الفلك في العصر العباسي هوأحد العلوم التى وضع المسلمون أسسها؛ فمكن ذلك للأوربيين من حتى يشيدوا على هذه الأسس الدراسات الأوربية الحديثة. ولقد أصبح فهم الفلك بفضل فهماء المسلمين فهمًا استقرائيًا عمليًا يعتمد على الملاحظة الحسية والمقاييس الفهمية، مبنيًا على الأرصاد ، والحسابات الفلكية المستندة على الرياضيات البحتة والتطبيقية، فمن هذا المنطلق استطاع فهماء المسلمين حتى يعطوا تعليلاً فهميًا لحركة الكواكب والأجرام السماوية . ويوضح ذلكفؤاد سزكين في كتابه "محاضرات في تاريخ العلوم" بقوله: "نستطيع حتى نعلل نجاح فهماء المسلمين العظيم في مرحلتهم الإبداعية بما يلى:

1. إنهم استطاعوا حتى يستخدموا وساطة رياضية في حسابات المسائل الفلكية، وكانت رسائلهم الرياضية أرقى منها لدى الإغريق .
2. إنهم استطاعوا حتى يستخدموا آلات رصد أكثر تطورًا مما كان لدى الأغريق .
3. إنهم استطاعوا حتى يستخدموا مناهج رصدية كان بعضها أكثر تطورًا مما كان لدى الإغريق ، كما حتى بعض هذه المناهج كان مجهولاً تمامًا لدى الإغريق.
4. كان الفلكيون المسلمون أكثر إسهامًا في العمل من الأسلاف. وبجانب المراصد التى أنشأها المأمون أنشأ أبناء موسى بن شاكر في منزلهم مرصدًا خاصًا بهم، ثم أنشأ السلطان شرف الدولة البويهي مرصدًا في قصره ببغداد، وقد أنشأ بمصر المرصد الحاكمىّ على جبل المقطم، كما كانت هناك مراصد عديدة في الشام وأصفهان والأندلس وسمرقند.

وإلى جانب قيام المراصد الفلكية تمكن المسلمون من اختراع الكثير من الأجهزة الدقيقة التى تستخدم في عمليات الرصد مثل: المزولة الشمسية ، والساعة المائية لتحديد الزمن، ومثل الإسطرلاب العربىّ لتحديد الارتفاع وفهم الزمن والأوقات".

وكان بنوالصباح ، وهم ثلاثة أخوة يتقنون صناعة الآلات، ولهم كتاب "برهان صنعة الإسطرلاب"، وممن عالج هذه الصناعة أحمد الصاغانى ، وكان ماهرًا في صناعة الإسطرلاب حتى ضرب به المثل، وصارت آلاته التى يصنعها لها صبغة الجودة، وطابع الامتياز، حتى كان يعول عليها أكثر من غيرها، وقد تتلمذ على يديه عدد كبير من الطلاب، كما أدخل تطويرًا وزيادات قيمة على آلات الرصد القديمة. وسنحاول هنا بإيجاز التعريف بمشاهير فهماء المسلمين في الفلك وجهود جميع منهم على حدة:

البتاني

هوأبوعبد الله محمد بن جابر بن سنان البتاني. أنشأ مرصدًا عهد باسمه، ووصف الآلات الفلكية وصفا دقيقا، وهومن أوائل الذين خطوا في علوم الفلك والأرصاد ، وعده العالم الفلكى الفرنسى "لالاند" من أعظم العشرين فلكيًا المشهورين في العالم كله، وقد وضع كتابه "الزيج الصابئ"؛ فكان أول زيج يحتوى على معلومات سليمة دقيقة، وأرصاد كان لها أثر كبير في فهم الفلك خلال العصور الوسطى عند العرب وأوائلعصر النهضة في أوربا .

ويذكر ابن النديم أنه: ظل يؤلف في هذا الكتاب من سنة (264هـ) إلى سنة (306هـ) وقد جمع فيه جميع الخبرات السابقة، وخلاصة ما اهتدى إليه، فأثبت فيه جداول فلكية تتعلق بحركات الأجرام السماوية ، وأوضح الكواكب الثابتة لسنة (299هـ)، كما يمكن استعمال هذه الجداول في فهم: الشهور، والأيام، والتواريخ الماضية. وبها أصول مقررة لفهم "الأوج" -وهوأبعد نقطة للكواكب عن الأرض- و"الحضيض" -وهوأقربها من الأرض-، وكذلك فهم: الميول، والحركات واستخراجها.

