حكايات كوليما

عودة للموسوعة

حكايات كوليما

هذا الموضوع مبني على
منطقة لابراهيم العريس
بعنوان .


Butugychag Tin Mine - A Gulag camp in the Kolyma area

منذ زمن باكر في القرن العشرين، زاد تحوّل الموسيقى من مجرد انغام وألحان تسمع ويصغى اليها بكل هدوء وتجرد، حين تقدم بمفردها ومن دون غناء، الى احتفالات واستعراضات صاخبة، يدخل في هجريبها الضوء والحركة والديكورات وضجيج الاصوات البشرية، وحتى رد عمل الجمهور احياناً. وقد ادى انتشار اللايزر في الآونة الاخيرة والتجديدات التي طرأت على التوزيع الصوتي نفسه الى استشراء الظاهرة وتحوّل الحفل الموسيقي الى نوع من الحدث الكامل. ولعل خير نموذج حديث على ما نقول «العروض» التي يقدمها الفرنسي جان ميشال جار، ابن موريس جار، احد ابرز واضعي موسيقى الأفلام الكبرى في القرن العشرين.

> لكن جان - ميشال جارّ لم يكن، بالطبع، مخترع النوع، ولم يكن مخترعيه، حتى جميع اولئك الموسيقيين الاثني عشريّين الذين سعوا دائماً جهدهم ليحوّلوا تقديم البتر الموسيقية الى احتفالات سمعية - بصرية شاملة. بل حتى يمكننا ان نقول ان ربط الموسيقى بالأبعاد البصرية فن قديم جداً (ولنتذكر هنا، مثلاً، موسيقى «الأسهم النارية» الرائعة التي كان هاندل من اهم واضعيها لتقدّم مع اطلاق الأسهم في احتفالات تخاطب العين والأذن). ومع هذا يمكن التوقّف، هنا، عند احلام ومشاريع واحد من كبار موسيقيي القرن التاسع عشر الروس، باعتبارها افتتحت، عبر ما تحقّق منها كما عبر ما لم يتحقق، تحويل الموسيقى الى احتفال تام في القرن الذي يليه. وهذا الموسيقي كان سكريابين، الذي عهد دائماً بمزيج مدهش من غرابة الأطوار ومن العبقرية. وكان يحلم حتى نهاية حياته بتحقيق واحدة من اكثر الافكار جنوناً في تاريخ الموسيقى: فهوانطلاقاً من رؤاه التي لا حدود لها، كان يتطلع الى يوم يقدم فيه بترة موسيقية رائعة خطها تحت عنوان «غموض» Mysterium، حتى يمزج في بوتقة واحدة الموسيقى والنحت والديكور والضوء، وأعمدة البخور. وكان يريد لهذا العمل «الكوني» - وفق وصفه - ان يقدم في الهند، شرط حتى يُدعى جميع سكان الكرة الارضية اليه عبر أجراس صاخبة تعلّق في الغيوم!

> ونعهد طبعاً ان هذا العمل لم يقدم ابداً على النحوالذي شاءه له صاحبه، وإن كانت الاختراعات الحديثة في مجال الصوت والضوء باتت تقرّبنا الى الحلم اكثر وأكثر. مهما يكن من الأمر فإنه، اذا كانت احلام سكريابين الصاخبة قد عجزت عن ان تؤخذ على محمل الجدية، فإن موسيقاه اعتبرت من فاتحات الحداثة الموسيقية في العالم، ولا تزال حتى يومنا هذا تقدم بصفتها موسيقى معاصرة عنيفة، عصبية وصاخبة. ثم، كيف من الممكن أن لا تكون موسيقى سكريابين على هذا النحو، وهي - وفق التأكيد القاطع لمؤلفها - خطت في معظم الاحيان انطلاقاً من انضواء سكريابين نفسه تحت لواء افكار الفيلسوف الالماني تخصصه، الذي نعهد إيمانه بموسيقى فاغنر (وهومنبع استقى منه سكريابين جذور موسيقاه)، كما انه، اي تخصصه كان حدّد اواخر القرن العشرين، أسس الموسيقى المستقبلية حين ابدى اعجاباً هائلاً بالعنف والتصعيد الذي حملته اوبرا «كارمن» لجورج بيزيه، مقارناً بينها وبين ميوعة «موسيقى الرقص والأرجل الخفيفة» التي تسيطر عليها العقلية المتوسطية؟

