ملحمة جلجامش

عودة للموسوعة

ملحمة جلجامش


ملحمة جلجامش (أوملحمة كلكامش) هي ملحمة سومرية مكتوبة بخط مسماري على 11 لوحا طينيا اكتشفت لأول مرة عام 1853 م في مسقط أثري اكتشف بالصدفة وعهد فيما بعد أنه كان المخطة الشخصية للملك الآشوري آشوربانيبال في نينوى في العراق ويحتفظ بالالواح الطينية التي خطت عليها الملحمة في المتحف البريطاني. الألواح مكتوبة باللغة الأكادية ويحمل في نهايته توقيعا لشخص اسمه شين ئيقي ئونيني الذي يتصور البعض أنه محرر الملحمة التي يعتبرها البعض أقدم سيرة خطها الإنسان.

التاريخ

لوح الطوفان من ملحمة جلجامش الأكادية
جلجامش

تعد ملحمة جلجامش الرافدية، أبرز وأكمل عمل إبداعي أسطوري شعري، خطت سطوره منذ العهد السومري في الفترة الواقعة بين (2750و2350) قبل الميلاد عن الملك جلجامش الذي عاش في مدينة أوروك «الوركاء» الواقعة في وادي الرافدين على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وقد تشكلت حول شخصه باقة من الحكايات الأسطورية والبطولية، التي تسرد أخبار أعماله الخارقة، وسعيه المستميت إلى فهم سر الحياة الخالدة.

لقد تطورت هذه الملحمة في إبداعات شعرية كُتبت على الرقم الكتابية المسمارية منذ العهد السومري، ثم تلتها محاولات في العهود الأكادية والحثية والبابلية والحورية، وكان ظهورها بشكل تام في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، وهي الصيغة التي كشفتها أعمال التنقيب الأثري من مخطة قصر الملك «آشور بانيبال» في مخطة نينوى.

لقد خط عن هذه الملحمة دراسات لا تعد ولا تحصى، وأُشبعت نقداً وتمحيصاً ومعالجة، ومع ذلك مازلنا نتابع بين الحين والآخر دراسات جديدة عنها، ونقرأ روايات وقصص ومعالجات إبداعية مستمدة من وحيها، وأعتقد حتى السّر في هذا الاهتمام والإعجاب يعود إلى حتى هذه الملحمة مازالت متلفَّعة بغطاء الخيال، ومعتمرة طاقية الأسطورة، وتشخّص واقع الإنسان ومشكلاته الأبدية، التي يتمحور حولها السؤال الأزلي: ما الغاية من الحياة؟! ولماذا نموت بعد حتى جئنا إلى ساحة الحياة ومشينا في دروبها ؟! وهذه الأسئلة لا إجابة قاطعة حولها.. الأدب الحقيقي هوالذي يعالج ما يعجز عنه الفهم، ويقابل أزمات الإنسان النفسية، ويداوي آلامه، ويضيء آماله.. من هنا يمكننا حتى نعهد سر هذا الاهتمام العالمي بملحمة جلجامش التي تحلّق بنا في فضاءات بعيدة عن الواقع المأساوي، إلى عالم مثالي زاخر بالخير والحق والجمال...

لقد مزجت هذه الملحمة الحقيقي بالأسطوري، والواقع بالخيال، وكانت واقعيتها مزخرفة بالحكمة، وخيالها متسربل بالرمزية.. هي واقعية من حيث تناول الإنسان حياة وموتاً، وهي رمزية لأن أحداثها المفرطة ذات دلالات عميقة، وأسطورتها ذات مرامٍ بعيدة، حول هذه الفكرة يقول الدكتور علي القاسمي: «جَزَعُ جلجامش بعد موت صديقه الحميم أنكيدو، هوشعور ينتاب جميع إنسان لدى فقدان عزيز عليه.. أما إطاحة جلجامش للأسوار الحصينة، ونزاله مع الثور السماوي الهائج، وصراعه مع الجنّي «خمبابا» الذي اعترض طريقه في غابة الأرز، إنمّا ترمز إلى هدم الإنسان للحواجز التي تعيق تواصله مع أخيه الإنسان، وإلى الصراع بين الخير والشر».

يعتقد حتى النسخة الأكادية من الملحمة التي تم العثور عليها مستندة على نسخة سومرية يرجع تاريخها إلى 2100 سنة قبل الميلاد. بعد سنوات من اكتشاف الألوح 11 تم العثور على لوحة أخرى يعتبرها البعض تكملة للملحمة والبعض الأخر يعتبره عملا مستقلا وسيرة أخرى لأنه خط بأسلوب اخر وفيه لايزال أنكيدوعلى قيد الحياة. تم ترجمة الملحمة لأول مرة إلى الإنكليزية في سنوات تلت عام 1870 من قبل جورج سميث الذي كان عالم آثار متخصص في الفترة الأشورية في التاريخ القديم والذي توفي عام 1876.


الملحمة

نص ملحمة جلجامش. للقراءة، اضغط على الصورة.

الديمقراطية والحرية

بعد هذه المقدمة نبدأ بالدخول إلى روح الملحمة، الروح الحية التي تجذبنا إليهاـ رغم البعد الزمني الكبير بينناـ وسندخل من باب الحرية والديمقراطية التي كانت سائدة في ذلك العصر، وحتى يمكننا فهم طبيعة الحكم في اورك نتناول مسألة تتعلق بحياة الناس العامة، وكيفية اتخاذ القرارات بشكل جماعي فيما يتعلق بمستقبل المجتمع، إذا كانت تلك الإجراءات المقترحة تتفق أوتتعارض سياسة الحاكم أوالملك، ونستطيع القول حتى هناك نظام ديمقراطي عثر في مدينة اورك، تمثل في مجلس شيوخ (الحكماء) ومجلس شباب (المحاربين)، وكانا يعقدان الاجتماعات للنظر في أمر (أجا) حاكم مدينة كيش الذي أوفد مبعوثين إلى اورك، يحملون معهم إنذارا نهائيا لتسليم اورك للملك الغازي، وكان قرار الشيوخ وتسليم المدينة، ولكن مجلس الشباب اجتمع وبحث الأمر ولم يوافق على التسليم، وقد أثبت قرارهم تاريخياً.

إن رسل (أجا) بن (أنميبارا جيسي)
ساروا من كيش إلى جلجامش في اوراك
ونطق لهم
علينا إلا نذعن لبيت كيش ولنحارب بالسلاح
لكن مجلس شيوخ المدينة المنعقد أجاب جلجامش
لنذعن إلى بيت كيش ولا نحارب بالسلاح
إن جلجامش سيد كللاب مرة أخرى
عرض الأمر على محاربي مدينه وطلب القرار
فأجاب مجلس المحاربين المنعقد جلجامش
لن نذعن لبيت كيش ولنضربه بالسلاح

أن هذا الأسلوب الديمقراطي كان سمة ذلك العصر، ولم يكن لحاكم حتى يتصرف بمصير الشعب كما يشاء، وكان مثل هذه الاجتماعات تتكرر حدثا تطلب الأمر، وها هومجلس الشيوخ في اورك يجتمع للنظر في سفر جلجامش وانكيدوإلى غابة الأرز،

في الساحة العامة اجتمع الشيوخ
أنت شاب، والشباب كثير الحماسة
أنت طموح وطموحك مضى بك بعيدا
سمعنا بان خمبابا لا كسائر الخلائق
أسلحته ثقيلة لا تقهر
لخمبابا زئير كهدير الطوفان
النار تنبعث من فمه، يتنفس موتا
لا احد يجرؤ على الوقوف في وجهه

نجد هنا المعارضة من الشيوخ بكل عنفوانها، فهم يخاطبون الملك بحدثات حادة " أنت شاب ... كثير الحماسة وطموحك ... بعيدا" وهذا يؤكد حرية الاختلاف وحرية الرأي وحرية المعارضة، وهذه المعارضة مبنية على حجج ومعلومات، وليس فقط لمجرد الاختلاف والمعارضة، فكان الخوف على جلجامش باني مدينة اورك وسيدها، من دفعهم لمثل هذا الكلام الغليظ، وجعلهم يذكرون أمامه معلوماتهم عن حارس الغابة ـ خمبابا ـ، الذي يمتلك قوة كبيرة تتجاوز قوة البشر بكثير.

هذا الحضور لمجلس الشورى في اورك يجعلنا نفتخر ونشعر بالارتياح لما كنا عليه، ويجعلنا نندفع أكثر للمطالبة بهذا العمل الاجتماعي ـ حرية الرأي ـ الذي يحمي الأمة من كافة الأخطار والتهديدات والمشكلات الداخلية والخارجية، ونندهش تماما عندما نفكر بهذه المدينة التي مارست عمل الديمقراطية قبل أكثر من 4700 عام، ونحن في هذا الزمن ـ العربي ـ مازلنا عاجزين وخائفين عن التقدم خطوة نحوه، وها هم الغربيون إلى غاية هذه الساعة ما زالوا يفتخرون بمجلس شيوخ روما، الذي تواجد في حدود 500 ق م، ونحن أصحاب مجلس الشيوخ والشباب قبلهم ب 2200، لا نذكر تاريخنا الديمقراطي المشرف، ولا نعهد عنه شيئا.

هذا على صعيد الديمقراطية في الحكم أوالشورى، أما في حالة النفور الشعبي من الحاكم، فكان يسمح للناس حتى يشكوا همهم وطرح مشاكلهم ويتحدثوا عن سلبيات الحاكم بكل حرية وبدون أية ضغوطات أوتهديد، وهذا ما تخبرنا به الملحمة.

أشراف اوروك كئيبون في منازلهم
طغيانه لا يكبح إذا بالنهار أوالليل
نواحهم أناتهم بلغت مسامع الآلهة في السماء

من خلال هذه النصوص التاريخية يتأكد لنا نحن سكان الهلال الخصيب أننا أول الشعوب التي مارست حق المعارضة وإبداء الرأي بكل حرية وبدون خوف، ونحن أول من استخدم النظام الديمقراطي أوالشورى في العالم، فنحن السباقون في هذا المضمار، ونحن من فهم الآخرين الديمقراطية.


المقدس

بعد الحديث عن الديمقراطية تنقلنا الملحمة إلى حديث آخر شيق ويمثل المحرمات والمحضورات التي لا يمكن التحدث عنها ابدا، لكن في أجواء من الحرية والتفهم للآخر التي سادت في بلادنا، استطاع محرر الملحمة تناول هذه المحضورات والمحرمات دون خوف من حساب أوعقاب السلطة، وهذا جانب إضافي للحرية التي تمتع بها سكان الهلال الخصيب في الماضي، وهوما لم يكن متاح للآخرين الحديث عنه أوفيه أوحتى الإشارة إليه لا من قريب أوبعيد، وهنا دلالة قوية على استمرار الروح المتمردة والرافضة التي سادت في العصور الحضارية القديمة، وكذلك تأكيد على حرية الرأي وانفتاح العقل على كافة المسائل العقائدية والايدولوجية، فإذا جاز لنا عصر السومريين ومن اتى بعدهم بتناول المسائل العقائدية والفكرية وما يتبعها من عبادات بكيفية التحليل وإعادتها إلى المنطق العقلاني، فما بالنا نحن اليوم نغض بصرنا وبصيرتنا عن كثير من الأمور التي لم تعد تصلح لشيء، عند عرضها أمام المنطق ووضعها أمام التحليل والتفسير!. أن الملحمة تؤكد المسار الرافض الذي لا يمكن حتى يسلم للعادة أوللأفكار التقليدية السائدة، وتطرح فكرة التمرد، وتطالبنا بالفض والكف عن اخذ واعتناق واحترام المقدسات إذا خالفت وتعارضت مع فكر الإنسان، فهي ترفض حتىقد يكون هناك شيء غامض على الإنسان، وتسعى إلى كشف الغموض وإزالة الغباش، وتريد حتى تجعل من الإنسان موازيا وبمستوى القدسية، ذوهالة ومكانة رفيعة، من هنا تخبرنا الملحمة بأنه لا يوجد من هوأعظم من الإنسان الفاعل الذي يبحث عن التغير، واضعا جميع الأفكار المثبطة وراء ظهره، ساعيا بكل عزيمة وإصرار نحوهدفه، وها هوجلجامش يصل إلى اوتنابشتم الخالد، ويخاطبه بهذا الشكل:

نطق جلجامش له اوتنبشتم
ها أنذا جئت له لاوتنبشتم
الذي يلقبونه بالبعيد
طفت جميع البراري والقفار
اجتزت الجبال الشاهقة
عبرت جميع البحار
لم ينعم وجهي بالنوم الهنيء
قتلت الدب والضبع والأسد والنمر
والأيل والوعل وجميع حيوان البر
أكلت لحومها، اكتسيت بجلدها، وها أنا

بداية اللقاء بين جلجامش واوتنابشتم الحاصل على الخلود من الآلهة كانت حاسمة، بدلا من ذكر أمجاد ومآثر اوتنبشتم المخلد يتحدث جلجامش عن أمجاده وبطولاته، متجاهلا الخالد وكأنه احد العامة الضائعين بين المجموع، أوـ بحالة افضل ـ يتماثل معه في المكانة حتى لم يكن اقل منه، اتىت حدثات جلجامش فيها العظمة لنفسه وتحمل السخرية أوالاستهتار لاوتنابشتم، وفحوى الحدثات "أنا البطل عبرت الجبال وبحر الظلمات وصرعت الأسود والوحوش وشاهدت المخلوقات العجيبة فمن هواعظم مني؟، أنت يا اوتنابشتم البعيد وصلت إليك فأي منا العظيم؟"، وبعد هذه الحدثات يحاول اوتنابشتم حتى يظهر حكمته أمام جلجامش فيتحدث عن مسار الحياة على الأرض، وكيف حتى جميع من عليها فان:

إن يبني بيوتا تدوم إلى الأبد؟
من يبتر عهدا يدوم إلى الأبد
الناس يرثون، يقتسمون، فأي ارث يدوم إلى الأبد
البغضاء، حتى البغضاء، أتبقى إلى الأبد؟

ولكن جلجامش يعهد هذه الحقائق ولا يريد من احد حتى يذكره بها، ولهذا اتى إلى البعيد اوتنابشتم ليحصل منه على سر الخلود، فقد سمع الكثير عن استحالة الخلود، من بداية رحله إلى حتى تمكن من لقاءة الخالد اوتنابشتم، ولهذا كان رد جلجامش قاسيا مدويا، يحمل الألم والرغبة والإصرار والانفعال معا:

انظر إليك يا اوتنابشتم
شكلك عادي، واراك مثلي
نعم شكلك عادي، واراك مثلي
قد صورك لي جناني بطلا على أهبة القتال
لكن ها أنت مضجع على جنبك أوقفاك

لواطلعنا على كافة الأدب القديم، لما وجدنا صورة تصغير للعظماء بهذا الشكل، فهذا الخالد يتلقى حدثات جافة وقاسية من إنسان من المفترض حتى يفنى، والخالد بهذه الوضعية لا يستحق ما عليه من هالة وعظمة، واتىت حدثات جلجامش مكررة "شكلك عادي واراك مثلي" لتوحي لنا بان اوتنابشتم أصيب بالاندهاش من طريقة مخاطبته، ولهذا أعاد على مسمعه عين الجملة، لقد أراد جلجامش بذلك حتى يزيل التميز والتفرقة بين البشر، فإذا كان شكل اوتنابشتم مثل شكل جلجامش، فيجب حتىقد يكون هناك مساواة بينهما، فلاقد يكون هناك من يفنى ويموت وآخر يبقى خالدا وإلى الأبد، وحتى لوكان هذا التفضيل صادر عن الآلهة، فهومرفوض، ويجب إعادته إلى طريق الصواب، وحسب رغبة البشر، وهناك مطلب آخر لجلجامش يتمثل بانقد يكون التميز ـ حتى عثر ـ على أساس القدرات والإرادة الفاعلية، وليس على أساس إرادة وثنية لا تفرق بين الفاعل والنائم.

من هنا نستطيع القول بان جلجامش أول من طالب بازلة التفرقة بين البشر، وانقد يكونوا متساوين في جميع شيء، ولكي يثير جلجامش اوتنابشتم، خاطبه بحدثات هاتى مستخدما الحالة الراكدة والساكنة التي عثر بها اوتنابشتم، ولكي يزيل الهالة والهيبة التي يتمتع بها اوتنابشتم، وهذا ما تم عملا، من خلال الاستغراب الذي أظهره جلجامش لمشاهدته ذلك الخالد مستلقيا على قفاه باستكانة، وإذا وضعنا الحدثات التي تحدث بها جلجامش عن أمجاده، مع ما خاطب به اوتنابشتم، نفهم منها الاتي ( أنا جلجامش الذي قام بأعمال البطولة الخارقة واستطعت الوصول إليك أيها الخالد البعيد، لكي أسالك عن سر الحياة، أجدك أدنى مني منزلة ) ولهذا كان استغراب جلجامش على الكيفية التي حصل بها على الخلود، مع انه اقل منه فاعلية وإرادة، ولهذا ألغى سؤاله عن سر الحياة لأنه عثر اوتنابشتم اقل من حتى يعهد سر الحياة والموت، وسأله عن الكيفية التي حصل بها على الخلود:

قل لي كيف من الممكن أن دخلت زمرة الآلهة وفزت بالخلود؟

هذا انقلاب تام في مفهوم جلجامش عن الآلهة والنظام الذي تفرضه على البشر، وعلى اختيارها للنخب الخالدة، وهذا السؤال بمثابة رفض وتمرد وثورة على القرارات التي تتخذها، فقد اتى التحول في موقف جلجامش وكأنه صفعة للآلهة ولاوتنابشتم أيضا، وإذا عدنا إلى النص الملحمي نجد جلجامش أكثر حضورا واقناعا من اوتنابشتم، وهذا عامل إضافي يضاف إلى الحيوية الفكرية التي تطرحها الملحمة، فهي كانت تسموبالإنسان إلى أعلى عليين، متجاوزة القديسين وبقاءهم في حالتهم الساكنة بدون فاعلية أوتأثير، ونعتقد بان محرر النص الملحمي يريدنا حتى لا نهتم كثيرا بالقصص والبطولات التي تم انجازها في غابر الزمن، فنحن قادرون على تحقيق ما أعظم منها بكثير، إذا امتلكنا عقلية جلجامش المتمردة وإرادته الصلبة، وهذا ما تم للإنسان جلجامش الذي تفوق على الخالد اوتنابشتم من خلال انجازاته وبطولاته.


الآلهة

بعد الحديث عن المقدسين، تنقلنا الملحمة صعودا نحوالأعلى، إلى حديث آخر أكثر جرأة وحساسية، عن الكائنات التي يجب الحديث عنها ـ بشكل دائم ـ بكل إجلال واحترام، لقد كان وما زال تناول المسائل الدينية يحمل الحفيظة والحساسية للجميع، والتطرق إليها بالنقد والتجريح يولد النفور وربما العداء، إلا حتى جلجامش لا يعهد حدودا للمحرمات، وكل من يخطيء يجب محاسبته، ولقاءته بكل جرأة، وان لا نهجر هذا الخاطيء يمر مرور الكرام، واقفين ساكنين أمام أخطائه وزلاته، حتى لوكانوا من الالهة، وها هوجلجامش يقابل الربة عشتار بالتجريح والشتائم والضرب، لأنها حاولت الإيقاع بالإنسان لأهوائها ورغباتها:

تعال يا جلجامش وكن عريس
هبني ثمارك هدية
كن زوجا لي وأنا زوجا لك
سأمر لك بعربة من ألازورد، ومضى
عجلاتها من مضى وقرونها من كهرمان
تشد إليها عفاريت العاصفة بغلا عظيمة
وملفوفا بشذى الأرز بيتا
قبلت المنصة قدميك والعتبة
وانحنى لك الملوك والحكام والأمراء
يضعون غلة السهل والجبل أمامك، تقدمة
ستحمل عنزاتك توائم ثلاثة، ونعاجك مثنى
سيبز حمارك أثنطق البغال
وخيولك تطبق الآفاق شهرة جريها
أما ثيرانك فلنقد يكون لها تحت النير نظير

قد لا يجد القارئ بهذا الاقتباس أية اهانة أوتصغير للربة عشتار، ولكن إذا أمعنا النظر جيدا، نجد في حدثاتها التي نطقتها ـ ربة معبودة من البشر ـ تطالب بمتعة دنيوية زائلة، نجد فيها ما أكثر من اهانة وتصغير، إذا الطرح الذي قامت به عشتار أدنى من حتى يقدم علية إنسان يحمل أدنى شيئا من الكرامة، فما بالنا بكائن معبود،يا ترى؟ ،فمطلبها الاقتران بجلجامش هومرشد واضح على إنها وجدت في الإنسان شيئا غير موجود عند الآلهة، وهويمتلك أشياءً لا تملكها الآلهة نفسها، وهذا منح الإنسان مكانة تفوق مكانة الآلهة، وما أثار حفيظة جلجامش أنها اتىت تتحدث عن مصالح مادية فقط، ولم يحمل كلامها أية فضائل أومواقف أخلاقية، وهذا أظهرها من صغار البشر، فقد كان الأجدر بها حتى تذكر الفضائل الأخلاقية وسماتها وهيبتها المقدسة، وليس مصالح يجنيها جلجامش، فقد كان تفكير عشتار منصباً فقط على متعة جنسية ومادية فقط، أما جلجامش فلم تكن له أي اهتمام بهذه الإغراءات والامتيازات، وكذلك لم تكن ذات قيمة في نظره مطلقا، وهي ذات ثروة عظيمة في نظرها، وهنا تأتي المفارق بين الإنسان ومن هوأعلى منه مكانة، حتى عشتار التي ترغب حتى تشتري جلجامش بتلك البضاعة الغالية ـ في نظرها ـ، لقاء حتى يدفع جلجامش ثمنا زهيدا جدا ـ الاقتران بها ـ هذا الموقف جعل من جلجامش عظيما ومن عشتار الدنيئا.

كان من مصلحة جلجامش المادية الموافقة على طلبها، إلا حتى عظمة الإنسان تحول دون الإقدام على هذا الأمر، فجلجامش عثر عشتار قد سقطت إلى المنزلة السفلى، من خلال إغوائها وتقديمها الإغراءات والمكاسب المادية فقط، وهذا العمل الدنيء لن يمر دون حساب وعقاب، خاصة إذا كان القاضي جلجامش الذي لا يعهد المهادنة أوالمجاملة، وهوالذي عثر ليدافع عن الإنسان، ويقابل الآلهة التي تجاوزت حدودها، ومن هنا اتى عقاب جلجامش شديدا صارما مهينا لعشتار، متناسبا مع مكانتها، فحدثا كان المخطئ كبيرا حدثا كان الجرم اكبر، ولذا وجب العقاب والردع ومتناسبا مع حجم الخطأ، والآن لنقرأ معا رد جلجامش:

وأنا ما الذي اجنيه حتى تزوجتك
أقدم لك زيتا، ثيابا فاخرة
خبزا طعاما
أنت كباب البيت الخارجي لا يصد ريحا
لا يمنع عاصفة
كقصر عظيم أنت، كقصر يتحطم فيه الأبطال
كفيل عظيم يرمي عنه حليه
كالقطران أنت يلوث يد حامله
كقربة ماء أنت تبلل من يحملها
كحذاء تزل به قدم منتعله

في البداية رد عليها جلجامش بعين الأسلوب ـ المصلحة المادية ـ الذي عرضت بضاعتها الرخيصة به، فتحدث بالمنطق الذي تفهمه، مكاسب وإغراءات مادية ومعنوية، وبعد ذلك مباشرة يبدأ في قذفها بسيل من الشتائم وحدثات التحقير والتصغير بأسلوب هجائي رائع، حتى تعي رداءة وقبح الحدثات التي تقدمت بها أمام جلجامش، إذا الأوصاف التي نعتها جلجامش، تعبر عن موقفه العنيد والحازم اتجاه عشتار، ويتبين منه امتلاكه الصلابة وسرعة وقوة الرد على من يهبط بمسلكه ومكانته إلى الحضيض، حتى وصف عشتار بالباب هواهانة لها، فكيف إذا كان هذا الباب لا يصد ريحا؟، وهنا كانت الإهانة مزدوجة، أولا هي باب، والباب تعبير يحمل التصغير والتحريف لمكانتها، وثانيا هي لا تقدم الفائدة المرجوة من وظيفتها ـ صد ومنع الريح من الدخول.

وبعد هذا الوصف، يقول جلجامش "أنت قصر عظيم"، وهنا يتوقف عن الكلام، حتى تفقد عشتار اندهاشها وصدمتها من الجملة الأولى، ولترجع إلى التفكير بالمكانة والهيبة التي نسيها جلجامش، ويكمل عليها الجملة "يتحطم فيه الأبطال"، ونجده هنا يعهد كيف من الممكن أن يعاقب ويؤنب الخطأ، يعظم عشتار ثم ينزل بها إلى أسفل السافلين، حتىقد يكون سقط الحدثات عليها شديد التأثير ويعيدها إلى جادة الصواب.

ويكمل جلجامش هجومه فيصفها بالفيل، وهنا إهانة أخرى لها، ويزيد عليها عندما يذكرها بان هذا الفيل هجر حليه ولم يعد يستفاد منه، وبدأ يخرب ويدمر، بدل حتى يخدم الناس. ويستمر جلجامش في قذف الحدثات الجارحة في وجه عشتار المخطئة، فيصفها "بالقطران"، وهنا نجد تصعيد الهجوم الذي بدأ بحدثة "الباب" ويصفها بهذه الاهانة المركبة، أولا وصفها بشيء قبح، لونه يشير إلى السواد والشؤم، وثانيا توسخ يد من يتعامل به، فمن يريد حتى يمسك بالوعاء الذي فيه القطران!.