وهوأول من استخدم حساب المثلثات في فهم الفلك . ومن مؤلفاته: "رسالة في عمليات التنجيم الدقيقة"، و"كتاب عن دائرة البروج والقبة الشمسية"، وكتاب "تعديل الكواكب"، وكتاب منشور باسم "فهم النجوم"، وغير ذلك. واستعانت أوربا في نهضتها بمؤلفات البتانى ، ويقول "ديفيد سميث" في كتابه "تاريخ الرياضيات": "نال البتانى شهرته العظيمة في تطويره لفهم الفلك. وترجمت مؤلفاته في هذا المجال من اللغة العربية إلى لغات أوربية كثيرة". وليس من قبيل المبالغة قول البروفيسور الأمريكى "دير سترويك" في كتابه "ملخص تاريخ الرياضيات": "إن البتاني أعظم عالم عربى في فهم الفلك عبر التاريخ".

أبوالحسن الصوفي

وهوأبوالحسن عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سهل الصوفى، المتوفى سنة (376 هـ). وكان أبوالحسن الصوفى يمتاز بالنبل والذكاء ودقة رصده للنجوم، وقد نال بذلك شهرة كبيرة، باعتباره واحدًا من أعظم فهماء الفلك في الإسلام ، واعترف فهماء الشرق والغرب بقيمة مؤلفاته في الفلك ، ودقة وصفه لنجوم السماء؛ الذى يساعد على فهم التطورات التى تطرأ على النجوم، ومن مؤلفاته الهامة كتاب "النجوم الثابتة" وهومن أحسن الخط التى وضعت في فهم الفلك حيث جمع فيه أكثر من ألف نجم، ووشاه بالخرائط والصور الملونة، ورسم أشكال النجوم على صور الأناسى والحيوان، وذكر أسماءها العربية التى لا يزال بعضها مستعملاً حتى الوقت الحاضر، مثل: الدب الأكبر، والدب الأصغر، والحوت، والعقرب . واعتمد الفلكيون المحدثون على مؤلفات الصوفى، لحساب التغير في ضوء بعض النجوم، كما أنه كان أول من لاحظ وجود سحابة من المادة الكونية تعهد الآن باسم "سديم مسييه".

ومن أشهر مؤلفاته أيضا كتاب "صور الكواكب الثمانية والأربعين". وقام فيه بمراجعة النجوم التى وردت في كتاب المجسطى لبطليموس بدقة متناهية امتدحها مترجمه الدنماركى "شيليرب" بقوله: "قد أعطانا الصوفى وصفًا عن السماء المرصعة بالنجوم بصورة أحسن مما توفر من قبل، وقد بقى هذا الوصف لتسعة قرون دون حتى يوجد له نظير"، ولا تخلوأى مخطة من مخطات الغرب كالاسكوريال ، والمخطة الوطنية في باريس ، ومخطة ليدن بهولندا، ومخطة بولدين في أكسفورد ، والمتحف البريطانى - من نسخة من مؤلفات أبى الحسن الصوفى فىالفلك ، علاوة على النسخ المتوفرة في المخطات الفهمية في البلاد العربيةوالإسلامية . ومن مؤلفاته أيضًا: كتاب "الكواكب الثابتة"، و"الأرجوزة في الكواكب الثابتة"، وكتاب "العمل بالإسطرلاب"، وغير ذلك.

البوزجاني

هوأبوالوفاء محمد بن يحيى بن إسماعيل بن العباس البوزجانى، ويعتبر أبوالوفاء من أبرز فهماء الفلك، وقد نال شهرة عظيمة؛ لإقامته مرصدًا في بغداد؛ ولشروحه وتعليقاته على مؤلفات إقليدس ، وديوفانتوس ، وبطليموس . كما قام بإجراء تسليمات في الجداول الفلكية التى وضعت أيام المأمون ، وجمع نتائج بحوثه في كتاب "الزيج الكامل".

وفى سنة (388هـ) اهتدى أبوالوفاء إلى معادلة مثلثية توضح مواقع القمر ، سماها "معادلة السرعة"، وحاول العالم الفلكى الدنماركى "تيخوبراهى" انادىء ذلك له، ولكن الباحثين الغربيين جهروا بالحق، وبينوا حتى أبا الوفاءالبوزجانى هوصاحب الفكرة، وقام بعضهم بإطلاق اسمه على فوهة بركان على سطح القمر تخليدًا له. وله مصنفات فهمية نافعة في الفلك ، والرياضيات من أهمها: كتاب في عمل المسطرة ، والبركار ، والكونيا . وقد ترجم الأوربيون هذا الكتاب وسموه باللغة الإنجليزية "Geometrical Construction"؛ وبفضل هذا الكتاب تقدم فهم أصول الرسم تقدمًا واسعًا. وله مؤلفات أخرى كثيرة.

