معجزة الفن

عودة للموسوعة

معجزة الفن

معجزة الفن تحرّر المخرج من سجنه في طهران


هذا الموضوع مبني على
منطقة لابراهيم العريس
بعنوان .



من بدايات الكون وما قبل البدايات، إلى ما بعد الموت والفناء والنهايات الهادئة أوالصاخبة للعالم... من أصغر الناس وأكثرهم بؤساً إلى سيد الفاتيكان. ومن أصفى العواطف وأنبلها إلى الرهان الفاوستي على السلطة والديكتاتورية... وكذلك، من طفولة السينما حين كانت، بعد، صامتة إلى راهنها وقد باتت هناك سلطات قمعية ترغب حتى تسكتها... ومن الجسد البشري جثثاً وهدفاً للقمع إلى الجسد نفسه وقد أضحى مكاناً للاختبار والثأر... ومن الأطفال إلى الطاعنين في العمر والموت... من كلّ هذه الأقانيم ومن عشرات غيرها نهلت السينما في العام الذي ينتهي هذه الأيام لتملأ أفلام العالم بالمواضيع والحبكات. وبالتجديد المدهش. خصوصاً بالتجديد المدهش في أعمال أثارت طوال العام نقاشات وسجالات تكشف عن حيوية هذا الفن، إذا كانت هذه الحيوية لا تزال في حاجة إلى تأكيد.

ومع هذا، هوالعام الذي أعرب فيه كثر موت الشريط من مقاس 35 ملم الذي كان جوهر السينما وشكل وجودها وحاملها منذ ولادتها، أي منذ أكثر من قرن من الزمن. وهذا الإعلان لم يأتِ هذه السنة غُرابياً ناعقاً كالعادة، بل على غلاف واحدة من أبرز مجلات السينما في العالم الناطق بالفرنسية («كراسات السينما») كما في افتتاحية العدد الأخير لهذا العام من «صنوتها» الإنغلوفونية «سايت أند صاوند».

والحال أنه حين تعلن مطبوعتان من هذا المستوى أمراً ما، لاقد يكون علينا سوى الموافقة. ومهما يكن فإن ما يعلن ليس موت السينما، بالطبع، بل موت الحامل المادي الذي حمل الأفلام طوال جميع ذلك الزمن. أما الأفلام نفسها، السينما نفسها كإبداع، فإنها تواصل حياتها محققة في عام 2011، قمة ما وصله إبداعها مجتذبة كالعادة مئات ملايين المتفرجين إلى صالات العالم وأكثر من ذلك كثيراً إلى العروض المنزلية عبر الوسائل التي تحل أكثر وأكثر مكان الشريط الأسطوري 35 ملم.

غير حتى الأهم من هذا، بالتأكيد، هوذلك المنتوج الذي ضخ أعين المشاهدين وأفئدتهم وحياتهم اليومية بتلك الأعمال التي تأتي لتقول مرة أخرى، إذا الفن السينمائي يؤكّد من حديث أنه الفن الأكثـــر شعـــبية فـــي تاريخ البـــشرية كما في حاضرها. ولكـــنه أيضاً الفن الذي يحمل أكثر من أي نتاج آخر في راهن البشر، هموم هؤلاء البشر وأحلامهم ومخاوفهم واحتـــجاجاتهم، ناهيك بتاريخ المميّزين أوغير المميّزين منهم. والحال حتى استعراضاً لمواضيع مئات الأفلام التي أنتجت فـــي بلدان كثيرة وعرض أكثرها في الصالات وبعضها في المهرجانات ثم كلّها على الشاشات الصغيرة بكل أنــواعها، يضعنا من حديث وفي شكل أكـــــثر وضوحاً وحدّة من أي وقت مضى، أمام السينما وقد صارت - في شكل نهائي - ليس فقط مرآة العالم وصورته بل أيضاً بلورته السحرية في اقتراحاتها المستقبلية (وليس فقط من خلال أفلام الخيال الفهمي، بل كذلك من خلال أمثـــولات فلسفية كما في الثنائي «شجرة الحياة» و«ميلانكوليا») وخريطته الموجّهة وكتابه المطلّ ليس فقط على التاريخ بل أيضاً على التمعّن في دلالات هذا التاريخ (كما في «فاوست» وفق تفسير الروسي سوكوروف لرهان السلطة والديكتاتورية) سواء كان تاريخ الكون أوتاريخ الجمـــاعات البشرية أوحتى تاريخ الأفراد (من الراسيرة تينا بوش كما صورها فـــيم فندرز، إلى مؤسس الـ«إف بي آي» هـــوفر كمـــا صـــوره كلينت إيستوود... بين آخرين). كـــل هذا بدا حاضراً في المشهد السينمائي العالمي لـــهذا العاــم... لكـــنه لم يكن وحده ما خلق من 2011 عاماً استثنائياً.

