهضة.

نابولي وبوكاتشيو

وبدأ بترارك في فوكلوز القصيدة التي كان يرجوبها حتى ينافس فرجيل، وهي ملحمة سماها أفريقيا Africa، وموضوعها تحرير إيطاليا بفضل فوز اسكبيوالأفريقي على هنيبال. واختار اللغة اللاتينية واسطة لها كما اختارها الكتاب الإنسانيون بعد قرن من ذلك الوقت، ولم يختر اللغة الإيطالية كما عمل دانتي، لأنه كان يريد حتى يفهمه جميع العالم الغربي الذي يعهد القراءة والكتابة. وكان يزداد ارتياباً في قيمة قصيدته حدثا تقدم في نظمها، ولهذا فإنه لم يتمها، ولم ينشرها. وبينما كان منهمكاً في شعره السداسي الأوتاد، كان كتاب أغانيه الإيطالية ينشر شهرته في طول إيطاليا وعرضها، وأذاعت ترجمة له شهرته في فرنسا. ثم وصلته في عام 1340 دعوتان- كانت له هويد في توجيههما اليه- إحداهما من مجلس الشيوخ الروماني والأخرى من جامعة باريس-تطلبان إليه القدوم إليهما ليتوج فيهما أميراً للشعراء، فقبل دعوة مجلس الشيوخ كما قبل اقتراح ربرت الحكيم Robert the Wise حتى يقيم بعض الوقت في نابلي وهوفي طريقه إلى روما.

وأعطيت مملكة فردريك الثاني بعد هزيمته هووآل هوهنشتوفن بقوة جيوش البابوات ودهائهم السياسي، وكانت تضم جميع إيطاليا الممتدة جنوب الولايات البابوية - نقول أعطيت هذه المملكة إلى بيت أنجوالذي كان يمثلهم شارل كونت بروفانس. وحكم شارل تلك البلاد بوصفه ملك نابلي وصقلية. ثم انتزع بيت أرغونة صقلية من ابنه شارل الثاني. وكسب ابنه ربرت لقب الحكيم لكفايته، وحسن تصريفه لشئون الحكم، ومهارته الدبلوماسية، ومناصرته للآداب والفنون الراقية، وإن كان قد أخفق في الحرب التي شنها لاستعادة صقلية. لقد كانت مملكته فقيرة في الصناعة، وكانت الزراعة يسيطر عليها ملاك قصيروا النظر يستغلون الزراع كما يستغلهم الملاك الآن استغلالا يكاد يدفعهم إلى الثورة. ولكن تجارة نابلي كانت تدر على بلاط الملك دخلا جعل القصر الجديد Castel Nuovo لا تنبتر منه حفلات الزواج سبيلا إلى الخراب، كما أضحى سباق الزائريق الذي يقام من آن إلى آن مصدر البهجة في خليج نابلي ذي الشهرة التاريخية العظيمة. وفي ميدان المدينة نفسها كان الشبان ذووالجرأة يثاقفون في ألعاب البرجاس الخطرة بينما كانت السيدات المتوجات يبتسمن لهم من الشرفات المزدانة بالأعلام. وكانت الحياة في نابلي سارة طيبة، والآداب والأخلاق العامة سهلة طليقة، والنساء حساناً لا يصعب منالهن. وقد عثر الشعراء في هذا الجوالمليء بالتبذل والغرام كثيراً من الموضوعات لشعرهم ومن الحوافز الدافعة لقرض الشعر. وكانت هذه البيئة هي التي كونت يوكاتشيو.

وكان يوكاتشيوقد بدأ حياته في باريس. وكان مولده ثمرة غير مقصودة لاتفاق حبي بين أبيه- وهوتاجر فلورنسي-وفتاة فرنسية لا يعهد اسمها على وجه التحقيق، وأخلاقها موضع للريبة(9). ولعل مولده غير الشرعي، وأصله النصف الفرنسي، قد تعاونا على تكييف أخلاقه وتاريخ حياته. وجئ به وهوطفل إلى تشر تلدوCertaldo القريبة من فلورنس حيث قضى طفولة غير سعيدة مع زوجة أبيه، ثم أوفد وهوفي العاشرة من عمره إلى نابلي (1323)، حيث أعد الحياة المال والتجارة، وفيها سرى في نفسه كره حياة المال والتجارة، كما سرى في نفس بترارك كرهُ القانون، وجهر بأنه يفضل عليها الفقر والشعر، وانهمك في قراءة أوفد، وأعجب أشد الإعجاب بـ التحولات والهيرودات، وحفظ عن ظهر قلب الجزء الأكبر من فنون الحب الذي يقول فيه:

»إن أعظم الشعراء جميعاً يكشف كيف من الممكن أن يمكن حتى تلتهب نار فينوس المقدسة في أشد الصدور برودا«(10). فلما عجز أبوه عن حتى يرغمه على حب المال أكثر من الجمال أجاز له حتى يهجر الأعمال التجارية والمالية على شريطة حتى يفهم القانون الكنسي. ووافق يوكاتشيوعلى هذا الشرط ولكن عقله كان قد نضج للكتابة في الغرام.

وكانت أكثر النساء مرحاً في نابلي هي مارية داكوينوMaria d'Aquino وهي ابنة غير شرعية للملك الحكيم(11). ولكن زوج أمها قبل حتى تكون ابنته. وتفهمت الفتاة في دير للنساء، ثم تزوجت وهي في الخامسة عشرة من عمرها بكونت أكوينوولكنها لم تجد فيه ما يفي بحاجتها، فشجعت عدداً من العشاق واحداً بعد واحد لكي يسدوا ما تجده من نقص، وينفقوا ما لهم في ترفها وزينتها. وأبصرها بوكاتشيوأول مرة في قداس سبت النور (1331)، بعد حتى مرت أربعة من أعياد الفصح على العيد الذي كشف فيه بترارك لورا في ظروف مواتية مقدسة شبيهة بهذه الظروف. وبدت له أجمل من أفرديتي Aphrodite، »فلم يكن في العالم كله أجمل من شعرها الأشقر، ولا شئ أكثر إغراء من عينيها الخبيثتين«، وأطلق عليها أسم فيامتا Fiammetta-اللهب الصغير- وكان يتوق لأن يحرق نفسه بنارها. ونسى في هيامه بها القانون الكنسى، وانمحى من ذاكرته جميع ما حفظه في حياته من الوصايا، وقضى شهوراً طوالا لا يفكر إلا في الكيفية التي تقربه منها. وكان يمضى إلى الكنيسة منفرداً لعله يراها فيها، ويذرع الشارع اللقاء لنافذتها غادياً رائحاً، ورحل ينتظر حتى فرغت من المال جيوب غيره، ثم سمحت له حتى يتغلب عليها. وقضت معه عاماً كلفه المال الكثير وأضعف من حدة شهوته، وشرعت هي تشكومن أنه يتطلع إلى غيرها من النساء، هذا إلى حتى موارده المالية قد نضب معينها فأخذت الشعلة الصغيرة تبحث عن موارد للمال جديدة، وانزوى بوكاتشيوفي زوايا الفقر.

وأكبر الظن أنه كان قد قرأ لبترارك كتاب الأغاني ولدانتي كتاب الحياة الجديدة Vita Nuova، وشاهد ذلك حتى قصائده الأول كانت كقصائدهما أغاني مفعمة بالحنين، والحرقة، والهيام الشديدة. وكانت كثرتهما موجهة إلى فيامتا. ومنها عدد قليل يصف هياماً أقل من هذا الهيام لوعة. وخط فيها رواية نثرية مملة تدعى فيلوكوبا اقتبسها من إحدى روايات العصور الوسطى الغرامية وهي الزهرة والزهرة البيضاء. وكان أجمل منها سيرة فيلوستراتا التي روى فيها في شعر رائع متألق كيف من الممكن أن أقسمت كريسيدا Criseida حتى تكون وفية لترويلس Troilus طوال حياتها، وكيف أسرها اليونان، وكيف أسلمت نفسها بعد قليل من الوقت إلى ديوميد Diomed بحجة أنه » فارع الطول، قوي، جميل« وأنه سهل المنال. وأختار بوكاتشيوأداة له الموشحات ذات الثمانية الأبيات Ottava Rima التي كانت مثالا احتذاه بلتشى Pulci وبوياردوBoiardo، وأريستوAriosto. وهي سيرة شهوانية سافرة مؤلفة من 5,400 بيت من الشعر، تصل إلى ذروتها حين » تطرح كريسيدا ثيابها وتلقى بنفسها وهي عارية في أحضان حبيبها«(12). ولكن السيرة إلى هذا دراسة نفسانية رائعة لصنف من النساء-خائن في قلة، مغرور في مرح، وتختم بعبارات أضحت الآن واسعة الانتشار في التمثيليات الغنائية. » إذا الفتاة الشابة طائشة، تشتهى كثيراً من العشاق، تقدر جمالها أكثر مما تنبئها به مرآتها، مختالة فخورة ... لا تعهد كنه الفضيلة ولا الذكاء، قلقة على الدوام كالريشة في مهب الريح«.

وكأنما أراد بوكاتشيوحتى يقضى على تمنع فيامتا بوطأة الشعر لا غير، فأهدى إليها بعد قليل من الوقت ملحمة شعرية يبلغ طولها طول الإلياذة تماماً. وتروى هذه الملحمة ما سقط من التنافس الدموي بين أخوين هما باليمون Palemon وارتشيتى Arcite بسبب حبهما لإميليا Emilia، ثم موت الذي انتصر منهما في أحضان حبيبته، ثم قبولها المهزوم بعد التريث الواجب. غير حتى حب الأبطال نفسه يهن بعد نصف أبيات السيرة البالغ عددها 9896، وفي وسع القارئ الإنجليزي حتى يقنع بالموجز المحكم الذي وضعه تشوسر Chaucer لهذه القصيدة في سيرة الفارس.

وغادر بوكاتشيونابلي إلى فلورنس في أوائل عام 1341. وبعد شهرين من ذلك الوقت قدم بترارك إلى بلاط الملك ربرت، وتفيأ بعض الوقت ظلال هذا المليك، ثم سار في طريقه يبحث عن تاج أمير الشعراء في روما.


شاعر البلاط

وكانت روما عاصمة العالم بلداً خليقاً بالرثاء، فقد غادرتها البابوية إلى أفنيون منذ عام 1309، ولم يبق فيها من الموارد الاقتصادية ما يفي حتى بذلك المجد الوسط الذي عهدته تلك المدينة في القرن الثالث عشر، ولم تعد تتلقى تلك الثروة التي كانت تنساب من ألف أبرشية موزعة في نحواثنتي عشرة دولة. كذلك لم تكن للسفارات الأجنبية قصور فيها، وقلما كان يظهر فيها وجه كردنال بين خربات الإمبراطورية والكنيسة. ولم يكن ما أصاب الأضرحة المسيحية من دمار ليقل عما أصاب الصروح القديمة المعمدة، وكان الرعاة يسرحون ببتران الماشية على سفوح التلال السبعة، والمتسولون يجوبون شوارع المدينة. وقطاع الطرق واللصوص يكمنون في الطرق العامة، والزوجات يُختطفن من أزقابلن. والراهبات يُغتصبن، والحجاج ينهبون، وكل من في المدينة يحمل السلاح(13). وكانت أسر الأشراف القديمة-آل كولنا، وأرسينى، وسافلي، وأنيبالدى، وجيتانى، وفرنجيبانى- تتنازع فيما بينها، وتلجأ إلى العنف تارة وإلى الدسائس والمكائد تارة أخرى، للظفر بالسيادة السياسية في مجلس الشيوخ الألجاركى الذي كان يحكم روما. وكانت الطبقات الوسطى قليلة ضعيفة، وجمهرة الشعب خليطا مهوشاً من عشرات الشعوب يعيشون على حال من الفقر المدقع يشل جميع قواهم ولا يبعث فيهم أقل رغبة في حكم أنفسهم بأنفسهم. وقد تدهورت قبضة البابوية الغائبة على المدينة فلم تعد أكثر من سلطة اسمية نظرية لمندوب بابوي لا يعنى أحد بشأنه.

وبين هذه الفوضى والفاقة كانت الآثار المحطمة لعصر قديم مجيد تغذى رؤى الفهماء وأحلام الوطنيين. فكان الرومان يعتقدون حتى ستعود روما في يوم من الأيام حاضرة العالم الروحية والسياسية، وأن البرابرة المقيمين وراء الألب سيرسلون إليها الجزية والزكاة. وكان لا يزال في وسع الرجال يقيمون في مناطق متفرقة من المدينة حتى يجدوا لديهم فضلة من المال يناصرون بها الفن: فقد زين بيتروكفليني Pietro Cavallini كنيسة القديسة تشيتشيليا مدرسة رومانية لرسوم المظلمات تكاد تضارع في أهميتها مدرسة دتشيوDoccio في سينيا أومدرسة جيتوGiotto في فلورنس. بل إذا روما في شدة بؤسها وفقرها لم تخل من الشعراء الذين أنساهم ماضيها المجيد حاضرها البئيس. فبعد حتى عادت بدوا Padua وبراتوPrato سنة دومتيان التي كانت تقضى بوضع إكليل على جبهة شاعر محبوب، رأى مجلس الشيوخ حتى مما يتفق مع مكانة روما التقليدية بوصفها أولى المدائن الإيطالية حتى تتوج الرجل الذي أجمعت الآراء على أنه حامل لواء الشعراء في أمته وعصره.

وتطبيقاً لهذا العزم سار موكب بهيج من الشباب والشيوخ في اليوم الثامن من إبريل عام 1341 يرافق بترارك وقد ارتدى المئزر الأرجواني الذي خلعه عليه الملك ربرت حتى وصل إلى سلم الكبتول. وهناك وضع تاج من الغار على رأسه. وقام الشيخ استفانوكولنا الطاعن في السن بإلقاء خطبة أثنى فيها عليه جماً. ومن ذلك اليوم كسب بترارك شهرة جديدة وأعداء جدداً، فأخذ منافسوه ينتفون تاجه بأقلامهم، ولكن الملوك والبابوات رحبوا به في بلاطهم، وسرعان ما وضعه بوكاتشيوفي مصاف " الأقدمين النابهين "، وأعربت إيطاليا وهي مزهوة بما بلغه من الصيت حتى فرجيل قد ولد مرة أخرى.