> سليم ان تخصصه لم يعش ليشهد بنفسه كيف من الممكن أن صاغ معجبه الاكبر سكريابين، نظرياته التصعيدية هذه في واحدة من اجمل ما خط من بتر موسيقية، لكن كثراً ربطوا بين هذه البترة وبين اختيارات تخصصه وأكدوا ان هذا الاخير كان من شأنه ان يضع موسيقى سكريابين هذه في سلّم تفضيلاته في مكان مميز يعلومكان موسيقى فاغنر و«كارمن» لديه. والبترة التي نعنيها هنا هي تلك المعنونة «قصيدة النشوة المطلقة»، ولحنها سكريابين في عام 1908، واضعاً فيها، كما سيجمع النقاد، جميع ضروب عبقريته وأحلامه الموسيقية «المجنونة».

> منذ سمعت «قصيدة النشوة المطلقة» للمرة الاولى في ذلك العام، أجمع النقاد، اذاً، على انه «نادراً ما عوملت الموسيقى بمثل هذا العنف لإجبارها على التعبير عما لا يمكن عادة التعبير عنه»، مشيرين الى ان هذا هو«النموذج النمطي للموسيقى التي ينبغي سماعها من الآن وصاعداً». ومنذ البداية ايضاً ربطت البترة بأفكار تخصصه، ذلك ان الذين أصغوا اليها جيداً وجدوا فيها ترجمة تكاد تكون حرفية لأسطورة السوبرمان (الانسان الاسمى) كما صاغها صاحب «هكذا تحدث زرادشت». كما انهم لامسوا فيها تعبيرات تولستوي التنبؤية في الوقت نفسه، حيث رأوا ان البترة التي تمزج بين تخصصه وتولستوي على هذا النحو، انما اتت معبرة تماماً عن تطلعات، كما عن ضروب قلق، البورجوازية الروسية الواعية على ابواب الحرب العالمية الاولى. وما هذا إلا لأن موسيقى هذه القصيدة السمفونية اتت حافلة بـ «الحساسية العاطفية» وبـ «القيم التعبيرية التي تعبر عن تطلع عقلاني للوصول الى سمولا يمكن الوصول اليه». وقد لاحظ المهتمون بسرعة كيف من الممكن أن ان سكريابين عهد هنا كيف من الممكن أن ينهل، في تعبيره الموسيقي الصرف، مما كان فاغنر قد اوصله الى ذرواته التعبيرية المادية من طريق المبالغة في استخدام الوتريات، التي - على شاكلة ما نجد في اوبرا «تريستان وإيزولت» - تسير طوال العمل في هبوط متواصل بحيث ان التوزيع الاوركسترالي يظل محقّقاً تراكم تلك الحركة الهابطة، حتى يندلع فجأة في «فورتيسيمو» مباغت تبزع فيه اصوات الأبواق من قلب ركام الآلات الوترية. ومن البديهي ان هذا الأداء الصاخب والعنيف، والذي اذ يهبط وئيداً وبطيئاً يعود ويعلوفي حركة قاطعة، كان يحتاج قيادة اوركسترالية استثنائية، وهذا ما جعل سكريابين، وحتى رحيله بعد تقديم هذه البترة للمرة الاولى، بسبع سنوات، يصرّ على ان يدير بنفسه جميع شاردة وواردة في تقديمها، ذلك انه كان يعهد ان المطلوب من هذه البترة الاستثنائية (والتي ستحمل الرقم 54 بين اعماله) ان تقدّم في شكل سحري خفي، يحاول ألا يفضي بكل أسراره منذ الاستماع الاول. والحال ان سترافنسكي كان واحداً من اوائل الذين تنبهوا الى هذا البعد في قصيدة سلفه السيمفونية هذه، فجعل منه عمل ايمان له في اعمال تالية نقصها على اي حال شيء من جنون سكريابين.