ابن يونس

هوأبوسعيد على بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفى المصرى، وقد أجمع المؤرخون في تاريخ العلوم على حتى ابن يونس يعتبر أعظم فلكى أتى بعد البتانى وأبى الوفاء البوزجانى. وقد ذكرت المؤلفة "زيغريد هونكه" في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب" حتى ابن يونس من أعظم فهماء الفلك ومن مؤلفاته "الزيج الكبير الحاكمى" وفيه أرصاد الفلكيين القدماء وأرصاد ابن يونس المتعلقة بالخسوف، والكسوف، واقتران الكواكب.

وقد رصد بكل نجاح كسوف الشمس ، وخسوف القمر في القاهرة عام (368هـ). وتصف الموسوعة البريطانية ذلك الرصد بأنه: "أول كسوفين سجلا بدقة متناهية، وبطريقة فهمية بحتة، كما استفاد منها في تحديد تزايد حركة القمر ، كما صحح ميل دائرة البروج، وزواية اختلاف النظر للشمس، كما وفق إلى وضع فصل شرح فيه ماهية الإشعاع المنبعث عن النجوم بحسب الرأى العام. وقد اتسمت أبحاثه الفلكية بالطابع الدينى؛ حتى أنه مهد لكتابه هذا بمقدمة عظيمة حصر فيها جميع الآيات المتعلقة بخلق السموات والأرض، واخترع ابن يونس "الربع ذوالثقب"، و"بندول الساعة". وليس بسليم نسبة اختراع هذا البندول إلى العالم الإيطالى "جاليليو"؛ فقد اخترعه ابن يونس قبل "جاليليو" بستة قرون، وقد اعترف لهذا العالم بفضل السبق فهماء أوربا أنفسهم، كالعالم الفرنسى "سيديو"، في كتابه "تاريخ العرب"، والعالم الإنجليزى "تايلر سميث" في كتابه "تاريخ الرياضيات".

ويقول "كاررول نلينو" في كتابه "فهم الفلك وتاريخه عند العرب في القرون الوسطى": "إن ابن يونس الصدفى هوالذى اخترع الرقاص "البندول"، وهذا الحدث أمر لا تقدر قيمته ونتائجه على البشرية أجمع".

أبوالقاسم المجريطي

هوأبوالقاسم مسلمة أحمد المعروف بالمجريطى، ولد في مجريط وهى مدريد عاصمة أسبانيا اليوم. ويعتبر أبوالقاسم المجريطى من نوابغ فهماء المسلمين في الأندلس ، إذ كان موسوعة زمانه في جميع فروع الفهم ، وبنى في قرطبة مدرسة تتلمذ فيها عليه كثير من كبار فهماء الرياضيات ، والفلك ، والطب ، والفلسفة ، والكيمياء ، والحيوان . وكانت هذه المدرسة أشبه بمعهد فهمى يضم العلوم البحتة والتطبيقية. ويقول عنه خير الدين الزركلى في موسوعته "الأعلام": "كان إمام الرياضيين بالأندلس، وأوسعهم إحاطة بفهم الفلك وحركات النجوم". وأضاف سيد حسين نصر في كتابه "العلوم والحضارة في الإسلام" قائلا: "عهد المجريطى عند الأوربيين بأنه أول من علق من فهماء المسلمين في الأندلس على الخريطة الفلكية لبطليموس ورسائل إخوان الصفا والجداول الفلكية للخوارزمي"

وللمجريطى رسالة عن الإسطرلاب ترجمها إلى اللغة اللاتينية "جون هسبالينسيس"، وكذلك تعليق على إنتاج بطليموس ترجمه إلى اللاتينية "رودف أوف برجس" في أوائل القرن العشرين الميلادى. وعكف المجريطى على التصنيف فألف في فروع الفهم المتنوعة مثل: الرياضيات، والكيمياء، والحيوان، والفلك ، وغيرها. ونذكر من تصانيفه في الفلك "اختصار تعديل الكواكب من زيج البتاني"، و"رسالة في الإسطرلاب"، وكتاب شرح فيه كتاب المجسطى بطليموس. وغير ذلك.