ترى أي رجل كان بترارك في ذلك الوقت الذي بلغ فيه ذروة مجده،يا ترى؟ لقد كان في شبابه بهي الطلعة وسيما، يختال بجمال منظره وثيابه، وكان حين كبر يسخر من حرصه الشديد على العناية بمظهره وملابسه وعقص شعره، وضغط قدميه في حذاءين جميلي المنظر. ولما بلغ سن الكهولة سمن وأطال الشعر على ذقنه، ولكن وجهه ظل محتفظاً بسحر رقته وحيويته. وبقى مزهواً بنفسه إلى آخر أيامه، وكان جميع ما وقع في هذه الناحية من تغيير أنه أخذ يزهوبجلائل أعماله بدل الازدهاء بمنظره، لكن هذا عيب لا يسلم منه إلا أعاظم القديسين. ولولا ما يظهر في رسائله من تواضع متكلف وافتخار شريف لتضاعف ما فيها من فتنة وبهاء. وكان كسائر الناس يحب الثناء، وتتوق نفسه للشهرة، "وللخلود " الأدبي، وبذلك كان في مستهل عصر النهضة الضارب على وترها الحساس وهوالتعطش إلى المجد. وكان يغار من منافسيه، ونزل من عليائه ليرد على ما يصفونه به من عيوب، وقد أثار البعض على ما بلغه دانتي من مكانة (وإن كان قد أنكر ذلك)، وارتاع من شراسة دانتي، كما ارتاع إرزمس فيما بعد من فجاجة لوثر، ولكنه كان يحس حتى في عناد شاعر فلورنس وجرأته شيئاً أعمق مما يستطيع القلم الهين حتى يسبر غوره. وكان وهوفي ذلك الوقت نصف فرنسي في نزعته أكثر تحضراً من حتى يسب نصف العالم، وكانت تنقصه العاطفة المتأججة التي حملت سمت بإيطاليا ثم أنهكت قواها.

وإذ كان قد وهب بعض المناصب الكهنوتية، فقد كان له من الرخاء ما يحمله على ازدراء الثروة، ومن الضعف ما يبعث فيه حب الحياة الأدبية. ويقول في هذا: "ليس ثمة عبء أخف على النفس أوأحب إليها من حمل القلم. فأما غير ذلك من المتع فإنا نعجز عن نيله، أوأنه يجرحنا في الوقت الذي يسحر فيه لبناً، وأما القلم فنمسك به مغتبطين، ونلقيه راضين، ذلك حتى فيه من القوة ما لا ينفع ربه وسيده وحده، بل ينفع كذلك كثيرين غيره، وإن لم يولدوا إلا بعد موت صاحبه بآلاف السنين... وكما أنه لا يوجد بين المباهج الدنيوية ما أسمى من الأدب، فكذلك لا يوجد بينها ما أبقى على الزمن، أوأرق، أوأكثر وفاء، أوما يلازم صاحبه في جميع صروف الحياة نعيمها وشقائها، دون حتى يكلفه إلا القليل من الجهد أوانشغال البال "(14).

لكنه مع هذا يحدثنا عن "أمزجته المتقلبة التي قلما كانت تسعده، والتي كانت عادة تنزع به إلى القنوط "(15). وكان لا بد له، إذا أراد حتىقد يكون محرراً عظيما، حتىقد يكون مرهف الإحساس بجمال الشكل والصوت، في الطبيعة، وفي النساء والرجال على السواء، أي أنه كان عليه حتى يعاني أشد مما تعانيه الكثرة الغالبة منا من صخب العالم وما فيه من تشويه. وكان يحب الموسيقى، ويجيد العزف على العود، وكان يعجب بالتصوير الجميل، ويعد سيمون مرتيني Simone Martini من بين اصدقائه. وما من شك في حتى النساء كن يجتذبنه، وشاهد ذلك أنه يتحدث عنهن في بعض الأحيان بخوف لا يقل عن خوف النساك الزاهدين، ويؤكد لنا لأنه لم يتصل قط بامرأة اتصالاً جسمانياُ بعد حتى بلغ سن الأربعين، ويقول في هذا: "إن قوة الجسم والعقل التي تكفى النشاط الأدبي وتكفى مع الزوجة، لا بد حتى تبلغ درجة كبرى من العظم "(16).

ولم يعرض بترارك على العالم فلسفة جديدة. فقد نبذ الفلسفة الكلامية المدرسية لأن جميع ما رآه فيها هوبتر وتقطيع منطقي لا جدوى منه وبعيد جميع البعد عن مطالب الحياة. وتحدى القائلين بعصمة أرسطومن الخطأ، وجرؤ على تفضيل أفلاطون عنه. ورجع عن أكوناس ودنزاسكوتس إلى الكتاب المقدس وخط آباء الكنيسة، وأحب تقوى أوغسطين وأقواله المنغمة الجميلة، كما أحب رواقية أمبروز المسيحية، بيد أنه كان يقتبس من اقوال شيشرون وسنكا بإجلال لا يقل عن إجلاله ما يقتبسه من أقوال القديسين، ويأخذ حججه عن المسيحية أكثر مما يأخذها من النصوص الوثنية.. وكان يسخر من انقسام الفلاسفة على أنفسهم ويقول إنه "لم يجد بينهم من الأتفاق أكثر مما يجده بين الساعات(17). وكان من مسببات شكواه حتى "الفلسفة لا تهدف إلا إلى التقسيم والتفتيت، وإلى التنقيب عن الاختلافات والفروق، والتلاعب بالألفاظ "(18). وتلك طريقة يمكن حتى تخلق أشخاصاً بارعين في النقاش والجدل، ولكنها قلما تخلق عقلاء.. وكان يسخر من درجة "الاستاذ " أو"الدكتور " التي تتوج هذه الدراسات، وعجب كيف من الممكن أن تستطيع الحفلات حتى تبدل الأبله الأحمق عالماً تحريراً. ونبذ، في ألفاظ تكاد تكون هي بعينها ألفاظ أهل هذه الأيام، التنجيم والكيمياء الكاذبة القديمة، وحلول الشياطين في أجسام الآدميين، والفأل والطيرة، وزجر الطير، وفهم الغيب عن طريق الأحلام، وما كان يروى في أيامه من المعجزات(19) وأوتى من الشجاعة ما استطاع به حتى يثنى على أبيقور(20)، في الوقت الذي كان اسمه مرادفاً للكفر بالله. وكان من حين إلى حين يتحدث حديث المتشككين، ويجهر بهذا التشكك جهر ديكارت به ويقول : "إني لارتيابي في مواهبي ... أتقبل الشك نفسه على أنه حقيقة... فلا اوكد شيئاً، وارتاب في جميع شئ إلا حيثقد يكون الشك تجديفاً "(21).

ويبدوأنه حين استثنى هذا كان مخلصاً في استثنائه. ذلك أنه لم يكن يجهر بأي شك في عقيدة ما من عقائد الكنيسة، فقد كان ظرفه ودماثة خلقه وراحة باله مانعة له من الإلحاد. وقد وضع كثيراً من المؤلفات التي تنطق بتقواه وخشوعه، وهويسائل نفسه سؤال المتحير: ألم يكن خيراً له حتى يشق طريقه سهلا إلى الجنة كما شقها أخوه في ظل حياة الدير الهادئة. ولم يكن يرى نفعاً في فلسفة ابن رشد الإلحادية التي كانت قريبة منه في بولونيا وبدوا، وكانت المسيحية في نظره تقدماً لا ريب فيه على الوثنية، وكان يرجوحتى يتبين الناس حتى في وسعهم حتى يتفهموا دون حتى يتخلوا عن مسيحيتهم.

ورأى بترارك ان من الخير له بعد انتخاب البابا الجديد، حدثنت السادس (1342)، حتى يعود إلى أفينون ليقدم له تحياته ويعرض عليه أمانيه. وجرى حدثنت على السُّنَّة القديمة سنة منح هبة- هي تعبير عن إيراد بعض أملاك الكنيسة- لمن يؤيدونها من الكتاب والفنانين، فوهب الشاعر رياسة دير بالقرب من بيزا، ثم عينه في عام 1346 أسقفاً في بارما، ثم أوفده عام 1343 في بعثة إلى نابلي حيث التقى بحاكم من اصعب حكام زمانه مراساً واقواهم شكيمة.

وكان ربرت الحكيم قد توفي تواً، وورثت ابنته جونا Joanna الأولى عرشه وأملاكه ومنها ولاية بروفانس وافنيون تبعاً لذلك. وتزوجت جونا بابن عمها أندروابن ملك المجر إرضاء لوالدها، وظن أندروحتى من حقه حتىقد يكون ملكاً وزوجاً معاً، فقتله لويس صاحب تارنتوعشيق جونا (1345)، وتزوج الملكة. وخلف أندروعلى عرش المجر اخوه لويس فزحف بجيشه على إيطاليا، واستولى على نابلي (1348). وفرت جونا إلى أفنيون، وباعت المدينة إلى البابوية بثمانين ألف فلورين (نحومليوني دولار)، واعلن حدثنت أنها بريئة، ووافق على زقابلا، وامر الغزاة بالعودة إلى بلاد المجر. ولم يأبه الملك لويس بأمره، ولكن الموت الأسود (1348) فشا في جيشه، وأهلك كثيراً من جنوده فاضطر إلى الانسحاب. واستعادت جونا عرشها (1352)، وظلت تحكم البلاد في جومن الأبهة والرذيلة حتى خلعها البابا إربان السادس (1380)، ثم قبض عليها شارل دوق دورتسوDurazzo في العام التالي، وقتلت في عام 1382.

ولم يتصل بترارك بهذه المهزلة الدموية إلا في بدايتها أي في السنة الأولى من حكم جونا، ثم لم يلبث حتى عاد إلى تجواله، وأقام فترة من الوقت في بارما، ثم في بولونيا، ثم قضى جزءاً من عام 1345 في فيرونا. وفي هذه المدينة الأخيرة، عثر في مخطة بإحدى الكنائس على مخطوط يحوي رسائل شيشرون المفقودة لأتكس، وبروتس، وكونتس. وكان قبل ذلك قد كشف في ليبج Li?ge عام 1333 عن خطبة شيشرون المسماة Pro Archia وهي أنشودة للشعر. وكان هذا الكشفان أجل ما كشفته النهضة من الأدب القديم وأعظمها ثمرة.

وفي مقدورنا حتى نعد فيرونا في أيام بترارك من أعظم القوى في إيطاليا، فقد كانت هذه المدينة تزهوبقدم تاريخها. وبملهاها الروماني (حيث لا يزال في وسع الإنسان حتى يستمع في ليالي الصيف إلى التمثيليات الغنائية في الهواء الطلق)، وزادت ثروتها بفضل التجارة التي تهبط من جبال الألب وتنقل في نهر الأديج Adige. وارتقت المدينة رقياً عظيماً في عهد أسرة اسكالا حتى كادت تنتزع السيادة التجارية من مدينة البندقية، واختارت حكومة المدينة بعد موت إتسيلينوEzzelino الرهيب (1260) مستينودلا اسكالا Mostino della Scala حاكماً عليها، واغتيل مستينو(1277) ولكن أخاه ألبرتوAlberto الذي خلفه في الحكم ثبت نادىئم حكم الاسكلجيري Scaligeri (أي "حملة السلم " وهورمز ملائم لهذه الأسرة المصَّعَّدة)، وبدا هذا الحاكم عهد فيرونا المجيد. وفي عهده بدأ الرهبان الدمنيك يشيدون الكنيسة الجميلة كنيسة القديسة أناستاسيا Anastasia، وكشف نَسَّاخ غير ذي شأن القصائد المفقودة التي خطها كاتلس Catullus اشهر أبناء فيرونا، وحاربت أسرة الكابلتي الجلفية Guelf، أسرة المنتشى montechi، ولم تكن هاتان الأسرتان تحلمان أنهما يفترض أن تصبحان أسرتي الكابيولت Gapulet والمنتجيوMontagues في رواية شكسبير، وكان أقوى "الطغاة، وإن لم يكن أقلهم نبلاً، من أسرة اسكالا هوكان جراندى دلا اسكالا can Grand della Scala الذي جعل بلاطه ملجأ الجبليين المنفيين ومثابة للشعراء والفهماء، وفيه ظل دانتي عدة سنين يتمتع بالعطف المزعزع المطرد الزيادة. ولكن كان جراندى هذا اخضع فيتشندسا Vfcenza، وبدوا، وتريفيزوTreviso، وبلونوBelluno، وفلتري Feltre، وتشقدالى Cividale لسلطانه. ووجدت مدينة البندقية نفسها يتهددها خطر الإحاطة الخانقة من جميع نواحيها. ولما حتى خلف كان جراندى أخوه مستينوMastino الثاني- وكان أقل منه قوة وحماسة-أعربت البندقية الحرب على فيرونا، وتحالفت مع فلورنس وميلان، وأرغمت فيرونا على حتى تتخلى عن جميع ما فتحته من المدن عدا مدينة واحدة، وشاد كان جراندى الثاني جسر اسكاليجيروScalegero الفخم على نهر الأديج، وجعل له قنطرة طولها 160 قدماً، وكانت في ذلك الوقت أكبر قنطرة في العالم. واغتاله أخوه كنسنيوريوConsignorio، وحكم بعد هذا الاغتيال حكماً خيراً صالحاً، وشاد أعظم قبر مزخرف من القبور الذائعة الصيت التي دفنت أسرة اسكالا. واقتسم ابناه العرش وظلا يقتتلان إلى حتى ماتا، فلما كان عام 1387 استولت دوقية ميلان على فيرونا وفيتشندسا.


ثورة بيندسو

Francesco Petrarca (Andrea del Castagno, Ciclo degli uomini e donne illustri)

وعاد بترارك إلى افنيون وفوكلوز (1345-1347)، وكان ولا يزال ينعم بصداقة آل كولنا، فسره ان يفهم حتى الثورة قد اشتعل لهيبها في روما، وأن ابن صاحب حانة وغسالة (22) قد انتزع السلطة من آل كولنا وغيرهم من الأشراف، وأعاد إلى الوجود الجمهورية المجيدة، جمهورية آل اسكبيو، وجراكس، وآرنلد البريتشيائي Arnold of Brescia. وكان نكولا دي ريندسوجيريني Niccola di Rienzo Gabrini الذي اختصر العامة المقتصدون في الأسماء اسمه في ذلك الوقت فجعلوه كولادى ريندسوCola di Rinzo ثم أختصره الخلف المهملون فجعلوه ريندسى Rienzi، كان هذا الرجل قد التقى ببترارك في عام 1343، وذلك حين قدم إلى أفنيون، وهوشاب موثق، قبل ذلك الوقت بثلاثين عاماً ليطلع حدثنت السادس على ما آل اليه حال روما من البؤس، وليطلب إلى البابوية حتى تمد يد المعونة للشعب الروماني ضد النبلاء المتنازعين النهابين السلابين المسيطرين وقتئذ على العاصمة. وداخلت حدثنت الشكوك في هذا الرجل ولكنه رده بعد حتى نفحه بالفلورينات وشجعه بالأقوال لأنه كان يأمل في حتى يستخدم هذا القانونى المتحمس في النزاع الكثير الحدوث بين البابوات والأشراف.