انفلاش

إن استثنائية العام تكمن أيضاً في ذلك الانفلاش الجغرافي الذي باتت تعيشه النتاجات السينمائية ذات المعنى والأهمية. إذ سليم طبعاً حتى حصة الأسد من الأموال السينمائية في العالم لا تزال من نصيب السينما الأميركية تليها من بعيد سينمات جماهيرية أخرى كالهندية... ولكن سليم أيضا حتى أفلاماً تأتي من أنحاء كثيرة ومتنوعة من العالم باتت لها حصص ما هي الأخرى... ففي أيامنا هذه بات ثمة جمهور في صالات العالم، خارج المهرجانات وفيما يتعدى جمهور النخبة والهواة، لأفلام آتية من هجريا (كما حال «ذات مرة في الأناضول») أومن روسيا أومن إيران (وآية ذلك النجاح الجماهيري والنقدي الكبير الذي كان ولا يزال من نصيب فيلم أصغر فرهادي «انفصال»... إنما خارج إيران!) أوفيلم للفنلندي آكي كوريزماكي هو«لوهافر» الذي صوّر في فرنسا، أوآخر للأخوين البلجيكيين داردين («الطفل ذوالدراجة»). والحال أننا إذا أضفنا هنا أفلاماً كثيرة تبدأ بـ «الفنان» الفرنسي الذي يتحدث عن السينما الأميركية الصامتة، أو«نبع النساء» لرومان ميهاليانوالذي يتحدث عن نساء عربيات مسلمات... فسنجدنا أمام تلك الكوزموبوليتية التي كانت دائماً من سمات بداوة فن السينما. هذه البداوة تحضر هذا العام أكثر مما حضرت في أي زمن آخر. ولنتذكر هنا الأميركي ستيفن سبيلبرگ وقد خصّ المراهق البلجيكي بطل الشرائط المصورة «تان تان» بفيلمه الأخير وبما سيليه من مغامرات سينمائية مقبلة على ما يبدو. ولنفكر أيضاً بالنيويوركي العنيد مارتن سكورسيزي وقد حقق فيلمه الروائي الأخير عن صبي فرنسي يكتشف الحياة والسينما معاً في باريس ما قبل الحرب العالمية الثانية من خلال جورج ميلياس أحد مؤسسي هذا الفن.

إنه للافت حقاً حتى يتجه سكورسيزي، بعد سبيلبرگ بالطبع، إلى الأطفال ومجابهة العالم بعيونهم في عام لا بد لنا حتى نقول إنه كان عاماً تميّز بوفرة عدد أفلامه التي تتحدث عن الأطفال أوإليهم... وهي ملاحظة كانت فرضت نفسها علينا منذ عروض مهرجان «كان» الأخير على الأقل، حيث بدا لنا مدهشاً حتى نرصد كيف من الممكن أن أنه في الوقت الذي بدأ فيه الأطفال يختفون من السينما الإيرانية التي كانت جعلتهم كنايات ومفاتيح لفهم الراهن والمجتمع راحت تتخلى عنهم (بل تجهضهم مثلاً في فيلم محمد رسولوف الرائع «إلى اللقاء»!)، ليحضروا في سينمات أخرى أحياناً بصفتهم الجمهور الذي تتوجه إليه (ولا سيما بالأفلام الثلاثية الأبعاد التى يكاد رقابلا يظهر أسطــورياً) وأحياناً أخرى بصفتهم مواضيع أفــلام للكبــار (كما في «الطفل ذوالدراجة» أو«لوهــــافر» أو«بوليس» أو«اندلــعت الحرب» أوعشرات غيرها من أفلام متــنوعة المــواضـيع والأهــداف...).