ويتابع جلجامش هجومه اللاذع ويصغها "بالقربة" وأي قربة، المثقوبة التي تبلل جميع من يحملها، ولا تلبي الغاية التي وجدت من اجلها، ولهذا هي تضيع الماء الذي تعبنا في جلبة وأيضا تبللنا، فأذية القربة المثقوبة مزدوجة، وآخر هجوم جلجامش كان وصفها "بالحذاء" البالي الذي يتعثر به منتعله، وهذه من اشد الشتائم التي تستخدم في حالة الغضب والاحتقان الشديد، فهي حذاء، وحذاء بالي أيضا.

وإذا أمعنا النظر بالاهانات التي وجهها جلجامش لعشار نجد القسم الثاني منها اشد سقطا وأكثر إيلاما من القسم الأول، وكما حتى الجملة الواحدة كانت تحمل اهانتين معا وليس اهانة واحدة، وهنا يتبين لنا المسافة الشاسعة بين جلجامش الإنسان وعشتار الربة التي تطالبه بالاقتران.

وبعد هذا الكلام الجارح ينتقل جلجامش إلى نوع آخر من المفاهيم التي تفسر وتوضح هذا الموقف الذي يحمله اتجاه الربة عشتار:

أي من عشاقك الكثر أخلصت له الحب
أي راع قدر حتى يرضيك
أصغي إلي أقص عليك خبر عشاقك
لن تستطيعي حتى تنكري الخبر
هذا تموز، الشاب الوسيم زوجك الأمين
أمرت النادبات والنائحات
أن يندبنه، وينحن عليه سنة بعد سنة
سقطت في حب الطائر الشقران، الطائر
المرقش ذي الريش الجميل فماذا وقع له
كسرت جناحه، هام في البساتين
يئن صارخا يا لجناحي يا لجناحي
ثم ماذا،يا ترى؟ أحببت الأسد حفرت له سبع حفر
أحببت الحصان لكنك أخضعته للسوط والمهماز
حكمت عليه بالجري ساعات وساعات
قضيت حتى ينضح بالعرق
عشقت راعي القطيع الراعي الذي جمع أكياس الفحم
ليشوي لك الجداء فماذا صنعت به
مسخته ذئبا تطارده كلاب القطيع
أحببت فلاح النخيل عند أبيك، ايشولانو
فماذا صنعت به،يا ترى؟ تنظرين إليه بشهوة، تقولين
تعال أعطى يدك إلى خصري، ضمني، متعني
بقوتك العجيبة يا ايشولانو
يجيب المسكين: أمي خبزت وأكل من خبزها
لماذا أكل خبز الشر والعهر

هذا الجزء من مكاشفة عشتار يمثل أبرز جزء في كلام جلجامش، وذلك لأنه يمس وبشكل مباشر مكانة عشتار الدينية في المجتمع، وبمكن حتىقد يكون هذا الجزء قد وضع لهدف عقائدي بحت، يهدف العزف وهجر عبادة عشتار والتقرب منها، لأنها ترمز وتمثل الشر والعذاب الذي يقع على أي مخلوق تقترب منه، فهي في الأساطير القديمة تمثل الحب والخصب، ولكنها في الحقيقة التي أوضحها جلجامش لا تمثل سوى الموت والعذاب والألم والغدر.

وإذا انتقلنا إلى المعتقدات الدينية القديمة نجد هناك أسطورة تتحدث عن نزول تموز إلى العالم السفلي بأمر من عشتار، ونتيجة هذا العمل الظالم بحق تموز أصاب الأرض الجدب والجفاف، ومن ثم الحق الضرر بالإنسان بسبب نزول تموز إلى العالم السفلي.

وهناك كان دموزي يجلس بجلال في مجلسه،
مرتديا ثيابا جليلة
قأمسك به الشياطين من...
وهجم عليه السابع من...
فلم يعد الراعي يعزف النايولا المزمار
وصوبت (انانا) نظراتها إليه (دموزي): نظرات موت
ونطقت بحدثة ضده: حدثة سخط
ونطقت صرخة ضده: صرخة إثم (ونطقت)
خذوه
إلى غير ذلك أعطت أنانا المقدسة دموزي الراعي بيديهم
أما الذين صاحبوه
صاحبوا دموزي
فقد كانوا مخلوقات لا تعهد الطعام، لا تعهد الماء
فهي لا تأكل طحينا مبثوثا
ولا تشرب ماء مسكوبا
وتخطف الابن من حضن أبيه
فقد سلمتني إلى العالم السفلي بديلا عنها

أن عشتار التي قامت بهذا العمل الرديء لا يمكن عبادتها، أوحتى احترامها، وإنما يجب محاسبتها ومعاقبتها، وهذا العقاب كان بتجريدها من الهالة المقدسة التي حولها، ومن ثم إبقائها كائنا منبوذاقد يكون عبرة للخاطئين، وما قامت به من خيانة اتجاه أحبتها وخاصة تموز الذي خانته وغدرت به يمثل ذروة غدرها وخيانتها، وما كان ليرسل إلى العالم السفلي ليأكل الطين ولا يرى النور أبداً، دون خيانتها ثم أمرها للشياطين بان يأخذوه.

ونعتقد حتى عملية المس بالمعتقد الديني ووضعه أمام ـ المنطق العقلي نسبيا ـ يمثل الهاجس الذي يحرك أحداث الملحمة، وان محررها كان يعي ما يخط، ويدفع بالمتلقي في ذلك العصر، إلى إعادة تكوين أفكاره الدينية ومعتقداته الفكرية، وما اتى تذكير القارئ أوالمستمع للنص بخيانة عشتار لأحبتها، وهجرهم مقهورين منكسرين بعد اخذ حاجتها منهم، إلا ليؤكد حتى المقدسات بحاجة بشكل دائم ومستمر للخضوع للامتحان وتجديدها فكريا لتتناسب مع منطق الإنسان، ومن هنا اتىت التفاصيل الدقيقة لعملية الغدر والخيانة، لتدفع بالمتلقي نحوالاتجاه النقيض لما هوسائد.

وسنحاول الآن تشريح وتوضيح الحاجات والرغبات التي أخذتها عشتار من عشاقها، فبعد حتى حصلت على رغبتها الجنسية من تموز أوفدته إلى الموت، وطائر الشقراق بعد حتى استمتعت بصوته المغرد وتمتعت بمنظر ريشه الجميل قامت بكسر جناحه، أما الأسد فنعتقد بان حاجة عشتار منه تتمثل في استخدام جلده فقط ولهذا حفرت الحفر السبع له، والحصان ينقل الأمتعة والحاجات الثنطق والمتاع ولكن بعد هذه الأعمال قامت عشتار بضربه بالسوط وإجباره على العمل بالمهماز، أما الراعي الذي يقدم لها اللحوم الطازجة والمشوية، فبعد حتى شبعت من الطعام اللذيذ قامت بمسخه إلى ذئب، والفلاح الذي قدم أشهى إنتاجه من البلح قامت بإزالة عضوه الذكري، هذه تفاصيل الخيانة التي قامت بها عشتار، ولهذا هي كائن يبحث عن حاجاته ورغباته الغريزية فقط، ولا يهتم بغير ذلك، فالطعام والشراب والملبس والجنس وحمل الأثنطق كلها حاجات بشرية لا تمت إلى الربة عشتار لا من قريب أومن بعيد، ولهذا من المنطق هجر عبادتها وهجرها هجرا جميلا، وهنا طرح محرر النص على لسان جلجامش أفكارا تتعارض مع تلك التي يعتنقها المجتمع، وفلا يمكن عبادة من يقوم بخيانة الآخرين وهجرهم محطمين بعد اخذ الحاجة منهم.

وبعد سماع عشتار هذا الرد من جلجامش تصعد إلى السماء وتطلب (انو) أبوالإلهة حتى يقتص لها من جلجامش، وطالب منه حتى يخلق لها ثوراً سماوياً لينتقم من جلجامش، ولكن انيكدوصديقه يمسك الثور من قرنيه وجلجامش يضع السيف في جسده، إلى غير ذلك تفشل عشتار أمام الإنسان، وتأخذ في الصراخ والعويل على ثورها المقتول، وخلال هذه الأحداث يتم قذفها بسيل من الشتائم على لسان انكيدوالذي ضربها بفخذ الثور أيضا،

لكن انكيدورمى بفخذ الثور وجه عشتار
آة لوامسك بك
لعملت بك ما عملته بالثور
لربطت عنقك بمصران الثور

بعد هذه التفاصيل الفكرية المتعلقة بعشتار وإستنتاج بعدم شرعية عبادتها، تنقلنا الملحمة إلى دفعة جديدة من التوجيه الفكري ضد عشتار، فبعد حتى كانت الحرب بين عشتار وجلجامش فكرية فقط، تطورت لتصبح حرباً حقيقية، فقتل الثور السماوي من قبل جلجامش وانكيدوثم ضربها وتوجيه التهديد لها، تصبح هناك حرباً طاحنةً لا تبقي ولا تذر، وما عملية اغتال الثور السماوي الذي اوجد بناء على رغبة عشتار، إلا عملية اغتال إله، ولهذا كان قرار مجمع الإلهة هلاك احد الاثنين، انكيدوأوجلجامش.

وتأتي أهمية النص الذي يتحدث عن عشتار بهذه الحدة وهذا الصدام، عندما نقابلها مع تلك التي تتحدث عنها بصورة صديقة ورحيمة نحوالإنسان، فموقفها المتعاطف أثناء الطوفان وبكاؤها على البشر الغرقى يمثل التلاحم والتعاضد مع الناس،

عشتار سيدة الإلهة تنتحب عاليا
الأيام الماضية، أواه، استحالت إلى طين
صرخت عشتار كامرأة في المخاض
ناحت سيدة الإلهة ذات الصوت العذب

لقد تم ذكر معبد عشتار في الملحمة أكثر من خمس مرات، ونعتقد حتى المراد من ذلك، إعطاء صورة عشتار وهي مع الإنسان يتم احترامها وتقديرها وتشييد المعابد لها، والصورة الأخرى وهي ترغب احتواء الإنسان فيتم الاقتصاص منها بكل السبل والوسائل المتاحة، ففي الموقف الثاني نجدها تتبع أهواءها وشهواتها، وما طلبها من جلجامش للاقتران به إلا أحد تلك المواقف التي جعلتها صغيرة، ورفض جلجامش جعله أكثر احتراما وإجلالا منها.

الجنس

حرية عصر الدويلات السومرية لم تقتصر على المسائل السياسية والفكرية وحسب، بل تعدتها إلى مسائل أخرى، لكي تنير لهم طريق الحرية وتزيل بقع الجهل وعدم الفهم، فكان من حقهم طرح الكثير من القضايا المحرمة في مجتمعنا، والتي لم يأتي تحريمها من باب الحرص على المجتمع وقضايا الأمة، ولكن من باب القمع والاضطهاد ومصادرة الرأي الآخر بكل الطرق والسبل، فعصر أورك كان يسمح للأفراد حتى يتحدثوا عن هذه المحرمات بكل حرية وبدون أي مضايقات، فمادام العمل أنسانياً ويتعلق بالإنسان فما المانع بالحديث عنه؟، كان الوضع في أوراك عصرا مضىيا بالنسبة لنا، لما تم تحقيقه من الحرية واحترام فكر الإنسان.

لقد تطرقت الملحمة إلى العمل الإنساني الخلاق ـ الجنس ـ في أربعة مواضع، واتى حديثها في البداية بكل صراحة ووضوح عن الجنس، وعن الكيفية التي يتم بها هذا العمل الإنساني، والأثر الذي يهجره على من يقوم به وخاصة الذكور، ثم عن المتعة واللذة التي يحصل عليها من يقوم بهذا العمل، ومع حتى هناك إشارة واحدة في الملحمة، حول دور ونتائج هذا العمل في إبقاء وإستمرار الحياة الإنسانية على الأرض، إلا أنها تظل أبرز مصدر تاريخي تحدث عن الجنس بهذا الإسهاب والوضوح، ونصوص الملحمة تزيل تلك الطوطمية عن العمل الإنساني وتجعل منه كائناً بسيطاً يحبه جميع الناس ولا يخافونه مطلقا، فهناك نصوص تتحدث عن انكيدوالوحش الذي يخرب مصائد الصيادين وينقذ الطرائد من شباكهم، بحيث لم يعد الصيادون قادرون على الصيد من الغابة، ويعود احد الصيادين خائفا مرتعبا، يخبر أباه بما حصل في الغابة وما شاهد من أعمال وأفعال الوحشي انكيدو، فيخبره الأب بضرورة التوجه إلى جلجامش وإعلامه بما شاهده في الغابة، وعندما يفهم جلجامش بالأمر يوصي بإرسال بغيا مع الصياد إلى الغابة لكي تغوي الوحش انكيدو، وهنا يتم التطرق أول مرة إلى عمل الجنس في الملحمة والأثر الذي يهجره على من يقوم به.

وسله يا صياد حتى يبعث مومسا معك
فإنها تروضه وتغلبه
وعندما يجيء مورد الماء
ليسقي السوام
فتخلع الثوب الذي عليها
فذلك يخلبه
تكشف جسمها عن المفاتن العظام
فانه إذا رأتها عينه ... أتى إليها
لأنها ستجذه
دعها تكسر شكيمته، بقوة تفوق قوته

هذا الحديث الناري عن القوة ـ الجنسية ـ التي تملكها المرأة، وأثرها على الرجل، ولا ندري من أين حصل السومريون على هذه المعلومات حول اثر الجنس على الرجل، أم أرادوا من ذلك القول بان الرجل بعد الزواجقد يكون أكثر تحضرا ومدنية منه قبل الزواج؟. أم هونوع من الخيال الأدبي أراد محرر الملحة إضفاءه عليها؟، وبعد ذلك تخبرنا الملحمة عن عمل الجنس، بخلع المرأة ثوبها لتظهر مفاتنها أمام الوحش انكيدو، وكيف سينجذب إليها مسحورا بمفاتنها الجسدية، وكيف ستوقظ غريزته النائمة، في هذا الوصف تقول لنا الملحمة حتى قوة المرأة تتفوق على قوة الوحش الرهيب، وكذلك نجد فيها تأكيداً على احترام المرأة من قبل المجتمع السومري.

لكن الملحمة لا تكتفي بهذا الحديث عن الجنس بل ترغب التوغل أكثر، فتصف جميع إحداثيات العمل، إلى حتى ينهي تماما.

أخلعي ردائك أيتها البغي
اكشفي عن صدرك لتبن مفاتنك
اغويه إسحريه شان المرأة بالرجل
ها هوذا أيتها المرأة
عري نهديك
أسفري عن مفاتنك
حتى ينال كفايته منك
لا تحجمي
حركي فيه الرغبة، فهميه وظيفة المرأة
وافتحي ثوبك حتى يرقد عليك
وسيلتصق صدره بصدرك

هكذا تحدث الصياد للمرأة عندما شاهد الوحش انكيدو، فيطلب منها القيام بإغراء انكيدو، وإذا تتبعنا الحدثات نجدها خارج الحشمية وبعيدة عن الحب العذري والعاطفية الرومانسية، ويكاد الإقتباس السابق حتىقد يكون مدرسة في الإباحية، فأمام قوة انكيدوالجبارة كان لا بد من استخدام هذا العمل الذي يوازي قوة الوحش حتى لم يتفوق عليها، ولهذا اتىت الحدثات واضحة وبهذه القوة، لكي تقنع القارئ أوالسامع بوجود توازن قوى بين الوحش والمرأة، وقد يظهر حتى اللقاءة غير عادلة ـ الوحش والمرأة ـ ولكن الملحمة ترغب حتى تعطينا الحدث بصورة أسطورية مضخمة، لكي تقنعنا بما مضىت إليه من الأحداث، ومن حسن حظ محرر الملحمة انه خطها قبل حتى يأتي علية عصر الرقابة والممنوعات المعاصرة، الذي يحد ويحجب الكثير من الأفكار والأطروحات، فهذه النصوص الجريئة تمثل تعدياً وتجاوزا صريحا لقانون المطبوعات والنشر، ولهذا لم يجرؤ احد من المترجمين للنص الملحمي، حتى يستخدم الحدثات التي استخدمها المحرر قبل 4700 عام، واتىت الترجمات فيها من الحشمة والرقابة الذاتية ما حد من صراحتها ووضوحها واباحيتها، وهذا ما تم الإشارة إليه من قبل فراس السواح، الذي وضع حاشية تتحدث عن الترجمة الفاضحة،

هوذا يا فتاة البهجة حرري ثديك
عري صدرك يقطف ثمرك

يقول السواح في حاشية، "ترجم البعض الشطرة الأولى من هذا البيت بشكل مختلف، افتحي ساقيك، عرضي فرجك" السواح ص 98، من هنا اتىت ترجمة الغرب للنص أكثر تماثلا وانسجاما مع النص الأصلي، ولهذا تم اقتباس جزءاً من النص لكتاب الجنس في العالم القديم لبول فريشارو، هذا هووضع الترجمة المحافظة أوالخائفة من الرقابة في عصرنا ـ العربي ـ، أما عصر أورك فكانت الحرية فيه تحلق راياتها عاليا، متجاوزة عصرنا بكثير، فقد سمحت حتى تخط عما يجول في نفس الإنسان من مشاعر ورغبات دون قيد أورقيب، أما عصرنا فانه قابض على روح الإنسان، لا يسمح لها حتى تنطلق وتبدي ما فيها من أفكار ومفاهيم يمكن حتى تغير مسار الحياة كليا.

لقد استمرت الملحمة في الحديث عن الجنس، وها هي المرأة تعمل ـ المحرم ـ أمام الصياد

فتاة البهجة حررت ثديها، عرت صدرها
فقطف ثمارها
لم تخجل، أخذت إليها دفأه
طرحت ثوبها انحنى عليها
فهمت الرجل الوحش وظيفة المرأة
وها هوواقع في حبها

لم تكتفي الملحمة بالحديث عن المرأة، وكيفية إغوائها لانكيدوعلى لسان الصياد، بل استمرت في حديثها عن تلك المضاجعة الجنسية، بين قوتين ـ الوحش البدائي انكيدووقوة المرأة العاطفية ـ ولا نريد هنا الحديث عن المنازلة بينهما، إلا حتى النص أوضح لنا وضوح الشمس ما تم بينهما من عمل، إلا أننا نريد الإشارة إلى ترجمة سطر واحد من النص وهو"فقطف ثمرها" هذا السطر ترجم حسب الحاشية التي وضعها السواح، حتى الوحش وضع ـ عضوه ـ بين ساقي الفتاة، واعتقد حتى قمة الإباحية والفحش تم تناولها في عصر أورك، والنص الملحمي يعطينا صورة عن الحرية التي سادت على هذه الأرض في الزمن الماضي، وكيف نظر أسلافنا إلى الجنس، العمل الذي يقوم به جميع من هوعلى وجه الأرض، من هنا تطرقت الملحمة إليه على لسان البشر والقديسين وحتى الآلهة، بدون أي خجل أوتحفظ. لقد تم الحديث عن الجنس على لسان سيدوري صاحبه الحانة المقدسة، حينما أرادت حتى تثني جلجامش عن طريقه وتعيده إلى أورك، فتحدثت عن نتائج عمل الجنس بالنسبة للمرأة وما يتبع ذلك من شعور ولذة:

اتخذ زوجة ونم بسلام على كتفها
أنها تجد المسرة في أحضانك
وانظر إلى الصغير على يدك

من خلال حديث المرأة عن الجنس نعهد كيف من الممكن أن تنظر إليه وما يسبب لها من مشاعر وأحاسيس وكذلك نتائج هذا العمل عليها، فيمكن حتى لا يعهد الرجل حتى المرأة تشعر باللذة كما يشر بها، ولهذا اتى حديث صاحبة الحانة لتؤكد على العلاقة والمتعة واللذة المتبادلة التي يحصل عليها جميع من يقوم بعمل الجنس، وقد تم التطرق إلى نتائج الجنس هوالطفل الصغير، هذا الناتج عن العمل الإنساني فهويجلب أيضا الفرح والسعادة لوالديه وللآخرين، فكل من يشاهد الطفل يشعر بالفرح والسعادة حتى لولم يكن من الصلب أوالاقارب، إذاً الجنس عمل أنساني له أهميته في استمرار الحياة، كما أنه يسبب الفرح واللذة التي تدفع بالإنسان ليعشق ويرغب أكثر في الحياة، ولإعطاء المزيد حول أهمية الجنس بالنسبة للأنثى تتحدث عشتار الأم سيدة الكون عنه قائلة:

هلم إلي يا جلجامش وكن عشيقي
امنحني بذرة من جسدك
دعني أصبح زوجتك وتكون زوجا لي

الطلب الذي تطلبه عشتار من جلجامش يؤكد الحاجة الجنسية لكل كائن حي فالملحمة لم تقتصر هذا العمل على البشر وحدهم بل تعدى عمله إلى الآلهة، من هنا نجد عمل الجنس ذوأهمية، وجعلت منه الملحمة يسموعلى بقية الأفعال الأخرى، وهناك حديث آخر لعشتار تطالب فيه فلاح النخيل لكي يمتعها برجولته:

تعال، أعطى يدك إلى خصري، ضمني، متعني

تطلب الربة عشتار بشكل واضح وصريح بعمل الجنس، ومع أنها صاحبة الجلالة وسيدة الكون في المعتقدات القديمة، إلا أنها تطالب بالحصول على هذا عمل، ونعتقد في هذه الفقرة تم الهجريز على من يقوم بعمل الجنس أكثر من العمل ذاته، وهذا الأمر يشير إلى فهم وفهم ودراية القدماء بكل ما يتعلق بالجنس، والملحمة بهذا تخبرنا حتى الجنس حيوي وذات أهمية بالغة للبشر ليس للحفاظ على الحياة البشرية وحسب، بل وكذلك ليمنحنا اللذة والسعادة والتي بدورها تعطينا دفعة لنستمر في الكدح ولقاءة المشاق والصعاب. في نهاية الحديث عن الجنس نقول حتى حرية الرأي في المجتمع السومري أعطت محرر الملحمة هذا المقدار من الحرية ليخط عن الجنس، ولهذا استطاع السومريون حتى يكتشفوا ويتحدثوا عن أهميته، وان يكشفوا جميع خفاياه دون خوف أوخجل، مما جعلهم يزيلوا عنه جميع الغموض والجهل الذي أنيط به، كما أعطت الملحمة عمل الجنس دور المهذب والمؤنس، فمن خلاله استطاع الوحش انكيدوحتى يتخلص من بدائيته وينتقل إلى كائن بشري كامل، والمتعمق في النص الملحمي يستطيع الاستنتاج حتى عمل الجنس مسيطر علية، ويتحكم به الإنسان حسب ما يراه مناسبا، ولم يكن العمل هوالمسيطر على الإنسان، ولهذا كانت هناك محطات تم فيها القيام بالعمل بكل طواعية وهناك محطات رفض وإحجام على القيام به، وذلك يعتمد على تقدير الموقف من قبل الإنسان، وبهذا جعلت الملحمة من الجنس عملاً أنسانياً واضحاً بعيدا عن التحريم والطوطمية.

البغي والوحش انكيدو

بعد الحديث عن الحرية وتناول الكيفية التي حكم بها السومريون، وكيف تحدثوا عن القديسين والآلهة والجنس، ندخل إلى أقسام الملحمة وتفاصيلها، ونبدأ من المغامرة، التي تعج بها الملحمة، فهناك أكثر من مغامرة ذكرت فيها، وسنحاول الهجريز على المعاني والأفكار التي أريد من ورائها، كما سنذكر بالتقنية الإبداعية والجمالية لهذه الأحداث، ونبدأ الحديث حسب التسلسل الملحمي، مغامرة الوحش والبغي وما هي مقدمتها، فبعد حتى بنى جلجامش أسوار أورك ومعابدها وشوارعها، لم ترتح نفسه وبقيت في اضطراب مما دفعه إلى الدخول على الزوجات قبل الأزواج:

لا يهجر جلجامش بكرا لامها

هذا الظلم دفع الناس إلى النادىء والاستنجاد بالآلهة، ويتم الاستجابة لطلبهم من قبل الربة آرورو، فتخلق انكيدوليكون ندا لجلجامش، فأخذت اورور شيئا من الطين ورمته في الأرض فكان انكيدويأكل مع الحيوان ويتصرف كأحد حيوانات القطيع، فهوينتمي إلى كائنات الغابة وهوجزء منها، ويدافع عن بيئته أذا تعرضت للخطر، الوحش ينقذ رفاقه إذا تعرضوا للخطر، الذي تمثله حفر الصيد والشباك التي ينصبها، وكان يفشل جميع محاولات الصيادين، من خلال تخليص الحيوانات من الشباك وحفر الصيد، وهذا العمل ـ إنقاذ الحيوانات ـ يقلب أويوقف نظام الطبيعة التي تجعل من الإنسان سيدا ومتحكما بالحيوانات، فهوينقذ الحيوان الضعيف من الإنسان، أما هيأته فتهجر الهلع والرعب على من يشاهده:

لا يعهد الناس ولا البلدان، عليه ثياب كسوموكان
يرد الماء مع الحيوان
رآه الصياد فامتقع وجهه هلعا
كان خائفا مشلولا ساكن الحركة
في قلبه اضطراب وعلى محياه اكتئاب
وقد سكن الروع افقه
فوجهه كمن مضى في سفر طويل

النص يوضح صورة الوحش صاحب الشعر الطويل المرتدي جلود الحيوانات، فهوبدائي متوحش لا يعهد الحياة البشرية والاجتماع الإنساني، وهوبهذا الوصف وهذه الصفات مرعب لكل من يشاهده، حتى حتى الصياد القوي وصاحب الخبرة والمهارة في التعامل مع الحياة الغابة، لم يجرؤ على الاقتراب منه، ولنمعن بما أصاب الصياد عندما شاهد الوحش، غم وجهه من شدة الهلع وأصابه الخوف، حتى انه لم يقوى على الحركة، هكذا بدا وضع الصياد، أما نفسيته فأصبحت مضطربة، والاكتئاب سيطر عليه والرعب يعيش داخله.