وأثارت خرائب روما وآدابها القديمة خيال ريندسوكما اثارت خيال بترارك، فارتدى الضمة الرومانية (Toga) البيضاء التي كان يلبسها أعضاء مجلس الشيوخ القدامى، وأخذ يتحدث إلى الرومان بحماسة لا تقل عن حماسة أبني جراكس وبلاغة لا تكاد تقل عن بلاغة شيشرون، ويشير إلى بقايا السوق الرومانية الكبرى ذات الجلال والفخامة، والحمامات الكبرى، ويذكر الرومان بالأيام الخوالي حين كان الأباطرة أوالقناصل يشرعون القوانين من فوق هذه التلال ويصدرون الأوامر للمدينة وللعالم أجمع، ويدعوهم إلى الاستيلاء على زمام الحكم، وإعادة الجمعيات الشعبية، واختيار تربيون له من القوة ما يستطيع به حتى يحميهم من الأشراف الغاصبين. واستمع إليه الفقراء وهم فزعون مرتاعون، وتساءل التجار هل يستطيع ذلك التربيون المرتقب حتى يجعل روما مكاناً آمناً تقوم فيه الصناعة وتنشط التجارة، وسخر منه الأشراف، واتخذوا ريندسوهدفاً لمرحهم وفكاهاتهم على موائد العشاء، وتوعدهم هوبأن يختار طائفة منهم يشنقهم حين يندلع لهيب الثورة. وما كان أشد فزعهم حين اندلع لهيبها عملا. فقد وقع في 20 مايومن عام 1347 حتى اتى حشد من الرومان وازدحموا في الكبتول. وظهر ريندسوأمامهم يحف به أسقف أرفيتونائباً عن البابا. وأعرب عودة الجمهورية، وتوزيع الصدقات على المعوزين، واختير الرجل حاكما بأمره، وأجازوا له في اجتماع آخر عقد فيما بعد حتى يتخذ لنفسه اللقب الشعبي القديم- لقب تربيون. واحتج على ذلك ايتفانوكولنا عضوالشيوخ الهرم، فأمره كولا حتى يخرج هووغيره من النبلاء من المدينة. واستشاط هؤلاء الأشراف غضباً ولكنهم اضطروا إلى إطاعة الثوار المسلحين، فانسحبوا إلى ضياعهم في الريف. وأسكرت ريندسوخمرة النصر فأخذ يتحدث عن نفسه كأنه "المنقذ الأعظم للجمهورية الرومانية المقدسة " الملهم "بقوة يسوع المسيح "(23).

وكانت إدارته للشئون البلدة أحسن ما تكون الإدارة، فقد نظم أثمان المواد الغذائية ليمنع المكاسب غير المشروعة، وحفظ ما زاد من الغلال في اهراء، وبدأ العمل في تجفيف المستنقعات الموبوءة ببعوض الملاريا، وغرست أرض كمبانيا. وانشئت محاكم جديدة لتوزيع العدالة بإنصاف لا رحمة فيه ولا هوادة، فكان يحكم على الراهب وعلى البارون بالإعدام إذا ارتكبا نفس الجرم، وشنق عضوشيوخ قديم لأنه سرق مركباً تجارياً، وقبض على القتلة الذين تستأجرهم الأحزاب المتنازعة، وأنشئت محكمة للصلح وفقت في بضعة أشهر بين المتخاصمين في 1800 نزاع. وارتاع الأشراف الذين اعتادوا حتى يتصرفوا في القوانين على هواهم إذ وجدوا أنهم قد القيت على عاتقهم تبعة الجرائم التي ترتكب في ضياعهم، وفرضت على بعضهم غرامات فادحة، وسيق بيتروكولنا رغم مهابته وخيلائه إلى السجن حافي القدمين. وعرض القضاة المتهمون بالعبث بالعدالة مصلوبين في الميادين العامة، وفلح الزراع حقولهم في أمن وسلام لم يعهدوا لهما مثيلا من قبل، وكان التجار والحجاج القادمون إلى روما يُقَبَلون شعار الجمهورية التي بعثت من حديث والتي أمنت الطرق العامة بعد حتى ظلت نصف قرن من الزمان مباءة لقطاع الطريق(24). ودهشت إيطاليا على بكرة ابيها مما وقع في روما من تغير وتحول، وحمل بترارك إلى ريندسوقصيدة تفيض بالثناء والاعتراف بالجميل.

واغتنم التربيون هذه الفرصة, افاد منها كما يفيد السياسي المحنك الجريء، فأوفد الوفود إلى جميع أنحاء شبه الجزيرة، ونادى المدن حتى ترسل ممثليها ليتألف منهم برلمان عظيم يضم أشتات "إيطاليا المقدسة " ويحكمها على نظام البلديات المستقلة المتحدة، وتكون روما عاصمة العالم كما كانت من قبل. وتمهيداً لهذه الغاية جمع مجلساً من القضاة نادىهم من كافة أنحاء إيطاليا، وعرض عليهم السؤال الآتي: هل من حق الجمهورية الرومانية، وقد بعثت إلى الوجود، حتى تستعيد جميع الامتيازات والسلطات،يا ترى؟ ولما أجاب المجلس عن هذا السؤال بأن ذلك من حقها، عرض ريندسوعلى الجمعية الشعبية قانوناً يعيد إلى الجمهورية جميع هذه المنح والسلطات. ومحا هذا الإعلان الكامل مئات من الهبات، وحوادث النزول عن العروش، والتتويج، وهدد الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والمدن المستقلة، وسلطة الكنيسة الزمنية جميعها. وبعثت خمس وعشرون من حكومات المدن المستقلة بممثليها إلى برلمان ريندسو، ولكن المدن الكبرى-البندقية، وفلورنس، وميلان-ترددت في النزول عن سيادتها العليا إلى دولة اتحادية. وسر حدثنت السادس من تقوى ريندسو، ومن إشراك أسقف أرفيتومعه في السلطة رسمياً, ومما أفاءه على الحجاج من حماية، ومن مشروعه الذي يرمي إلى إقامة عيد عام في سنة 1350 ينتظر حتى يدر على البلدة مالا جما، ولكنه شرع يسائل نفسه: أليس هذا الجمهوري العظيم الآمال رجلا مثاليا مندفعا اندفاعا يفترض أن يؤدي به إلى الدمار،يا ترى؟

ثم تحطم هذا الحلم النبيل، وكان تحطمه مثاراً للعجب والأسى معاً. ذلك حتى السلطة، كالحرية، امتحان لا يجتازه بنجاح إلا من اتصف بالذكاء والرزانة والهدوء. أما ريندسوفقد بلغت قوته الخطابية مبلغاً يمنعه حتىقد يكون من رجال الحكم الواقعيين. وأصبح يؤمن بعباراته الخلابة، ووعوده، ومطالبه، وسمت عقله أقوالُه المنمقة. ولما اجتمعت الجمعية الاتحادية ( في شهر أغسطس من عام 1347)، اتفق على حتى تبدأ أعمالها بمنحه لقب فارس. واتخذ طريقه في مساء ذلك اليوم يحف به حرسه إلى مكان التعميد في كنيسة القديس لاتران، وألقى بنفسه في الحوض العظيم، الذي تطهر فيه قسطنطين من وثنيته وذنوبه، كما تقول السيرة، ثم ارتدى ثياباً بيضاء، وقضى الليل نائماً على أريكة عامة وضعت بين أعمدة الكنيسة، فلما أصبح الصباح أصدر إلى الجمعية وإلى العالم أجمع مرسوماً يعلن فيه حرية جميع المدن الإيطالية، ويمنح أهلها جميعاً حق المواطنية الرومانية، ويحتفظ لسكان روما وإيطاليا دون سواهم بحق اختيار الإمبراطور. ثم أستل سيفه ولوح به في ثلاث جهات ونطق بوصفه ممثل روما: "ذلك ملكي، وذاك لي، وذاك ". واندفع من ذلك الحي في الإسراف والمباهاة، فكان يمتطي صهوة جواد fdqأبيضأأابأأاتابنتساينبااا أبيض، ويخفق من فوق رأسه فهم ملكي، ويتقدمه ألف حارس مسلح، ويرتدي ثوباً من الحرير الأبيض ذا أهداب من المضى(25). ولما عاب عليه استفانوكولنا أهدابه المضىية أعرب حتى الأشراف يأتمرون به (وأكبر الظن حتى هذا سليم)، وأمر بالقبض على عدد منهم، وأمر بهم فسيقوا مكبلين بالأغلال إلى الكبتول، وعرض على الجمعية حتى يعدموا، ثم ندم على ذلك العرض، وعفا عنهم، وانتهى الأمر بأن عينهم في بعض مناصب الدولة في كمبانيا. وكان جزاؤه منهم حتى حشدوا قوة من مرتزقة الجند معادية للجمهورية، وخرج حرس المدينة الوطني لملاقاتهم، وهزمهم، وقتل في المعركة استفانوكولنا وولده (20 نوفمبر سنة 1347).

وسكر ريندسوبخمرة النصر فأخذ يغفل شيئاً فشيئاً شأن ممثلي البابا الذي أشركه معه من قبل في منصبه وسلطانه. وأخذ كردالة إيطاليا وفرنسا ينذرون حدثنت بأن إيطاليا الموحدة ستجعل الكنيسة أسيرة للدولة- وأن هذا الأسر يصبح أشد وأكثر توكيداً إذا قامت إمبراطورية تحكمها روما. وعملا بهذا التحذير كلف حدثنت مندوبه في روما برتران ده دوBertrand de Deux حتى يعرض على ريندسوواحدة من اثنتين: خلعه من منصبه أوتقييد سلطانه بحيث يقتصر على الشئون الدنيوية الخاصة بمدينة روما. وخضع دولا بعد حتى قاوم بعض المقاومة، ووعد بإطاعة البابا، واسترد المراسيم التي ألغي بها الامتيازات الإمبراطورية والبابوية. لكن هذا الخضوع لم يرض حدثنت فاعتزم حتى يخلع التربيون المعاند، وأصدر في الثالث من ديسمبر مرسوماً بابوياً يضم فيه كولا بالإجرام والإلحاد، ويهيب بالرومان حتى يطردوه من البلاد. وأشار المندوب إلى أنهم إذا لم يعملوا هذا لن يقام عيد. وكان الأعيان في هذه الأثناء قد حشدوا جيشاً آخر، زحف على روما. وأمر ريندسوحتى تدق الأجراس تدعوالشعب إلى حمل السلاح، لكن هذه الدعوة لم يستجب لها إلا عدد قليل، لأن كثيرين قد أغضبهم فدح الضرائب التي فرضها عليهم، ومنهم من فضل ما ينالونه من المكاسب في العيد عما تلقيه عليهم الحرية من تبعات. ولما اقتربت قوى الأشراف من الكبتول خارت قوى ريندسو، وخلع شارة منصبه، وودع أصدقاءه، وأجهش بالبكاء، وحبس نفسه في كاستلوسانتا أنجليوCastello Sant' Angelo (15 ديسمبر سنة 1347)، وعاد الأشراف الظافرون فدخلوا قصورهم في المدينة واختار المندوب البابوي اثنين منهم ليحكما روما.

وفر ريندسوإلى نابلي، وكان لا يزال مغضوباً عليه من الكنيسة وإن لم يصب بأذى من جانب الأعيان، ثم فر من نابلي إلى غابات الجبال في أبردسي Abruzzi القريبة من سلمونا Sulmona، وهناك لبس أثواب التائبين، وقضى عامين يعيش عيشة الزهاد المنبترين للدين. وبعد حتى مرت به عشرات المئات من المشاق والمحن اتخذ سبيله سراً متنكراً إلى براج مجتازا إيطاليا وجبال الألب والنمسا، ومثل في تلك المدينة في حضرة الإمبراطور شارل الرابع، وأخذ وهوغاضب يندد بالبابوات، ولكنه أبى حتى يجيب البابا حدثنت إلى مطلبه من إرسال كولا ليزج في سجن أفنيون، وأبقاه معتقلا تحت الحراسة في إحدى القلاع القائمة على نهر الألب. وقضى كولا في العزلة وعدم النشاط عاماً كاملاً لم يطق بعده صبراً عليهما، فطلب حتى يرسل إلى بلاط البابا. وهرع الناس إلى رؤيته وهوفي طريقه إلى أفنيون، وعرض عليه بعض الفرسان الأنجاد حتى يحموه بسيوفهم. وبلغ أفنيون، وعرض عليه بعض الفرسان الأنجاد حتى يحموا الرجل الذي أراد حتى يهبهم الحرية. ومما اتى في هذه الدعوة: إلى أهل روما ... البواسل الأنجاد ... الذين سادوا الأمم!

إن زعيمكم السابق أسير الآن في أيدي الأجانب، وكأنه-ويا للهول حقاً!- لص من لصوص الليل أوخائن لبلاده، يعرض قضيته وهومصفد في الأغلال، تأبى أعلى محكمة أرضية حتى تمكنه من الدفاع المشروع عن نفسه... إذا روما بلا ريب لا تستأهل هذه المعاملة. لقد كان أهلها من قبل غير خاضعين لقانون أجنبي... أما الآن فيساء إليهم بلا تمييز بينهم. ويلقون هذه المعاملة وهم براء من إثم الجريمة بل وهم جديرون بالثناء العظيم الذي يستحقه أهل الفضيلة ... وليست التهمة الموجهة إليه هي خيانة الحرية، بل هي الدفاع عنها، وليس ذنبه أنه سلم الكبتول بل ذنبه أنه حماه. وإن أعظم التهم الموجهة إليه، والتي يجب حتى يكفر عنها فوق المشنقة هي أنه قد جرؤ على التوكيد بأن الإمبراطورية الرومانية لا تزال قائمة في روما، وأنها لا تزال مسيطرة على الشعب الروماني. ألا تباً لهذا الزمان! وتباً لتلك الغيرة الشنيعة، وذلك الحقد المنبتر النظير! أين أنت أيها المسيح! يا أعدل القضاة ويا أحكم الحاكمين،يا ترى؟ أين عيناك اللتان تعودت حتى تبدد بهما سحب شقاء البشرية؟... لم لا تقضى ببرقك وصواعقك على هذه المحاكمة الدنسة؟(26).