> والفنان الروسي الكسندر سكريابين (1872-1915)، بدأ اهتمامه بالموسيقى باكراً جداً، لكنه في الوقت نفسه راح يعبّر عن غرابة اطوار كانت تصل احياناً الى حد الجنون، وهي طبعت جميع حياته لاحقاً، تماماً كما انطبعت تلك الحياة برغبة هائلة في التعبير الموسيقي. وعملياً بدأ سكريابين حياته، وهوبعد في سن المراهقة، بالعزف الرائع على البيانو، ما جعله يفوز بميدالية مضىية من كونسرفاتوار موسكو، الذي انتمى اليه. وإثر ذلك النجاح رعاه ناشر موسيقي مكّنه من ان يقوم بجولة عزف في اوروبا، حيث راح يقدم ايضاً اعمالاً من تأليفه، لم يجد فيها النقاد أوّل الأمر اي عنصر روسي اصيل، بل مجرد محاكاة لبتر فرانز ليست وشوبان. وبعد عودته الى موسكوصار استاذاً في الكونسرفاتوار في فترة طرأ فيها تحوّل كبير على مؤلفاته، اذ راحت تبرز فيها عناصر اصالة واضحة. وتجلى ذلك خصوصاً في كونشرتوللبيانووضعه في ذلك الحين، وإن كانت البترة الكبيرة التالية التي وضعها (السوناتة الثالثة) قد عجزت اول الامر عن فرض حضورها. ذلك انها كانت شديدة التجريبية تواكب تلحينها لديه مع بدء اهتمامه بـ «الروح» كما عبر عنها تخصصه الذي راح يقرأه بوفرة. ومنذ ذلك الحين بدأ سكريابين يفكر بأن الوقت قد حان لكي تجتمع جميع الفنون والافكار من الآن وصاعداً في بوتقة واحدة. إلى غير ذلك بالتواكب مع كتابته التالية لبعض اروع اعماله (مثل «بروميثيوس: قصيدة النار» و«الغموض» و«قصيدة النشوة المطلقة») راحت تنمولديه تلك الافكار «الغريبة» و«الجنونية» حول تحويل العرض الموسيقي الى ما يشبه «الهابننغ». وهوتوفي مسموماً، اذ لسعت حشرة شفته في عام 1915، من دون ان يعهد ان جزءاً اساسياً من موسيقى القرن العشرين سيتابع افكاره، حتى وإن جحد في ذلك احياناً.

المصادر

  • دار الحياة
  • Golden, Nathaniel (2004) Varlam Shalamov's Kolyma tales : a formalist analysis, Studies in Slavic literature and poetics, 41, Amsterdam ; New York : Rodopi, 193 p., ISBN 90-420-1198-X
  • Shalamov, Varlam Tikhonovich (1994) Kolyma tales [Kolymskie rasskazy], Glad, John (transl.), Penguin twentieth-century classics, Harmondsworth : Penguin, ISBN 0-14-018695-6
  • Varlam Shalamov What I've seen and learned at Kolyma camps
تاريخ النشر: 2020-06-04 15:24:36
التصنيفات: 1973 short story collections, Russian short story collections, Single-author short story collections

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الفراعنة في كأس العالم 20.. إسماعيل يوسف تيجانا الكرة المصرية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-15 15:21:09
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 51%

موعد قرعة دوري أبطال إفريقيا 2023

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-15 15:21:04
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 51%

انطلاق مقرأة كبار القراء بمسجد الإمام الحسين

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-15 15:20:44
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 62%

تأجيل قرعة دوري أبطال أفريقيا والكونفدرالية لأجل غير مسمى

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-15 15:20:43
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 52%

موقع الاسكان الاجتماعي.. استعلام عن حالة طلب بالرقم القومي

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-15 15:21:05
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 56%

أول صور لخروج دفعة من المحبوسين احتياطيًا بالعفو الرئاسى

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-15 15:20:57
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 57%

«المصيلحى»: ضخ يومى للأرز الأبيض بالمنظومة التموينية بـ10.5 للكيلو

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-15 15:20:59
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 53%

موعد امتحانات الفصل الدراسي الأول للصف الثالث الإعدادي 2023

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-15 15:21:03
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 64%

«الكهرباء» تطلق التقرير الأول عن كفاءة الطاقة فى مصر

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-15 15:21:04
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 58%

تحميل تطبيق المنصة العربية