ومن هنا نجحت الملحمة في وصف حالة الصياد الظاهرة ـ الشكلية ـ وغير الظاهرة ـ النفسية ـ وهذا الأمر يشير إلى تطور فنية الكتابة عند السومريين، التي تهتم بإبراز الانفعالات والهواجس عند شخوص الملحمة، مما يجعلها أكثر إقناعا وتماسكا في أحداثها. إذن هناك مخلوق متوحش يمتلك هيئة مرعبة وقوة عظيمة، ولا يمكن لأي رجل عادي حتى يتصدى له، من هنا كان لا بد من وجود إنسان قادر على لقاءة الوحش، لا يرتعب من هيئته المخيفة، ويمتلك من القوة ما تمكنه من إيقافه والسيطرة عليه، فمن تكون تلك القوة؟. إذا تسلسلنا بسرد السيرة وتوقفنا عند وضع الصياد يتبادر إلى ذهننا بان هناك قوة كبيرة مكونة من مجموعة من الرجال الأشداء والمدججين بالسلاح ستقف أمام وحش الغابة، إلا حتى الملحمة تفاجئنا بصاحب القوة الذي تستطيع السيطرة على الوحش وإخضاعه والتي تكمن بأضعف مخلوق بشري ـ المرأة ـ، المرأة هي التي تستطيع الوقوف أمام الوحش، وهذا المنطق في استخدام قوة المرأة يعطي تأكيدا على العبقرية التي وصل إليها المجتمع السومري، وأيضا المقدرة الفنية على مفاجأة القارئ أوالسامع للأحداث الملحمة. ونعود إلى الصياد المرتعب، لنكمل معه المغامرة، يعود الصياد إلى الأب وهوفي حاله المزرية:

أي أبت قد هبط أرضك رجل فريد
أقوى من الفلاة ذوباس عظيم
دوما يطوف أراتى أرضك
خفت ولم أجرؤ منه اقترابا
ردم حفري التي حفرت
بعونه فرت من يدي طرائد البر وحيوانه

الأسطر السابقة تحدث فيها الصياد لأبيه عن وهن حالته، وعن الوحش الذي يقف وراء تغير الأحوال، فنجد في كلامه تأليب الأب على الوحش، فاستخدام الصياد حدثة "أرضك" ولم يستعمل حدثة أرضنا، لكي يعطي الشكوى سقطا اكبر في نفس الأب، ومن ثم يأخذ بالحديث عن أعمال الوحش التي أصبحت العقبة أمام الاستفادة من الأرض وما عليها، الأب يطلب من الصياد الذهاب إلى جلجامش ويطلب منه بغيا، لتمضى معه إلى الغابة، البغي تمضى في صحبة الصياد إلى المكان المحدد.

الدور الذي أنيط بالمرأة للسيطرة على الوحش، اتى ليقلب المفاهيم المتعلقة بالمرأة وبالصراع مع الوحش، فقد تم استخدام قوة الجنس بدلا من القوة الجسدية والعضلية، وهنا أعطت الملحمة المرأة دورا أقوى من دور الرجل الذي لم يستطع لقاءة الوحش، بينما قابلته المرأة وانتصرت عليه، فالمرأة في هذا الجزء من الملحمة كانت أقوى من الرجل وأكثر فاعلية منه، فهي تمتلك من القوة النفسية ـ عدم خوفها من الوحش ـ الشيء الكثير، كما تمتلك من القوة ـ العاطفة ـ ما تجعل من الوحش يتأنسن.

المشهد السابق يؤكد على حتى السومريين كانوا يعظمون المرأة ويعتبرونها من عناصر المجتمع الفاعلة، فهي كائن فاعل له دور في الحياة، هذا الدور للمرأة جعل الملحمة تخرج عن المألوف والمنطقي، فبدلا من لقاءة القوة بالقوة اتىت اللقاءة بين القوة المتوحشة وقوة العاطفة.

يجلس الصياد والبغي ثلاثة أيام وهما ينتظران قدوم الوحش، يأتي الوحش ليشرب مع القطيع وهناك تخرج المرأة بفتنتها الساحرة فتنتصر على الوحش:

فتاة البهجة حررت ثديها، حررت صدرها
فقطف ثمارها
لم تخجل، أخذت إليها دفأه
فهمت الرجل الوحش وظيفة المرأة
وها هوواقع في حبها

استخدام المرأة مفاتنها لإثارة العاطفة عند انكيدوالمتوحش ومن ثم انجذابه إليها وبقوة، وبعد هذا الوقوع في حبها أوالحاجة إلى تلك العاطفة، فقد منحت انكيدوشيئا جديداً لم يحصل عليه خلال وجوده مع الحيوانات، الحب والجنس أمران جديدان على انكيدو، الذي لم يعهد منهما شيئا قبل التعهد على الغانية، الذي يمتلك مفاتيح الحب والجنس هوالمرأة وبهذا المفتاح استطاعت المرأة حتى تكسب ود المتوحش، ومن خلال حاجته إليها أصبحت قادرة على الوصول إلى داخله، وبهذا خرج انكيدومن مجتمعه ـ البرية وحيواناتها:

رأته حيوانات البرية مع البغي
أنكرته، جفلت، نفرت عنه

النتيجة الأولى الحب فقدان انكيدوللحياة التي عاشها وعهدها ـ الغابة ـ فهروب الحيوانات منه رغم انه كان حاميها يعد تغير جذري، فالمجتمع الذي عاش فيه انكيدونبذه ولم يعد يأنسه، من هنا كانت ردة العمل الطبيعية عند انكيدوهواللحاق بذلك المجتمع؟

تمهل خلفها، ثقيلا كان جسمه
خائرة كانت ركبتاه، ورفاقه ولت بعيدا
تعثر انكيدوفي جريه، صار غير الذي كان

والنتيجة الثانية فقدان انكيدوقواه، فهروب الحيوانات منه معناه فقدان المجتمع الذي لم يعهد سواه، من هنا اتى اندفاعه نحوذلك المجتمع واللحاق به، فلما لم يستطع عمل ذلك، وأصبح بعيدا عنه ـ جغرافيا ونفسيا ـ أصبح حقيقة في مصيدة المرأة الكائن الجديد الذي عهدة، وكأن الملحمة تقول لنا بان الحيوانات مثل المرأة لا تقبل مشاركة الغير لها أبدا، من هنا يجب الإخلاص لها حتى تكون لنا ونكون لها. إذن أصبح انكيدوأسير الصياد بدون حتى يعي ذلك، المرأة تقوم بتقيد صيدها بشيء غير ملموس، جعله عاجز عن الحركة، وهذا الوثاق أوالقيد غير معروف عند انكيدوبعد، والصياد المرأة يعي تماما ذاك الوثاق الذي أوثق به الطريد انكيدو، من هنا أصيب انكيدوبحالة من الكآبة:

فاغتم انكيدووضعفت قواه
إلفه فارقه، اغتم وحزن

الوضع النفسي السيئ وهونتيجة عدم المقدرة على ممارسة الدور السابق لانكيدو، وفقدان المجتمع الذي يعهد، والضعف الذي أصبح فيه، وهذا بداية الوعي عند انكيدوـ معهدته لواقع حديث ـ فهويعهد معنى الأسر والابتعاد عن الرفاق، من خلال الحيوانات التي كان ينقذها ويحررها من الأسر، وهنا أصبح انكيدويتوسط مجتمعين ـ الغابة وحيواناتها من جانب والمرأة وعاطفتها من جانب آخر، فبعد ابتعاد المسافة الجغرافية والعاطفية عن المجتمع الأول كان لا بد من التوجه إلى المرأة الأقرب والأثبت جغرافيا على اقل تقدير.

قفل عائدا إلى المرأة جلس عند قدميها
رافعا بصره إليها

صورة انكيدويظهر فيها ضعيفا مستسلما أمام الصياد المرأة، التي استطاعت بتلك القوة الخفية حتى توصله إلى هذه الحالة من الضعف، الوحش القوي المخيف يجلس أمام المرأة الصياد بصره مرفوعا إليها طالبا العون والرحمة مما هوفيه، فكأنه يتوسل الخلاص بهذه الوضعية، وتبدوالمرأة في وضعية المسيطرة المتحكم تماما بصيده، صورة الطريد انكيدووالصياد المرأة تجعلنا نفهم القوة الكامنة فيها. بعد حتى تجد المرأة الثمرة قد نضجت وحان قطافها، تنتقل إلى المستوى الثانية، وهي الذهاب بصيدها إلى مكان جديد، لكي تستكمل عملية التغير للوحش ويصبح شيئا غير الذي كان عليه سابقا، فبعد استطاعتها إبعاده عن حياته السابقة وإضعاف قدراته، وانهيار حالته النفسية أصبح باستطاعتها حتى تعبئ انكيدوبما ترغب من مفاهيم وأفكار جديدة.

أنت عاقل يا انكيدو، أنت شبه إله
لماذا تجول مع القطيع
تعال تجول معي أخذك إلى مدينة مسورة
أقودك إلى أوراك إلى المعبد المقدس
تتعهد إلى جلجامش القوي الجبار
إنه يطغى ويجور. كثور وحشي هو

بدأت المرأة حديثها مع انكيدوحول حياته السابقة، إنها تعهد نفسية الوحش وكيف يفكر، ترغب حتى تفتح له بابا جديدا عوضا عن الباب الذي سد في وجهه، وبهذا أكملت حديثا عن العالم الجديد الذي ينتظر انكيدو، مفصله له ماهية هذا العالم، فيه معابد وأسوار لم يسمع بها من قبل، وفي نهاية حديثها أخذت تثير فيه غريزة إنقاذ المظلومين، وتقول له هناك إنسان ـ جلجامش ـ يجور ويظلم، وهناك مظاليم هم بحاجة إلى حمايتك، انكيدوالذي ساعد الحيوانات الضعيفة وإنقاذها من الإنسان القوي، ما زال يحب ويريد حتى يقوم بعملية إنقاذ الضعفاء ولقاءة الأقوياء، وهذه الغريزة عهدتها المرأة في انكيدوولهذا اتى حديثها عن جلجامش أكثر شيء تأثر به انكيدو، وهذا التأثير انعكس في رد انكيدوعما سيعمل بعد وصوله إلى أوراك:

تعالي فخذيني أيتها المرأة
إلى المعبد المقدس مسكن آنووعشتار
حيث عظيم البأس جلجامش
الظاهر فوق جميع الرجال كثور حشي
سأناديه وأحدثه بجرأة
سيجلجل صوتي في أوراك أنا الأقوى
نعم أنا من سيغير نظام الأمور
من ولد في البراري هوالأقوى وعنده البأس العظيم

اتى حديث انكيدوعن تصوره لهذا العالم الجديد بسطر واحد فقط، تحدث فيه عن المعابد، وستة اسطر عن تلك الشخصية التي جذبته، وهذا يشير إلى حتى المرأة استطاعت حتى تعهد كيف من الممكن أن يفكر والوحش ومن ثم قدمت له طعما جديدا، لتسوقه إلى المكان الذي ينتظره. إذا أمعنا التدقيق في حدثات انكيدوعن جلجامش نجد فيها الاعتراف بقوة جلجامش، وثقة بالنفس عند انكيدو، وكذلك الشوق والاندفاع لملاقاة الخصم والحديث معه، إذن هناك دوافع الإنقاذ ولقاءة جلجامش والشوق للحديث معه، والمرأة تكون بذلك قد نجحت في اسر انكيدوإلى غير ذلك ستكمل معه الطريق بحديثها أولا وبعملها ثانيا:

كان كلام البغي في نفس انكيدومسقط حسن
فشقت البغي رداءها شطرين
بواحد كست جسده العريان
وبالآخر جسدها هي
وكما تقود الأم طفلها
قادته بيده إلى مائدة الرعاة
قدموا له خبرا لكنه لا يعهد الخبز
احتار في أمره لم يمد يده
نطقت البغي: جميع خبزا يا انكيدو
الخبز مادة الحياة
اشرب خمرا إنها عادة أهل البلاد
فمد يده وأكل خبزا وشبع
وشرب سبع كؤوس من الشراب القوي
فانشرح صدره وبرقت أساريره
غسل جسمه بالزيت، صار بشرا
وضعوا عليه رداء صار كإنسان
أخذ أسلحة الرعاة ليهاجم الأسد
فيأمن الرعاة شره، يناموا باطمئنان

بعد حتى سلم أنكيدونفسه للمرأة واخذ بكلامها، بدأت تظهر عليه ملامح الإنسان المتحضر العاقل، وأول تلك التغيرات في هيئته ارتداء الثياب لستر العورة، وهذا الأمر يذكرنا بستر عورة آدم وحواء بعد أكلهما من الشجرة المحرمة، ونجد هنا ستر العورة اتى كعمل نبيل متحضر وليس نتيجة خطيئة، ففي ارتداء الملابسقد يكون الإنسان قد تجاوز عصر البدائي وتقدم إلى عصر التحضر والاستقرار والإنتاج.

فبعد ارتداء الثياب أصبح انكيدويمتلك جزءاً من الحياة الجديدة التي اخذ يسعى إليها، وبعد اللباس اتى التعامل مع أفراد المجتمع الجديد، فكان اللقاء مع بني البشر، وفي هذا اللقاء كان يتفهم منهم عاداتهم وسلوكهم، وهنا يتلقى انكيدودرسا جديدا من هذا المجتمع، فيتعين عليه أكل الخبز وشرب الخمر، هذا الطعام الجديد غير ذاك الذي كان يتناوله في الغابة، والشراب ـ الخمر ـ غريب عليه، وهنا يريد محرر الملحمة حتى يقول لنا بان من سمات المجتمع المتمدن حتى يرتدي الثياب وان يأكل طعاما مصنعا وليس طعاما بدون تصنيع، فنجد الثياب من الضرورة حتى تكون مصنعة وهذه الفكرة ـ التحضر وربطها بالإنتاج من الأفكار المتقدمة التي طرحتها الملحمة.

إلى غير ذلك يجد انكيدوهذا الخبز وهذا الشراب طيبا، ويشعر بنشوة الفرح بعد ذلك الشراب، وبهذا يتقدم انكيدوخطوة أخرى نحوالانسنة والتحضر، وبعد هذا يأتي دور العمل استكمالا لشكل وهيئة انكيدو، ليكون إنسانا كاملا، ويتم تطهير انكيدوبوضع الماء والزيت على جسمه ليدخل عالم الإنسان نظيفا طاهرا من جميع النجاسات.

من خلال تطرق الملحمة لفكرة الماء والزيت نجد هذا الأمر من الأمور الأساسية لكي يقبل أي إنسان في جماعة دينية، فعند المسيحيين يجب حتى يعمد الإنسان الذي يدخل المسيحية بالماء، وفي الإسلام عليه حتى يغتسل بالماء ليدخل الإسلام، فكأن الاغتسال هنا لا يطهر الجسد وحسب بل الروح والعقل أيضا، من هنا نقول بان فكرة الاغتسال والتطيب لها جذور دينية منذ حتى أوفد الله الأنبياء والرسل للبشر.

وبعد التطهر يأتي دور العمل الذي سيكمل به انكيدوطريقة نحوالانسنة الكاملة، فيأخذ أسلحة الرعاة ويقوم بعملهم، إلى غير ذلك أصبح انكيدوإنسانا كاملا، لا يختلف عن بقية الناس إلا بقوته الجبارة، وبهذاقد يكون قد انضم إلى المجتمع البشري من خلال المرأة التي نجحت في مهمتها واستطاعت حتى تسيطر على الوحش وتقوده كما تقود الأم طفلها ثم تفهمه السلوك الإنساني.

في نهاية هذا الفصل نريد حتى نشير إلى الأفكار التي تناولتها الملحمة، خاصة ما يتعلق منها بطبيعة المرأة، فهي ذات قدرة على القيام بالأعمال التي لا يستطيع الرجل القيام بها، وهذا الكائن ـ الضعيف ـ في نظر البعض يمتلك من القدرات الشيء الكبير، وهذه القدرات من أساسيات الوجود الإنساني على الأرض، فهي التي تهذب الإنسان وتخلصه من البداية نحوالتحضر والاجتماع، فالمرأة صاحبة دور أساسي في إيجاد الحياة الإنسانية على الأرض، وهناك إشارة إلى الجنس على انه عمل أنساني يتميز به الإنسان عن بقية المخلوقات، فإذا كان الإنسان يتكون نتيجة عمل الجنس فان انكيدوالوحش تأنسن من خلال الجنس، وكأن الجنس لا بد منه ليكون هناك إنسان حتى لوكان المخلوق كاملا مثل انكيدو، كما تظهر لنا الملحمة بان الانسنة لا بد لها حتى تمر من خلال المرأة وبواسطتها أيضا، والإشارة " تقوده كما تقود الأم طفلها " اتىت لتوحي للقارئ بان دورة نموللإنسان سيمر بها جميع البشر حتى لوكانت غير منتظمة كما هوالحال مع انكيدو.

انكيدوفي أوراك

قبل الحديث عن دخول انكيدوإلى حياة المدينة نريد توضيح بعض المسائل المتعلقة بانكيدووجلجامش، فحاكم المدينة جلجامش يمتلك من القوة الشيء العظيم بحيث لا يجد مكاناً أوطريقة لتفريغ هذه الطاقة الكامنة فيه.

يرى جميع شيء، يرى تخوم الدنيا
حكيم عليم، يعهد جميع شيء
يخترق حالك الظلام بثاقب نظره
يدرك الأسرار، يعهد ما يخفي على الناس
اتى بأخبار الأولين، بأخبار ما قبل الطوفان
جال في الأرض طويلا، أضناه التعب
وعلى لوح من حجر دون ما عمله وما رآه
بنى أسوار أرك، هيكلها المقدس
بنى أسوارا عجيبة لم يبنى مثلها الناس
هيكلا لآنو، كبير الآلهة، هيكلا لعشتار
تسلق أسوار أرك، تفحص آجرها
أساساتها، هل ترى بناء أحب منه؟
الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
و"هدد" الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله، وثلثه الباقي إنسان
أسلحته فتاكة، ألقى الرعب في قلوب الناس

أننا أمام إنسان خارق للقدرة الجسدية، مقاتل جبار، يحسب له ألف حساب، ذوموهبة على البناء والتعمير، باني للمدن بطريقة جديدة فيها من الجمال والقوة والإتقان ما يجعل بناءه فريدا، صاحب فهم وفهم كبير، سائح ورحال في الكثير من المدن والأماكن، مما أعطاه فهم وفهم ورجاحة العقل معا، هذا الكائن مزيج بين البشر والآلة معا، من هنا تأتي فرادة جلجامش عن الآخرين.

بغى وظلم، لم يهجر ابنا لأبيه
لكنه راعي أرك، فهوراعينا
لم يهجر فتاة لحبيبها، ولا ابنة جندي
ولا خطيبة لنبيل، بغى وظلم فضج الناس البشر

الكائن الخارق القوي المعمر والبناء والحامل للناس، لم يعد قادرا على السيطرة على القوى الكثيرة والمتنوعة الكامنة فيه، فأخذ يقوم بأعمال لا تليق بحاكم عظيم، أهل أوراك عهدوا جلجامش القوى المدافع عنهم والحامي لهم، تفاجئوا بأعماله غير السوية، فهوفي حقيقة الأمر لم يكن سيئاً أبدا، لكن بعد حتى أنجز ما أنجز من العمران والبناء ووصوله إلى المعارف ومن ثم الحكمة، تجواله في مشارق الأرض ومغاربها، لم تلبي جميع هذه الأعمال والأفعال وحجم الفهم طموحه، وجدها أدنى من جلجامش، وكأن الملحمة هنا تطرح فكرة حتى الإنسان لا يمكن يتوقف عند حد معين في طموحه، فهوكائن يبحث وباستمرار وبشكل مضطرد عن الجديد والبعيد، فهوساعي باستمرار للحصول على الفهم، فجلجامش يبحث عن شيء مبهم لم يحدد معالمه بعد، ولا يعهد تفاصيله أيضا، لكن هناك هاجس أوقوة خفية تدفع به إلى هكذا أعمال، من هنا كانت أعماله غير منطقية ولا مقبولة من الناس في أوراك، وإذا دخلنا إلى نفسه سنجدها تبحث عن شيء ولا تجده، من هنا لم يتردد ابداً في التعهد على الكائن القوي المتوحش انكيدو، فعندما سمع بان هناك مخلوقا غريبا في الغابة أوفد البغي مع الصياد لتجلبه إلى أوراك، المخلوق البدائي اخذ حيزاً من تفكير جلجامش، فهولا يعهد ماهية هذا المخلوق، يحس انه سيفتح له طريقاً لتفريغ ما بداخله من قدرات، وهذا التفكير بالمخلوق انعكس في أحلام جلجامش، الحلم الأول والثاني، كانا بمثابة فتح أبواب جديدة من الفهم وإفراغ القدرات الكامنة فيه.

والآن سنحاول تحليل نصوص الملحمة لتوضيح بعض الأمور المتعلقة بجلجامش

هوالذي رأى جميع شيء إلى تخوم الدنيا
هوالذي عهد جميع شيء وتضلع بكل شيء
سيد الحكمة الذي بكل شيء تعمق

هوالذي رأى جميع شيء، أبصر جميع الأمور حتى انه وصل إلى آخر الدنيا، فهوذومقدرة خارقة، وصاحب فهم وحكمة، كما يمتلك من القدرة الجسدية والإرادة الشيء الكثير، ومن هنا كانت معهدته وحكمته مقرونة بقوة جسده وإرادته معا، فهويمتلك من القوة والإرادة ما تؤهله للوصول إلى أي مكان يريد، وهنا نجد القدرات الكثيرة التي يتمتع بها جلجامش ـ الجسد، الإرادة، حب الفهم، وهذه القدرات الكثيرة تجعله قادراً على تحمل مشاق السفر، والإرادة التي يتمتع بها تجعل جميع الصعاب والمعيقات هينة أمامه، ومعهدته تساعده للوصول إلى مبتغاه.

فبعد حتى استطاع مشاهدة الكثير من البلدان والأراضي البعيدة والأمور العجيبة، تشكل لديه فهم نادرة ثم تحولت تلك الفهم إلى حكمة، فالتسلسل الذي تعطيه الملحمة، مشاهدة وفهم وحكمة هوتسلسل منطقي تماما ويتفق مع الفهم الحديث الذي يؤكد هذا الترتيب للوصول إلى الحكمة أوالفلسفة، فمحرر النص الملحمي يعطينا فكرة السومريين ومن اتىوا بعدهم بفهمهم العميق والمنطقي للوصول إلى ذروة الفهم ـ الحكمة ـ الاقتباس السابق يوضح لنا طبيعة جلجامش الذي وصل إلى أعلى درجات الفهم ـ الحكمة ـ وهذا يجعله محصنا ضد الجهل، أوالإقدام على أعمال بلهاء، لذلك أفعاله الظالمة لأهل أوراك على أنها حالة من تراكم الطاقة لم يعد صاحبها يستطيع السيطرة عليها، فهي التي تتحمل ما لحق بأهل أوراك من ظلم وليس جلجامش، فالنص الملحمي في حقيقة الأمر يريد حتى يقول لنا بان جلجامش يتنزه عن الإقدام على الأفعال والأعمال الهواتى، وهوغير مسؤول عنها، والمشكلة تكمن في القوة والطاقة التي في داخله وهي التي تدفع به ـ مرغما ـ ليقوم بها،

مضى في سفر طويل وحل به الضنى والإعياء
حمل الأسوار لأورك المنيعة
ومعبد إيانا المقدس العنبر المبارك
انظر فجداره الخارجي يتوهج كالنحاس
انظر فجداره الداخلي ماله من شبيه
تقرب فإيانا مقام عشتار
لا يأتي ملك، من بعد،ولا إنسان
أعل سور أوراك، إمش عليه
إلمس قاعدته تفحص صنعه آجره
أليست لبناته من آجر مشوي؟

جلجامش ذوالطاقات والقدرات الكبيرة قام بسفر طويل حتى أضناه التعب، ليحصل على الفهم، كما قام بتشيد المدينة المحصنة (أوراك) بنى أسوارها المنيعة ومعابدها المقدسة " آنووعشتار" فهذه المدينة اتى حضورها في بداية النص الملحمي وفي نهايتها لأنها كانت تحتل مكانة مرموقة في العهد السومري، وهذا الأمر يشير إلى اهتمام السومريون ببناء المدن وكذلك على أهمية المدينة التي كانت في ذلك العصر تشكل احد أبرز انجازات الإنسان القديم.

كما حتى الملحمة تعطينا صورة جلجامش الباني لأوراك والمهتم بالمعابد وهذه الأعمال ـ رغم أهميتها ـ لا تكفي ليكون جلجامش فريدا في انجازه وأفعاله عمن سواه، ولا تكفي لكي تخرج الكم الضخم من الطاقات والقدرات الكامنة فيه، ولهذا اتىت الأسطر أللاحقة لتوضح لنا ماهية هذا البناء، فهوليس بناءا عاديا كبقية الأبنية، بل في غاية الروعة والإتقان، فجودة البناء وجماله سمة ملازمة لكيقد يكون مميزا، ولهذا اتى الطلب ممن لا يعهد أهمية هذا البناء حتى يتفحصه ويختبر جودته وصلابته، وهذه إشارة إلى الثقة والاتفاق في عملية البناء، وبهذا أبلغتنا الملحمة بان السور لنقد يكون له مثيل. بعد الحديث عن أعمال جلجامش العمرانية تنقلنا الملحمة إلى هيئة جلجامش وصورته.

الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
وهدد الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله وثلثه الباقي إنسان

جلجامش هوخلق نادر للآلهة، فلم تخلقه كبقية البشر، بل مميز ليس له نظير، فهويمتلك الجمال "الذي وهبته الشمس"والشجاعة والقوة من"هدد" فكانت هيئته توحي بالعظمة، طول في الجسم وعرض في الأكتاف وكأنه احد مصارعين اليوم، فالأوصاف الشكلية والصفات الخلقية تجعل من جلجامش كائن فريد ليس له نظير أبدا، جزء منه إنسان وجزء منه اله، فهوإنسان في همومه وطموحه، وإله في شكله ومقدرته الخارقة.

الملحمة من خلال تناولها طبيعة جلجامش وما يتمتع به من قدرات وطاقات كانت وكأنها ترغب حتى تبرر لنا الأعمال وأفعال التي قام بها اتجاه أهل أوراك، الشجاعة التي يمتلكها وتمتعه بقوة كبيرة والفهم والحكمة التي حصل عليها نتيجة السفر المضني والطويل، جميع هذا يؤهله ليكون بعيداً عن التهور والانزلاق إلى الأعمال الرديئة وغير السوية، وآخر هذه التبريرات التي يطرحها النص الملحمي حينما وصفه بان ثلثيه اله، فما يراد من وضع السطر الأخير ليؤكد بان جلجامش له حتى يعمل ما يريد، حيث انه يتمتع بقدرات الآلهة فله حتى يعمل ما يحلوله دونما حساب، والمتتبع للنص الأسطوري والملحمي القديم يجد حتى من حق الآلهة حتى تعمل ما تشاء إذا كان عملها منطقياً أم لا؟، عادلاً أم دون ذلك؟، فهي صاحبة العمل المطلق.

بعد هذه المقاطع الثلاثة التي تناولت جلجامش وما يتعلق به، اتى الحديث عن أفعاله اتجاه أهل أوراك

ثار أهل أوراك في بيوتهم
لا يهجر جلجامش ابنا لأبيه
ماضي في مظالمه ليل نهار
هوراعي لأوروك المنيعة
هوراعينا القوي الوسيم الحكيم

أهل أوراك بهذه الحالة لا يطالبون بإزالة جلجامش من مدينتهم، ولا يعترضون عليه شخصيا، بل على أفعاله الأخيرة التي قام بها تحديدا، وإذا قارنا فحوى الحدثات التي حملها الناس نجد الشكوى مقرونة بالمديح، وهناك تسوي في عدد اسطر الشكوى والمديح، إذن هل أورك يريدون جلجامش صاحب البطولة والمجد والحكمة والباني والمدافع والحامي، وصاحب الهيئة الجملية، ولا يريدونه حتى يستمر في أفعاله الشاذة الأخيرة. نعود إلى الحدث الجديد والمخلوق الذي يرعب الصيادين ويقوض عملهم، وكيف استطاع هذا المخلوق حتى يشكل هاجساً عند جلجامش

سر يا صيادي الأمين أصطحب معك بغيا

هذه الحدثات نطقها جلجامش للصياد، وهي أول حديث مباشر له في الملحمة، فكل الأسطر السابقة كانت على لسان الراوي أوعلى لسان أهل أوراك، الحدثات اتىت هادئة ليس فيها عنف أوانفعال، واتىت كطلب مؤدب وبطريقة لبقة، تنم عن الحكمة التي يتمتع بها جلجامش، فالطلب اتى وكأنه من صديق يطلب من صديقه وليس من حاكم لمحكوم، وهذا الأمر يشير إلى الحكمة واللباقة التي تمتع بها جلجامش، وكأن محرر النص الملحمي يريدنا حتى نصطف إلى جانب أهل ورواك في موقفهم من جلجامش، فهذا الكلام اللطيف يجعلنا نتريث قليلا لنعهد سبب الأفعال والأعمال ـ غير السوية ـ التي أقدم عليها، فمن يتحدث بهذه الكيفية وهذه اللباقة لا يمكن حتىقد يكون سيئاً.

الحدثات التي نطقها جلجامش يستدل منها على حبه لفهم ما جديد، فهويعشق الفهم كما يعشق المغامرة، فهويفكر بهذا المخلوق الذي يشعر بأنه سيلبي طموحه ويستطيع به ومن خلاله حتى يفرغ القوة والطاقة الكامنة فيه، وهذا الشعور اتى مستندا على أقوال الصياد عن الوحش ثم على الحدس عند جلجامش، ونستطيع حتى نقول بان الوحش أصبح يشكل هاجساً عند جلجامش من خلال أحلامه.

أماه رأيت في البارحة حلما
كانت السماء حاشدة بالنجوم
وكشهاب آنوالثاقب واحد منها انقض علي
رمت حمله فثقل علي
حاولت إبعاده فصعب علي
تحلق حوله أهل أوراك
نجم السماء هذا نظير لك
هورفيق عتي يعين الصديق عند الضيق
أقوى من الفلاة ذوبأس عظيم
متين العزم كشهاب آنوالثاقب
وهذا يعني أنه لن يتخلى عنك قط

لقد عثر جلجامش الشيء الذي يبحث عنه، وها هي أمه تخبره بحقيقة الخبر، فجلجامش الذي سعى إلى شيء لا يعهد ماهيته حصل على بعض المعالم عنه، فهوإنسان صديق قوي جدا ، وصاحب عزيمة ويتميز بالإخلاص والتضحية في سبيل من يحب ، واتى الحلم الثاني ويحمل نفس المضامين.

في أوروك المنيعة، فأس مطروحة، تجمعوا عليها
تحلق أهل أوروك حولها
أحاط أهل أوروك بها
تدافع الناس إليها

من خلال الحلم الأول والثاني نستنتج بأن جلجامش كان يشعر في قرارة نفسه [أن أهل أوروك مظلومين ، ولهذا اتى حديثه عن الحلم الأول والثاني يتحدث عن الناس في أوروك، ولنمعن النظر في الحدثات التي استخدمها "في أوروك المنيعة" هذا يعني أنها محصنة، ولا يمكن لأي دخيل حتى يدخلها، "فأس مطروحة" لم تكن هذه الفأس عادية بل فأس غير التي نعهدها، أوهي شيء يشبه الفأس، هي رمز لشيء عظيم، ولهذا كان ذلك التجمع عليها، ثم يضيف جلجامش حدثة "تحلق حولها" وهنا لنحصل على استمرارية العمل ولتعبر عن اهتمام الناس بهذه الفأس، ويستمر حديثه عن الفأس مشيرا إلى الأهمية التي يرى بها أهل أوروك هذه الفأس فيقول مكملا حديثه "أحاط" وهذا يعطي مفهوم التجمع من كافة الجهات حول هذه الفأس، وبعد حتى اقترب منها الناس اخذوا بالتدافع لمشاهدتها، وهنا نجد التنافس بين الناس لتقرب أكثر من هذه الفأس، وهذا الوضع يؤكد بان جلجامش كان يشعر بالأحوال السيئة التي يعيشها أهل أوروك، وإذا عدنا إلى الحلم الأول نجد نفس المضامين لفكرة "النجم" فهناك حدثات استخدمها جلجامش يروي بها حلمه مثل "تحلق" "تجمهر" "أحاط" . ومن خلال ما تقدم نستطيع حتى الجزم بان اهتمام جلجامش بأهل أوروك كان حقيقة واقعية وليس تفسير أحلام، وهذا القول تأكد بعد موقف جلجامش من عشبة الخلود فأول حدثة نطقها بعد حتى خرج من الماء.

سأحملها معي ألي أوروك المنيعة وأعطيها للشيوخ يقسمونها
ولسوف أكل منها أيضا فأعود إلى شبابي

لقد كان جلجامش عملا حامياً لأوروك ولأهلها، ولم يكن أبدا ذلك الظالم المتغطرس، ولهذا حينما حصل على العشبة ولم يفكر في نفسه، بل بأهل أوروك أولا، وهذا ما جعله يحتفظ بالعشبة ولا يأكل منها، مثل هذه المواقف لا تكون ألا عند من هم يضحون بأنفسهم في سبيل المجموع. وسنكمل الحديث عن العشبة وجلجامش حينما نصل ألي الحديث عن الحلم ألإنساني، والآن نعود إلى حلم جلجامش وكيف تفسر أمه ننسون هذا الحلم.

الفأس التي رأيت، رجل
معنى ذلك رفيق عتي، يعين الصديق عند الضيق

وحينما سمع جلجامش هذه البشرى من أمه مرة أخرى ونطق بحدثات.

نطق جلجامش هل حظي حن لا فوز
بمثل هذا القوى الوفي

بداية الوصول إلى طرف الخيط تبدأ، وهذا الوصول بدأ فكريا أولا، حيث حتى جلجامش يفكر بهذا المخلوق الذي سيكون الصديق الوفي، ويمتلك قوة تعادل قوته، إذن نستطيع القول بأن هناك دوافع واضحة عند جلجامش للتعهد على هذا الرجل الذي سمع عنه من أمه، وهناك رغبة وشوق للقائه بعد هذه البشائر التي سمعها.

ننتقل للحديث عن أنكيدو، أنكيدوالإنسان الذي ما زال يحمل غريزة الدفاع عن الضعفاء أيا كانوا وأينما كانوا، ولقاءة الأشداء والتصدي لهم، وإذا عدنا إلى حديث المرأة مع أنكيدو، نجد هناك تحريضا من المرأة على جلجامش، لكن هذا التحريض لم يكن باتجاه الصراع الدموي بل باتجاه إيقاف جلجامش عن ظلمه، وأنكيدوكان يثق بقوته الجبارة، وكان يعتبر نفسه أقوى الرجال جميعا، ولا يوجد من هوأقوى منه، وهذه الثقة ظهرت من خلال حديثه مع المرأة.

سأناديه وأحدثه بجرأة
سيجلجل صوتي في أوروك أنا الأقوى
نعم أنا من سيغير نظام الأمور

انكيدومندفع غريزيا للقاءة جلجامش، ليثبت من خلالها انه الأقوى، ثم يغير من خلال حسم اللقاءة لصالحة، النظام السائد القديم، ظلم أهل أوراك من قبل جلجامش، ومن خلال الحدثات السابقة نجد تشبثه بالدفاع والوقوف إلى جانب الضعفاء، وكأنه عثر للدفاع عنهم، حتى كان في الغابة ـ مساعدة الحيوانات ـ أم في المدينة ـ وإذا عدنا إلى علاقة انكيدوفي الغابة مع الحيوانات من جهة، والصياد جهة ثانية، نجد عمله اقتصر فقط على إنقاذ الحيوانات دون الحاجة إلى اللجوء للصراع مع الصياد، وهذا يشير إلى انه لا يسعى إلى صراع دموي قاتل، وهولا يرغب بمثل هذا الصراع، بل يسعى إلى صراع ودي يثبت من خلاله أنه الأقوى ثم يغير النظام بعد الفوز بالنزال، وهذا ما نطق به انكيدوقبل الشروع والذهاب إلى أورك:

نفسي تود حتى تتحدث إليه، خذيني

من خلال ما تقدم نستطيع القول بان هناك دوافع ورغبات عند انكيدوللقاء جلجامش، وهناك أيضا رغبات مماثلة عند أهل أوراك للخلاص من ظلم حل بهم، وبعد هذا الحديث عن انكيدوننتقل إلى الحديث عن أهل أوراك عندما شاهدوا انكيدو:

دخل انكيدوأوراك ذات الشوارع العريضة
تجمهر الشعب حوله
تزاحم الناس وتحدثوا قائلين
انه توأم جلجامش
لكنه أقصر منه
إنه أضخم عظما

الناس تتجمع حول هذا المخلوق، ينظرون إليه بتعجب وأمل في آن واحد، ينتظرون منه تخليصهم من ظلم جلجامش، أهل أوراك الذين عهدوه حامي مدينتهم، يتحدثون عن المخلوق الجديد انكيدوويقارنوه بجلجامش، فهم لم يعهدوا أحدا بقوته ولا بهيئته، ولهذا اخذوا يقارنوا انكيدوبجلجامش، فهوتوأمه وهذه إشارة إلى تشابه الهيئة بينهما، إلا حتى هناك فوارق بينهما، تكون في صالح انكيدومرة ولصالح جلجامش في الثانية، الطول لصالح جلجامش، والصلابة لصالح انكيدو، وبعد ذلك تنقلنا الملحمة إلى الحديث عن مشاعرهم اتجاه انكيدو:

فرحوا صاحوا الآلهة خلقت ندا لجلجامش

الشعور بالفرح سمة لكل من يقع عليه الظلم فهويبحث عن الخلاص من القادم، مهما كان، المهم عند المظلوم هوحمل الظلم عنه، وهذا الأمر ـ فرح الناس ـ يؤكد على حتى المجتمع العراقي القديم يهتم بالمجتمع كما يهتم بالفرد، فهنا نجد احترام الملحمة لمشاعر الناس، واتىت تصور مشاعرهم حتى لوكانت هذه المشاعر لا تتوافق مع نهج وسلوك الحاكم، ونعتقد بان هذا الأمر يتجاوز عصر الدويلات العربية بكثير، وبعد هذا تتقدم الملحمة إلى الأمام وتأخذ بنشر أفكار سياسية عن الوضع الجديد الذي يؤمل حتىقد يكون واقعيا على الأرض:

فرح الناس
رأت بطلا قد ظهر
الآن عثر جلجامش نده
سيجد العظيم الذي يعادله

أن إصرار محرر الملحمة على ذكر أحوال الناس قبل وبعد ظهور المخلص انكيدووبهذه التفاصيل الدقيقة، وما يتبع ذلك من مشاعر وانفعالات وما يتبعها من حدثات، هوتأكيد على التطور الحضاري الذي وصله السومريون القدماء، وكذلك تأكيد على احترام مشاعر الإنسان والاهتمام بما يشعر به أيضا، فمهما كان موقفه من الأحداث، ضد أومع. وإذا كانت الملحمة في فكرتها تتحدث عن الإنسان الفرد "جلجامش" إلا أنها لم تهمل مشاعر العامة، ولهذا تم التطرق إلى الحديث المكثف عن الناس وما يشعرون به، وهذا يؤكد على النظرة المتكاملة للفرد والمجتمع معا، فلم يتم إهمال أي منهم، وكأن الملحمة خطت لتنسجم في طرحها مع المدرسة الواقعية الاشتراكية ومدرسة الفن للفن. بعد هذه الصور لأحوال الناس تعود الملحمة بنا إلى جلجامش وانكيدو:

اقترب جلجامش اعترض انكيدوالطريق
سد في وجهه الطريق
تقدم إليه التقيا في وسط سوق المدينة
سد انكيدوالباب بقدمه
منع جلجامش من الدخول
تصارعا نخرا كالثيران
حطما أركان البيت اهتز الجدار
انكيدووجلجامش يتصارعان
ينخران كثورين حطما أركان القاعة
اهتزت الجدران
انحنى جلجامش قدمه راسخة في الأرض

إذا تمعنا في اللقاءة بين جلجامش وانكيدو، نستطيع التعهد على الكيفية التي يفكر بها جلجامش، فهوشخصية لا تعهد الحواجز أبدا، خاصة في مدينته، ويجب حتى تكون وتبقى مشرعة له دائما، هوحاميها وملكها معا، كما انه يجد نفسه أقوى الرجال فيها، وهوالذي سمع من أمه عن مخلوق غريب قوي سيكون صديقا، فهويعيش في فترة انتظار لهذا الصديق الوفي، ومن هنا انعكس ذلك على طبيعة المنازلة مع انكيدو. وفي الجانب اللقاء هناك انكيدوالذي اتى إلى أورك ليوقف الظلم الواقع على أهلها، وليوقف من يقوم بهذا الظلم، ما جعله يسد الطريق أمام ـ الظالم ـ، جلجامش لم يعهد أحدا يتصرف في مدينته هكذا، وهذا ما جعله يثور على من أقدم على هذا العمل، وإذا دخلنا إلى تفاصيل النزال نجده عنيفا حيث تحطمت الأبواب وتناثرت أركان القاعة، وحتى الجدران اهتزت، ثم انتقل الصراع من البيت إلى القاعة العامة، ومرة أخرى تهتز الجدران وتتحطم الموجودات، ومن ثمقد يكون الحسم لصالح جلجامش، بعد حتى يقع انكيدوعلى الأرض:

ولما عاد إلى الوراء
نطق له انكيدو
لا يوجد لك نظير في العالم
فليرتفع رأسك فوق الناس جميعا
لأن قوتك تفوق قوة البشر

رغم قوة المنازلة وعنفها لم تكن نتيجتها دموية، وهذه النتيجة اتىت منسجمة مع ما يفكر فيه جلجامش ـ اللقاء مع الصديق الوفي ـ، الذي عمل الظلم بدوافع تكاد تكون خارجة عن إرادته، أونتيجة إحساسه بالعبث، وكذلك اتىت منسجمة مع عقلية انكيدوالذي اتى ليوقف الظلم فقط، فجلجامش ينتظر اللقاء بصديقة القوي بلهفة، وانكيدوعثر في هذا الخصم العنيد إنساناً كريماً لا يسعى إلى سفك الدماء، وإنما إلى شيء آخر، ولذلك خاطبه بتلك الطريقة اللطيفة.

أن تعظيم انكيدولجلجامش لم يأت بدافع الخوف أوالذل الذي لحق به في المنازلة، بل بدافع الاحترام، فانكيدوالذي عهد طبيعة الصراع في الغابة، بين الحيوانات والصياد، لم يشاهد مثل هذا التصرف النبيل، إلى غير ذلك هجر جلجامش في نفسه تأثراً ايجابياً، وإذا دخلتا إلى نفسية جلجامش وانكيدو، نجدهما يرغبان في لقاءة بعضهما، جلجامش يفكر بذلك الوحش الذي سمع عن قوته من الصياد أولا، ثم من أمه ننسون التي نطقت عنه ينقذ الصديق عند الضيق، والذي له قوة جند السماء، فكان يشعر بان هذا الصديق هوخصمه العنيد الذي يتصارع معه، أما انكيدوالذي اتى يوقف الظلم الذي حل بأهل أوراك، كان يسمع بجلجامش صاحب القوة الكبيرة على لسان البغي.

نتوقف قليلا لنوجه الحديث عن المرأة، فهي التي غيرت الوحش انكيدوإلى إنسان ومهدت له الطريق ليلتقي بنظيره جلجامش، أم جلجامش ننسون أعطت ابنها إشارات بأنه سيلتقي بصديق استثنائي، فالبغي قامت بدورها مع انكيدووننسون مع جلجامش، فالمرأة إذن من العناصر الفاعلة في الحدث الملحمي، ولم تكن على الهامش أبدا.

وبهذه النتيجة ـ انتهاء الصراع ـ بين جلجامش وانكيدو، ويكونا قد تجاوزا إرادة الآلهة، التي أوجدت انكيدوليكون نداً دائماً لجلجامش ولينشغل به ومعه في صراع مستديم لا ينتهي، إلا حتى جلجامش الرافض للخضوع دوما يقلب المخطط ويجعل من الخصم صديقه الحميم، فكانت الصداقة بينما كصفعة للآلهة التي تعتبر نفسها المسير لهذا الإنسان، ومن هنا سيكون لهذه الصداقة نتائج تتناقض مع قرارات ومخططات الآلهة.

غابة الأرز

جلجامش يحمل فكرة التمرد على جميع ما كائن، ونفسه تأبى التسليم للأمر الواقع، ويسعى السموفوق الجميع، ويريد حتىقد يكون أنموذجاً فريدا يسترشد بعمله من الآخرين، فيقرر الذهاب إلى غابة الأرز ليكون مميزا عن الجميع ويخلد اسمه ولا يفنى كبقية البشر، ولتستقر نفسه الباحثة عن المحال، فهويعهد حتى أيام البشر معدودة ولا يمكن تجاوز القدر، ومع هذا لا يريد الاستسلام وبهذه الحقائق يسعى ليتخطاها رغم استحالة ذلك، فهويرفض وبإصرار حتىقد يكون من الفانين، وسيعمل جاهدا لكي يبقى خالدا والى الأبد.

اتخذ جلجامش قراره بالذهاب إلى غابة الأرز، ورغم بعدها وصعوبة الوصول إليها وخطورة تلك الرحلة، إلا انه يقرر الذهاب، فيستشير صديقه انكيدوأولا:

هيا نمسح الشر كله عن وجه الأرض

اتىت حدثات جلجامش لتعيده إلى ذاته الخيرة، التي ترفض الشر وتسعى للخير، من هنا يريد حتى يخلص الناس من الشرور مهما كان مصدرها ومصدرها، انكيدوعاش في البرية ويعهد غابة الأرز ويعهد طريقها ومن هوحارسها، وبهذه الفهم تحدث لجلجامش

أنها تمتد عشرة ألاف فرسخ في جميع اتجاه

لقد عين انليل هواوا لحراستها وأسلحته بسبعة ألوان الرعب
عندما يزأرقد يكون صوته كهدير العاصفة
أنفاسه مثل النار وأنيابه الموت بعينه
انه يحرس الأرز بيقظة كبيرة
أن الخوف يستولي على جميع من يقترب منها
ليس صراعا متكافئا عندما يقابل المرء هواوا
انه محارب عظيم، انه إله التحطيم

أنكيدوالصديق الوفي يخبر جلجامش بكل ما يعهد عن الغابة وعن حارسها ، فهي بعيدة جدا والوصول إليها يحمل الكثير من المشقة والتعب، وهذه أول المعيقات أمام الوصول إليها، وهناك أرادة سماوية لحماية الغابة من الدخلاء، وهذه الإرادة متمثلة بأنليل الذي وضع هواوا أوخمبايا لحراستها، وبما حتى هذه الإرادة سماوية إلا حتى الحارس هواوا يمتلك أسلحة سماوية وقوة جبارة وهيئة مرعبة، تتمثل فيما يلي، منظر مرعب يلقي الرعب في قلب جميع من يتجرأ وينظر إليه، ويمتلك صوت العاصفة الهواتى، ويخرج النار من فمه، وأنيابه مثل السيف، هذه الأوصاف لا يمكن حتى تكون لرجل أوإنسان بل لمخلوق متوحش أسطوري.

أن خمبابا هوكائن رهيب يمتلك تلك المقدرة الإلهية وهودائم اليقظة يسمع جميع من يقترب من الغابة، ويضيف أنكيدومحذرا جلجامش من السفر إلى الغابة، الرعب يدب بكل من يمضى إلى تلك الغابة، وكذلك المنازلة مع ذلك التنين هونزال محسوم سلفا لصالح التنين، ويكمل أنكيدوحديثه عن قوة الحارس قائلا، إنه محارب عظيم وهذا يعطي خمبابا الخبرة في القتال وليس القوة فقط، وهذا ما يجعل منازلته شبه محالة. بعد سماع جلجامش هذه المعلومات، يرد على أنكيدوبحدثات يريد من خلالها جلب أنكيدوللموافقة على سفره إلى غابة الأرز.

يا صاحبي من الذي في وسعه حتى يدحر الفناء
ليس سوى الأرباب تحت الشمس من يظفر بالبقاء
أصبحت ترهب الردى ونحن لم هبط هنا
فما الذي دهى النزال فيك والبطولة
أهكذا تحقق المنى
وما الذي عساني حتى أقوله
دعني إذن أسير قدامك يا أنكيدو
أسير وليناديني فوك: تقدم لا تخف
فأن أصاب مهجتي التلف
أكون قد دونت لي اسما خالدا
وسوف يذكرون عني قائلين أبدا:
لقد قضى جلجامش في نزال خمبابا المريد

جلجامش يعهد كيف من الممكن أن يخاطب الأبطال أصحاب العزائم القوية، ويعهد كيف من الممكن أن يثير فيهم العزيمة لقد استخدم جلجامش الخطاب الفكري أولا ثم ألأخلاقي ثانيا، مستخدما حدثات موجعة مؤثرة، لقد اتى حديثه عن الخلود والموت يحمل بين معانيه الذل والتقريع لك من يريد حتى يبقى ساكنا غير يعمل، ويحمل أيضا الإقناع المنطقي، فأصحاب العمل لن يغيروا نظام الحياة والموت، وأصحاب عدم العمل لن يغيروا كذلك النظام، ومن هنا اتى سؤال جلجامش في بداية حديثه " يا صاحبي من الذي في وسعه حتى يدحر الفناء" يحمل الإقناع المنطقي، ويدفع بألهمم لصالح طرحه.

وبنفس الأسلوب الذي بدا فيه أنكيدوالحديث مع جلجامش، يرد عليه جلجامش ودخل الآلهة في الموضوع كما أدخلها أنكيدو، واتىت حدثاته واضحة مثل الشمس ليس فيها غموض أوإبهام، ويكمل جلجامش حديثه عن الإنسان والأيام المقدرة له من الإلهة، اتى هذا الخطاب الفكري لإقناع أنكيدوبأن قرار جلجامش الذهاب إلى غابة الأرز هوقرار صائب، لكن كيف من الممكن أن سيقنع أنكيدوبان يمضى معه إلى الغابة ،يا ترى؟ من خلال فهم جلجامش لنفسية أنكيدوالمخلص، اتىت حدثاته أللاحقة فيها النار التي تشعل الزيت في قلب أنكيدوالشجاع، ويبدأ معه بحدثات تدفعه نحوالقبول بألعمل، أيعقل حتىقد يكون أنكيدوالقوي يخاف من مجرد ذكر خمبابا وهوما زال في حضرة جلجامش!، أليس هذا امتهان لانكيدو؟، ثم يسأل جلجامش أنكيدوبحقيقة مؤلمة، أين مضىت قوتك،يا ترى؟ واتى هذا السؤال إنكاري لتلك القوة التي يحملها أنكيدو، ويكمل حديثه أنا أسير أمامك وأنت خلفي، مفهوم هذه الحدثات في نفس أنكيدو،النار الحارقة التي يحترق بها وكيف يسير في الخلف وهوالشجاع؟، ولا يكتفي جلجامش بذلك بل يكمل بجملته القاتلة: "وأنت تصرح تقدم ولا تخف" هذا الحديث جعل أنكيدويعيد جميع حساباته، ولقد ذهل من سماع هذه الحدثات وها هويعد العدة مع جلجامش للذهاب إلى غابة الأرز، وكأن الحدثات التي سمعها هي تحدي شخصي له، فيقرر المضي مع جلجامش ويأخذ في أبداء النصائح لجلجامش ليكون سفرهما ناجحا.