ولم يطالب حدثنت بإعدام كولا، بل أمر بأن يوضع تحت الحراسة في برج القصر البابوي بأفنيون. وبينما كان ريندسو يفهم الكتاب المقدس وكتاب ليفي في سجنه، استولى تربيون آخر يدعى فرانتشسكوبرنتشلي Francesco Baroncelli على زمام السلطة في رومة، ونفي أعيان المدينة، وأهان المندوب البابوي، وتحالف هووالجبليون مؤيدوالأباطرة ضد البابوات، وأطلق إنوسنت السادس، الذي خلف حدثنت في الكرسي البابوي، كولا من سجنه، وأوفده ، وتحالف هووالجبليون مؤيدوالأباطرة ضد البابوات، وأطلق إنوسنت السادس، الذي خلف حدثنت في الكرسي البابوي، كولا من سجنه، وأوفده إلى إيطاليا مساعداً للكردنال ألبرنودس Albornoze الذي عهد إليه اعادة سلطة البابوية في روما. وبينما كان الكردنال الماكر، والطاغية المستضعف يقتربان من العاصمة دبرت فتنة في المدينة، خلع على أثرها برنتشلي وقتل، وأسلم الرومان المدينة لألبرنودس. ورحب العامة بريندسو، واقاموا له أقواس النصر، وهتفوا باسمه وقد احتشدوا في الشوارع إظهاراً لفرحهم. وعينه ألبرنودس عضواً في مجلس الشيوخ، وعهد اليه الأعمال غير الدينية في حكومة روما (1353). ولكن السنين التي قضاها في السجن قد سببت ترهل جسمه، وحطمت شجاعته، وفلت من حدة عقله، وقد كان من قبل قوياً ساطعاً غير هياب ولا وجل. فكانت سياسته متمشية من أغراض البابا، بتهيب المغامرات العظيمة التي كان يندفع إليها في حكمه وهوشاب. وكان الأعيان لا يزالون يحقدون عليه، وصعاليك المدينة يرون فيه الآن رجلا حذراً متحفظاً متجرداً من المثل العليا، فانقلبوا عليه وعدوه خائناً لقضيتهم. ولما أعرب آل كولنا الحرب عليه وحاصروه في بلسترينا، أوشك جنوده الذين لم يتناولوا مرتباتهم حتى يتمردوا عليه، فاقترض المال ليؤدي منه مرتباتهم، وفرض الضرائب ليفي بدينه، وأغضب بذلك الطبقة الوسطى. ثم زحفت جموع الغوغاء الثائرة على الكبتول، ولم يكد ينقضي شهران على عودته إلى الحكم، وأخذت تنادى "ليحيى الشعب! الموت للخائن كولا دي ريندسو! ". فخرج إليهم من قصره في دروع الفرسان وحاول حتى يسيطر على الجماهير بفصاحته وزلاقة لسانه، ولكن الثائرين علا صياحهم على صوته، وألقوا عليه وابلا من القذائف، فأصاب سهم منها رأسه وانسحب على أثر ذلك إلى القصر. وحينئذ أشعل الغوغاء النار في الأبواب واقتحموها، ونهبوا الحجرات. واختفى ريندسوفي إحداها، وأسرع فحلق لحيته، وارتدى ثياب حمال، وكوم بعض بتر من الفرش على رأسه، وخرج من القصر، ومر ببعض الغوغاء دون حتى يكشفوا أمره. ولكن سواره المضىي نم عليه، وسيق أسيراً إلى سلم الكبتول، حيث كان هومن قبل قد حكم على الناس بالإعدام. وطلب إلى الشعب حتى يستمع له، وحاول حتى يستميل قلوب العامة بخطبته، ولكن أحد الصناع خشي حتى يتأثر هؤلاء بفصاحته، فبتر عليه كلامه بضربة سيف في بطنه. وتبعه مائة من أشباه الأبطال فأنفذوا خناجرهم في جسده الميت. ثم سحبت جثته والدم يسيل منها في شوارع المدينة وعلقت في حانوت قصاب كما تعلق جيف البهائم. وبقيت على هذه الحال يومين تعرضت في خلالهما لإهانات الشعب وحجارة الغلمان(27).


العالم الجوال

پترارك حوالي عام 1376.

أخفق ريندسوفي إعادة روما القديمة التي توفي فيها جميع شيء إلا الشعر. وقد أفلح بترارك في إعادة الآداب الرومانية التي لم تكن قد ماتت، وكان قد أيد ثورة كولا تأييداً بلغ من القوة حداً خسر معه عطف آل كولنا في أفنيون. وفكر وقتاً ما في الانضمام إلى ريندسوفي روما، وأتخذ طريقه عملا إليها حتى وصل إلى جنوى، وفيها سمع حتى مقام التربيون ومسلكه آخذان في الانحطاط، فما كان منه إلا حتى غير طريقه وأتجه نحوبارما (1347). وكان في إيطاليا حين نشأ فيها الوباء الأسود، وأودى بحياة كثيرين من أصدقائه، وقضى على لورا في أفنيون، وقبل في عام 1348 دعوة ياقوبوJacopo الثاني صاحب كراراً لأن ينزل ضيفاً عليه في بدوا.

وكانت المدينة ذات جوعتيق ثقيل ممل. فقد كان عمرها مائة عام حين ولد فيها ليفي عام 59 ق.م، وأصبحت تحكم نفسها بنفسها في عام 1174 ورزحت تحت طغيان أتسيلينوEzzelino (1237-1256)، ثم استردت استقلالها، وغنت أناشيد الحرية، وأخضعت فيتشندسا سلطانها، ثم هاجمها كان جراندى دلا اسكالا صاحب فيرونا، وكاد يغلبها على أمرها، فتخلت عن حريتها واختارت ياقوبوالأول صاحب كراراً حاكماُ بأمره عليها (1318)، وكان رجلا قُدَّ قلبه من الرخام المسمى باسمه. وتولى سلطته من بعده بعض أعضاء أسرته إما بطريق الميراث أوبالاغتيال. واستولى مضيف بترارك على منطقيد الحكم في عام 1345 بعد حتى اغتال سلفه، وحاول حتى يكفر عن ذنبه بالحكم الصالح، ولكنه اغتيل بعد حتى حكم أربع سنين وخلفه فرانتشسكوالأول صاحب كرارا (1350-1389)، وحكم البلدة حكماً عجيباً ام نحوأربعين عاماً، ورف في خلالها مقام بدا إلى مصاف المدن الكبرى أمثال ميلان، وفلورنس، والبندقية، وإن كان هذا لم يدم إلا وقتاً قصيراً. وقد أخطأ فانضم إلى جنوى ضد البندقية في الحرب العوان التي اتقدت نارها سنة 1378، والتي انتصرت فيها مدينة البندقية وأخضعت بدوا ليلطانها (1404).

وقدمت المدينة في هذه الأثناء أكثر من نصيبها لحياة إيطاليا الثقافية، فأتمت في عام 1307 كنيسة القديس أنطوني المعروفة بذلك الاسم الحبيب إلسانتوEL Santo، ورمم في عام 1306 البهوالأعظم المعروف باسم سالا دلا رجيونى Sala della Ragione (بهوالبرلمان) على يد المهندس المعماري الراهب جيوفنى إريمتانوGiovanni Eremitano، ولا يزال هذا البهوقائماً إلى الآن. وكان القصر الملكي (الرجيوReggio في 1345 وما بعدها) يحتوي على أربعمائة حجرة في كثير منها مظلمات يفخر بها آل كرارا. ولم يبق من هذه المظلمات إلا برج دقت ساعته الشهيرة أولى دقاتها في فهم 1346. وابتاع تاجر طوح يدعى انريكواسكرافني Rnrico Scravegni في بداية ذلك القرن قصراً في المدرج الروماني القديم يسمى "الحلبة " Arena، واستدعى أشهر مثال في ايطاليا وهوجيوفنى بيزانوGiovanni Pisano وأشهر مصوريها وهوجيتوGiotto، لينقشا له معبد بيته الجديد (1303-1305). وكانت نتيجة جهودهما "معبد الحلبة " الصغير الذائع الصيت في أنحاء العالم المتفهم كله. وفيه صوّر جيتوالظريف نحوخمسين صورة جدارية، ونحتاً مستديراً ومدلاة تروى كلها السيرة العجيبة سيرة العذراء وابنها، وأحاط المظلمات الرئيسية برءوس الأنبياء والقديسين، وبأشكال نسوية ترمز إلى فضائل الجنس البشري ورذائله. وصور تلاميذه على الباب الداخلي بجد فاتر صورة ليوم الحساب ذات أشكال غريبة مختلطة مهوشة كأنها الميازيب، ونقش منتاجينا Montagena بعد 150 سنة من ذلك الوقت ضريح كنيسة الإرمتاني القريبة من هذا البيت. ولعله وهويقوم بعمله قد سخر من التصميم الساذج، وفن المنظور البدائي، ومن تشابه الوجوه، والمواقف, والأشكال تشابهاً يبعث على الملل والسآمة، ومن نقص في الفهم بالتشريح، ومن الشقرة الثقيلة البادية في الكثرة الغالبة من الأشكال، كأنما اللمبارد أهل بدوا لا يزالون هم بعينهم اللنجيوبارد Longobards القادمين تواً من ألمانيا الموفورة الطعام. ولكن ملامح العذراء الجميلة في صورة مولد المسيح، ورأس المسيح الفخم النبيل في صورة العازر، والكاهن الأكبر البادي الجلال في صورة الخطاب، والمسيح الهادئ، ويهوذا الأسخريوطي في صورة الخيانة، واللطف الصافي، والـتأليف المتناسق، والنموالمتدرج الشي يشاهد في المنظر الفسيح من حيث اللون والشكل، جميع هذا يكسب المنظر جدة ورونقاً وصفاء لا زال يحتفظ بها بعد ستة قرون، وتجعله أونصر للتصوير في القرن الرابع عشر.

ولعل بترارك قد سقطت عيناه على مظلمات الحلبة، وما من شك في أنه كان يقدر جيتوأعظم التقدير. وشاهد ذلك أنه أوصى إلى فرانتشسكوداكرارا بصورة للعذراء بريشة " المصور الممتاز، جيتو، وهي صورة يدهش جمالها ... سادة الفن "(28).. وما من شك في أنه قد نبهه وشحذ همته ما سمعه من حتى ألبرتينومساتوAlbertino Mussato، وهورجل من ذوي المشاعر الإنسانية سابقاً على بترارك نفسه قد توج شاعراً للبلاط في بدوا عام 1314 لأنه خط مسرحية باللغة اللاتينية تسمى إتشرينس Ecerinis نحا فيها نحوأسلوب سنكا. ومبلغ فهمنا حتى هذه كانت أول مسرحية خطت في عصر النهضة.وما من شك لإي حتى بترارك قد زار الجامعة التي كانت مفخرة المدينة والتي كانت في ذلك الوقت أشهر مدارس إيطاليا بأجمعها، وكانت تنافس جامعة بولونيا بوصفها مركزاً للتدريب على القانون، كما كانت تنافس جامعة باريس بوصف كونها مركزاً للفلسفة. ودهش بترارك حين شاهد فلسفة ابن رشد يعتنقها في غير خفاء بعض أساتذة بدوا الذين كانوا يرتابون في خلود نفوس الأفراد، والذين كانوا يتحدثون عن المسيحية كأنها خرافة مفيدة ينبذها المتفهمون في الخفاء. وفي عام 1348 نجد شاعرنا القلق في مانتوا، ثم نجده بعدئذ في فِرَارا، ثم انضم في عام 1350 إلى سيل الحجاج المتجهين إلى روما للاشتراك في عيدها، وعرج وهوفي الطريق على فلورنس فزارها للمرة الأولى وعقد أواصر الصداقة القوية بينه وبين بوكاتشيو. وقد وصف بترارك هذه الصداقة بقوله إنهما من ذلك الحين "كان لهما قلب واحد "(29). وحدث في عام 1351 حتى ألغى سيد فلورنس المرسوم القاضي بمصادرة أملاك بترارك، ثم أوفد بوكاتشيوإلى بدوا ليعرض على بترارك تعويضاً مالياً وكرسي الأستاذية في جامعة فلورنس، فلما رفض بترارك هذا العرض رجعت فلورنس عن إلغاء المرسوم.


جيتو

إن من العسير حتى نحب فلورنس كما كانت في العصور الوسطى . ذلك أنها كانت وقتئذ نكدة صارمة في الصناعة والسياسة، ولكننا لا يصعب علينا مع ذلك حتى نعجب بها. لكنها خصصت ثروتها لخلق الجمال. ففيها أيام شباب بترارك كانت النهضة في أوج مجدها. فقد علا شأنها فيما كان يكتنفها من جوحافز ملئ بالتنافس المالي والتجاري، والنزاع العائلي، والعنف الفردي، لم يكن لشيء منها مثيل في سائر أنحاء أوربا. لقد كان أهل المدينة منقسمين على أنفسهم تفرق بينهم حرب الطوائف، وكانت جميع طائفة فيها منقسمة هي الأخرى إلى أحزاب لا ترحم إذا خط لها النصر، ولا تسكت عن الانتقام اذا منيت بالهزيمة، وكان انتنطق بعض الأسر من حزب إلى حزب في أي وقت مت الأوقات يخل بتوازن القوي بينهما، وكثيراً ما كان يحدث في أي لحظة حتى تنتظر السلاح بعض العناصر المتذمرة، وتحاول إسقاط الحكومة، فإذا أفلحت نفت زعماء الحزب المغلوب من المدينة، وصادرت في العادة أملاكهم، وحرقت بيوتهم أحياناً. على حتى هذا النزاع الاقتصادي وذاك الاضطراب السياسي لمقد يكونا جميع ما في فلورنس من حياة، ذلك حتى اهلها كانوا ذوي شعور وطني قوي يعتزون به وإن كانوا أكثر إخلاصاً لحزبهم منهم لمدينتهم، وكانوا ينفقون كثيراً من مالهم في سبيل المصلحة العامة. وكان الموروثون من الأفراد ينفقون من اموالهم على رصف الشوارع وإنشاء المجاري، وتحسين موارد ماء الشرب، وإعداد مكان صالح للسوق العامة، وتشييد الكنائس، والمستشفيات، والمدارس، أواصلاحها. وكذلك كانت تعمل نقابات الحرف. وكان ألاهلون ذوي شعور بالجمال لا يقل في قوته عن شعور اليونان الأقدمين أوالفرنسيين المحدثين، وكان هذا الشعور يدفعهم لرصد الأموال العامة والخاصة لتزيين المدينة بالعمائر، والتماثيل، والصور، وتجميل بيوتهم من الداخل بهذا كله وبعشرات من الفنون الصغرى. وكان الخزف الفلورنسي أرقى أنواع الخزف الأوربي في ذلك العهد، كذلك كان الصياغ يحلون الأعناق والصدور، والأيدي، والمعاصم، والمناطق، ومذابح القرابين، والنضد، والاسلحة، والنقود، بالجواهر أوالخشب الملبس، والنقوش المحفورة أوالبارزة التي لا يفوتها شئ من نوعها في عصر آخر من العصور.

وأخذ الفنان في ذلك الوقت تنعكس عليه النزعة الجديدة نزعة اهتمام الفرد بكفايته الذاتية أوحبه للفن الجميل، فبرز من الطائفة أوالجماعة ، ورسم ما ينتجه باسمه. وكان نقولوبيزانوNiccolo Pisano قد خلص قبلئذ فن النحت من تقليد الموضوعات الدينية، وخضوعه لأساليب العمارة وذلك بجمعه بين النزعة الطبيعية القوية ومثل الإغريق العليا في تصوير الجسم. وصب تلميذه أندريا بيزانوAndrea Pisano نصفي بابين من البرنز لمبنى التعميد في فلورنس (1300-1306) صور عليهما في أثنين وعشرين نقشاً بارزاً تقدم الفنون والعلوم منذ حفر آدم وغزلت حواء، وليس هذان الأثران الفنيان الباقيان من القرن الرابع عشر بأقل قيمة من "أبواب الجنة " التي نقشها جبرتي Ghiberti في القرن الخامس عشر على هذا البناء نفسه. وفي عام 1334 وافق أمير فلورنس على تخطيط جيتولبرج يتحمل ثقل أجراس الكنيسة وينشر أصواتها، وصدر بذلك مرسوم تتمثل فيه روح العصر اتى فيه حتى "برج الأجراس يجب حتى يشاد بحيث يسموفي فخامته، وارتفاعه، ودقة صنعه، على جميع شئ من نوعه أبدعه في الزمن القديم اليونان والرومان في أوج مجدهم(30). وليس جمال البرج في شكله المربع الذي لا يمتاز بشيء عن أمثاله (والذي كان جيتويرغب في حتى تعلوه منارة مستدقة)، بل في نوافذه المزخرفة على الطراز القوطي، وفي النقوش البارزة التي حفرها جيتو, وأندريا بيزانو، ولوكا دلا ربيا Luca della Robia في الرخام الملون على الألواح السفلى. وواصل العمل، بعد موت جيتو، بيزانو، ودوناتلو، وفرتشسكوتالنتي، وإليهما يدين البرج بما حوته أعلى مقنطراته من جمال بالغ الأوج.