بعيداً من الواقعية

ما الذي يجب علينا حتى نفهمه حين يهرب بابا روما من المنصب الذي انتخب لملئه في فيلم ناني موريتي، أوحين يتجابه فرويد ويونغ فهمياً من أجل امرأة هستيرية، أوحين يقرر المحقق في فيلم جيلان حتى يغض الطرف عن الحقيقة الجارحة بعد حتى تنكشف الجثة والجريمة والقاتل،يا ترى؟ ما الذي يجب حتى نعمل الفكر فيه حين تتكاتف مدينة فرنسية بأكملها في «هافر» كوريزماكي كي تنقذ طفلاً أسود من الطرد موصلة إياه إلى أمه في لندن،يا ترى؟ وكيف علينا حتى نفهم موقف الفتاة الحاضنة الصبي في «الطفل ذوالدراجة» وعشرات غيرها من المواقف غير المتسقطة في عشرات الأفلام الأخرى التي نالت حظوة حقيقية، نقدياً وجماهيرياً طوال هذا العام،يا ترى؟ هل ترى هذا كلّه يصوّر واقعاً نعيشه أونرصده في كلّ يوم؟

ليس بالضرورة... وليست أفلام هذه السينما واقعية بأي حال من الأحوال بل هي أفلام تتحدث عن كيف من الممكن أن يجب على العالم حتىقد يكون. لا أكثر ولا أقل. فالحال حتى في هذا الزمن الذي يصل فيه العالم معنوياً وأخلاقياً إلى أسفل السافلين وتكاد فيه التغييرات، سواء التلقائية أوالتي تتحقق بعمل تضحيات كبيرة أوبعمل تقدم تكنولوجيّ أوما يشبهه، تبدوالقيم على اندثار تحت وطأة الفوضى السياسية أوالاقتصادية... كما تبدوالمؤسسات الفكرية أوالجامعية أوالأممية عاجزة عن فرض أية قيم جديدة – هذا إذا أدركت ضرورة فرضها على أية حال! – وإذ يسيطر الإعلام وتخبطاطه على المشهد اليومي بكمّ الدماء السائلة فيه إلى جانب المواقف اللاأخلاقية وضروب العنف واستغباء الناس. وإذ ينزوي المفكرون والفلاسفة في الظلام يتخبطون غير قادرين على مبارحة الحواجز التي تمنع أفكارهم – مهما كان صوابها – من الوصول إلى الناس، ها هي السينما تبدووقد حلّت مكان هذا كلّه، تحمل الأبعاد الأخلاقية والرؤى الفلسفية وتعبّر عن المخاوف لكنّها في الوقت نفسه تتنطح لاقتراح الحلول والمخارج. وهي في هذا العام الذي ينتهي والذي يظهر واحداً من أكثر الأعوام ارتباكاً في التاريخ البشري المعاصر، تقول ما لم يعد في الإمكان قوله في أي مكان آخر. وهي تقوله ليصل إلى كلّ مكان... وإلى أيّ مكان. تقوله وكأنها تستحوذ لمصلحتها وعلى طريقتها مقولة ماركس الشهيرة – التي نطقها هوعن الفلاسفة في زمنه: «حتى اليوم نحا الفلاسفة إلى تفسير العالم والآن بات عليهم حتى يغيّروه»... ترى أفلا يمكننا حتى نقول عن السينما هذا القول نفسه اليوم إذ نستعرض خصوصاً توجهات أفلام العام... في وقت نتذكر فيه كيف من الممكن أن حتى آخر الأنظمة القمعية في العالم تضطهد السينمائيين أكثر ما تضطهد أي فريق آخر من المبدعين وتكاد رقاباتها وضروب منعها الأحمق تطاول الأفلام أكثر مما تطاول أية إنتاجات إبداعية أخرى؟