فأبلغ اتو(شم) أوتوالبطل
أن الأرض أرضه
أن ارض الارز الذي ستقلعه تخص أتو

هذه النصيحة التي وجهها أنكيدولجلجامش تكون البداية لسلسلة من الإجراءات يتخذها جلجامش قبل السفر، وعملا يخبر جلجامش الإلهة شمس، وتكون هذه حدثات جلجامش لشمس الإله:

يموت الرجل في مدينتي، وقلبه مثقل بالهموم
يهلك الرجل وهومحزون القلب
ها أنذا أنظر من فوق الأسوار
فأرى الجثث تطفوعلى النهر
وأنا سيحل بي حقا نفس المصير
الإنسان أطول إنسان لا يمكنه حتى يطال السماء
الإنسان أعرض إنسان لا يمكنه حتى يغطي الأرض

اتى خطاب جلجامش لهذا الإله فيه هم الإنسان الذي يحمل هموم الناس جميعا، جلجامش يحزن من مشاهدة الرجال موتى، وقبل حتى يحصلوا على شيء من الحياة، وهذا الحقد على الموت سيكون هوأحد أبرز الصراعات التي يخوضها جلجامش، فهويكتفي بالحقد هنا، ولم يصل بعد إلى فترة التناقض معه، فهورفض ـ مسالم ـ يريد حتىقد يكون فعالا يظهر صورته أمام الناس وأمام الإلهة كبطل حقق شيئا مميزا وفريدا.

جلجامش هنا يعمل ضد جميع ما ساكنا، ويسعى إلى حتىقد يكون جميع شيء متغيرا، فالسكون وعدم الفاعلية والثبات نقائض يعمل جلجامش على إزالتها من الكون، وبعد هذا الهم الجماعي لأهل أوروك ينتقل جلجامش ألي همه الشخصي مخاطبا شمس، هل سيحل بي نفس المصير؟، هذا السؤال يؤكد بأن جلجامش يرفض حتى يسلم للأمر الواقع – قدر الموت ـ وكذلك بإنسانيته، ولكن سيعمل بشكل مخالف لعمل الإنسان العادي، فهويتميز عن بقية الناس ليس بقوته وهيئته وحسب بل بالعقلية الرافضة كذلك، وبعد هذا السؤال ينتقل جلجامش للحديث عن فلسفته اتجاه الموت وكيف ينظر لهذا الموت، فكأنه يقول للإله شمس، ما دام الإنسان أعظم إنسان لن يصل إلى السماء ولن يغطي الأرض لأنه سيموت في النهاية فدعني اعمل قبل حتى أموت، وبعد هذا الحديث يوافق شمس على سفر جلجامش ويعطيه الأمان في الذهاب والعودة إلى أوروك سالما.

وبعد هذا الانجاز موافقة أنكيدوثم مباركة الإله شمس، يأتي الإعداد والتجهيز لتلك الرحلة الطويلة، يأمر جلجامش الصناع لكي يصنعوا أقوى ألأسلحة ليقابل بها خمبابا، وأثناء ذلك يفهم شيوخ أوروك انكيدوعن خمبابا الذي لا يمكن قهره، يرد عليهم جلجامش بمنطق الرافض للسكون.

بماذا سأحبهم؟
وسأمكث داخل بيتي جميع أيام حياتي؟

استخدم جلجامش صيغ التحقير لحالة التسليم والسكون ليثير المستمعين نحورفض هذا السكون والتسليم بما هوقائم، واتىت حدثاته تحمل فلسفته عن الحياة والعمل وبعد هذا الحديث مع الشيوخ والإله شمس وأنكيدومن قبل، نستطيع القول بأن جلجامش يسعى إلى سموالإنسان ويعمل على رفض جميع ما قائم مقدر، وهويمتلك فلسفة خاصة به عن الحياة والعمل والموت والسكون، وهذه الفلسفة تعتمد على الإنسان الذي يعتبره جلجامش بموازاة الآلهة، وقد استخدم أسلوب التحقير المحرض على العمل، وهذا الأسلوب كان مقنعا جدا، حيث حصل على دعم جميع من تحدث معه.

وقبل حتى يبدأ جلجامش وأنكيدوالرحلة إلى غابة الأرز، ويدخل جلجامش على أمه ننسون ليحصل على مباركتها، واتىت حدثاتها كما يلي:

أي شمس لما أعطيت لأبني قلبا لا يعهد الراحة
لماذا أعطيت هذا القلب لجلجامش
أنت دفعته فهوالآن في طريقه إلى ارض خمبابا
سيسير طريقا مجهولا ويخوض معركة غريبة
لا تنسه إذن من يوم رحيله حتى يوم عودته
حتى يصل غابة الأرز ويقتل همبابا
ويحطم الشر الذي تمقته يا شمس
بل دع الفجر "أيا عروسك العزيزة تذكرك دائما
وإذا ولى النهار دع حارس الليل يحفظه من جميع أذى
ثم أطفأت ننسون أم جلجامش البخور والتفتت تحرض انكيدو
أي أنكيدوالقوي ... يفترض أن استقبلك كإبني بالتبني، أنك ولدي الآخر
اخدم جلجامش كما يخدم اللقيط المعبد والكهنة الذي ربوه
أني أتمنك على ابني فأرجعه إلى سالما

حدثات أم جلجامش تحمل العاطفة الجياشة، والحرص على ولدها من الأذى، ويستدل منها على حالة الاضطراب التي تمر بها، فهي تحمل الإله الشمس مسؤلية ما أقدم عليه ابنها، فهومن منحه قلب لا يعهد السكينة والراحة، وكان عتابها للإله شمس لتريح نفسها من الثقل الذي يتعب نفسها أولا، ثم لتحصل على دعم إضافي من شمس، فبعد حتى افرغت ما في نفسها من هم من خلال الحدثات التي وجهتها لشمس، شعرت بالراحة النفسية، ثم أخذت تطلب منه حتى يحمي ولدها في سفره وفي عودته، وان ينصره على عدوالإله شمس خمبابا، وكان استخدام حدثة "الذي تمقته" لتحمل شمس على الاندفاع أكثر لمساندة جلجامش في مغامرته، فكأن جلجامش أقدم على تلك المغامرة نيابة عن الإله شمس، واتى السطران الأخيران من حديث ننسون لشمس فيهما الهدوء ولا يحويان حدثات الانفعال والاضطراب كما هوفي بداية حديثها، وهذا التسلسل المنطقي في ترتيب الحدثات ينم عن القدرة وحالة الإبداع الفني في الكتابة الملحمة والتي يتمتع بها من خط النص الملحمي.

بعدها تنتقل ننسون إلى توجيه كلامها لانكيدومرافق ولدها وصديقه، فتحدثه حديث الأم لابنها وتجعل منه ابنا لها، ثم تأخذ في توصيته على جلجامش ليعود إليها سالما، ولان انكيدووفي لأصدقائه كانت حدثات ننسون تجعل منه المسؤول عن سلامة جلجامش. وإذا تمعنا في الحدثات التي خاطبت بها ننسون نجدها قد وضعت بدقة متناهية، فتم محاورة جميع شخصية بما يناسب وضعها، وهذه الحوارات تحمل تفاصيل شخصية جميع من تحدث وحدث في آن واحد، فتم محاورة جميع شخصية حسب الموقف الذي يراد مها القيام به. بهذا الرضا الأمومي ومباركة الأرباب وصحبة الأصدقاء ينطلق جلجامش إلى غابة الأرز مونادى أهل أوراك وداع الأحبة، موجهين له النصائح التي تعبر عن الحب والحرص على شخصه، وينفذ الحاكم الحامي تلك النصائح والوصايا ويجعل انكيدويسير في المقدمة أمامه، يسير الصديقان إلى غابة الأرز، يبتران الجبال السبعة وفي ثلاثة أيام يبتران مسيرة خمسة وأربعين يوما، يتقدمان في المسير نحوغايتهما، إلى حتى يصلا مشارف الغابة، وهناكقد يكون احد الحراس الذي يحرسون الغابة، يصاب جلجامش بالنوم فلا يقوى على الحركة فيحدثه انكيدويحرك فيه الحمية والشجاعة

تذكر ما قلته في حضرة شيوخ أوراك
انهض تقواهجم عليه، اقتله
أنت ابن أرك
سمع جلجامش هذا الكلام
أسرع لمنازلته تقلد أسلحته

الملحمة في هذا الجزء تستخدم حدثات دافعة للقتال على مسامع أبطالها حين يصابون بالتهاون أولتراخي، محرضة إياهم على الإقدام، فها هوانكيدويخاطب جلجامش بعين الأسلوب الذي خوطب به في أوراك حاثا إياه على الشجاعة والاقدام، وداعيا إياه الابتعاد عن الخمول والتهاون، فكان تذكيره بالحدثات التي قيلت له في أوراك، وانه ابن تلك المدينة الشامخة العصية المنيعة، وبعد سماعه هذا الكلام يتجاوز جلجامش حالة التراخي السلبي ويعود إلى ذاته القوية.

يقف جلجامش وانكيدوأمام مدخل الغابة ويحاول انكيدوالدخول فتشل يده ويدب الخوف والرهبة في نفسه، ويطلب من جلجامش حتى يوقف الرحلة إلى هذا الحد، إلا حتى جلجامش العنيد يخاطبه ليزيل عنه ثوب الخوف والهلع:

نطق جلجامش لا تكن يا صديقي كرجل ضعيف
أنت تفهم الحرب، يداك حذقتا فنونها
لا ترهب الموت... إبق معي
سيزول شلل يدك...
سنتوغل في الغابة ... إنس الموت
تقدم منقد يكون في المقدمة يحفظ حياة
من يمشي وراءه... إذا سقطنا نخلد اسمينا

حدثات جلجامش اخف وطأة من سابقتها، وهذا يعود إلى خطورة الموقف الذي أصبحا فيه، فاتى استخدامه لحدثات تعيد الثقة لانكيدو، وتحفيزه على الاستمرار في المسير، ثم يأخذ في طمأنة انكيدوبأنه سيكون في أمان إذا استطاع حتى يتجاوز حالة الخوف والهلع الذي دب فيه، فالخوف وهوالشر الذي سيلقي بهما إلى التهلكة، ولكذلك لا بد من إزالته. يعود جلجامش إلى التأكيد إلى قراره دخول الغابة ولا مجال للعودة عن القرار، ويخاطب انكيدومشجعا إياه بفلسفة جلجامش عن للحياة والموت والعمل وعدم العمل، ويخبره بأنه سيكون أمامه في المسير، وهناقد يكون جلجامش درعا لانكيدو، ويقلب المواقع التي ابتدأ بها الطريق، فبدلا من حتىقد يكون انكيدوفي المقدمة لحماية جلجامش ها هوجلجامش في المقدمة ليحمي انكيدو، ويعطيه الثقة ومن ثم يحثه على تجاوز حالته السلبية، وهذا يستدل منه على عدم التقيد بالأنظمة بطريقة جامدة، ويجب التعامل مع جميع ظرف حسب ما يقتضي وما يمليه الواقع، وأخيراً يذكر جلجامش بأنهما في حالة الفشل ـ حتى حصل ـ سيكونان معا، وهنا يستعيد انكيدوعافيته وقوته، ويدخلا الباب فإذا بهما أمام لوحة طبيعية مبهرة، ويحلم جلجامش حلما يقصه على صديقه انكيدوفيكون هذا بشارة النجاح والنصر، فيقول انكيدوسيقتل خمبابا حارس الأرز على أيدهما، هذا تفسير الحلم، ويحلم جلجامش حلما آخر يقصه على انكيدو، وتكون فيه أيضا البشرى مرة ثانية، إلى غير ذلك يتقدم الصديقان ويبتران أشجار الأرز، فيسمع خمبابا دويها وهي تسقط أرضا، ويقترب منهما "وضع جلجامش درعه على صدره ... والتي تزن ثلاثين مثنطقا وكأنها لباس خفيف ونادى رفيقه ضع يدك في يدي فما عسى حتى يحدث لنا من سوء؟

كل المخلوقات الموجودة من اللحم ستحبس في النهاية في قارب الغرب ... إذا كان الخوف قد حل في قلبك فالقه عنك، خذ بلطتك في يدك واهجم من يهجر القتال قبل حتى ينتهي لن يعيش في سلام، ثم صاح جلجامش للتنين حتى يخرج للمعركة" بشور ص 213 و214 بعد حتى استعد القائد جلجامش للمعركة تناول عدة الحرب وارتدى اللباس ، بدا في إعطاء محاضرة تشجعه قبل الالتحام مع الخصم، مستخدما فيه الحث على القتال والتخلي عن الضعف والخوف، ويطلب من أنكيدوحتى يتناول سلاحه ويكون مستعدا للقتال، ثم يطلق حكمة المحارب المتمرس في المعارك لكل المقاتلين في العالم وفي جميع مكان وزمان "من يهجر القتال قبل حتى ينتهي لن يعيش بسلام" ونستطيع من خلال هذه المقولة حتى نؤكد بان الملحمة قد تجاوزت عصرها بكثير، فمثل هذا الكلام لا يمكن حتى يخرج إلا من إنسان وصل إلى قمة التطور الحضاري والمعهدي والثقافي.

خرج هواوا من بيته الارزي القوي
وأومأ برأسه وهزه منذرا جلجامش
وثبت نظرة عليه، نظرة الموت
تنفس وأمام زئيره، أحنت الأرزات رؤوسها
هجم مزمجرا كالعاصفة
زاعقا وكان الرياح قد أفلتت
استل الصديقان سيوفهما
استدار هواوا فلمح جلجامش وجه الشيطان
وجه مشوه أسنان عارية صفراء
وعينان حمراوان كالدم

بعد حتى أعطتنا الملحمة صورة جلجامش وانكيدووكيفية استعداهما للمعركة انتقلت لتحدثنا عن خمبابا وكيف يستعد للمعركة، إذا الحدثات التي استخدمت في وصف خمبابا تؤكد لنا بان هذا المخلوق هوتنين وليس إنسان واتى استخدام جملة "تنفس وأمام زئيره أحنت الارزات رؤوسها كدليل على أن" النيران تنبعث من فم التنين وتحرق الأشجار وهذا ما جعلها تحنى رؤوسها.

في جميع أحداث المعركة مع خمبابا لم يتم التطرق إلى استخدام خمبابا للأسلحة أولأدوات الحرب المعدنية مثل درع أوالسيف أوالبلطة وما إلى ذلك، وإنما تم ذكر استخدام قدرته الجسدية فقط ومن هنا اتىت حركات الرأس والنظر إلى الخصم بكيفية توحي بالافتراس، ثم اخرج النيران وإصدار أصوات مرعبه وبعد حتى استدار هذا التنين شاهد جلجامش وجهه المرعب الذي يؤكد على انه تنين يمتلك عينان حمراوان وأسنان صفراء حادة ووجه مخيف، حتى هذا الوصف لتنين أعطانا صورة أدق من تلك التي نشاهدها على التلفاز للتنين، ومن هنا استطيع القول بان الخيال الموجود في الملحمة هوعميق جدا وواسع استطاع حتى يصور لنا صورة خيالية لكائن خرافي بأدق التفاصيل، وهذا جعل ذلك الكائن يعيش في خيال الإنسان إلى هذا العصر.

وبعد هذا الحديث عن خمبابا نعود إلى المعركة وتفاصيلها مع هذا الوحش الرهيب، يصاب جلجامش وصديقه بالرعب فيطلب من شمش مساعدتهما للخلاص من هذا الوحش:

وتحدث جلجامش مخاطبا شمش
تبعت شمش سلكت طريقا قدره لي شمش
أشفق شمش استجاب لصلاة جلجامش
فهاجت الرياح الإعصار هبت على خمبابا
الريح الشمالية العاتية والجنوبية العاصفة
هبت الرياح والزوابع الرياح الحارة
فأعمت عيني خمبابا

إن الوحش خمبابا لا يمكن الفوز عليه بقوة بشرية فقط، فهويمتلك قوة الآلهة من الإله انليل، فكان لا بد من الاستعانة بقوة الآلهة للقضاء عليه، إلا حتى القوة البشرية هي الأساس في المعركة وهي رأس الحربة، وهي من وقف في وجه التنين وناداه للمنازلة واتىت القوة الإلهة تابعه لاحقه للقوة الإنسانية، جلجامش استعد بكامل قوته وعدته للحرب مع خمبابا فعمل المطلوب منه للفوز على خمبابا، ثم اتى دور شمش ليساعد جلجامش على هذا الفوز، إذن جلجامش استعد للفوز في حربه مع خمبابا وتوكل على شمس في هذه الحرب.

إلى غير ذلك يرسل الإله شمش القوة الآلهة التي يملكها، ويرسل الريح الشمالية العاتية، ثم يتبعها بالريح الجنوبية العاصفة، فيصاب خمبابا بالعمى ولا يستطيع الحركة.

استسلم خمبابا، توسل
دعني يا جلجامش أمضى، أنت سيدي الآن
أنا خادم لك
الأشجار التي تعهدتها في جبالي هي لك
ابني منها بيوتا من خشب الأرز

لقد كان خمبابا عظيما ومخيفا وذوقوة جبارة، لكنه ضعيف الإرادة يتنازل عن جميع ما يملك ـ الأشجار، كرامته، حياته، ـ فقط لكي يبقى حيا، فيضع كافة ما في جعبته أمام جلجامش، يطلب منه أخذها لقاء حياته، فصورة الوحش المرعب ذوالقوة الآلهية الذي وصل صيته إلى آخر الدنيا ها هوكائن ضعيف يتوسل ويطلب من الإنسان جلجامش حتى يرحمه، فأيهما أعظم الإنسان أم ذاك الوحش؟، وهنا تكون ذروة المجد، الوحش صاحب القوة الجبارة يسجد للإنسان منكسرا واهن القوى يتوسل إليه ليمنحه العفووالرحمة، وهنا تكون الملحمة قد قلبت مفهوم العظمة والقدسية عند المجتمع ألرافدي القديم من خلال هذا المشهد، فقد نزع جلجامش وانكيدوهيبة الإله انليل بعد فوزهما على خمبابا، ومرغوا هيبته في التراب.

وكأن الملحمة ترغب حتى تخبرنا بان خمبابا هوادني بكثير من تلك المكانة التي وضع فيها، وهوادني من امتلاك تلك المكانة والهيبة، فوضع خمبابا بعد المعركة اقل من الإنسان بدرجات، والإنسان المنتصر يتجاوزه من خلال مواقفه وإرادته التي استطاع حتى يخرجها وتكون نتيجة المنازلة لصالح الإنسان.

ومن المفارقات المهمة في الملحمة الصورة التي رسمت لخمابا، فقد خيل لنا بأنه سيدمر الغابة على من فيها، وان نتيجة النزال ستكون مدمرة، وان هذا الكائن المرعب سيبقى يقاتل حتى آخر رمق، ولن يتنازل عن كرامته وهيبته، إلا حتى جميع ذلك تحطم أمام إرادة الإنسان، فلم نكن نتسقط أبدا مثل هذه الوضعية للوحش " أنا خادم لك". وخلاصة الفكرة التي تريدنا الملحمة حتى نستنتجها، حتى الوحش ورعبه لم يكن ليكون إلا عند الضعفاء الساكنين الخانعين، أما عندما كان هناك من يفكر ويعمل ليصل إلى الوحش فلم يعد هناك إلا كائناً ضعيفاً جدا، يتوسل متذللا للإنسان، فالإنسان هوفي حقيقة الأمر أعظم واكبر من كافة المخلوقات عندما يقرر حتى يعمل ولا يبقى ساكنا. هذا الوضع ـ البائس ـ لخمبابا يستحق عليه الهلاك، فلم يكن بذات المكانة التي وضعت له، ولا بالصورة التي رسمت له، وكان قزما أمام العملاق الإنسان، وهذا ما دفع انكيدوليطلب من جلجامش الإجهاز عليه وقتله.

لا تصغ إلى كلامه، لا تنصت إلى قوله
خمبابا يجب حتى يموت

وهنا نتساءل لما طلب انكيدومن جلجامش حتى يجهز على خمبابا،يا ترى؟ فهما بأنه حتى هذه الفترة لم يقدم لا جلجامش ولا انكيدوعلى اغتال أي كائن حي، إذا كان إنسان أم حيوان أم مخلوق أسطوري، فلماذا تتم الآن عملية القتل،يا ترى؟ وما الداعي لها؟، نستنتج من مسار الملحمة حتى عمل القتل لم يكن إلا بالكائنات التي تتعلق بالإلهة أولها صلات بالقوة الإلالهة فقط، وما دون ذلك لا يتم قتله، وكأن الملحمة تشكل حالة صراع دامي مع الآلهة فقط، وما دون ذلكقد يكون الصراع محدودا يتوقف عند حد معين، من هنا نجد عملية القتل الثانية كانت لثور السماء الذي أوفد ليقتص من جلجامش وانكيدو، فالصراع الدامي منحصر في النص الملحمي بين الإنسان والآلهة فقط، وإذا عدنا إلى حديثنا عن الآلهة والمقدسين، نجده المسار الرئيس لفكرة الملحمة، التي تطرح فكرة الصراع بين الإنسان ـ والذي هوأحق بالمكانة الرفيعة من ـ والآلهة ـ والتي هي في حقيقة الأمر اقل من حتى تكون في مكانها العالي.

الثور السماوي

جلجامش المنتصر على خمبابا يعود ظافرا إلى أوراك، لكي يأخذ قسطا من الراحة ولكي يؤكد للناس بان جميع ما تتخذه الآلهة من قرارات ومنح الآلهة هي باطلة ولا تتوافق مع الواقع الإنساني، الذي يجب حتى يسود هووليس الآلهة، وأيضا ليفتخر أمام أهله بما حقق من انجاز، فيدخل أوراك ويمضى إلى قصره ويغتسل ومن ثم يرتدي الثياب الملكية، فيكون بأبهى صورة، تشاهده الربة عشتار وتطلب منه الزواج، إلا انه يرفض ويذكرها بكل مثالبها وعيوبها، دون حتى يراعي مكانتها المقدسة، فتطلب من الإله آنوحتى يرسل ثور السماء ليهلك جلجامش الذي أهانها:

اخلق لي نارا تأكل جلجامش
هبط ثور السماء خار اغتال مئة رجل
خار ثانية اغتال مئتي رجل ثم ثلاثمئة
هجم على انكيدوامسكه انكيدوبقرنيه
أرغى الثور وازبد
امسكه انكيدوبذله، نادى
جلجامش ظفرنا به
وبين السنام والقرنين أنفذ السيف
قتلا ثور السماء اخرجا قلبه
أعجب الحرفيون بحجم القرنين
وزن الواحد منهما ثلاثون رطلا
وغلاف قشرته إنشان
اتسع كلاهما لستة جورات من الزيت

قدرات الثور هائلة جدا، فعندما خار اغتال مئة رجل، وجسمه ضخم وكبير جدا، فالقرن الواحد يتسع لست جرار من الزيت، ورغم هذا الحجم والضخامة لأنه اغتال على يد البطلين، فهوأيضا عثر بقرار الإله أنووبشكل استثنائي، ولهذا كان بتلك الصورة والقوة، وأول عمل قام به الثور هواغتال الناس، وكأن الملحمة تقول لنا بان عمل الآلهة فقطقد يكون اغتال الناس، وليس لها عمل سوى القتل البشر.

فقتل الناس في أوراك المحمين من جلجامش سيثيره ويحفزه على الوقوف أمام من قام بعملية القتل ثم الاقتصاص منه، مهما كان ومهما بلغ من القوة، فهوالحامي للمدينة ولأهلها، ومن يعتدي عليها أوعلى أهلها كأنما يعتدي على جلجامش نفسه، ولهذا خرج إليه جلجامش مع انكيدوليقوما بواجبهما إتجاه أهل أوراك، يمسك انكيدوالثور من قرنيه وينادي على جلجامش ليضع السيف في المنطقة القاتلة.

صورة انكيدووهوممسك بقرني الثور رائعة وتتماثل مع صورة مصارعة الثيران ،وهي هنا أرقى وأكثر إثارة من تلك التي تقام في اسبانيا تحديدا، فهنا تبرز قوة الإنسان العضلة، وفي الثانية تظهر قدرته العقلية ـ مخادعة الثور ببترة القماش ـ، فالثور القوي يتم السيطرة عليه بقوة اليدين فقط، فما بالنا عندما تكون قوته أضعاف مضاعفة!، فرغم جميع تلك القوة وضخامة الحجم يتم القضاء عليه وتخليص الناس من شره، وهنا يؤيد جلجامش وانكيدوفوزهما على الآلهة، وهنا اخذ الفوز معنى آخر حيث انه يعني الفوز على الإله آنووالربة عشتار معا، فاللقاءة مع الثور تعني لقاءة آنووعشتار، وقتل الثور تعنى انهزام آنووعشتار أمام جلجامش وانكيدو. وهنا مرة أخرى تحمل الملحمة من مكانة الإنسان إلى أعلى من الآلهة، وتدنى مكانة الآلهة عندما تقبل حتى ترسل آلة تدميرية على البشر فقط من أجل أهواء عشتار الباحثة عن اللذة الجنسية فقط، فصورة الحيوان المتوحش الفاتك بالناس تمثل همجية وغباء الآلهة، فهي لا تمتلك شيئا من حكمة أبدا، وما تقوم به ليس أكثر من تفريغ طاقات هائلة وكبيرة بشكل غير سوي وغير مفيد أبدا.