وكان جيتودي بندوني Giolto di Bondoni يحمل لواء المصورين في القرن الرابع عشر كما كان بترارك يحمل لواء الشعر في ذلك القرن نفسه، وكان الفنان يضارع الشاعر في تعدد كفاياته، فقد كان مصوراً، ومثالاً، ومهندساً معمارياً، ورأسمالياً، وخبيراً بأحوال العالم، لا يقل حذقه للآراء الفنية، عن مهارته في الحيل الفهمية والأجوبة الفكهة المسكتة، ولهذا كان جيتويسير في الحياة واثقاً من نفسه، ينثر روائع فنه في فلورنس، وروما، وأسيسى، وفرارا، ورافنا، وريميني، فايندسا، Faenza، وبيزا، ولوكا Lucca، وأرتسو، وبدوا، وفيرونا، ونابلي، وأربينوOrbino، وميلان. ويبدوأنه لم يكن يهتم مطلقاً بأن يكلف بالقيام بعمل من الأعمال، ولما سافر إليهما ضيفاً على الملك في قصره. وهناك تزوج وكان له أبناء قبيحوالمنظر، ولكن أعماله الفنية الجميلة الهادئة، وحياته التي تسري فيها روح البهجة، لم تتأثرا قط بهذا القبح، وكان يؤجر الأنوال للصناع بضعفي أجرها المعتاد(31). ومع هذا فأنه يقص لنا سيرة القديس فرانسس رسول الفقر في عمل من أعماله الفنية الراقية الباقية من عصر النهضة.

وكان لا يزال في شرخ الشباب حين أستنادىه الكردنال استفانستشي Stefaneschi إلى روما ليصور له بالفسيفساء صوره "الفنية الصغرى navicella " التي تمثل المسيح ينقذ بطرس من الموج. ولا يزال هذا النقش باقياً إلى اليوم، وإن كان قد أدخل عليه تغيير كبير، في دهليز كنيسة القديس بطرس في مكان غير ظاهر فوق عمد المدخل ومن خلفها. وأكبر الظن حتى هذا الكردنال نفسه هوالذي كلفه بعمل صورة الملاك المجنح المحفوظة في الفاتيكان. وتظهر هذه الأعمال كلها جيتوشخصاً غير ناضج، قوي التفكير، ضعيف التطبيق. ولربما كانت دراسات جيتولنقوش بيتروكفنليني Pietro Cavanelline الفسيفسائية الموجودة بكنيسة القديسة ماريا في ترتستيفيري، ومفهماته في كنيسة القديسة تشيتشيليا Cecilia قد ساعدت على تكوين جيتوفي تلك السنين الرومانية، ولعل النحت الطبيعي الذي قام به نقولوبيزانوقد جعله يحول عنايته من أعمال أسلافه إلى ملامح الأحياء من الرجال والنساء ومشاعرهم. وفي ذلك يقول ليوناردودافنتشي: "لقد ظهر جيتووصور ما رآه "(32). واختفى الجمود البيزنطي من الفن الإيطالي. ثم أنتقل جيتوإلى بدوا وقضى ثلاث سنين يصور على الجص تلك الرسوم الذائعة الصيت التي تزدان بها كنيسة أرينا. ولعله قد التقى في بدوا بدانتي، ولعله قد عهده قبل ذلك في فلورنس، فها هوذا فاساري Vasari، الممتع على الدوام، والدقيق الصادق في بعض الأحيان، يصف دانتي بأنه "الرفيق والصادق الصدوق " لجيتو(33). وها هوذا يعزولجيتوصورة لدانتي تكون جزءاً من نقش جصي في قصر الحاكم في فلورنس. وترى الشاعر يثني على المصور ثناء رقيقاً مستطابا في المسلاة الإلهية34). ولما كان عام 1318 كلفت أسرتان من رجال المصارف هما أسرة باردى Bardi وأسرة بيرتسي Peruzzi جيتوبأن يقص لهما على الجص قصص القديسين فرانس، ويوحنا المعمدان ويوحنا المبشر بالإنجيل، وذلك في المزارين اللذين كانا يشيدهما في كنيسة سانتا كروتشي (الصليب المقدس) Sante Croce في فلورنس. وقد غطيت هذه الرسوم بالجير فيما بعد، ولكنه كشف عنها في عام 1853 واعيد تلوينها، وبذلك لم يبق فيها من عمل جيتوإلا الرسم والتأليف. وكان هذا بعينه مصير المظلمات الذائعة الصيت في كنيسة القديس فرانس المزدوجة في أسيسي. ويحج عدد كبير من الإيطاليين إلى هذا الضريح القائم فوق إحدى الروابي، ويبدوحتى عدد الذين يفدون منهم لمشاهدة الرسوم التي تعزى لتشيمابيوCimabue وجيتولا يقل عمن يفدون لتكريم هذا القديس أوللتبرك به. وأكبر الظن حتى جيتوهوالذي وضع تصميم الموضوعات ورسم الخطوط الخارجية للمظلمات السفلى في الكنيسة العليا. أما ما بقى فيبدوأنه اكتفى فيه بالإشراف على عمل تلاميذه. وتقض هذه المظلمات التي في الكنيسة العليا حياة القديس فرانسس بتفصيل قلما حظي المسيح نفسه بسيرة مصورة له تماثل هذه السيرة في دقائقها. وهي تمتاز بالبراعة في التفكير والتأليف، وباللطف والرقة والتناسق في الإخراج والتطبيق، وتقضي قضاء لا رجعة بعده على الجمود الكهنوتي الذي كان يلازم الأشكال البيزنطية، ولكنها مع ذلك يعوزها العمق والقوة والنزعة الإنفرادية، فهي في حقيقة الأمر لوحات مصورة رشيقة خالية من تأثير العاطفة أودم الحياة. أما مظلمات الكنيسة السفلى فقد كانت أقل من مثيلاتها في الكنيسة العليا تعرضاً لعوادي الأيام، وهي تشهد بما طرأ على قدرة جيتومن تقدم. ويبدوأنه هونفسه الذي قام برسم الصور التي في مُصًلّى مجدلين، وأن تلاميذه هم الذين صوروا الرسوم الرمزية التي تشرح الإيمان التي يقسمها الرهبان الفرنسيس بأن يلتزموا حياة الفقر والطاعة والطهر. ولقد كانت سيرة فرانسس المصورة في هذه الكنيسة المزدوجة حافزاً قوياً، بل تكاد تكون مولداً جديداً، لفن التصوير الإيطالي، ونشأت منها تنطقيد بلغت المثل الأعلى من الكمال في أعمال الراهب الدمنيكي "الأخ أنجلكوFra Angelico ".

وفي وسعنا حتى نقول إذا أعمال جيتوكانت في مجموعها ثورة على الأوضاع الفنية القائمة وقتئذ. ونحن نشعر بأخطائه لأننا نعهد مقدار ما أحدثته الحركة التي بدأها هومن إتقان وبراعة. نحس بأن رسمه، وصياغته، ومراعاته لفن المنظور، وفهمه بالتشريح، جميع هذا ناقص معيب. لقد كان الفن، كما كان الطب في عهد جيتو، قد بدأ تواً في تشريح الجسم البشري، وفي حتى يبين موضع جميع عضلة، وعظم ، ووتر، وعصب، وهجريبه، وقد أتقن فهم هذه العناصر رجال من أمثال منتينيا Mantegena ومساتشيوMasaccio، وبرع في هذه الفهم ميكل أنجلووبلغ فيها درجة الكمال، بل كاد يجعل منها معبوداً له ولأمثاله من رجال الفن. أما في أيام جيتوفقد كان لا يزال من غير المألوف حتى يفهم الناس الجسم البشري عارياً.وكان تصويره يجلل من يقدم على تصويره بالعار. فإذ كان هذا فما الذي يجعل أعمال جيتوفي بدوا وأسيسي من معالم تأريخ الفن،يا ترى؟ إذا الذي يجعلها هكذا هوالـتأليف المتزن، ورسم العين من جميع زاوية إلى مركز الاهتمام، والمهابة المستمدة من الحركة الهادئة، والتلوين الرقيق المتألق، وانسياب السيرة في عظمة وجلال، والاعتدال في التعبير ولوكان عن المشاعر العميقة، وعظمة الهدوء الذي يغمر تلك المناظر المضطربة، وما نشاهده بين الفينة والفينة من نزعة طبيعية في تصوير الرجال، والنساء، والأطفال كما شاهدهم وأحس بهم، وهم يتحركون في الحياة لا كما درسهم الفنانون في ماضي الأيام. تلك هي العناصر التي تألف منها فوز جيتوعلى الجمود البيزنطي والكآبة البيزنطية. وتلك هي أسرار نفوذه الخالد. لقد ظل فن فلورنس مائة عام بعد وفاته يستمد من أعماله حياته وإلهامه.

واتى في أعقابه جيلان من الفنانين الذين ساروا على نهجه، فحذوا حذوه في موضوعاته وفي طرازه، ولكنهم قلما كانوا يبلغون ما بلغه من براعة وإتقان، فقد كان تديوجدى Taddeo Gaddi تلميذه وابنه في العماد يرث عنه فنه، وكان والد تديووثلاثة من ابناء تديوالخمسة رسامين، ذلك حتى النهضة الإيطالية، كالموسيقى الألمانية، كانت تنزع إلى الانتنطق في الأسر من الآباء إلى الأبناء، وقد ارتقت فيها بانتنطق اصولها الفنية وتجمعها في البيوت والمفاقه والمدارس. وقد بدأ باديوحياته صبياً محترفاً عند جيتو، وما وافى عام 1347 حتى كان هوحامل لواء المصورين الفلورنسيين، وكان حتى بعد حتى بلغ تلك المكانة يسقط بإمضاء "تلميذ جيتوالأستاذ الجليل " تكريماً لذكرى أستاذه(35). وقد أثرى بجده في فني التصوير والعمارة ثراء استطاع به بنوه حتىقد يكونوا من أنصار الفن.

ولدينا تحفة فنية ظلت زمناً طويلاً تعزى اليه، ولكنها الآن تعزى إلى أندريا دا فريندسي Andrea da Firenze وهي تدل على حتى إيطاليا في هذا القرن الأول من عصر النهضة لم تكن قد خرجت بعد من العصور الوسطى. فقد أقام الرهبان الدمنيك حوالي عام 1370 في " كابلادجلي اسبنيولي Copella degli Spagnuoli أومعبد الاسبانيين في كنيسة سانتا ماريا نوفلا صورة يمجدون بها فيلسوفهم الشهير يُرى فيها تومس أكوناس في وضع راسخ مريح ولكنه بلغ من الخشوع حداً يحول بينه وبين الكبرياء، ويقف وقفة الظافر والزنديقان أريوس، وسابيوس، والفيلسوف أبن رشد يتمرغون تحت قدميه، ومن حوله موسى، ويوحنا المبشر الإنجيلي وغيرهم من القديسين، وقد بدأوكأنهم أتباع لهم، ومن تحتهم أربع عشرة صورة ترمز إلى سبعة علوم مطهرة وسبعة دنسة، منها نحودوناتوس Donatus وبلاغة شيشرون، وقانون جستنيان، وهندسة إقليدس وما إليها. والفكرة التي أوحت أليها بهذه الصورة لا تزال كلها من أفكار العصور الوسطى، أما الفن وحده في تصميمه ولونه فيدل على بزوغ فجر عهد حديث من ظلمات العهد القديم. ولقد كان الانتنطق تدريجياً إلى حد لم يشعر الناس معه بأنهم في عالم حديث إلا بعد مائة عام من ذلك الوقت. ويبدوالتقدم في التطبيق الفني أوضح وأكثر جلاء في أعمال اركانيا Arcagna الذي لا يسموعليه أحد من الفنانين الإيطاليين في العصور الوسطى إلا جيتووحده. وكان أسمه الأصلي أندريا دي تشيوني Andrea de Cioni، لكن معاصريه المعجبين به سموه أركانيولوArcagnolo أي الملاك الأعظم، ثم اختصرت الألسنة الكسولة هذا الاسم فجعلته أركانيا. وكثيراً ما يعد هذا الفنان من بين أتباع جيتو، ولكنه كان في الواقع الأمر من تلاميذ المثال أندريا بيزانوا Andrea Pisano. وكان أركانيولا بارعاً في فنون كثيرة شأنه في هذا شأن أعظم العباقرة في عصر النهضة. وهوبوصفه رساماً قد صور لمعبد استرتسي Strozzi في سانتا ماريا نوفلا غطاء ملونا للمحراب مثل عليه المسيح جالساً على عرشه، كما أنشأ أخوه الأكبر ناردوNardo على الجدران مظلمات واضحة تمثل الجنة والنار (1354-1357)، وخطط بوصفه مهندساً معمارياً التشر تودسا Certoza أوالدير الكرثوذي Carthusian بالقرب من فلورنس، وهوالدير الذي اشتهر بطرقه المسقوفة الجميلة وما احتواه من مقابر أتشيايولي Acciaiuoli). ونفذ هوووالده بوصفهما مهندسين ومثالين الهيكل المزخرف في "أورسان متشيلي Or San Micchele في فلورنس. وفي هذا الهيكل صورة للعذراء كان الناس يعتقدون أنها تعمل المعجزات، ولهذا فإنه لما زال وباء الموت الأسود الذي أجتاح أوربا عام 1348 بلغت النذور التي قدمها لها الذين نجوا من الوباء من الكثرة درجة اغتنى منها الرهبان القائمون على خدمة البناء، وتقرر بعدئذ ان يضم هذه الصورة ضريح مقام من الرخام والمضى. واختطه تشيوني على شكل كنيسة قوطية مصغرة ذات عمد، وأبراج مستدقة، وتماثيل، ونقوش بارزة، ومعادن ثمينة، وأحجار غالية، فهي والحالة هذه درة من زخرف القرن الرابع عشر. وذاعت بفضلها شهرة أندريا فعين كبير الفنانين في أرفيتوOrvieto واشهجر في تخطيط قابلة كنيستها، ثم عاد إلى فلورنس في عام 1362 وأخذ يعمل في الكنيسة العظيمة إلى يوم وفاته. وكانت شهرة سانتا ماريا دل فيوري Santa Maria del Fiori- أكبر الكنائس التي بنيت في إيطاليا حتى ذلك الوقت- قد بدأت من عهد أرنلفودي كمبيوCambio Arnolfo di في عام 1296، وتتابع عليها عدد من كبار الفنانين بعضهم في أثر بعض ظلوا يعملون فيها حتى هذا اليوم، ونذكر من هؤلاء جيتو، واندريا بيزانوا، وفرانتشسكوتالنتي وغيرهم. ويرجع تاريخ قابلتها الحالية إلى عام 1887، ولا تزال الكنيسة الكبرى ناسيرة إلى هذا اليوم، ولا بد حتى يعاد بناء جزء كبير منها في جميع قرن. وسبب ذلك حتى العمارة كانت أقل الفنون نجاحاً في إيطاليا إبان عصر النهضة، لأنها اخذت في غير حماسة اواهتمام من الشمال بعض عناصر العمارة القوطية المعقد المستدق، وجمعت بينها وبين العمد المأخوذة من العمارة القديمة، ثم شادت فوق هذه كلها في بعض الأحيان القبة ذات الطراز البيزنطي.فكان هذا خليطاً غير متناسق العناصر، إذا استثنينا منه بعض الكنائس الصغرى من عمل برامنتي Bramante حكمنا بأنه تعوزه الوحدة والرشاقة. وكانت قابلة أرفيتووسينا Siena مظهراً فخماً لفن النحت والفسيفساء أكثر منها مظهراً لفن العمارة السليم، وإن العناية الشديدة بإبراز الخطوط المستقيمة والناشئة من وجود طبقات متتالية من الرخام الأسود والأبيض في جدرانها، لما يسبب الانقباض للعين والنفس، مع حتى معنى الكنيسة نفسه يجب حتىقد يكون هوالضراعة أوالابتهال الصادرين إلى السماوات العليا. وإن من العسير حتى نعد كنيسة سانتا ماريا دل فيوري- وهوالاسم الذي أطلق على كنيسة فلورنس بعد عامي 1412، وقد أشتق اللفظ الأخير (فيوري) من الزنبقة المرسومة على شعار المدينة-زهرة من الأزهار. ولولا القبة الشهيرة التي أنشأها برونلسكوBrunellrsco لعدت كهفاً قد يحدث فراغه المظلم هوفم جحيم دانتي بدل حتىقد يكون بيتاً لله.