أبوسهل الكوهي

هوأبوسهل بن رستم الكوهى. اشتهر بالعلوم التطبيقية عامة، وبفهم الفلك خاصة. واشتهر بصنعة الآلات الرصدية ، وإجراء الأرصاد الدقيقة؛ فكان من نوابغ فهماء الفلك في القرن الرابع الهجرى، يقول "سيديو" عنه في كتابه "تاريخ العرب العام": "إن الكوهى يعتبر من أعظم فلكيى عصره، فهومن الفهماء الذين لهم الوزن الثقيل عند شرف الدولة بن عضد الدولة؛ حيث إنه كان يعتمد على أرصاده الفلكية، ويستشيره في أموره الهامة". وانتقد الكوهى بعض فرضيات فهماء اليونان في الفلك ، ويعزى إليه تفسير الانقلاب الصيفى، والاعتدال الخريفى؛ لذا نجد حتى شرف الدولة بن عضد الدولة اعتمد عليه سنة (378هـ) في رصد الكواكب السبعة في مسيرها وتنقلها في بروجها. كما حتى مؤلفات أبى سهل الكوهى تنم عن دقة التعبير والتحليل المنطقى، لذا نجد فهماء الغرب تسارعوا إلى دراسة إنتاجه خلال عصر النهضة الأوربية وترجمته من اللغة العربية إلى كثير من اللغات الأوربية، ومن هذه المؤلفات: كتاب "صنعة الإسطرلاب بالبراهين" -وهومنطقتان-، وكتاب "الأصول على تحريكات إقليدس"، وكتاب "السائرة في الأمطار على تمادى الإعصار"، وغير ذلك.

البيروني

هوأبوالريحان محمد بن أحمد البيروني. لم يقتصر فهمه على الفلك ، بل برز في الرياضيات ، والطب ، والأدب ، والتاريخ ، والفلسفة ، ويمتدح "نللينو" البيرونى بأن له طول باع فىفهم الفلك في كتابه "فهم الفلك: تاريخه عند العرب في القرون الوسطى" قائلا: "إن البيرونى أعظم المبتكرين والمبتدعين وأكبر المفكرين في العلوم الفلكية، والرياضية، والطبيعية بين فهماء العرب المسلمين، وكتابه النفيس المعروف "بالقانون المسعودى"، منبتر النظير، لأنه جامع، شامل، غزير المادة، دقيق المباحث، يشير على نبوغ وعبقرية وذكاء خارق". ووصفه الأستاذ "إدوارد شامو" بقوله: "إن الشيخ أبا الريحان البيرونى أعظم مفكر ظهر على وجه البسيطة". وقد اهتم البيرونى بفهم الفلك حتى أنه استنتج من دراسته، رصد الكسوف والخسوف ، وأن الشمس أكبر من الأرض ، وأكبر من القمر . كما شرح البيرونى بطريقة واضحة، الشفق والغسق ، وحسب محيط الأرض بدقة فائقة، وحدد القبلة التى يتجه إليها المسلمون عند أداء صلاتهم، مستعملاً نظرياته الرياضية.

نصير الدين الطوسي

من الفهماء الذين لهم مساهمات واضحة وجهود عظيمة في الفلك ، وقد أسند إليه المستعصم المرصد الفلكى في مراغة، الذى اشتهر بآلاته الفلكية الدقيقة، وأرصاده الضابطة، ومخطته الضخمة، وفهمائه الفلكيين الذين كانوا يأتون إليه من شتى أنحاء المعمورة؛ لنهل الفهم وهم من أمثال: فخر الدين المراغى من الموصل ، ومحيى الدين المغربى من الأندلس ، والقزوينى من قزوين ، وغيرهم من فطاحل الفهم. ويقول عنه جورج سارتون في كتابه "تاريخ العلوم": "إن نصير الدين بذل جهدًا كبيرًا يحمد عليه في دراسة مخطوطات إخوانه فهماء المسلمين الذين سبقوه، خاصة تلك التى تدرس الأجرام السماوية ، وحركتها، والمسافة بينهما وبين الأرض . وكثير من المؤلفين في تاريخ العلوم ينسبون إلى نصير الدين الفضل في التعريف بقوس قزح، وتحليل العوامل الفيزيائية التى تحدثه، وما لذلك من أهمية في دراسة الكون، ومن جهة أخرى ذكر "جورج سارتون" في كتابه "المدخل إلى تاريخ العلوم": حتى نصير الدين الطوسى انتقد بطليموس وما قدمه في المجسطى، وهذا يشير على عبقرية وطول باع نصير الدين في الفلك، ويمكن القول بكل صراحة: إذا انتقاده هذا كان خطوة تمهيدية للإصلاحات التى قام بهاكوبرنيكس في العصر الحديث.

والجدير بالذكر حتى نصير الدين كان أول من عقد مؤتمرًا فهميًا عالميًا اجتمع فيه الكثير من فهماء الشرق والغرب في مرصده بمراغة؛ للمشاركة معه في مراصده الفلكية التى أقامها هناك.

ومن تصانيفه في الفلك: كتاب "الزيج الأيلخانى"، "ظاهرات الفلك"، "جرما الشمس والقمر"، "الأرسطرخس"، "زيج الزاهي"، "منطقة في أعمال النجوم"، كتاب "الهيئة" وغيرها.

المصادر

موسوعة الحضارة الإسلامية