وتتناول الملحمة الحالة المزرية للربة عشتار التي تبين حقيقة عشقها للموت والقتل فتقول لأبها الإله آنو:

اخلق لي نارا تأكل جلجميش
إن أنت أبيت أحطم باب الجحيم
اكسر المزلاج، تتدفق جموع الموتى
تطغى على الأحياء، أسلط الموتى على الأحياء

من خلال كلام عشتار يظهر لنا انفعالها الذي لا ينم إلا على حماقتها، فليس لها من الربوبية شيء، هي كائن يتحدث ويهدد بدمار وخراب الأرض، من هنا فهل هذه هي الربوبية،يا ترى؟ وهل الربة تقول مثل هذا القول؟، إذن مسار الملحة العام يسير إلى قلب مفهوم الربوبية من الآلهة إلى الإنسان، الذي تظهره الأحداث الملحمية أكثر حكمة وعقلانية ورحمة من الآلهة الوثنية.

بعد الفوز الكبير يقول جلجامش حدثات تعبر عن نشوة الفرح والبهجة:

من المجيد بين الأبطال
من الظاهر فوق الرجال
جلجامش هوالمجيد بين الرجال
انكيدوالظاهر فوق الرجال

بهذه الحدثات يتم تمجيد البطلين جلجامش وانكيدو، تسمعها الآلهة فيثور غضبها وغيظها على جلجامش وانكيدومعا، فتخطط من حديث مستخدمة قوتها الهواتى للقتل والخراب والدمار وبؤس الإنسان، فهي تأبى حتىقد يكون الإنسان سعيدا فرحا، متفوقا ظاهرا عليها، فتسعى بكل جبروتها لتعيده إلى سيطرتها وذله أمام قدرتها الخارقة، وبهذا يتم استخدام قوتها فتنزل لعنتها على انكيدو:

اسمع يا صديقي حلم البارحة الذي رأيت
لقد عقد آنووانليل وايا وشمس السماوي مجلسا
فنطق آنولانليل
إنهما قتلا ثور السماء وصرعا حواوا
واحد منهما يجب حتى يموت
فنطق انليل سيموت انكيدو
أما جلجامش فلن يموت
وهنا أجاب شمس السماوي انليل البطل
ألم يقتلا ثور السماء ويصرعا حواوا بأمري
لكن انليل انفجر غاضبا
في وجه شمس السماوي
لأنك تنزل إليهم جميع يوم صرت كواحد منهم

اجتماع مجلس الإلهة يظهر منه الحقد على الإنسان الذي استطاع تحطيم وتكسير مخططتها، فعندما خلقت انكيدوهدفت إلى انشغال جلجامش وانكيدوفي صراع مستديم لا يتوقف أبدا، إلا حتى جلجامش تجاوز ذلك وأصبح مع انكيدويشكلان قوة يحسب حسابها من الإلهة، فقد عملا على تكسير القوانين التي وضعتها الإلهة، وحققا الفوز على قوة الإله انليل عندما قتلا خمبابا، ثم على الإله آنووالربة عشتار عندما قتلا ثور السماء.

لقد فشلت الإلهة في جعل جلجامش يسير حسب مخططها، من هنا إعادة النظر في ما ستعمل اتجاه جلجامش وصديقه الحميم انكيدو، وكان قرار الإله انليل بموت انكيدو، لكي يعيد جلجامش إلى صراعه مع ذاته وأهله وينتهي الصراع مع الإلهة لصالحها، أي إذا الإله انليل أراد حتى يرجع الأمور إلى الوراء، وهذه النظرة الورائية للإله انليل تعبر عن حمق ورجعية التفكير عنده، ثم يتحدث الإله شمس القريب من الإنسان والمتعاطف معه، بحقيقة يعهدها الإله انليل والإله آنووهي حتى جلجامش وانكيدوقاما بإعمالهما بأمر منه، ومن هنا يجب حتى يتحمل الإله شمس شخصيا مسؤولة ما آلت إليه الأوضاع وليس جلجامش وصديقه انكيدو، فهومن ساعدهما على اغتال خمبابا، إلا حتى تلك الحقيقة تسبب غضب الإله انليل وتجعله أكثر إصرارا على الانتقام من الإنسان جلجامش وانكيدو، فكان صراخه تعبيرا عن هذا الغضب وأيضا إشارة إلى جهالته وافتقاده للحلم والروية.

وهنا نتوقف قليلا عند انفعال الإله انليل الذي يتماثل تماما مع العقلية العربية الرسمية أوالمتنفذة التي ترفض الانتقاد مهما كان حجمه ومهما كان مصدره، وتضع المبررات بشكل دائم، معلقة أخطاءها على (شماعة) المؤامرة الخارجية، وجاعلة من نفسها بريئة من تلك الأخطاء براءة الذئب من دم يوسف، وما هي إلا ضحية المؤامرة، إلى غير ذلك يتم إحباط الإله شمس بطريقة قمعية، وتنزل اللعنة على انكيدوالذي ينطرح في الفراش معاتبا جميع من هم وراء وصوله إلى هذه الحالة المزرية، ويطلق حدثات تعبر عن حنقه على الإلهة، أما جلجامش فيخاطب صديقه والإلهة معا بحدثات تعبر عن شجاعته ويحمل نفسه المسؤولية الكاملة عما حدث:

لماذا برأوني وأدانوك؟

هذه الحدثات كانت تمثل تحدياً آخر للآلهة ولقراراتها الجائرة بحق الإنسان، فجلجامش يخاطبها وروحه معلقة بانكيدو، محملا جريمة موته إلى الآلهة، أما انكيدوالمطروح أرضا يفقد السيطرة على ما يقوله، ويأخذ بالحديث مع باب غرفته، ويبدأ يحدثه كمن يحدث إنساناً، مستخدما ألفاظ (التحطيم والتقطيع) ويلعن الباب، ثم يوجه الحديث إلى الإله شمس فيخاطبه داعيا على الصياد:

أزل ملكه، أضعفه
لا ترضى عن أفعاله
إجعل جميع طريدة تفر منه
لا تحقق له مبتغى، أماني قلبه لا تمنحه
ثم ينتقل بالنادىء على البغي
ليكن الشارع مأواك، ظل الجدران مستراحك
السكران يلطم وجهك العابث يعبث بك

اللعنات السابقة لا تخرج إلا من قلب منكسر مقهور، انكيدوالذي نزلت عليه لعنة الإلهة ظلما وجورا، جعلته يخرج تلك الحدثات المنعملة، تنفيسا وتفريغا عما يثقل نفسه. ثم بعد حتى استراح يوجه كلامه للإله شمس معاتبا إياه بحدثات بسيطة، ثم يحدثه عن الوضع الذي سيكون بعد موته، وكيف سيندبه أهل أوراك كافة، وكيف سيبكيه جلجامش، فيتراجع انكيدوعن لعناته السابقة، ويبدأ يكفر عما بدر منه من لعنات داعيا للبغي بهذا النادىء:

إن الفم الذي لعنك سيبارك
من بعيد سيركض الرجال إليك
ستهجر الزوجة من أجلك ولوكانت أم سبعة

النادىء للبغي تحقق وما زال يتحقق إلى هذه الساعة، فالرجال يتراكضون وراء المومسات اللواتي يمنحنهم لذة ومتعه أكثر، تاركي زوجاتهم خلفهم، وكأن الملحمة هنا ترغب حتى تقول بان نادىء انكيدوتحقق تماما ولهذا يستمر الركض ورائها، كما حتى اللعنات التي نطقها انكيدوتحققت أيضا، فالمومسات مأواهن الشوارع والأزقة ويتعرضن للضرب من السكران وغير السكران، وهنا تجعلنا الملحمة نشعر بالتعايش مع العصر البائد والحاضر معا.

وبعد ذلك يحلم انكيدوبأنه في العالم السفلي، حيث يكسوجسده الريش، ويشاهد الأموات يأكلون الطين ولا يرون النور أبدا، وكيف تنزع التيجان عن الملوك ويشاهد ايرشكيجيا ملكة العالم السفلي، وهنا تكون نهاية انكيدوقد اقتربت، وينطق بحدثاته الأخيرة وهوعلى فراش الموت:

لقد لعنتني الإلهة العظيمة وسوف أموت بالعار

سوف لا أموت كرجل يسقط في المعركة
لقد خفت السقوط لكن طوبى لمن يسقط في المعركة

انكيدوالمقاتل يتحسر على منيته بهذه الوضعية، فهولم يسقط في المعركة مثل المقاتلين، بل وهوعلى فراش، فهويعهد الفرق بين الموت في ساحة القتال وعلى الفراش، ولهذا تمنى حتى يسقط كمقاتل وليس كعجوز، وهنا نتذكر قول خالد بن الوليد عندما نطق وهويحتضر "شهدت مائة زحف أوزهاها، وما بقي في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أوطعنة رمح، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء".

فالفكر الإنساني يكمل بعضه بعضا، والأفكار النيرة تطرح في كافة العصور والأزمنة، وهنا مرة أخرى تقربنا الملحمة من الأزمنة الغابرة وتجعلها معاصرة وقريبة زمنيا وفكريا منا.

نعود إلى انكيدووما الهدف من وراء حدثاته، فهويريد حتى يؤكد فكرة جلجامش عن الموت وعدم العمل وعن الحياة والعمل، وهذا الموقف يساند ويدعم المسار العام لأحداث الملحمة، التي تتحدث عن الصراع مع قدر الموت، ومن ثم لقاءة القرارات الصادرة عن الإلهة، انكيدويستسلم للموت ويمضى للعالم السفلي، وبهذا ينتهي ـ جسديا ـ ولن يعود إلى الحياة أبدا.

أما جلجامش فكان موت انكيدوبالنسبة له دافعاً ومحفزاً لخوض صراعات جديدة مع الآلهة وتحدي صريح لقراراتها، فيرفض القدر الذي وضعته لانكيدوولا يقوم بدفنه، كالعادة، ويأخذ بندبه بمغالاة كبيرة لم يعهدها أحد من قبل:

أيها الشيوخ اسمعوا
ابكي انكيدوأبكيه بكاء الثكلى
كان البلطة إلى جانبي والقوس في يدي
المدية في حزامي والترس الذي أمامي
حله عيدي فرحي الوحيد
سارق لئيم سرق صاحبي، حرمني إياه
صاحبي أخي الأصغر سرقني إياه الموت
قهر المصاعب ارتقى الجبال
امسك الثور بقرنيه، قتله
صرع خمبابا حارس غابة الأرز
فأي نوم هوالذي صرعك
البطل جثة هامدة لا يتحرك
لا يحمل عينيه
قلبه لا ينبض
فرمى عليه وشاحا كوشاح العروس
وحمل صوته بصراخ كزئير الأسد
وكلبؤة سلبت أشبالها
صار يحوم حول صديقه المسجى
يبتر بيديه شعر رأسه ويرمي به
ويطرح عن جسمه ثيابه الجميلة

جلجامش ألقى حدثة تأبين أمام شيوخ مدينة أوراك، ذاكرا فيها مناقب ومآثر انكيدو، ففي كلامه نجد المحبة المتناهية مع الآخر، فانكيدوكان أداة الحرب (البلطة، المدية، القوس، الترس) التي حارب بها جلجامش، وهذه الأدوات الحربية مهمة جدا في القتال والحرب، ولا يمكن الاستغناء عنها، فالرجل المقاتل جلجامش الذي خاض أبرز حروبه وحقق اجل فوزاته وأعظمها كان برفقة انكيدوالحامي والمساعد والمحارب، وعندما توفي انكيدوفقد جميع تلك الأدوات الحربية وما له بعده من مثيل أونظير، كما انه مع انكيدوانتقل من حالة العادية إلى حالة العظمة، فقد انتصر على خمبابا وثور السماء، وهذه الفوزات جعلت جلجامش يزهز ويشعر بمعنى الفرح والسعادة الحقيقية، وقد ذكرت الملحمة تلك النشوة التي لم يعهدها جلجامش من قبل عندما نطق" من الأمجد بين الأبطال؟"

وبعد هذه الانتكاسة يعود جلجامش إلى صراعه مع الآلهة التي انتزعت منه صديقه الوحيد انكيدو، فكان وصفه "بالأخ الأصغر والصاحب" تعبيرا عن المكانة التي يحتلها في قلبه، واتىت حدثة "سرقني وحرمني"مكررة تعبيرا حقيقيا عن حجم المأساة وتأكيدا عن عمق الهوة التي هجرها انكيدو، وبعد ذلك ينتقل إلى الحديث عن أعمال انكيدوالبطولية من ارتقاء الجبال وتثبيته لثور السماء وصرع خمبابا، فكلها أعمال عظيمة تجعل منه شخصا نادرا، من هنا اتى الاستغراب والاستنكار لموته، فكيف يوقف الموت ذلك الكائن الذي قام بالأعمال العظيمة! فيتعجب جلجامش كيف من الممكن أن العظيم انكيدولا يستطيع الحركة؟، عيونه لا يفتحها، وقلبه لا ينبض.

جلجامش من خلال وضعية انكيدوالمسجى يتحقق له العجز أمام حادثة الموت ويستسلم يائساً لموت صديقه، إلا حتى الحزن واليأس يدفعانه إلى الصراخ المدوي، "للبؤة سلبت أشبالها"وهنا الصورة تحمل من معاني التأثر والحزن ما يجعلنا نتعاطف ونؤازر جلجامش في حزنه، وبعد هذا الندب والرثاء يمتنع جلجامش عن دفن انكيدو، حتى يأخذ الدود بالخروج من انفه، كناية عن تعفن الجسد، مما يجعله يواريه بالتراب، ولكن يبقى السؤال هل استطاعت الإلهة من خلال موت انكيدوحتى تنهي الصراع لصالحها مع جلجامش ومن ثم جعله يقبل بالقدر الذي خطه على البشر،يا ترى؟ أم حتى جلجامش مازال يحمل العند وما زال مصرا على الاستمرار في اللقاءة مع الآلهة لتغير طبيعة الأمور؟

الحلم

لقد هجر موت انكيدوأثرا كبيرا في نفس جلجامش، الجثة التي دبت فيها الديدان جعلته يعود ليتحدى قدر الآلهة مرة أخرى، فلم تكن عادلة أبدا عندما اتخذت قرارها بموت صديقه الذي أحب، ومن هنا يقرر السعي وراء حلم الإنسان ـ حلم الخلود ـ فيشد رحاله إلى اوتنبشتم الخالد البعيد يسأله عن سر الحياة والخلود:

سأخذ دربي إلى اوتنبشتم، أبن أبار ـ توتو
سأجد في السير إليه
وصلت ليلا مسالك الجبال
رأيت الأسود داخلني الخوف
أخيرا وصل جلجامش إلى ماشو
الجبال العظيمة التي سمع عنها الكثير
الجبال التي تحرس الشروق والغروب
قممها ترتفع مثل جدار السماء
وجذورها تغوص عميقا حتى العالم السفلي
هذا الجبل موطن البشر ـ العقرب
جلالهم مرعب يخيم على الجبال
النظر إليهم موت
رأى جلجامش الرجل العقرب فارتعب
لكنه تشجع، نظر في وجهه
نادى الرجل العقرب زوجته
اتىنا رجل جسمه جسم إله
ما الذي اتى بك ما الذي نادىك للسفر الطويل؟
كيف جئت تعبر المسافات
ما قصدك،يا ترى؟ ما بغيتك؟

بداية الدرب الذي سار فيه جلجامش وعر وصعب، ويتطلب جهدا مضاعفا لاجتيازه، ومع هذا استطاع حتى يبتر جزءا لا بأس به من هذا الدرب، فرغم وجود الجبال الشاهقة وما يتبعها من وديان سحيقة، استطاع تجاوزها والاستمرار في دربه، لكن لم تقتصر الصعوبات على طبيعة الطريق وحسب بل كان هناك عوائق أخرى تتمثل بوجود الأسود المنتشرة في الطريق، فيشعر بالخوف ـ وهنا إشارة إلى إنسانية جلجامش، وأيضا على الوحدانية التي يعيشها ـ ، إلا انه يتخلص من خوفه ويقضي عليها ويستمر في مسيره إلى حتى يصل إلى جبل ماشو، وهذه الجبال عظيمة ليست كباقي الجبال، فهي التي تحجب الشمس في غروبها وشروقها عن العالم، ـ وهنا يعطينا النص الملحمي فكرة الشروق والغروب التي كانت سائدة في العصور الرافدية القديمة ـ ومن هنا نجد جلجامش استطاع الوصول إلى بوابة الشمس ونهاية الأرض، ويستنتج من ذلك قدرة الإنسان إلى الوصول إلى أي مكان يريد، إذا امتلك الإرادة والعزيمة.

اتى وصف الجبال "التي تحرس الشروق والغروب، قممها ترتفع مثل جدار السماء، جذورها تغوص عميقا حتى العالم السفلي" ليعطي الهيبة لها، فهي شاهقة جدا تلتقي مع قمة السماء، وتمتد جذورها إلى "العالم السفلي" كناية على رسوخها عميقا في باطن الأرض، وهنا نجد صورتين لهذه الجبال واحدةً قبل الصعود إليها، والثانية بعد الوصول إلى قمتها، وهذا يشير على اهتمام محرر الملحمة بأدق تفاصيل المكان، وأيضا على اهتمامه برسم صور جمالية تحمل الخيال نحوآفاق أسطورية، كما يستدل منها على الجهد الذي استطاع جلجامش حتى يبذله للوصول إلى مبتغاه.

وهناك يشاهد مخلوقات مخيفة وغريبة لم يعهدها من قبل، نصفها إنسان والنصف الآخر عقرب، وهي تسقط الرعب والهلع في من يشاهدها، "فنظر إليهم موت" كما حتى حضورهم ـ الإحساس بوجودهم ـ "يخيم على الجبال" وهنا يشعر جلجامش مرة أخر بالرعب والخوف، وسنحاول هنا نوضح حالة جلجامش، التعب والإجهاد والجوع والعطش والوحدة، طبيعة الطريق شاق وصعب، مخلوقات أسطورية لم يشاهدها من قبل، يتجاوز جميع هذا و"نظر في وجهه" فنجد الإصرار، والقدرة على السيطرة على الذات وإبداء مظاهر تنم على الإقدام رغم هول الموقف، وأيضا المقدرة على التفكير ـ الايجابي ـ وضع أسوء الاحتمالات ـ الموت ـ. وهذا التصرف من جلجامش جعل الحيرة والاندهاش والاستغراب يقع برجل العقرب، فيندفع منادياً زوجته "اتىنا رجل جسمه جسم إله" ثم يتبع كلامه بمجموعة من الأسئلة " ما الذي اتى بك،يا ترى؟ كيف من الممكن أن جئت تعبر المسافات،يا ترى؟ ما قصدك؟ما بغيتك؟" وهذا مرشد على التعجب والاندهاش والحيرة والإعجاب الذي هجره جلجامش على رجل العقرب، فقد تخطى حواجز وموانع طبيعية وتجاوز مخلوقات مرعبة من الأسود الذي نجح في القضاء عليها، ومن ثم الاستمرار في طريق أكثر صعوبة ووعورة ومشاهدة المخلوقات صاحبة الجلالة المرعبة، وهنا يتبين لنا حجم الإرادة والقوة التي يتمتع بها جلجامش.

يجيب جلجامش على سيل الأسئلة التي دفعها رجل العقرب دفعة واحدة بحدثات بسيطة تعبر عن فلسفته الرافضة للتسليم بالموت الذي قدر على البشر:

بسب أنكيدوالذي أحببت كثيرا
بسبب قدر جميع البشر، الذي أخذه
لأجل اوتنابشيتم أبي قد أتيت
أسأله عن سر الحياة والموت

حدثات واضحة ومختصرة ومكثفة، تعبر عن رفض جلجامش بقدر الإنسان الذي وضع من قبل الإلهة، وكذلك يظهر رفضه الانصياع لهذا القدر والتسليم بما هوكائن، فيبحث عن شيء لم يفكر به احد من قبل، لكي يبقى حيا لا يفنى كالإلهة الخالدة، فيكون جواب جلجامش أكثر إثارة للاستغراب والاندهاش والاستحسان عند رجل العقرب، فكان يتسقط منه الإسهاب في الحديث لكنه أوجز وأوضح في ذات الوقت، فيرد رجل العقرب عليه بما يعهد عن الطريق المؤدي إلى اوتنبشيتم:

نطق رجل العقرب: لا عهد لي برجل بتر المسافات
عبر هذه المسالك
الظلام دامس، الشمس لا تشرق أبدا

كلام رجل العقرب محبط للعزيمة، ولا يحمل شيئا من التفاؤل، ولكن عزيمة جلجامش وإرادته لا تتزحزح قيد أنملة، فرغم قسوة المعلومة عليه، ونفيها واستحالتها للوصول للهدف الذي ينشد، وإعطاء وصف محبط للطريق، فهومظلم كما انه طويل ووعر وشاهق، فيرد جلجامش ردا حازما صارما قاطعا:

أنا ذاهب مهما يكن الشقاء
لا أبالي بالحزن والألم، لا يؤذيني الحر والبرد
إن تحسرت إذا تأوهت أنا ذاهب
فأفتح لي الباب

رده كان يحمل العزيمة والإصرار والصلابة، وكذلك أللامبالاة اتجاه الصعوبات مهما بلغت شدتها، الموقف المبدئي اتى ليكون أنموذجاً لمن يفكر بالتراجع عن مواقفه، فنجد جلجامش يحث جميع إنسان على الاستمرار وبذل الجهد ليحقق مبتغاه ـ حتى لوكان ذلك شبه محال، أو(شاذ) عمليه التقدم إلى الأمام ولوكانت الصعوبات مضطردة ومتصاعدة. فاستخدام جلجامش لحدثة "أنا ذاهب" في نهاية كلامه لم يرد منها التأكيد على موقفه وحسب بل يراد منها إنهاء النقاش مع رجل العقرب بفتح الباب له لينتقل إلى مسقط متقدم في الطريق الذي سلك، يفتح الباب ويدخل جلجامش في دهاليز الظلام وحيدا:

سار جلجامش في الظلام
ظلام دامس وما من شعاع
لا يرى عبره ولا من خلفه
اجتاز ثماني ساعات مضاعفة، علا صراخه
ظلام دامس وما من شعاع
لا يرى أمامه ولا من خلفه
اجتاز تسع ساعات مضاعفة فأحس بريح الشمال
ظلام دامس ولا من شعاع
اجتاز عشر ساعات مضاعفة
صار قريبا
بعد حتى بتر إحدى عشرة ساعة مضاعفة
وصلت بشائر النور
وبعد حتى بتر اثنتي عشرة ساعة مضاعفة عم الضياء

تفاصيل دقيقة لكل (عشرة ساعات مضاعفة) تعداها جلجامش تعطينا حجم المشقة والتعب والوحشة التي عانى منها، المسافة طويلة جدا تقدر ب130 كيلومتر حسب النص الملحمي، وهوطريق مظلم تماما، ويهجر الوحشة في نفس الإنسان، من هنا كان صراخ جلجامش في منتصف الطريق، تذكاراً لنا بأنه إنسان مثلنا تماما يبدي الانفعال اتجاه المواقف التي تؤثر عليه وفيه، فكانت صرخاته كأنها تعطيه دفعة لإكمال النصف المتبقي من الطريق. وقد استطاع عبد الحق فاضل حتى يرسم لنا هذا المشهد بدقة متناهية وبفنية عالية تكاد حتى تجعلنا نندمج مع الأحداث تماما.

فاجتاز باب الشمس
ببأسي
وسار في طريقها
رحلة ساعة مضاعفة
كان الظلام دامسا
ولم يكن ضياء
لم يستطع رؤية ما أمامه
اوما وراءه
وسار ساعتين بعدها
بهمة مضاعفة
ثم سار ثلاث ساعات مضاعفة
كان الظلام دامسا
ولم يكن ضياء
لم ير ما أمامه
أوما وراءه
ما أكثر ال
أحزان وال
أوجاع وال
عناء
ثم سار
أربع ساعات مضاعفة
كان الظلام دامسا
القر كان قارصا
الحر كان حامسا
ولم يكن ضياء
ولم ير ما أمامه
أوما وراءه
وسار، سار خمس ساعات
مضاعفة
وسار، سار ست ساعات
مضاعفة
وسبع ساعات مضاعفة
ثم سار ثمانيا
تواليا
ولم يزل ثم الظلام دامسا
والرعب دامسا
وكان في الحر وفي القر
أنين وبكاء
ولم يكن ضياء
يريه ما أمامهو
أوما وراءهو
سار، ثم سار غير عابئ
بأي شيء صادفه
وبعد سير تسع ساعات مضاعفة
أحس بالريح الشمالية
تمسح خده طرية
لكنما الظلام لا يزال دامسا
والرعب دامسا
ولم يستطع رؤية ما امامهو
أوما وراءهو
وسار، سار عشر ساعات
مضاعفة
وبعد إحدى عشرة
توهج الفجر بدأ من المدى
لعينه المنتظرة
وبعد حتى
سار اثنتي
عشرة سا
عة مضا
عفة ..
شاع الضياء

فهنا استطاع هذا العاشق للنص الملحمي حتى يشكل لنا صورة ما وقع مع جلجامش في الطريق المظلم والطويل، ومن يرد حتى يتماهي مع النص الملحمي عليه قراءة "هوالذي رأى" للشاعر.