وكان أرنلفودي كمبيو، الرجل المجد الذي لا تنفذ قواه، هوالذي بدأ كنيسة الرهبان الفرنسيس المسماة سانتا كروتشي أوالصليب المقدس في عام 1294، والذي بدأ أيضاً في عام 1298 أجمل بناء في فلورنس كلها، وهوبلاتسا دلا سنيورا Palazz della Signora الذي تعهده الأجيال المتأخرة باسم بلاتسافيتشيو. وتم بناء الكنيسة في عام 1442 ما عدا قابلتها التي تمت في عام 1863، أما البلاتسا دل سنيورا المعروفة أيضاً باسم القصر القديم فقد تمت أجزاؤها الرئيسية في فهم 1341. وكانت هذه هي السنين التي شهدت نفي دانتي ووالد بترارك، ذلك حتى النزاع الحربي كان وقتئذ على أشده، ولهذا شاد ارنفلوا لحاكم المدينة حصناً لا قصراً وجعل في سقف معاقل ذات مزاغل، وكان برج الجرس الفريد في نوعه يدعوبرنين جرسه أهل المدينة إلى الاجتماع في مجلسها النيابي أوإلى حمل السلاح. ولم يكن كبراء المدينة Priori, Signori يحكمون من هذا المكان فحسب، بل كانوا ايضاً يعيشون فيه، وتظهر روح ذلك العصر في القانون الذي ينص على حتى اولئك الكبراء لم يكن يجوز لهم حتى يغادروا البناء لأي سبب كان. وأقام نيري دي فيورافنتي Neri di Fioravante فوق نهر الآرنوجسرا من أشهر جسور العالم وهوجسر فيتشيوPonte Vecchio الذي تصدع الآن بعمل الأيام والحروب، ولكنه لا يزال ينوء بحمل حركة المرور واثنين وعشرين حانوتا. وكانت تقوم حول هذه الصروح الضخمة، التي أنشأها أهل فلورنس مدفوعين بروحهم الوطنية، في الشوارع الضيقة المؤدية من الكنيسة وميادين سنيوريا Signoria كانت تقوم حولها بيوت الأغنياء المعذبين، وكانت لا تزال وقتئذ بيوتا متواضعة، والكنائس الفخمة التي استحال فيها مضى التجار فنا، وحوانيت التجار والصناع الصاخبة والمساكن المزدحمة التي تقيم فيها جمهرة الشعب المجد، الثائر، السريع الاهتياج، الذكي. وفي جنون هذه العناصر ولدت النهضة.


ميلان

ضريح پترارك أركوا پتراركا

عاد پترارك إلى أڤنيون في عام 1351، وأكبر الظن أنه خط في ڤوكلوز Vaucluse منطقا لطيفا في حياة الوحدة De vita solitaria يمتدح فيه الوحدة التي يستطيع حتى يتخيلها على أنها علاج شاف ولكنه لا يطيقها إذا كانت طعاما يقيم به الأود. وبعد قليل من عودته إلى أڤنيون أثار عليه غضب جماعة الأطباء حين حذر البابا حدثنت السادس، وكان وقتئذ يعاني آلام السقم، من الأدوية التي يصفها له الأطباء:

"لقد كنت على الدوام أرجوأصدقائي وآمر خدمي، ألا يسمحوا أبدا بأن تـُجرَب أية حيلة من حيل الأطباء هذه في جسمي، وأن يعملوا عكس ما يشير به هؤلاء تماماً"(49).

واستشاط غضبا من إخفاق بعض العلاج فخط في عام 1355 تنديدا بطبيب. ولم يكن أكثر من ذلك ميلا إلى المحامين "الذين يقضون وقتهم كله في النزاع... على أتفه المسائل":

"استمع إلى حكمي على جماعتهم كلها. إذا شهرتهم ستفنى بفناء أجسادهم، وإن قبراً واحداً ليكفي أسماءهم وعظامهم"(50)

وأراد البابا إنوسنت السادس حتى يجعل أفنيون بغيضة اشد البغض لبترارك فاقترح حتى يحرمه بحجة حتى متنبئ روحاني ساحر اعتمادا على حتى الشاعر دارس لفرجيل. وخف الكردنال تاليران Talleyrand لإنقاذ بترارك، ولكن نفس الشاعر عافت جوأفنيون المعطر بالجهالة القدسية فزار أخاه الراهب جراردوGherardo وخط رسالة شيقة في فراغ الرهبان داعب فيها فكرة دخول الدير. ولكنه اتىته دعوة لأن ينزل ضيفا على طاغية ميلان في قصره (1353) فبادر إلى قبولها مبادرة صدمت مشاعر أصدقائه الجمهوريين.

وكانت الأسرة الحاكمة في ميلان يطلق عليها اسم الفيكونتي لأن افرادها كثيراً ما كانوا يشغلون منصب الفيسكوميت Vicecomites أي كبار قضاة الأبرشية. وعين الإمبراطور هنري السابع في عام 1311 ماتيوفيكونتي قسا له في ميلان، وكانت هذه المدينة كما كانت الكثرة الغالبة من مدائن شمالي إيطاليا، تعترف على نحوما بأنها جزء من الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وأظهر ماتيوفي حكمه من البراعة والحزم ما مكن بنيه من حتى يحتفظوا بالسلطة حتى عام 1447 وأن كان قد ارتكب هوفي أثناء حكمه اغلاطا شنيعة. وقلما كان خلفاؤه يراعون في حكمهم ذمة أوضميراً، وكثيراً ما كانوا قساة غلاظا، كما كانوا أحياناً مسرفين، ولكنهم لمقد يكونوا أبداً أغبياء. وقد فرضوا الضرائب الفادحة على الشعب ليحصلوا بذلك على الأموال اللازمة لحروبهم الكثيرة التي أخضعت الشمال الغربي من إيطاليا لحكمهم ولكن مهارتهم في اختيار الحكام وقواد الحرب الماهرين أكسبت جيوشهم النصر وعادت بالرخاء على ميلان. وقد أضافوا إلى صناعة الصوف التي اشتهرت بها ميلان صناعة الحرير، وزادوا من عدد القنوات التي ضاعفت تجارتها، وأمنوا رعاياهم على أنفسهم وأموالهم إلى حد أنساهم حريتهم، فأضحت ميلان تحت حكمهم الاستبدادي من أغنى مدائن أوربا، فكانت قصورها ذات القابلات الرخامية تطل على الشوارع المرصوفة بالحجارة. ووصلت ميلان بفضل جوڤاني ڤيسكونتي الوسيم، المجد، الذي يستطيع حتىقد يكون قاسيا أوكريما إذا دعته إلى ذلك الحاجة أوطافت به نزوة من النزوات، إلى ذروة مجدها، واعترفت لودي Lodi، وبارما، وكريما Crema، وبياتشندسا، وبريشيا، وپرگامو، ونوفارا Novara، وكومو، وفرتشلي Vercelli، والسندريا Alessandria، وتورتونا Tortona، وبنتريمولي Pontremoli، واستيا Astia، وبولونيا، اعترفت هذه كلها بحكمه وسلطانه، ولما حتى نازعه بابوات أفنيون دعواه في تملك بولونيا، وأصدروا عليه قرار الحرمان، حارب حدثنت السادس بالشجاعة والرشا، وظفر ببولونيا، وبالغفران، والسلم نظير مائتي ألف فلورين (1352). وأصيب من جراء جرائمه بالنقرس، وزاد استبداده بمناصرة الشعر، والفهم، والفن. ولما وفد بترارك على بلاطه، وسأله أي الواجبات يطلب إليه حتى يؤديها، رد عليه جيوفني ذلك الرد الجميل: "لا شيء أكثر من وجودك الذي يشرفني ويشرف حكمي"(51).

وأقام بترارك في بلاط الفيكونتي في بافيا أوميلان ثماني سنين، وألف في أثناء هذا الخضوع المريح سلسلة من القصائد بالشعر الإيطالي الرباعي الأوتاد سماها الفوز أي فوز الشهوة على الإنسان، والعفة على الشهوة، والموت على العفة، والشهرة على الموت، والزمان على الشهرة، والخلود على الزمان. وهنا أنشد آخر أغانيه إلى لورا Laura، وطلب حتى تغفر له شهوانية حبه، وتحدث إلى روحها الطاهرة وحلم أنه اجتمع بها في الجنة- ولعل زوجها قد مضى إلى مكان آخر. ولا تقل هذه القصائد شأنا عن قصائد دانتي، وهي تمثل فوز الغرور على الفن.

وتوفى جوڤاني ڤيسكونتي في عام 1345 وأوصى بملكه إلى ثلاثة من أبناء أخيه، وكان ماتيوالثاني عاجزا منهمكا في ملذاته، فقتله أخواه ليحفظا بذلك شرف أسرتهما (1355). وحكم برنابومن ميلان جزءاً من الدوقية، وحكم گالياتسوالثاني Galezzo من بدوا ما بقى منها. وكان جالياتسوهذا حاكما قديرا يرسل شعره المضىي في غدائر، وزوج بناته من أبناء الملوك. ولما حتى تزوجت ابنته فيولنتي Violante دوق كلارنس Clarence ابن إدوارد الثالث ملك إنجلترا، أعطاها بائنة قدرها مائتا ألف فلورين مضىي (أي خمسة ملايين دولار)، ونفح جميع واحد من حاشية الزوج الإنجليزية المؤلفة من مائتي ألف تابع بهدية تحمل مقامه في الكرم فوق مقام أغنى معاصريه من الملوك. ويؤكد لنا الرواة حتى بقايا مائدة العرس كانت تكفي عشرة آلاف رجل. لقد بلغت إيطاليا في القرن الرابع عشر هذه الدرجة العليا من الثراء في الوقت الذي كانت فيه إنجلترا تتردى في هاوية الأفلاس، وكانت فرنسا تستنزف دماؤها في حرب المائة السنين.

خاتمة القرن الرابع عشر

خبر بترارك جميع مدينة وكل مضيف، ثم أتخذ مقامه في البندقية عام 1361، وعاش فيها سبع سنين، واتى معه بمخطته، وكادت تحتوي جميع الآداب اللاتينية القديمة ما عدا خط لكريشيوس. وأوصى في رسالة بليغة بمجموعته القيمة إلى البندقية، ولكنه احتفظ لنفسه بحق استعمالها حتى مماته وأرادت حكومة البندقية حتى تظهر تقديرها لعمله، فوهبته قصر مولينا Palazzo Molina وأثثته له [اثاث مريح، ولكن بترارك حمل خطه معه في آخر أسفاره، وسقطت عند وفاته في يد آخر مضيفيه فرانتشسكوالأول صاحب كرارا Carrara وكان من أعداء البندقية، وأحتفظ ببعض هذه الخط في بدوا، وبيع بعضها الآخر، ثم تشتت بغير هذه وتلك من الوسائل.

وأكبر الظن أنه خط في البندقية منطقا في واجبات الإمبراطور وفضائله وسلسلة طويلة من الحوار عن علاج [الحظ] الحسن والسيئ. وينصح في هذا الكتاب الأخير بالتواضع وقت الرخاء، والشجاعة وقت المحنة، ويحذر الإنسان من حتى يربط سعادته بفوزه على ظهر الأرض أوبالحصول على طيباتها، ويفهم الإنسان كيف من الممكن أن يصبر على آلام الأسنان، والبدانة، وفقد الزوجة، وتقلبات السمعة، وهذه كلها نصائح سديدة، ولكنها كلها موجودة في أقوال سنكا. كذلك ألف في هذا الوقت عينه أعظم خطه النثرية وهوكتاب "الرجال النابهون De viris illustribus" وهويضم سيرة واحد وثلاثين من عظماء الرومان من رميولوس إلى قيصر، وقد خص قيصر بثلاثمائة وخمسين صفحة من بتر الثُّمن ظلت حتى القرن التاسع عشر أكمل سيرة لهذا الحاكم.

وغادر بترارك البندقية إلى بافيا في عام 1368 يرجوحتى يتوسط في الصلح بين جليستوالثاني فيكونتي والبابا إربان الخامس، وكان جميع ما وجده حتى البلاغة إذا لم تصحبها المدافع لا تجد من السياسيين إلا آذانا صماء. وفي عام 1370 قبل دعوة فرانتشسكوالأول صاحب كرارا لينزل ضيفا عليه مرة أخرى في بلاطه الملكي في بدوا. لكن أعصابه التي أوهنتها الشيخوخة عافت صخب المدينة وزحامها، وما لبث حتى آوى إلى بيت ريفي متواضع في أركوا Arqua بين التلال الأوجانية Euganean في الجنوب الغربي السنين الباقية من حياته، جمع فيها رسائله وأعدها لتنشر بعد وفاته، وخط لنفسه ترجمة صغيرة فاتنة سماها رسالة للمستقبل Epistola ad Posteros (1371). ثم استسلم مرة أخرى لضعف الفلاسفة القديم، فأخذ يسدي النصائح إلى الحكام في كيفية تصريف شئون الدول، وخط إلى أمير بدوا في رسالته التي أسماها خير الوسائل للفة شئون الدولة (1372) يقول "لا تكن سيد رعاياك بل أباهم، وأحبهم كما تحب أبناءك"، ونصحه بأن يجفف المناقع، ويضمن لرعاياه الطعام، ويحافظ عل الكنائس، ويعين السقمى والمحتاجين، ويبسط حمايته ورعايته على رجال الأدب-الذين تعتمد على أقلامهم جميع مسببات السمعة الطيبة، ثم عمد إلى كتاب ديكمرون فترجم سيرة جريزلدا إلى اللغة اللاتينية لكي تكون في متناول القراء في أوربا.