معجزة السينما

من فيلم شجرة الحياة تيرنس مالك

إنه سؤال تجاوز دائماً حتى طرح منذ صارت السينما تفكّر، لكنه في هذا العام يطرح أكثر مما طرح في أي زمن آخر.وذلك لأن عام الأسئلة الكبرى حول الوجود ونهاية الكون، حول الأخلاق ومصائر القيم، حول الطفولة والفن، حول الحقيقة والتاريخ وحول جميع ضروب التفاوتات العرقية والطبقية والمتعلقة بالوعي، يشرئب اليوم بعنقه ليجابه العالم وقد استوعب حتى ميدان المجابهة لم يعد سوى واحد من اثنين إما الميادين العامة وإما أمام الشاشات، مع الفهم حتى تلك الميادين العامة قد تسرق وقد يجعل السارقون من السينمائيين من أهلها أول ضحاياهم، أما الأفلام فإنها كالعصافير لها أجنحة توصلها إلى كلّ مكان وإلى أي مكان،يا ترى؟ ترى لولا تلك الأجنحة أية معجزة كان يمكنها حتى توصل، على سبيل المثال، الإيراني جعفر باناهي إلى «كان» في الجنوب الفرنسي بأحلامه وأفلامه وابتسامته الساخرة من جلاديه، في الوقت الذي كان هويقبع في شقته في طهران مكبّلاً بألف قيد وقيد؟


المصادر

  • دار الحياة
تاريخ النشر: 2020-06-04 15:24:46
التصنيفات:

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

اقتصاد أميركا يرزح تحت وطأة تضخّم متسارع تفاقمه تداعيات حرب أوكرانيا

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:40
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 93%

جزائري يصل فرنسا متخفيا أسفل الطائرة!

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:36
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 92%

ماريوبول تنتظر الممر الإنساني.. ومدينة جديدة بيد الانفصاليين

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:20
مستوى الصحة: 90% الأهمية: 89%

بوتين يسمح بإرسال "مقاتلين من الشرق الأوسط" إلى أوكرانيا

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:18
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 99%

توخيل: "أشعر بالقلق لكنني ما زلت سعيداً لوجودي في تشيلسي"

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:05
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 58%

"جسم طائر غامض" انطلق من الهند يثير غضب باكستان

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:17
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 98%

أدنوك وبورياليس تسعيان لترتيب طرح عام أولي

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:46
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 88%

أوكرانيا: خسائرنا تجاوزت 119 مليار دولار حتى الآن جراء الحرب الروسية

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:19
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 91%

صندوق النقد: تخلف روسيا عن سداد ديونها لم يعد يعتبر "مستبعدا"

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:42
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 90%

تعليق عملية بيع تشيلسي بعد فرض عقوبات على أبراموفيتش

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:05
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 65%

خبراء: لا توجد تغيرات على صادرات النفط الروسية حتى الآن

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:47
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 94%

17 قتيلا على الأقل في مواجهات قبلية جديدة في دارفور

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:13
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 85%

للحرب بأوكرانيا تأثيرات باليمن.. ومخاوف على "الأمن الغذائي"

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:17
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 96%

إصابات كورونا الأعلى منذ عامين.. غلق مدينة صينية من 9 ملايين نسمة

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:17
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 100%

الأمم المتحدة: 2.5 مليون شخص فروا من أوكرانيا لبلدان مجاورة

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:18
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 96%

استدعاء لاعبة إيرانية كتبت على قميصها "أوقفوا الحرب" بأوكرانيا

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-11 12:16:32
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 99%

تحميل تطبيق المنصة العربية