نعود إلى الملحمة فبعد انقشاع الظلام يظهر النور الخافت ثم يعم الضياء منتصرا على الظلمة، وهنا نجد الرمزية التي يحملها النص، فيكون بروز الإشعاع بداية الفوز لجلجامش وتحقيقه للهدف الذي سعى إليه. تستمر الموانع والمعيقات أمام جلجامش لكن بطريق وأشكال جديدة، فمع انقشاع الظلام وبروز النور يظهر أمام جلجامش مشهد بديع مذهل، بستان من الأشجار التي تحمل الجواهر والأحجار الكريمة:

كان شجر العقيق يحمل ثمارا
عنبا مدلى، فتنة للناظرين
وشجر ألازورد يحمل...
ينوء بثمره، فتنة للناظرين

المشاهد الجميلة التي يشاهدها جلجامش قد توحي للقارئ بانتهاء المعيقات والصعاب، وهنا ينتهي مشواره الطويل، وقد آن الأوان لكي يستريح من عناء السفر والترحال، لكن في حقيقة الأمر تم تغير أساليب وأشكال الصعاب والمعيقات ليس أكثر، فهنا نجد تذكير جلجامش بمباهج الحياة وعليه حتى يستمتع بها، متخليا عن هدفه المجنون ـ الخلود ـ فيظهر له الإله شمس محدثا:

جلجامش أين تهيم على وجهك
الحياة التي تنشدها لن تجدها
لم يسلك احد الفانين هذا الطريق
ولن يعمل ما دامت الريح تهب على البحر

الإله شمس صديق جلجامش يخاطبه مؤكدا استحالة التخلص من قدر البشر ـ الفناء ـ وناصحا إياه العودة إلى الديار، فكان سؤال الإله شمس في بداية حديثه يحمل العتب والاستغراب لإقدام جلجامش على تحمل هذا الكم من التعب والإرهاق والإجهاد وراء غاية لن تدرك أبدا، ويحمل كلامه أيضا عدم رضاه على هذا العمل، وكانت حدثة " الحياة التي تنشدها لن تجدها" تحمل الإحباط مضاعفا بالنسبة لجلجامش الذي تربطه المحبة به، فكان الإله شمس في كافة المواقف الأنفة إلى جانبه وهومن قدم له المساعدة والعون في أكثر من موقف، وهذا ما جعل كلامه ذوتأثير خاص على جلجامش.

يستمر الإله شمس في حديثه حول قدر البشر وإنهم لا بد حتىقد يكونوا فانين ما دام هناك حياة على الأرض، وهنا حسم شمس كلامه بإغلاق الطريق أمام جلجامش، ومع جميع هذا الكلام من إله محبوب وقريب من القلب إلا حتى الإنسان جلجامش اتى رده يحمل شيئا من اللين والهدوء، ولكن ما زال مصرا على الاستمرار في الدرب الذي سلك:

أجابه جلجامش، أجاب شمش العظيم قائلا
بعد ما مشيت وهمت على وجهي في البراري
أأضع رأسي في باطن الأرض
أنام السنين الآتية؟
لا دع عيني تصافحان الشمس، أعيش في النور
الظلمة تتراجع أمام النور المنتشر

رد جلجامش اتى مختلف بأسلوبه وحدته عما سبقه من ردود مع رجل العقرب، فهنا نستنتج من كلام جلجامش بأنه على يقين باستحالة تحقيق مسعاه، وبصعوبة الطريق، إلا حتى ذلك لنقد يكون حائلا دون متابعة الطريق، وكان سؤاله "بعد ما مشيت وهمت على وجهي في البراري، أأضع رأسي في باطن الأرض؟" فالسؤال المنطقي الذي طرحه كان بمثابة رد مقنع على الإله شمس، فالجواب على سؤالهقد يكون ضمنا بعدم التوقف وإكمال المسير، ونجد أيضا فيها التبرير لما يسعى إليه وكأنه يطلب الصفح والمساعدة من شمس، وبعد هذا يطرح جلجامش فلسفته وفكرته عن قدر الإنسان التي يجب حتى يتغير ويتبدل، ليكون الإنسان كالآلهة خالدا وينعم بما تنعم به من خلود ونعيم. فكانت حدثاته عن الشمس " لا دع عيني تصافحان الشمس، أعيش في النور" بمثابة تأكيد على الحب والارتباط بالإله شمس ولكن بطريقة غير مباشرة. وهنا يقنع شمس بضرورة استمرار جلجامش في طريقه، وهذا ما يستنتج من النص الذي ينبتر هنا، لنجده أمام سابتيم صاحبة الحانة المقدسة ويكون معها هذا الحوار:

عد إلى موطنك أيها الملك
وتقبل المحتوم بطيب خاطر
تذكر هبات الآلهة التي أمطرتها عليك
وكن شكورا من جميع ذلك
وفكر حتى تتمتع نهارك وليلك
عش في قصرك المنيف
وخض حروبك الكبرى
وكل واشرب بفرح
اتخذ زوجة ونم بسلام على كتفها
إنها تجد المسرة في أحضانك
ونظر إلى الصغير على يدك
هكذا ستقضي جميع أيامك
وتقبل طير الموت

استخدمت سابتيم أوسيدوري ذات الحدثات التي قيلت لجلجامش من قبل، حدثات التسليم بالقدر وبما هومحتوم على البشر، حدثاتها تحمل الترغيب وليس الترهيب كما كانت في السابق، فتذكره بكل نعم ورفاهية الحياة، من لذة الطعام وفرحة الرقص ورفاهية المكان ونشوة النصر على الأعداء، وشهوة الجنس ومتعة النساء،وهنا تقول له كامرأة تفهم هذا الأمر جيدا "إنها تجد المسرة في أحضانك" كتأكيد وإثارته كرجل بطبيعته يميل ويحب مثل هذا الكلام، وأخيرا تقول له عن المتعة والسعادة التي تواكب عمل الجنس، وهوإنجاب الأولاد فتقول "ونظر إلى الصغير على يديك" كناية عن استمرار حياة جلجامش من خلال هذا الصغير، وأيضا دعوة مبطنة منها ليوقف مسيرته ويعود أدراجه إلى مدينته، ثم تكمل حديثها ليتقبل القدر بطيب خاطر "وتقبل طائر الموت" ولا ندري لما تم تقديم "كن شكورا من جميع ذلك" ولم تأخرها إلى نهاية حديثها، جلجامش بطبيعته رافضاً جميع ما يصدر من الآلهة وهوفي صراع معها منذ حتى قرر مع صديقه انكيدوالتوجه إلى غابة الأرز، واستمر هذا الصراع بعد اهانة الربة عشتار ثم اغتال ثور السماء والحكم على انكيدوبالموت من قبل الإله انليل.

حديث سيدوري اتى بعدما فشلت عملية الترهيب، فكانت المرأة اللطيفة الناعمة التي يتدفق منها الحب والحنان وسيلة اخرى لثني جلجامش عن الطريق الذي سلك، وكانت حدثاتها منسجمة مع حالتها كأنثى، من هنا كانت لها السقط الأكبر في نفس الرجل جلجامش، لكن دوافع جلجامش اكبر من حتى تقف في وجهها كافة اللذات والشهوات، فيرد عليها:

كيف اقدر حتى اسكن كيف من الممكن أن أستريح
وأنا سأموت وادفن في الأرض
بينما انكيدوالحبيب بات ترابا

لقد جعل جلجامش من نفسه مسؤولا عن إرجاع انكيدوإلى الحياة، وهذا العبء ثقيل جدا على جلجامش، لعدم وجود أي مساعدة له، ووجود الكثير من الحدثات المثبطة والمحبطة ومن أشخاص كثيرين منهم الصديق وغير الصديق، والمتمعن لمسيرة جلجامش يجد المعيقات والصعوبات منها الطبيعي، الجبال والوديان والأسود ورجل العقرب، ومنها نفسي، الكلام الذي سمعه من جميع من قابلهم، من هنا نجده يحمل طاقات جسدية يستطيع من خلالها تجاوز الصعوبات والعوائق الطبيعية، وطاقات معنوية هائلة تمكنه من عدم التراجع أمام أي حدثات مهما كان مصدرها ومصدرها، ومع هذا يستمر في طريقه الذي سلك متجاهلا جميع ما سمع وعازما على مواصلة الطريق إلى اوتنابشتيم الخالد.

أمام إصرار جلجامش تستسلم سيدوري وتهجره ليكمل ما بدأه، وتخبره عن مكان الملاح أورشنابي الموجود في الغابة، والذي بدوره سيرشده إلى مكان تواجد أوتنبشتم، يمضى إلى الغابة ويشاهد الشخص المعني، فيستغرب الملاح من هيئة جلجامش ويكون محادثة طويل بينهما، يطرح جلجامش فلسفته الرافضة للموت:

لماذا شحب وجهك، امتقع لون خديك
امتلأ قلبك بالحزن
لماذا هذا الشقاء داخلك؟
لماذا صار وجهك كمن أنهكه السفر البعيد
بالبرد والحر تجعدت ملامحك
وكالباحث عن نسمة ريح
تهيم في البراري
فأجاب جلجامش اورشنابي:
لماذا يا اورشنابي لا يمتلئ داخلي بالشقاء
ووجهي يشبه المسافر من مكان بعيد
وملامحي تتجعد من البرد والحر
وكالباحث عن نسمة ريح أهيم في البراري؟
صديقي الأصغر مني سنا
الذي طارد وحوش التلال واسود الغاب
الذي أنا وإياه غلبنا جميع شيء، تسلقنا الجبال
امسكنا بثور السماء، ذبحناه
أنزلنا الويل بخمبابا، الساكن في غابة الأرز
صديقي الذي أحببت كثيرا
الذي قاسى معي جميع الشدائد
انكيدو، صديقي الذي أحببت كثيرا
أدركه المصير الذي من نصيب البشر
ستة أيام وسبع ليالي بكيت عليه
حتى سقطت الدودة من انفه
وخوفا من الموت، رحت أجوب القفار
الدروب البعيدة أجوب القفار
فمصير صديقي يجثم ثقيلا علي
كيف ألزم الصمت، كيف من الممكن أن اخلد إلى السكينة
صديقي الذي أحببت صار طينا
أأضطجع أنا مثله هكذا فلا انهض إلى الأبد؟

أطول كلام لجلجامش مع جميع من قابل، وهذا يعني انه أصبح اقرب إلى هدفه، من هنا كان الاسترسال في الكلام، لكي يدفع بالشخص اللقاء إلى التعاطف مع الهدف الذي يسعى إليه، وهذا ما وقع عملا، إذ يطلب الملاح من جلجامش حتى يقوم بالاستعداد لرحلة ليوصله إلى مبتغاه ـ اوتنبشتيم:

أحمل الفأس يا جلجامش بيدك
انزل إلى الغابة أبتر ستين وستين ساق شجرة
حجم جميع منها ستون بوصه
اطلها بالقار
اجلبها إلي
هبط الغاب بتر ستين وستين ساق شجرة
جلبها إليه

نجد جلجامش لأول مرة في رحلتهقد يكون مطيعا وينفذ ما يطلب منه، فرغم حتى الطلب فيه من الاستعلاء وفية من المشقة الجسدية الشيء الكثير، إلا انه ينفذه بكل سرعة وإتقان ودون تلكؤ، فما طلب منه سيكون أدوات مهمة جدا لكي يصل إلى مبتغاه:

فركب جلجامش واورشنابي السفينة
دفعاها على وجه الأمواج، أبحرا
وفي اليوم الثالث كانا قد بترا
مسافة شهر وخمسة عشر يوما
حتى بلغ اورشنابي، هكذا، مياه الموت
نطق اورشنابي لجلجامش
تقدم الآن، يا جلجامش، وجدف
ثم وصل اورشنابي إلى مياه الموت
تقدم الآن يا جلجامش وجدف
لكن احذر لا تلامس بيدك مياه الموت
خذ مجدافا، وثانيا وثالثا يا جلجامش
مع الدفعة العشرين بعد المئة استنفذ جلجامش مجاذيفه
حل حزامه
ثم نزع جلجامش رداءه
وبيديه حمل شراعا
ولما اقترب من شاطئ الجزيرة

بدأت الرحلة بركوب السفينة، تتقاذفهم الأمواج، لكن إصرار جلجامش يمكنه من تجاوزها ويستطيع حتى يبتر رحلة شهراً ونصف في ثلاثة أيام، يصل مياه الموت فيتم استخدام المجاديف، وبعد نفاذها يستخدم جلجامش رداءه كشراع، إلى حتى يتمكن من وصول الشاطئ، إلى غير ذلك يصل جلجامش إلى مكان تواجد الخالد اوتنبشتم.

يتعرض لامتحان قاسي جدا ـ خاصة لرجل أنهكه التعب وطول السفر ومشاقه ـ امتحان النوم، ويقرر اوتنبشتم حتى يعود جلجامش خالي اليدين، إلا حتى زوجته تحثه على إعطاء شيء لجلجامش نظير الجهد الضخم الذي بذله، فيحدثه اوتنبشتم قائلا:

جئتنا يا جلجامش وقد أعياك السفر
ماذا أعطيك فتعود إلى وطنك
سأفضي إليك، يا جلجامش بشيء خفي
فأقول لك عن نبة
أشواكها تخز يديك كما تعمل الوردة
إن سقطت يدك عليها نلت الحياة الأبدية
فما حتى سمع جلجامش هذا الكلام
حتى فتح أنبوب الماء
ربط رجله بحجارة ثقيلة
شدت به إلى القاع وإذ رأى النبتة
اقتلعها مع أنها وخزت يديه
ثم نزع الحجارة عن قدمه
فقذفته الأمواج إلى الشاطئ
سآخذها إلى أوراك ذات الأسوار المنيعة
هناك سأعطيها للشيوخ ليأكلوا
وأخيرا سأكل منها فاستعيد شبابي الضائع

أن اعتراف اوتنبشتم بأهمية العمل الذي قام به جلجامش يأتي كتأكيد على انه استطاع انتزاع الاحترام من الآلهة رغم خلافه معها، فانتزاع الاحترام من الخصم يمثل قمة الفوز، فكانت الهدية التي منحت لجلجامش ـ عشبه الخلود أوعشبه إعادة الشيخ إلى صباه ـ تمثل الغاية التي سعى إليها، فكان أول ما فكره فيه جلجامش شد الرحال إليها، ورغم وجودها في مكان خطر وصعوبة اقتلاعها إلا انه عمل ذلك واستطاع الحصول على مبتغاه ـ عشبه الخلود ـ بعد امتلاكه لعشبه الخلود يبدأ جلجامش ـ بالتخطيط لكيفية التصرف بهذا الكنز، وهنا يتبين لنا بأننا أمام إنسان يتفانى في إنكار الذات لصالح المجموع، كالتأكيد على عظمة تلك الشخصية، وأيضا على مسؤوليته اتجاه الشعب الذي يحكم، وهذا الأمر ـ توزيع ألعشبه ـ اتى ليؤكد على تفاهة أي هدف يحصل عليه الإنسان، وكأي إنسان يحصل على مبتغاه، عمل جلجامش واخذ يفكر بطريقة جديدة ـ تقديم هذا الكنز لأهل أوراك ـ وهنا نجده قد تمرد أكثر على الإلهة فهولم يعد يطلب الخلود لشخصه فقط بل يريد ذلك لمجمل الشعب في أوراك ولكل الناس، أي حصول الإنسان أيا كان على الخلود، وهنا سيكون بالتأكيد ثورة كبرى ضد الآلهة وقدرها على البشر.

ونستطيع القول حتى مجلس الآلهة الذي اجتمع مرتين بسبب جلجامش، مرة ليخلق ندا له ومرة لينتقم منه وإرجاعه إلى عهده السابق ـ مقارعة أهل أوراك ـ هوتأكيد على الأهمية والخطورة التي يسببها لها، ونعتقد بان جلجامش لوأراد الحصول على الخلود لذاته لعمل، إلى انه سعى إلى "قلب نظام الأمور" من خلال تجاوز القدر المحتوم على الإنسان. ولكن نهاية الرحلة التي بدأها جلجامش لا تكون كما يريد، يعود مع اورشنابي إلى أوراك وفي طريق يشاهد بئرا، ينزل ليشرب منها، وعندئذ تأتي الحية وتأكل ألعشبه ويعود جلجامش خالي اليدين فيقول حدثات تحمل الحزن واليأس والحسرة معا:

لمن يا اورشنابي تعبت يداي
لمن سفحت دم قلبي
بل لحية الأرض فزت بالنعمة

الطوفان

يبدأ اللقاء بين جلجامش واوتنبشتم بحديث طويل، عن سبب الرحلة التي قام بها جلجامش ويتحدث أوتنبشتم عن القدر الذي عثر على الأرض إلا حتى جلجامش الرافض لهذا القدر ينطق بحدثات جارحة لاوتنبشتم " ظننت أني سأجدك بطلا جاهزا للمعركة بينما تقيم هنا مسترخيا على ظهرك" ويطلب منه بصيغة الأمر حتى يقول له عن الكيفية التي حصل بواسطتها اوتنبشتم على الخلود، فيبدأ بسرد سيرة الطوفان الأسطورية التي ما زالت حية إلى هذه الساعة.

لقد شاخت المدينة والآلهة فيها.
فحدثتهم نفوسهم الآلهية العظام حتى يرسلوا طوفانا.
كان هناك انوأبوهم. وانليل المحارب مستشارهم.
قوض بيتك وابن سفينة.
احمل في السفينة بذرة جميع مخلوق حي.
والسفينة التي أنت بانيها. فيتساوى طولها وعرضها

مرة أخرى يتم ذكرى اجتماع الآلهة للتأمر على البشر، وهذا الاجتماع هواخطر اجتماع تم لهذه الآلهة، طرحت الآلهة الإبادة الجماعية لبني البشر، الإله ايا يخبر اوتنبشتم بالمؤامرة الآلهية، ويطلب منه حتى يهدم بيته ويبني سفينة، وان يضع داخلها نطفة جميع حي، ويعطيه القياسات لهذه السفينة، الطول والعرض متساويان ويتم بناء السفينة عملا.

علوالجدار مئة وعشرون ذراعا.
عرض جميع جانب من جوانبها مئة وعشرون ذراعا.
أنشأت فيها ست طبقات سفلية.
قسمت الطبقات السفلية إلى تسعة أقسام.
جهزتها بمجاذيف طليتها بالقار.

وبعد هذا الاستعداد لاوتنبشتم وبعد حتى قام ببناء السفينة الكبيرة والتي أخذت منه جهدا جبارا وأزال بيته بيده يأتي ذلك الغضب الآلهي – الطوفان:

عندما لاح الصباح.
ظهر في الأفق البعيدة غيم اسود.
أرعد هدد.
نرجال مزق الصواري.
نينورتا فتحت السدود.
الاوناكي دفعوا المشاعل.
أضاءوا الأرض بليلها.
قصف الرعد بلغ السماوات.
أنقلب النور إلى ظلام.
هبت العاصفة نزلت على الناس كالحرب.
ذعروا لم يقدر احد حتى يرى صاحبه.
أوترى الآلهة الناس من أعلى السماوات.
حتى الآلهة ارتعدت تراجعت صاعدة إلى سماء انو.
الآلهة قعدت ككلاب عند الجدار الخارجي.
عشتار سيده الآلهة تنتحب عاليا.
بكى الآلهة الانوناكي معها.
والآلهة وقد انسحقت قلوبها جلست تبكي

الصورة التي ذكر فيها الطوفان تجعل القارئ يشعر بالرعب لما فيها من دقة الوصف لذلك الطوفان، فعبارة "لاح في الصباح"قد يكون الناس نيام أوفي بداية الاستيقاظ، الصباح يحمل معنى يوم حديث أملاً جديداً، ولا حمل معنى الدمار والخراب والموت، في بداية هذا الصباح ظهرت الغيوم السوداء قادمة نحوهدفها ـ الأرض ـ، وكان يسمع الرعد الذي يصدره الإله هدد، واتى الذكر لهذا الإله هدد ليعطي عمل الرعد الرهبة، فلفظ – هدد ـ يحمل بين مخارجه عمل المدمر، هذا الإله هوصاحب نزول المطر وما يتبعها من برق ورعد، ونجد بانه صفاته تتناسب مع لفظ اسمه، وهوفي الاساطير البابلية والكنعانية لا يمكن مقاومته ويحمل القوة والجبروت معا، وبعد ذلك ينتقل الحديث إلى إزالة الحواجز أمام المياه السفلية والسدود أمام المياه السطحية ، وهذا منح صورة الهول الذي حل بالأرض، فان المياه تنزل من السماء وتخرج من السدود والبحار والانهيار وتخرج من باطن الأرض مع نار البرق وصوت الرعد المدوي، جميع هذه تحدق بالأرض وتخطف الأبصار، فتخفي الرؤيا تماما وتكون الظلمة هي السائدة فلم يعد هناك شيء يرى، الإنسان لا يرى الإنسان، والآلهة لا ترى الإنسان ، وهذه الكارثة التي حلت على الإنسان والأرض معا جعلت الآلهة ترتعب وتهرب صاعدة إلى السماء، إذا كانت الآلهة ارتعبت وهربت صاعدة إلى السماء، فكيف سيكون حال الإنسان؟.

الملحمة تخبرنا بعد ذلك حتى عشتار أخذت في النحيب لهذا الوضع الذي لا يحتمل، عشتار التي كانت موافقة على الطوفان تراجعت عن موقفها وأخذت الموقف النقيض وليس المعارض فقط، فأخذت تطالب بوقف الطوفان:

ستة أيام وست ليالي تنفخ الرياح.
الطوفان وعاصفة الجنوب يغمران الأرض.
الأعاصير والعواصف ثارت كالحشود المتحاربة.
ومع فجر اليوم السابع هدأت عاصفة الجنوب.
هدأ البحر سكن الإعصار وتوقف الطوفان.

العودة إلى وصف الطوفان اتى ليعيد الهول الذي هجره هذا الطوفان على الارض ومن عليها، فقد استمر ستة أيام وست ليال كاملة، لم يهجر ما حي على وجه الأرض باستثناء ما حمل معه أوتنبشتم في سفينته، وبعد هذا الهدوء للإعصار تهجرز الأحداث على السفينة وما عليها ، يشاهد أوتنبشتم النور ثم جبلا وعلى ظهر هذا الجبل تستقر السفينة وتبقى راسية عليه مدة ستة أيام وفي اليوم السابع يرسل اوتنبشتم حمامه إلا أنها لا تجد مكانا تحط عليه، فتعود إلى السفينة، ثم يخرج سنونوفلا يجد هوالآخر مكانا يحط عليه، فيعود إلى السفينة، ثم يخرج غرابا لا يعود إلى السفينة، فيعهد اوتنبشتم بان المياه انحسرت، فيأخذ في إخراج الكائنات التي معه وتبدأ الحياة من حديث على الأرض، لقد اتىت الملحمة حاقدة بشكل واضح على الآلهة وخاصة الإله انليل في أكثر من مسقط في الملحمة واتى هذا الموقف منه واضح في نهاية الملحمة ولتأكيد هذا الأمر حول هذا الإله انليل نطقت الملحمة عنه:

ليجتمع جميع الآلهة حول الذبيحة.
ولكن لا تدعوا انليل يقترب منها.
ولما وصل انليل.
رأى السفينة فثارت ثائرته.
اخذ ينفث غضبه على الآلهة أهل السماء.
ليس لأي بشري حتى ينجومن الفناء.

هذا الموقف الشاذ الذي يقفه الإله انليل من الإنسان هوموقف الحاقد المتسلط ، ومع أننا لا ندري عن السبب الذي دفع انليل لمثل هذا الموقف، إلا انه يبقى موقف متشنج، وهذا تأكيد آخر من الملحمة على ظلم الآلهة التي تتحكم بمصير الإنسان حسب أهوائها، فهي تعمل جميع شيء ضد الإنسان، وهي من تكون الخاطئة وليس الإنسان، وهذا واضح من خلال موافقتها على الطوفان الذي أزال الحياة من الأرض، فاتىت الملحمة وكأنها تعبير عن صراع الإنسان مع قرارات الآلهة المدمرة.

وتأتي أهمية ذكر هذه الأسطورة لتكررها في التوراة، وإذا قارناها مع تلك التي ذكرت في التوراة نجد بان هناك التشابه الكبير بين الحدثين من حيث سبب ذلك الطوفان وحجم السفينة وأقسامها والذين دخلوا فيها وعدد الأيام التي استمر فيها الطوفان ورسوخها على الجبل وإطلاق الحمامة والغراب جميع ذلك اتى ليؤكد بان الأسطورة الملحمية هي السابقة عن تلك التوراتية بألف وخمسة عام، وهذا يعطي الأهمية التاريخية لهذه الملحمة، وأخيرا نستطيع القول بان هذه الأرض هي أول من فهم العالم الإرادة، وكيف يستطيع الإنسان حتى يصل إلى الحلم " الهدف أدنى من الإرادة ، مهما كان هذا الهدف صعباً وحتى محالاً، فاسع إلى الهدف أيها الإنسان " وكان جلجامش يطالبنا بعدم التسليم لكل ما نحن نرفضه حتى كان أشخاص أوأماكن أوالآلهة هذا جلجامش المفهم لكل الرافضين في العالم، يقول بعدم الاستسلام للواقع أبد، اوهومازال حيا خالدا كما أراد حتىقد يكون ورغم مرور ما يقارب خمسة آلاف عام على رحيله إلا انه ما زال يعيش بيننا ويفهمنا تلك الفلسفة التي كانت أداة من أدوات الحرب التي خاضها، فجلجامش المفهم ما زال حياً خالدا وسيبقى حتى نهاية الكون كذلك.

الروايات

الرواية الأكادية القياسية

اللوح الخامس من ملحمة جلجامش.

الروايات البابلية القديمة

بترة أثرية عثر عليها في أور تصور ملحمة جلجامش

تبدأ الملحمة بالحديث عن جلجامش ملك أورك الذي كان والده بشرا فانيا ووالدته إلهة خالدة وبسبب الجزء الفاني من دمه يبدأ بادراك حقيقة أنه لنقد يكون خالدا. في الملحمة نرى حتى جلجامش لم يكن ملكا محبوبا من قبل سكنة أورك حيث كانت له عادة سيئة وهوممارسة الجنس مع جميع عروسة جديدة في ليلة دخلتها قبل حتى يدخل بها العريس وكان يجبر الناس على بناء سور ضخم حول أورك.