وكان بوكاتشيووقتئذ في حالة نفسية تجعله يندم على كتابة ديكمرون أوالقصائد الشهوانية التي نطقها في أيام شبابه. وكان أحد الرهبان قد بعث وهويحضر إلى بوكاتشيورسالة يؤنبه فيها على حياته الآثمة وعلى قصصه المرحة، وينذره، إذا لم يعجل بالتوبة ويصلح حاله، بالموت العاجل والعذاب المقيم في نار جهنم. ولم يكن بوكاتشيوفي وقت من الأوقات يصبر على التفكير الطويل، وكان يقبل أوهام زمانه وما يؤمن به أهله من فهم الطالع والتنبؤ بالمستقبل عن طريق الأحلام، ويؤمن بوجود آلاف الشياطين، ويعتقد حتى أينياس Aeneas قد زار الجحيم بحق)56).

وأخذ يجمع بتحريض بترارك المخطوطات القديمة، وأنقذ من النسيان الخط من 11 إلى 16 من الحوليات والخط من 1 إلىخمسة من التواريخ لتاستس وكانت وقتئذ في مخطة مونتي كاتشيو، وأعاد نصوص ماريتال وأوسنيوس، وحاول حتى يقدم هوميروس إلى العالم الغربي. وكان بعض الفهماء في أثناء عصر الإيمان قد ظلوا على فهم باللغة اليونانية، أما في أيام بوكاتشيوفقد كادت هذه اللغة تختفي اختفاء تاما من غربي أوربا ما عدا جنوبي إيطاليا الذي كان وقتئذ نصف يوناني. ثم شرع بترارك في عام 1342 يفهم اللغة اليونانية على راهب من كلابريا Calabria يدعى بارلام Barlaam. ولما خلت إحدى اسقفبات كلابريا من راعيها أوصى بترارك بأن يختار لها بارلام، وأخذ بوصيته، فلما سافر الراهب إلى مقر عمله انبتر بترارك عن دراسة اللغة اليونانية لأنه لم يجد لها مدرسا، أوكتابا في النحو، أومعجما، ذلك بأن هذه الخط لم يكن لها وجود باللغة اللاتينية أوالإيطالية. ثم التقى بوكاتشيوفي عام 1359 بتلميذ لبارلام في ميلان يدعى ليون بيلاتس Leon Pilatus، فنادىه للمجيء إلى فلورنس، وأقنع جامعتها- وكانت قد أسست قبل أحد عشر عاما من ذلك الوقت، بأن تنشئ فيها لبيلاتس كرسيا للغة اليونانية. وتبرع بترارك بجزء من مرتب الأستاذ، وبعث بنسخ من الإلياذة والأوديسية إلى بوكاتشيو، وكلف بيلاتس بترجمتها إلى اللغة اللاتينية. وتعطل العمل مرة بعد مرة وورط بترارك في مراسلات متعبة، وكان يشكومن حتى رسائل بيلاتس أطول وأجف من ذقنه نفسها على طولها وجفافها(57)، ولم يتحرك بيلاتس لإنجاز العمل إلا بمساعي بوكاتشيو. وكانت هذه الترجمة النثرية الخالية من الدقة هي الترجمة اللاتينية الوحيدة التي تعهدها أوربا لملحمتي هوميروس في القرن الرابع عشر.

وكان بيلاتس في خلال هذا الوقت قد فهم بوكاتشيومن اللغة اليونانية ما يكفيه لقراءة الآداب اليونانية القديمة قراءة عاجزة. وكان بوكاتشيونفسه يعترف بأنه لا يستطيع حتى يقرأ النص إلا قراءة ضعيفة، ولكنه وصف ما قرأه بأنه يبلغ من الجمال حدا لا يستطيع وصفه. وألهمته هذه الخط كما ألهمه بترارك نفسه، فخصص ما بقى من جهوده الأدبية كلها تقريبا لأن يعهد أوربا اللاتينية بأدب اليونان، وأساطيرهم، وتاريخهم. فنشر سلسلة من التراجم القصيرة سماها في حظوظ مشهوري الرجال من آدم إلى جون ملك فرنسا، وروى في النساء النابهات قصص شهيرات النساء من حواء إلى جوانا الأولى Joanna I ملكة نابلي، وفي كتاب الجبال والغابات والعيون، الخ ثبتا مرتبا حسب الحروف الهجائية بأسماء الجبال، والغابات، والعيون، والأنهار، والبحيرات التي ورد ذكرها في الأدب اليوناني، ثم وضع كتيبا في الأساطير اليونانية سماه في تسلسل الأنساب. وقد بلغ من انهماكه في موضوعه حتى كان يسمى إله المسيحيين جوف، والشيطان بلوتو، ويتحدث عن الزهرة (فينوس) والمريخ كأنهما شخصان حقيقيان كمريم والمسيح. وتبدوهذه الخط في هذه الأيام مملة ثقيلة لا تطاق، خطت بلغة لاتينية رديئة وليس فيها كثير من الفهم، ولكنها كانت في زمانها خطا دراسية لطلاب اللغة اليونانية، وكان لها شأن ايما شأن في تهيئة مسببات النهضة.

إلى غير ذلك خرج بوكاتشيومن نزق الشباب إلى وقار الشيوخ، واستخدمته البندقية بين الفينة والفينة في بعض شئونها الدبلوماسية، فأوفدته في مهمات سياسية إلى فورلي Forli، وأفنيون ورافنا، والبندقية. وضعف جسمه حين بلغ سن السنين واصيب بالقوباء الجافة و"أمراض لا أعهد كيف من الممكن أن أحصيها"(58). وعاش في تشرتلدوCertaldo إحدى أرباض فلورنس عيشة ضنكا يشكوآلام الفاقة. ولعل رغبة بعض أصدقاء بوكاتشيوفي حتى يقدموا له بعض المعونة المالية هي التي حدت بهم إلى حتى يقنعوا أمير فلورنس بأن ينشئ في عام 1373 كرسيا لدراسة دانتي، وأن يوظف لبوكاتشيومائة فلورين (2500 دولار) ليلقى سلسلة من المحاضرات عن دانتي في الباديا Badia. لكن صحته وهنت قبل حتى يتم المنهج المقرر، فعاد إلى تشرتلدووقد وطن نفسه على ملاقاة الموت. وكان بترارك قد خط عن نفسه يقول: "أحب حتى يجدني الموت مستعداً للقائه أخط أو، إذا شاء المسيح، أصلي وابكي"(59). وقد أجاب الله نادىءه فوجده في يوم عيد ميلاده المتمم للسبعين وهواليوم العشرون من شهر يوليه عام 1374 مكباً بوجهه على كتاب يظهر كأنه نائم ولكنه في الحقيقة ميت. وقد هجر في وصيته خمسين فلورينا يشتري بها رداء لبوكاتشيويتقي به البرد في ليالي الشتاء الطويلة. ومات بوكاتشيوأيضا في اليوم الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1375 وهوفي الحادية والستين من عمره. واقفرت إيطاليا بعد وفاته من كبار الأدباء حتى نبتت البذور التي غرسوها وأينعت وآتت أكلها.


تأثيراته

Petrarch's Arquà house near Padua where he retired to spend his last years

تتبعنا تنقل بترارك وبوكاتشيوفي أنحاء إيطاليا، لكن إيطاليا من الوجهة السياسية لم يكن لها وجود، بل الذي كان موجوداً هودول- المدن، وهي بتر ممزقة حرة في حتى تهلك نفسها في الأحقاد والحروب. فقد دمرت بيزا منافستها التجارية أملفى، ودمرت ميلان بياتشنوسا، ودمرت جنوي وفلورنس بيزا، ودمرت البندقية جنوي، وانضمت بعد هذا العهد نصف أوربا إلى الجزء الأكبر من إيطاليا لتدمر البندقية. وأدى انهيار الحكومة المركزية على أثر غزوات البرابرة، و"الحروب القوطية " التي ثار عجاجها في القرن السادس، وانقسام شبه الجزيرة بين لمبارديا وبيزنطية، وتهدم الطرق التجارية الرومانية، والنزاع بين اللمبارد والبابوات، وبين البابوات والإمبراطورية، وخوف البابا أنه إذا قامت سلطة عليا في إيطاليا تمتد من الألب إلى صقلية، فإن قيامها يجعل البابا أسيراً ويخضع رئيس أوربا الروحي إلى رئيس الدولة السياسي، جميع هذا فكك وحدة إيطاليا ومزقها جميع ممزق. ولم يقتصر أشياع البابوات وأشياع الأباطرة على تقسيم إيطاليا شيعاً، بل قسموا فضلا عن ذلك جميع مدينة تقريباُ إلى جلف وجبلين Guelf & Ghibelline، ولما حتى شبت نار النزاع بين الطائفتين استخدم الشعارين القديمين منافسون جدد، وظلت نيران الأحقاد مشتعلة في جميع مناحي الحياة. فكان إذا وضع الجبلين الريش في ناحية من قبعاتهم وضعها الجلف في الناحية الأخرى، وإذا اتخذ الجبلين وردة بيضاء شارة لهم اتخذ الجلف شارة حمراء. وانتزع الجبلين في ميلان تمثالاً للمسيح من محراب في كنيسة واحرقوه لأن وجهه كان متجهاً إلى ما ظنوه ناحية الجلف، وفي برجاموالجبلينية اغتال مضيفون بعض ضيوفهم من الكلبريين لأنهم تبينوا من اسلوب أكلهم الثوم أنهم من الجلف(60). وبعث ضعف الأفراد وخور عزيمتهم، واضطراب الأمن بين الجماعات، وخداع الغرور، بعث هذا في النفوس دوام الخوف، والارتياب، والكراهية، واحتقار المخالفين، والأجانب، والأغراب.

ونشأت دولة- المدينة الإيطالية من هذه العقبات القائمة في سبيل الوحدة، فلم يكن الناس يفكرون إلا في مدينتهم، ولم يكن أحد يفكر في إيطاليا بوصفها وحدة وكُلاًّ إلا قليل من الفلاسفة أمثال مكيافلي Machiavelli أوشاعر مثل بترارك، وكان تشليني في القرن السادس عشر نفسه يشير إلى أهل فلورنس بقوله إنهم "رجال من أمتنا " وإلى فلورنس بأنها: "وطني ". وكان بترارك، الذي تحرر بفضل إقامته بالبلدان الأجنبية من الوطنية المحلية الضيقة يأسف لهذه الحروب التافهة، والانقسام المتفشي في بلده، وتوسل في أنشودة بليغة عنوانها: بلادي إيطاليا إلى أمراء إيطاليا حتى يهبوها السلم والوحدة:

وطني لپترارك

أي بلادي إيطاليا!- وإن كانت الألفاظ لا تجدى

في اندماج الجروح المتنسرة

التي لا يحصى عديدها، والتي تمزق صدري،

بيد أنه قد يخفف من آلامي

أن أتغنى بأحزان التيبر

وبالمظالم التي حلت بلآرنوحين أطوف وأنوح

بشواطئ البوالمحزنة أترنم بقصائدي...

ويلاه! أليست هذه هي الأرض التي وطئتها قدمي أول ما وطئت،يا ترى؟

أليس هذا هوالمكان الذي دُللت فيه برفق

وأنا مستريح في المهد، وربيت به في عز وحنان،يا ترى؟

ويلاهّ أليست هذه بلادي-التي أعزها

لما بيني وبينها من روابط البنوة

والتي يثوى في ثراها أبواي،يا ترى؟

فهلا بعثت هذه الفكرة الحنونة

بعض الأسى في قلوبكم القاسية

فنظرتم إلى أحزان الشعب،

الذي يرجومنكم، بعد الله، حتى تنقذوه،يا ترى؟

فإذا ما عطفتم وأذعتم،

فإن الفضيلة ستحمل رأسها عالية،

وتتأهب للحرب العوان

ضد قوى الغضب العمياء

ولن يطول الزمن الذي تحترب فيه القوتان غير المتكافئتين،

لا! لا! إذا اللهب القديم

الذي حمل اسم إيطاليا إلى السماكين لم ينطفئ بعد.

وكان بترارك يحلم حتى يستطيع ريندسوRienzo توحيد إيطاليا، فلما حتى خاب أمله فيه اتجه كما اتجه دانتي إلى عاهل الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكان هذا العاهل من الوجهة النظرية الوارث من غير رجال الدين لجميع السلطات الزمنية التي كانت للإمبراطورية الرومانية الوثنية في بلاد الغرب. ومن أجل هذا فإنه لم يمض إلا قليل من الوقت على انسحاب ريندسومن ميدان العمل (1347) حتى وجه بترارك رسالة مثيرة إلى شارل السادس ملك بوهيميا، الذي كان بوصفه "ملك الزمان " الوارث لعرش الإمبراطورية. ونطق الشاعر في هذه الرسالة: "فليأت الملك إلى رومة ليتوج فيها إمبراطوراً، وليتخذ روما لابراج عاصمة لملكه، وليرجع إلى إيطاليا "حديقة الإمبراطورية " الوحدة، والنظام، والسلم (61). ولما اجتاز شارل جبال الألب في عام 1354 نادى بترارك للقاءته في مانتوا Mantua واستمع في رقة وبشاشة إلى ما وجهه إليه من دعوات تردد أصداء نداء دانتي الحار إلى جده هنري السابع. ولكن شارل لم يكن لديه من القوة ما يكفي لهزيمة جميع طغاة لمبارديا، وجميع اهل فلورنس والبندقية، فأسرع إلى روما. ولم يكن البابا فيها وقتئذ، فعمل على حتى يتوج نائبه، ثم قفل راجعاً إلى بوهيميا، عثر في بيع المناصب الدينية وهوعائد إلى بلاده. وسافر اليه بترارك في براج بعد عامين من ذلك الحادث، في سفارة من ميلا، ولكن هذا اللقاء لم تجن منه إيطاليا ثمرة تستحق الذكر.

ولعل نهضة ما لم تكن قد وجدت إذا ما تحقق أمل بترارك. ذلك حتى تقطيع أوصال إيطاليا كان مما ساعد على قيام النهضة، فالدول الواسعة الرقعة توطد النظام وتدعم السلطان أكثر مما تنشر لواء الحرية وترعى الفنون. أضف إلى هذا حتى لاتنافس التجاري بين المدن الإيطالية كان هوالذي بدأ واتم عمل الحروب الصليبية في تنمية اقتصاد إيطاليا وثروتها. ولسنا ننكر حتى تعدد المراكز السياسية قد ضاعف من عدد المنازعات بين المدن، ولكن هذه المنازعات الصغرى في مجموعها لم تسبب من هلاك في الأنفس وخراب في البلاد قدر ما سببته حروب مائة السنين في فرنسا. ولسنا ننكر كذلك حتى استقلال المدن قد أضعف من قدرة إيطاليا على صد غارات الأجانب عليها، ولكنه ولد منافسة نبيلة بين المدن والأمراء لرعاية الثقافة، والحرص على التفوق في فنون العمارة، والنحت، والتصوير، والتعليم، والمنح التعليمية، والشعر. لقد كان في إيطاليا النهضة، كما كان في ألمانيا القوطية، مراكز كثيرة مثل باريس.

ولسنا في حاجة إلى المبالغة لكي نقدر ما كان لبترارك وبوكاتشيومن فضل في التمهيد إلى النهضة: لقد كان كلاهما لا يزال أسيراً لأفكار العصور الوسطى. وكان القَصّاص العظيم في عنفوان شبابه يسخر من فساد أخلاق رجال الدين واتجارهم بمخلفات القديسين، ولكن ىلاف الآلاف من رجال العصور الوسطى ونسائها كانوا يعملون عمله، وقد اصبح أكثر استمساكاً بالدين واصطباغاً بصبغة العصور الوسطى في الأيام التي أخذ يفهم فيها اللغة اليونانية. وكان بترارك يصف نفسه بحق بأنه واقف بين عهدين(63). وكأنه بهذا كان يتنبأ بما يفترض أنقد يكون. فقد كان يقبل قواعد الكنيسة التحكمية في الوقت الذي كان يشن فيه حرباً شعواء على أخلاق بابوات أفنيون، وكان يحب الآداب القديمة في أواخر عصر الأيمان، كما كان جيروم Jerome يحبها في بدايته، وكان في قرارة نفسه غير راض عن هذا الحب. وخط في العصور الوسطى منطقات ممتازة في احتقار العالم الدنيوي وفي السلم المقدسة التي تنبعث من الحياة الدينية. لكنه رغم هذا كان أكثر وفاء للآداب القديمة منه للورا Laura. وكان يبحث عن المخطوطات القديمة ويعتز بها، ويلهم غيره بأن يحذوفي ذلك حذوه، وقد بز جميع المؤلفين في العصور الوسطى تقريباً عدا أوغسطين في العمل على عدم انقطاع الصلة بالأدب اللاتيني، وصاغ عباراته وأسلوبه على مثال فرجيل وشيشرون، وكان يفكر في ذيوع شهرته أكثر مما يفكر في خلود نفسه. وقد أثمرت قصائده مائة عام من الأغاني المصطنعة المتكلفة في إيطاليا، ولكنها اعانت على تشكيل أغاني شكسبير. وانتقلت روحه الحماسية من بعده إلى بيكوPico كما انتقل اسلوبه المصقول إلى بولتيان، وكانت رسائله ومنطقاته بمثابة قنطرة من الدماثة والرشاقة بين سنكا ومنتاني، واكتمل توفيقه بين العهود القديمة والمسيحية في البابا تقولاس الخامس والبابا ليوالعاشر. وملاك القول أنه كان بحق أبا النهضة في تلك الأيام.

لكننا نقول مرة أخرى: إذا من الخطأ حتى نبالغ في حظ الأقدمين من هذا المجد الذي بلغته إيطاليا، ذلك أنه كان تتمة لا انقلاباً، وكان لنضوج العصور الوسطى في هذه التتمة شأن أعظم من الكشف الثاني للمخطوطات القديمة والفن القديم. وكان كثير من فهماء العصور الوسطى يعهدون الآداب الوثنية ويحبونها، وكان الرهبان هم الذين حافظوا عليها، ورجال الدين هم الذين ترجموها ونشروها، وكانت الجامعات الكبرى هي التي أخذت منذ عام 1100 تنقل إلى شباب أوربا قدراً من التراث العقلي والأدبي للجنس البشري. وكانت نشأة الفلسفة الانتقادية عند إرجينا Erigena وأبلار، وإدخال دراسة أرسطووابن رشد في مناهج الجامعات ودعوة أكوناس الجريئة إلى إثبات جميع العقائد المسيحية تقريباً على اساس العقل، وما تلاها بعد قليل من اعتراف دنزاسكوتس Duns Scotus بأن الكثرة الغالبة من هذه العقائد خارجة عن نطاق العقل، كان هذا كله سبباً في نشأة صرح الفلسفة المدرسية العقلي ثم تحطيمه بعدئذ، وفي هجر المسيحيين المتفهمين أحراراً يحاولون التأليف من حديث بين الفلسفة الوثنية ولاهوت العصور الوسطى من جهة، وتجارب الحياة من جهة أخرى. وكان تحرر المدن من عوائق الإقطاع، واتساع نطاق التجارة، وانتشار الاقتصاد القائم على النقود،- كانت جميع هذه قد سبقت مولد بترارك،. وفهم روجر ملك صقلية، وفردريك الثاني، دع عنك خلفاء المسلمين وسلاطينهم، فهم هؤلاء كلهم حكام البلاد حتى يضيفوا سنا المجد إلى السلطان بمناصرة الفن، والشعر، والعلوم، والفلسفة. وقد احتفظ رجال العصور الوسطى ونساؤها، رغم قلة منهم كانت منهمكة في شئون الدار الآخرة، دون حياء بما طبع عليه الإنسان من سرور بملاذ الحياة البسيطة، وكان للرجال الذين صوروا، وشادوا، ونحتوا تماثيل الكنائس الكبرى إدراكهم الخاص للجمال، فسموا بالتفكير وبالشكل سمواً لم نر له نظيراً قط.

لهذا نقول دون حتى نخشى الزلل إذا جميع قواعد النهضة قد وضعت قبل حتى يموت بترارك. وكان النماء العجيب في تجارة إيطاليا وصناعتها، واستئثارهما بجانب كبير من نشاط اهلها، قد كدسا الثروة التي أمدت الحركة بالمال، كما كان الانتنطق من سلم الريف وركوده إلى حيوية المدن ونشاطها سبباً في خلق المزاج الذي غذى هذه الحركة. أما الأساس السياسي فقد قام على حرية المدن وتنافسها، والقضاء على الأرستقراطية المتعطلة، وقيام الأمراء المتفهمين، والطبقة الوسطى القوية. وأما الأساس الأدبي فقد مهد له تحسن اللغات القومية، والتحمس إلى الكشف عن الآداب اليونانية والرومانية القديمة ودراستها. وكان الأساس الأخلاقي قد وضع هوالآخر: فقد أخذ ازدياد الثروة يحطم القيود الأخلاقية القديمة، وشجع الاتصال بالبلاد الإسلامية عن طريق التجارة والحروب الصليبية نزعة التسامح في الانحراف بالقواعد الدينية والاخلاقية عن المعتقدات والأساليب التقليدية. وكان لإعادة الكشف عن العالم الوثني ذي الحرية النسبية في التفكير السليم نصيب في تحطيم عقائد العصور الوسطى ومبادئها الأخلاقية، ولهذا كله تقهقر الاهتمام بالحياة الآخرة أمام المشاغل الزمنية، البشرية، الدنيوية. ونما الإحساس بالجمال نماء مطرداً، فقد خلفت ترانيم العصور الوسطى، والقصص الغرامية المتتالية، وأناشيد شعراء الفروسية الغزلين، وأغاني دانتي ومن سبقه من الشعراء الإيطاليين، والتصوير المنسجم الذي يطالع الإنسان في المسلاة الإلهية، جميع هذا خلف وراءه تراثا من الفن الأدبي، كما حتى النماذج الأدبية اليونانية واللاتينية القديمة قد نقلت إلى بترارك رقة في الذوق والتفكير، وصقلا وتأدبا في الحديث وفي الأسلوب، أورثهما بترارك من بعده أسرة تجمع أفرادها من دول مختلفة كلهم عباقرة الحضر اتىوا في سلسلة متصلة الحلقات من إرزمس إلى أناتول فرانس. وكانت ثورة الفن قد بدأت حين هجر جيتوالصرامة الصوفية التي انطبعت بها الفسيفساء البيزنطية لكي يفهم الرجال والنساء في مجرى حياتهم الحقة وظرفهم الفطري.

لقد كانت جميع الطرق في إيطاليا تؤدي إلى النهضة.

أعماله

Petrarch's Virgil (title page) (c. 1336)
Illuminated manuscript by Simone Martini, 29 x 20 cm Biblioteca Ambrosiana, Milan.

دانته

Dante Alighieri, detail from a Luca Signorelli fresco in the chapel of San Brizio, Duomo, Orvieto.

فلسفته

تمثال پترارك في قصر اوفيزي، فلورنسا

انظر أيضاً

  • Chaucer coming in contact with Petrarch or Boccaccio

معرض الصور

الهامش

Petrarch's Arquà house near Padua where he retired to spend his last years
  1. ^ There are many popular examples, for a recent one this review of Carol Quillen's Rereading the Renaissance

المصادر

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

  • Bartlett, Kenneth R. (1992). The Civilization of the Italian Renaissance; a Source Book. Lexington: D.C. Heath and Company. ISBN 0-669-20900-7
  • Bishop, Morris (1961). "Petrarch." In J. H. Plumb (Ed.), Renaissance Profiles, pp. 1–17. New York: Harper & Row. ISBN 0-06-131162-6 .
  • Hanawalt, A. Barbara. "The Middle Ages:An Illustrated History" pp. 131–132 Oxford University Press New York 1998
  • Kallendorf, Craig. "The Historical Petrarch," The American Historical Review, Vol 101, No. 1 (Feb. 1996): <130-141.>

للاستزادة

  • Bernardo, Aldo (1983). "Petrarch." In Dictionary of the Middle Ages, volume 9.
  • Hollway-Calthrop, Henry. (1907). , Methuen. From Google Books.
  • Kohl, Benjamin G. (1978). "Francesco Petrarcha: Introduction; How a Ruler Ought to Govern His State," in The Earthly Republic: Italian Humanists on Government and Society, ed. Benjamin G. Kohl and Ronald G. Witt, 25-78. Philadelphia: University of Pennsylvania Press. ISBN 0-8122-1097-2
  • Nauert, Charles G. (2006). Humanism and the Culture of Renaissance Europe: Second Edition. Cambridge: Cambridge University Press. ISBN 0-521-54781-4
  • Rawski, Conrad H. (1991). Petrarch's Remedies for Fortune Fair and Foul A Modern English Translation of De remediis utriusque Fortune, with a Commentary. ISBN 0-253-34849-8
  • Robinson, James Harvey (1898). Harvard University
  • Kirkham, Victoria and Armando Maggi. (2009). Petrarch: A Critical Guide to the Complete Works. University of Chicago Press. ISBN .
  • N. Mann, Petrarca [Ediz. orig. Oxford University Press (1984)] – Ediz. ital. a cura di G. Alessio e L. Carlo Rossi – Premessa di G. Velli, LED Edizioni Universitarie, Milano, 1993, ISBN 88-7916-021-4
  • Il «Canzoniere» di Francesco Petrarca. La Critica Contemporanea, G. Barbarisi e C. Berra (edd.), LED Edizioni Universitarie, Milano, 1992, ISBN 88-7916-005-2
  • G. Baldassari, Unum in locum. Strategie macrotestuali nel Petrarca politico, LED Edizioni Universitarie, Milano, 2006, ISBN 88-7916-309-4
  • Francesco Petrarca, Rerum vulgarium Fragmenta. Edizione critica di Giuseppe Savoca, Olschki, Firenze, 2008, ISBN 978-88-222-5744-4
  • Giuseppe Savoca, Il Canzoniere di Petrarca. Tra codicologia ed ecdotica, Olschki, Firenze, 2008, ISBN 978-88-222-5805-2
  • Roberta Antognini, Il progetto autobiografico delle "Familiares" di Petrarca, LED Edizioni Universitarie, Milano, 2008, ISBN 978-88-7916-396-5

وصلات خارجية

اقرأ اقتباسات ذات علاقة بپترارك، في فهم الاقتباس.
تقدر حتى تجد معلومات أكثر عن پترارك عن طريق البحث في مشاريع الفهم:

تعريفات قاموسية في ويكاموس
خط من فهم الخط
اقتباسات من فهم الاقتباس
نصوص مصدرية من فهم المصادر
صور وملفات صوتية من كومونز
أخبار من فهم الأخبار.

  • Canzoniere (different edition) and other works
  • Petrarch from the Catholic Encyclopedia.
  • Excerpts from his works and letters
  • Francesco Petrarca (Petrarch) (1304-1374)
  • أعمال من Petrarch في مشروع گوتنبرگ
  • Timeline of life of Petrarch
  • Poems From The Canzoniere, translated by Tony Kline.
  • Francesco Petrarca at The Online Library of Liberty
  • , Cremonae, B. de Misintis ac Caesaris Parmensis, 1492. (Vicifons)
  • أعمال موسيقية مجانية of works by پترارك في مخطة الأعمال الكورالية المشاع (ChoralWiki)


  • Petrarch and Laura Multi-lingual site including translated works in the public domain and biography, pictures, music.
  • Petrarch - the poet who lost his head April 2004 article in The Guardian regarding the exhumation of Petrarch's remains
تاريخ النشر: 2020-06-04 13:59:12
التصنيفات: Portal templates with all redlinked portals, Pages with citations using unsupported parameters, مواليد 1304, وفيات 1374, أشخاص من أرتسو (مدينة), شعراء إيطاليون, إنسانيو النهضة الإيطاليون, كتاب النهضة الإيطالية, مؤلفو سونيتات, أساطين البلاغة, مؤرخو القرن 14, كتاب لاتينية القرن 14, كتاب لاتينية عصر النهضة, كتاب كاثوليك, محبو الكتب, پترارك

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

وزير التعليم العالى يبدأ مهام عمله اليوم بالوزارة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:48
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 60%

تأجيل محاكمة المستشار قاتل زوجته شيماء جمال لجلسة الغد

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:44
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 61%

القومي للحوكمة يعقد ويبينار حول قمة المناخ بالتعاون مع UNIDO

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:49
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 56%

8 مصابين إثر انقلاب «ميكروباص» بصحراوى البحيرة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:55
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 59%

رئيس الوزراء يؤكد دور «النقل البحرى» فى زيادة حجم الصادرات للخارج

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:48
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 60%

الرئيس السيسى يستعرض التعاون مع شركة سكك حديد ألمانيا «دويتش بان»

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:43
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 66%

إصابة شخصين فى حادث تصادم بالشرقية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:55
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 70%

3 توجيهات من الرئيس السيسى بشأن مشروعات ميناء الإسكندرية الكبير

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:43
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 58%

بالأسماء.. إصابة 8 أشخاص إثر انقلاب سيارة بالبحيرة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:52
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 50%

مصادر: حماية المستهلك يستعد لإحالة شركات سيارات للنيابة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:45
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 52%

بالتفاصيل.. «التعليم» تحدد لجان تظلم طلاب الثانوية العامة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:44
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 62%

الرئيس السيسى يستعرض التعاون مع شركة سكك حديد ألمانيا "دويتش بان"

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:34
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 68%

وزير الخارجية يبحث مع رئيس وزراء البهاما قضايا تغير المناخ

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:30
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 64%

«القصير» يبحث مع قيادات وزارة الزراعة أولويات تحقيق الأمن الغذائى

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-15 18:20:48
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 64%

تحميل تطبيق المنصة العربية