قام الناس بالنادىء من الآلهة بأن يجد لهم مخرجا من ظلم جلجامش فاستجاب الآلهة وقامت احدى الالهات واسمها أروروبخلق رجل وحشي كان الشعر الكثيف يغطي جسده ويعيش في البرية ياكل الاعشاب ويشرب الماء مع الحيوانات أي أنه كان على النقيض تماما من شخصية جلجامش ويرى بعض المحللين حتى هناك رموزا إلى الصراع بين المدنية وحياة المدن الذي بدأ السومريون بالتعود عليه تدريجيا بعد حتى غادروا حياة البساطة والزراعة المتمثلة في شخصية أنكيدو.

كان أنكيدويخلص الحيوانات من مصيدة الصيادين الذي كانوا يقتاتون على الصيد فقام الصيادون بحمل شكواهم إلى الملك جلجامش الذي أمر إحدى خادمات المعبد بالذهاب ومحاولة إغراء أنكيدوليمارس الجنس معها وبهذه الطريقة يفترض أن يبتعد الحيوانات عن مصاحبة أنكيدوويصبح أنكيدومروضا ومدنيا. حالف النجاح خطة الملك جلجامش وبدات خادمة المعبد وكان اسمها شامات وتعمل خادمة في معبد الآلهة عشتار بتعليم أنكيدوالحياة المدنية من كيفية الأكل واللبس وشرب النبيذ ثم تبدأ باخبار أنكيدوعن قوة جلجامش وكيف أنه يدخل بالعروسات قبل حتى يدخل بهن أزقابلن وعندما يسمع أنكيدوهذا الشيء يستشيط غضبا ويقرر حتى يتحدى جلجامش في مصارعة كي يجبره على هجر تلك العادة. يتصارع الإثنان بشراسة حيث حتى الإثنان متقاربان في القوة ولكن في النهاية تكون الغلبة لجلجامش ويعترف أنكيدوبقوة جلجامش وبعد هذه الحادثة يصبح الأثنان صديقين حميمين.

يحاول جلجامش دائما القيام بأعمال عظيمة لكي يبقى اسمه خالدا فيقرر في يوم من الأيام الذهاب إلى غابة من أشجار الأرز ويبتر جميع أشجارها ولكي يحقق هذا يجب عليه القضاء على حارس الغابة الذي هومخلوق ضخم وقبيح ومسماه هومبابا. ومن الجدير بالذكر حتى غابة الأرز كان المكان الذي يعيش فيه الألهة ويعتقد حتى المكان المقصود يقع الأن في منطقة بين إيران والبحرين.

الصراع في غابة الأرز

حارس الغابة هومبابا
كلكامش وأنكيدووهما يصارعان الثور المقدس

يبدأ جلجامش وأنكيدورحلتهما نحوغابات أشجار الأرز بعد حصولهما على مباركة شمش إله الشمس الذي كان أيضا إله الحكمة عند البابليين والسومريين وهونفس الإله الذي نشاهده في مسلة حمورابي المشهورة وهويناول الشرائع إلى الملك حمورابي وأثناء الرحلة يرى جلجامش سلسلة من الكوابيس والأحلام لكن أنكيدوالذي كان في قرارة نفسه متخوفا من فكرة اغتال حارس الغابة يطمأن جلجامش بصورة مستمرة على حتى أحلامه تحمل معاني النصر والغلبة.

عند وصولهما الغابة يبدآن ببتر أشجارها فيقترب منهما حارس الغابة هومبابا ويبدأ قتال عنيف ولكن الغلبة تكون لجلجامش وأنكيدوحيث يقع هومبابا على الأرض ويبدأ بالتوسل منهما كي لا يقتلاه ولكن توسله لم يكن مجديا حيث أجهز الإثنان على هومبابا وأردياه قتيلا. أثار اغتال حارس الغابة غضب آلهة الماء أنليل حيث كانت أنليل هي الآلهة التي أناطت مسؤولية حراسة الغابة بهومبابا.

بعد مصرع حارس الغابة الذي كان يعتبر وحشا مخيفا يبدأ اسم جلجامش بالانتشار ويطبق شهرته الآفاق فتحاول الآلهة عشتار التقرب منه بغرض الزواج من جلجامش ولكن جلجامش يرفض العرض فتشعر عشتار بالإهانة وتغضب غضبا شديدا فتطلب من والدها آنو، إله السماء، حتى ينتقم لكبرياءها فيقوم آنوبإرسال ثور مقدس من السماء لكن أنكيدويتمكن من الامساك بقرن الثور ويقوم جلجامش بالإجهاز عليه وقتله.

بعد مقتل الثور المقدس يعقد الآلهة اجتماعا للنظر في كيفية معاقبة جلجامش وأنكيدولقتلهما مخلوقا مقدسا فيقرر الآلهة على اغتال أنكيدولأنه كان من البشر أما جلجامش فكان يسري في عروقه دم الآلهة من جانب والدته التي كانت آلهة فيبدأ السقم المنزل من الآلهة بإصابة أنكيدوالصديق الحميم لجلجامش فيموت بعد فترة.

رحلة جلجامش في بحثه عن الخلود

Figura de Gilgamesh del palacio de Sargon II (Museo del Louvre).

بعد موت أنكيدويصاب جلجامش بحزن شديد على صديقه الحميم حيث لا يريد حتى يصدق حقيقة موته فيرفض حتى يقوم أحد بدفن الجثة لمدة أسبوع إلى حتى بدأت الديدان تخرج من جثة أنكيدوفيقوم جلجامش بدفن أنكيدوبنفسه وينطلق شاردا في البرية خارج أورك وقد تخلى عن ثيابه الفاخرة وارتدى جلود الحيوانات. بالإضافة إلى حزن جلجامش على موت صديقه الحميم أنكيدوكان جلجامش في قرارة نفسه خائفا من حقيقة أنه لابد من حتى يموت يوما لأنه بشر والبشر فانٍ ولا خلود إلا للآلهة. بدأ جلجامش في رحلته للبحث عن الخلود والحياة الأبدية. لكي يجد جلجامش سر الخلود عليه حتى يجد الانسان الوحيد الذي وصل إلى تحقيق الخلود وكان اسمه أوتنابشتم والذي يعتبره البعض مشابها جدا حتى لم يكن مطابقا لشخصية نوح في الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام. وأثناء درس جلجامش عن أوتنابشتم يلتقي بإحدى الآلهات واسمها سيدوري التي كانت آلهة النبيذ وتقوم سيدوري بتقديم مجموعة من النصائح إلى جلجامش والتي تتلخص بأن يستمتع جلجامش بما تظل له من الحياة بدل حتى يقضيها في البحث عن الخلود وأن عليه حتى يشبع بطنه بأحسن المؤكولات ويلبس أاحسن الثياب ويحاول حتىقد يكون سعيدا بما يملك لكن جلجامش كان مصرا على سعيه في الوصول إلى أوتنابشتم لفهم سر الخلود فتقوم سيدوري بإرسال جلجامش إلى المعداوي، أورشنبي، ليساعده في اجتياز بحر الأموات ليصل إلى أوتنابشتم الإنسان الوحيد الذي استطاع بلوغ الخلود.

عندما يجد جلجامش أوتنابشتم يبدأ الأخير بسرد سيرة الطوفان العظيم الذي وقع بامر الآلهة وسيرة الطوفان هنا شبيهة جدا بسيرة طوفان نوح, وقد نجى من الطوفان أوتنابشتم وزوجته فقط وقررت الآلهة منحهم الخلود. بعد حتى لاحظ أوتنابشتم إصرار جلجامش في سعيه نحوالخلود قام بعرض فرصة على جلجامش ليصبح خالدا, إذا تمكن جلجامش من البقاء متيقظا دون حتى يغلبه النوم لمدةستة أيام وتسعة ليالي فإنه سيصل إلى الحياة الأبدية ولكن جلجامش يفشل في هذا الاختبار إلا أنه ظل يلح على أوتنابشتم وزوجته في إبجاد طريقة أخرى له كي يحصل على الخلود. تشعر زوجة أوتنابشتم بالشفقة على جلجامش فتدله على عشب سحري تحت البحر بإمكانه إرجاع الشباب إلى جلجامش بعد حتى فشل مسعاه في الخلود, يغوص جلجامش في أعماق البحر ويتمكن من اقتلاع العشب السحري.

عودة گلگامش إلى اوروك

جلجامش بعد عودته إلى أوروك.

بعد حصول گلگامش على العشب السحري الذي يعيد نضارة الشباب يقرر حتى يأخذه إلى أورك ليجربه هناك على رجل طاعن في السن قبل حتى يقوم هوبتناوله ولكن في طريق عودته وعندما كان يغتسل في النهر سرقت العشب إحدى الأفاعي وتناولته فرجع جلجامش إلى اوروك خالي اليدين وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أورك فيفكر في قرارة نفسه حتى عملا ضخما كهذا السور هوافضل طريقة ليخلد اسمه. في النهاية تتحدث الملحمة عن موت گلگامش وحزن أورك على وفاته.


القصائد السومرية

تأثير لاحق

تُرجمت ملحمة جلجامش إلى الكثير من لغات العالم، وقد بقيت حية منذ حتى كان جلجامش ملكا على اوراك سنة 2700 ق م إلى هذه الساعة، وكان للملحمة الصدى الواسع في الأرض التي خرجت منها ـ الهلال الخصيب ـ فهناك ثلاث ترجمات في بلاد الرافدين ،طه باقر وسامي سعيد الأحمد وعبد الحق فاضل، وثلاث في بلاد الشام، فراس السواح وأنيس فريحة ووديع بشور، هذا بالإضافة إلى ما خط عن الملحمة من دراسات وتحليلات عديدة، وكان لكل ترجمة من هذه الترجمات ميزة وأفضلية على غيرها، من هنا لم نقتصر على ترجمة واحدة وإنما أخذنا النصوص من أربع ترجمات متوفرة لدينا.

لابد من الإشارة إلى أهمية الملحمة عالميا والوقوف على المكانة التي تحتلها، حيث أنها تشكل أول عمل أدبي متكامل أنتجه الإنسان على وجه الأرض، وقد اعتبرها بعض النقاد والمحللين أفضل ما ابتكر من أدب العصر القديم، ومع حتى هذا الحدثات يمكن حتىقد يكون فيها إجحاف بحق الملحمة وبحق العصر الذي خطت فيه ـ فجر السلالات السومرية ـ إلا أننا سنبدأ منها لنؤكد حقيقة أخرى، وهي حتى الملحمة من أبرز ما ابتكر من أدب في تاريخ البشرية، وذلك من خلال إبراز المضامين الفكرية التي تحملها، ومن خلال الأسلوب الأدبي الفذ الذي حمل القضايا والهموم الإنسانية، والمتمثلة في التحرر والخلاص من الهيمنة الخارجية.

إن إرادة الإنسان تبرز وتسطع في الملحمة، وكأنها شمس تطرد وتحارب الظلام، ونستطيع التأكيد ـ بعد حتى قرأة الملحمة ـ حتى أول وأعظم عمل أدبي تناول مسألة الإرادة الإنسانية هوملحمة جلجامش، لأنها ترسخ فكرة الإصرار والتصميم للحصول على الحرية والانطلاق نحوالفضاء الرحب، متخطية الصعاب والمعيقات ومتجاوزة التحديات، كما إنها الرائدة التي تناولت هذا الموضوع وبهذه الإرادة والتصميم.

إن إرادة جلجامش الإنسان تتفوق على حواجز الآلهة الوثنية، وهي تتخطاها وتحقق الفوزات بشكل متواصل، وتم تجاوزها وتخطيها تباعا إلى حتى وصل جلجامش هدفه ـ الخلود ـ، والملحمة تتناول موضوع صراع الإنسان والآلهة، بشكل مباشر وصريح ـ حديث عشتار مع جلجامش ومطلبها الاقتران به، وقتل خمبابا حارس غابة الأرز، وبحث جلجامش عن الخلود بعد موت انكيدو، وبشكل غير مباشر المسار العام لأحداث الملحمة، وقد تم التطرق أيضا إلى الحياة السياسية في مدينة اورك، والتي قلبت مفهومنا عن نظام الحكم في ذلك العصر، والتي أوضحت بان مفهوم الحاكم المطلق لم يكن موجودا، بل هناك نظام حكم يعتمد على المشورة والمناقشة قبل التطبيق.

إن جلجامش الإنسان الذي ولد على هذه الأرض، قام ببناء مدينة حديثة وجعل فيها الأنظمة ـ الديمقراطية ـ مما جعلها رائدة عصرها في تكوين الحضارة والثقافة الإنسانية، إذا مفهوم الحرية ـ الرأي والفكر ـ كان سمة العصر، والإنسان هوأعظم شيء، لا يوجد من هوأعلى منه مكانة، حتى القديسين والآلهة هم ما دون الإنسان، هذا ما يقوله لنا جلجامش في الملحمة التي خطت في حدود 2700 ق م، وبقيت حية إلى هذا اليوم.

إن الاستمرارية التي فرضتها الملحمة على مر العصور، كانت نتيجة تناولها وطرحها للهموم والأفكار التي تورق الإنسان ـ الخلاص من القدر المحتوم ـ الموت والفناء ـ ولاحتوائها على المغامرة والكائنات الأسطورية، لقد استمرت الملحمة حية ومتداولة وهي مكتوبة بين شعوب المنطقة أكثر من 2100عام، وهذا ثبت تاريخيا حيث اكتشف في مخطة اشور بانيبال ألواح الملحمة، وأعوام حكم اشور بانيبال تننهي عام 626 ق م الميلاد، كما عثر فهماء الآثار أجزاءً منها في إيران والأناضول وسوريا وفلسطين بالإضافة إلى العراق، هذا ويؤكد الانتشار الواسع للملحمة والزمن المديد الذي بقيت حية بين سكان المنطقة، حتى احتواء الملحمة على سيرة الطوفان اتى ليضيف بعداً آخر لها، يتمثل بالتأكيد على تواجد الرسل والرسالات السماوية، التي تميز منطقتنا عن غيرها، وإذا رجعنا إلى التاريخ نجد جلجامش شخصية حقيقية حكم اورك عملا، وهوالملك الخامس الذي حكم المدينة، وينسب نفسه إلى تموزي الحاكم السابق للمدينة.

علاقتها بالكتاب المقدس

تأثيرها على هومر

تحليل فهمي

يقول العالم «سبايزر» في تعليقه على طبيعة ملحمة جلجامش: إذا ملحمة جلجامش تتعامل مع أشياء من عالمنا الدينوي مثل الإنسان والطبيعة، والحب والمغامرة، والصداقة والحرب.. وقد أمكن مزجها جميعاً ببراعة متناهية لتكون خلفية لموضوع الملحمة الرئيسي ألا وهو«حقيقة الموت المطلقة».. إذا الكفاح الشديد لبطل الملحمة من أجل تغيير مصيره المحتوم، عن طريق فهم سر الخلود، من رجل الطوفان، ينتهي بالفشل في نهاية الأمر، ولكن مع ذلك الفشل يأتي شعور هادئ بالاستسلام، ولأول مرة في تاريخ العالم، نجد تجربة عميقة بهذا المستوى البطولي بأسلوب شعري رفيع، وهذا ما جعلها تنال إعجاب الناس في جميع العصور، والأزمنة، لذلك وجدت أجزاء منها في أماكن عديدة خارج بلاد الرافدين، وتم ترجمتها إلى لغات كثيرة، ولاحظ الباحثون حتى تأثيراتها وجدت في ملحمتي «هوميروس» (الإلياذة والأوديسا)، وهناك من قارب «اكيليس» بطل الإلياذة ورفيقه باتروكليس بالبطل جلجامش ورفيقه أنكيدو.

في دراسة للدكتور علي القاسمي عن «عودة جلجامش» يرى حتى ملحمة جلجامش تصدت لثلاث قضايا هي: الحياة والحب والموت..

ولنبدأ من النهاية بالموت، لأن النهاية ليست أقل شأناً من البداية.. إذا موت أنكيدوجعل صديقه جلجامش يتيه في بيداء الحزن والأسى والوحدة... لقد انغمس جلجامش في تفكيره الحزين عن الكيفية التي يمكن للإنسان حتى يتخلّص بها من الموت ليبقى مخلداً كالآلهة، لوكان الإنسان قد توصل إلى ذلك لما توفي صديقه انكيدو، ولما ارتعب خوفاً من الموت المرتقب، ولهذا كله ينطلق جلجامش في رحلة الأهوال والمخاطر للحصول على نبتة الحياة في أغوار المحيطات.

يبتر جلجامش أصقاع الأهوال والبراري، ويعبر مياه الموت ويغوص في أعماق المحيط، ويحصل على تلك النبتة.. نبتة الخلود، ليحملها إلى أرض أوروك «الوركاء» ويقوم بزراعتها ويكثرها، لينالها جميع أهالي المدينة، والنبتة هنا، هي رمز الحياة، رمز الفهم، فهم سر الخلود، ولكن جلجامش يفقد النبتة، وهوفي طريقه إلى الوطن، فقد ابتلعتها الأفعى عندما كان جلجامش نائماً، وعندما أفاق من نومه، لم يرَ سوى أفعى تنساب إلى جحرها بنشاط متجدد مخلفة وراءها جلدها القديم بعد حتى نزعته، وهنا يعتصر الأسى قلب جلجامش، ويتوقف في حانة على الطريق ليشرب حتى الثمالة والدموع تنهمر من عينيه فترأف صاحبة الحانة لحاله، وتطلب منه حتى يغتنم الحياة الآفلة ويتمتع بالصبح مادام فيه، ولكن جلجامش يقرر حتى يعمل شيئاً يخلّد ذكره وفكره، إذا لم يستطع حتى يخلّد جسمه وشكله، فيعود إلى مدينته الوركاء، ويقوم بإرساء قواعد العدل في البلاد، وينشر المدارس والتعليم بين العباد، فالفهم تهب الحياة معنى ومذاقاً متجددين.

في الثقافة العامة

انظر أيضاً

  • قائم تحف الآثار البابلية
  • أترا-حاسس
  • كتاب العمالقة
  • الفلسفة البابلية
  • أدب سومري
  • أدب بابلي
  • أسطورة الخلق السومرية
  • أسطورة الطوفان
  • أسطورة طوفان جلجامش
  • رامايانا
  • حكاية گنجي
  • الأوديسة
  • برج درواگا

المصادر

الهوامش

  1. ^ "ملحمة جلجامش النص الكامل". الحوار المتمدن. 21 January 2014. Retrieved 1 October 2015.
  2. ^ أسطورة جلجامش، الباحثون

المراجع

  • الجنس في العالم القديم، بول فريشاور، دار الكندي، دمشق، 1988.
  • هوالذي رأى، عبد الحق فاضل، دار الرشيد، بغداد، 1981.
  • جلجامش، فراس السواح، سومر للدراسات والنشر، نيقوسيا، قبرص، 1987.
  • ملاحم وأساطير، أنيس فريحة، دار النهار، بيروت، 1979،
  • عشتار ومأساة تموز، فاضل عبد الواحد علي، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1986.
  • المنثلوجيا السورية، وديع بشور، مؤسسة فكر للابحاث والنشر، بيروت، 1984.

ترجمات الملحمة

  • Jastrow, M. and Clay, A (1920). An Old Babylonian Version of the Gilgamesh Epic: On the Basis of Recently Discovered Texts.CS1 maint: multiple names: authors list (link)
  • Sandars, N. K (2006). The Epic of Gilgamesh (Penguin Epics). London: Penguin. ISBN .: re-print of the Penguin Classic translation (in prose) by N. K. Sandars 1960 (ISBN 014044100X) without the introduction.
  • Mason, Herbert (2003). Gilgamesh: A Verse Narrative. Boston: Mariner Books. ISBN . First published in 1970 by Houghton Mifflin; Mentor Books paperback published 1972.
  • Kovacs, Maureen Gallery, transl. with intro. (1985). The Epic of Gilgamesh. Stanford University Press: Stanford, California. ISBN .CS1 maint: multiple names: authors list (link) Glossary, Appendices, Appendix (Chapter XII=Tablet XII). A line-by-line translation (Chapters I-XI).
  • Ferry, David (1993). Gilgamesh: A New Rendering in English Verse. New York: Farrar, Straus and Giroux. ISBN .
  • Jackson, Danny (1997). The Epic of Gilgamesh. Wauconda, IL: Bolchazy-Carducci Publishers. ISBN .
  • Parpola, Simo, with Mikko Luuko, and Kalle Fabritius (1997). The Standard Babylonian, Epic of Gilgamesh. The Neo-Assyrian Text Corpus Project. ISBN .CS1 maint: multiple names: authors list (link): (Volume 1) in the original Akkadian cuneiform and transliteration; commentary and glossary are in English
  • George, Andrew R., trans. & edit. (2000). The Epic of Gilgamesh; The Babylonian Epic Poem and Other Texts in Akkadian and Sumerian. England: Penguin. ISBN .CS1 maint: multiple names: authors list (link)
  • Foster, Benjamin R., trans. & edit. (2001). The Epic of Gilgamesh. New York: W.W. Norton & Company. ISBN .CS1 maint: multiple names: authors list (link)
  • George, Andrew R., trans. & edit. (2003). The Babylonian Gilgamesh Epic: Critical Edition and Cuneiform Texts. England: Oxford University Press. ISBN .CS1 maint: multiple names: authors list (link)
  • Mitchell, Stephen (2004). Gilgamesh: A New English Version. New York: Free Press. ISBN .

تحليل الملحمة

  • Jacobsen, Thorkild (1976). . Yale University Press. ISBN .
  • Tigay, Jeffrey H. (1982). . University of Pennsylvania Press. ISBN .
  • Kluger, Rivkah (1991). . Daimon. ISBN .
  • West, Martin Litchfield (1997). . Clarendon Press. ISBN .
  • Best, Robert (1999). . Eisenbrauns. ISBN .
  • Damrosch, David (2007). . Henry Holt and Co. ISBN .

وصلات خارجية

اقرأ اقتباسات ذات علاقة بملحمة جلجامش، في فهم الاقتباس.
  • Translations of the legends of Gilgamesh in the Sumerian language can be found in Black, J.A., Cunningham, G., Fluckiger-Hawker, E, Robson, E., and Zólyomi, G., The Electronic Text Corpus of Sumerian Literature, Oxford 1998–.
    • Gilgamesh and Huwawa, version A
    • Gilgamesh and Huwawa, version B
    • Gilgamesh and the Bull of Heaven
    • Gilgamesh and Aga
    • Gilgamesh, Enkidu and the nether world
    • The death of Gilgamesh
  • The 1901 full text translation of the Epic of Gilgamesh by William Muss-Arnolt
  • , available at Project Gutenberg., edited by Morris Jastrow, translated by Albert T. Clay
  • Gilgamesh by Richard Hooker (wsu.edu)
  • The Epic of Gilgamesh, Complete Academic Translation by R. Campbell Thompson
  • The Epic of Gilgamesh by Kovacs, M.G.,
  • He Who Saw Everything: Verse Translation of the Epic of Gilgamesh by Temple, R.K.G.,
تاريخ النشر: 2020-06-04 17:15:51
التصنيفات: صفحات بها أخطاء في البرنامج النصي, Portal templates with redlinked portals, CS1 maint: multiple names: authors list, Commons category link from Wikidata, Use dmy dates from January 2011, مقالات تستعمل قوالب صيانة غير مؤرخة, ملحمة جلجامش, ملاحم شعرية, الهلال الخصيب, أدب بلاد ما بين النهرين, أساطير الطوفان, Archaeological corpora documents, تاريخ العراق, أساطير بلاد الرافدين, سومريون

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

ألمانيا تدعو لقانون أوروبي يكافح عمالة الأطفال في سلاسل التوريد

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:25:20
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 61%

ديشان ومبابي: لا نشعر بالقلق ونتمسك بالفخر دائماً

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:26:49
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 49%

البحث عن غريق مفقود بشاطىء الدشرية بسيدي عبد الرحمان

المصدر: صوت الشلف - الجزائر التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:26:24
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 54%

الملك يهنىء الملكة إليزابيت الثانية بمناسبة عيد ميلادها

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:24:50
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 68%

رسميا..ريال مدريد يضم تشواميني

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:25:12
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 52%

4.489 مستفيد يمني من الخدمات الصحية لمركز الملك سلمان في حجة

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:25:13
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 53%

دورتموند يسعى لضم ديفيد راوم لاعب هوفنهايم

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:26:50
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 50%

تمديد الحظر الجوي في جنوب روسيا حتى 18 يونيو

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:25:03
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 52%

ضبط بريطانيين بحوزتهم 300 كيلو من الكوكايين باليونان

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:25:08
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 66%

هالاند ينشر صورته وهو يرتدي قميص مانشستر سيتي في طفولته

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:26:48
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 45%

أفضل 7 هدايا يحرص زوار البيت الحرام على اقتناءها

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:25:15
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 63%

أزيد من 16 ألف مترشح لإمتحانات شهادة البكالوريا بالشلف

المصدر: صوت الشلف - الجزائر التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:26:22
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 61%

حادث خطير لبعثة المنتخب البلغاري في جورجيا

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:26:51
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 48%

الرئيس السيسي: استقرار اليمن يمثل أهمية قصوى للأمن القومي المصري

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:26:07
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 59%

الملك يهنىء الملكة إليزابيت الثانية بمناسبة عيد ميلادها

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:24:47
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 70%

الشورى يناقش مشروعي نظام الشركات والخطوط الحديدية

المصدر: صحيفة اليوم - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:26:30
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 35%

سيدي عكاشة تحتضن فعاليات الكأس الولائية للفوفينام في الطبعة الأولى

المصدر: صوت الشلف - الجزائر التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-06-11 15:26:22
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 57%

تحميل تطبيق المنصة العربية