الايديولوجية في أعمال رواد فهم الاجتماع : أوجست كونت ، كارل ماركس ،هربرت سبنسر نموذجا

شوق هجري عبد الله العتيق

ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا الموضوع

الايديولوجية في أعمال رواد فهم الاجتماع: أوجست كونت، كارل ماركس ،هربرت سبنسر نموذجا.

مقدمة

ارتبطت الإيديولوجية بمسيرة فهم الاجتماع منذ الارهاصات الأولى للفكر الاجتماعي. فالطابع الذاتي المعياري الغائي كان دائما حاضرا في تفكير فهماء الاجتماع، كما حتى نزوعهم الى الحفاظ على الاوضاع الاجتماعية القائمة، أوتجاوزها الى نموذج اجتماعي أفضل، أوعلى الاقل أصلاحها بما يتفق بالمرجعية القيمية لكل منهم، مثل السمة الغالبة على إسهاماتهم. يسعى هذا الموضوع إلى الكشف عن الخلفية الأيديولوجية التي طبعت أعمال بعض رواد فهم الاجتماع خلال القرن التاسع عشر.

نشأ فهم الاجتماع في خضم الصراعات الاجتماعية التي عمت بلدان القارة الأوروبية وأدت إلى قيام الثورات البرجوازية الديمقراطية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقد جسدت الثورة الفرنسية بوجه خاص هذا الصراع الاجتماعي، مبرزة طبيعة القوى الطبقية المتصارعة، ومصالحها المتناقضة، بحيث صار واضحا حتى مشكلات الواقع الاجتماعي في حاجة إلى تناول فهمي ملموس ولقد تبلورت هذه الحاجة في الدعوة إلى إنشاء فهم حديث يتناول بالبحث المجتمع بكليته، بعوامل استقراره وعوامل تغيره، فظهرت إسهامات سوسيولوجية متعددة، تطرح فهما متفاوتا للصراعات الاجتماعية، وتصورات مختلفة لطرق حلها، وقد تبلورت هذه الإسهامات أخيرا في اتجاهين إيديولوجيين رئيسيين: اتجاه محافظ يرى حتى الهدف من إنشاء هذا الفهم الجديد هوإنهاء الصراع الاجتماعي بين "القوى الرجعية " التي ترغب العودة بعجلة التاريخ إلى الوراء من خلال فرضها قوانين المجتمع القديم على المجتمع الجديد، وبين "القوى التقدمية" التي تثير الفوضى، وتطمح إلى التغيير، فيتحقق التأليف بين فكرتي النظام والتقدم، وذلك بتثبيت سلطة النظام الرأسمالي، وقد بلغ هذا الاتجاه ذروته مع "أوجست كونت والاتجاه الثاني اتجاه راديكالي يرى حتى الفهم الجديد لا يهدف إلى تثبيت النظام الرأسمالي القائم والحفاظ على استقراره، بل إلى تقويض أسسه تمهيدا للقضاء عليه، وإقامة نظام اجتماعي بديل يحقق العدالة والمساواة الحقيقيتين اللتين لا تتحققان إلا بالقضاء على هيمنة الطبقة البرجوازية، وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج وقد صاغ كارل ماركس هذا التصور فيما عهد بالمادية التاريخية.

الايدلوجية في أعمال أوجست كونت

لقد أعرب أوجست كونت عن نشأة فهم الاجتماع بوصفه فهما مستقلا بذاته لدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة وضعية، أي دراسة فهمية شأنه في ذلك شأن علوم الطبيعة والكيمياء والبيولوجيا التي تدرس ظواهرها في ضوء مناهج البحث الفهمية، فخط يقول: "لدينا الآن فيزياء سماوية، وفيزياء أرضية ميكانيكية أوكيميائية، وفيزياء نباتية، وفيزياء حيوانية، ومازلنا في حاجة إلى نوع آخر وأخير من الفيزياء وهوالفيزياء الاجتماعية حتى يكتمل نسقنا المعهدي عن الطبيعة. وأعني بالفيزياء الاجتماعية، ذلك الفهم الذي يتخذ من الظواهر الاجتماعية موضوعا للدراسة باعتبار هذه الظواهر من نفس روح الظواهر الفهمية والطبيعية والكيميائية والفسيولوجية من حيث كونها موضوعا للقوانين الثابتة.

اعتقد "كونت" حتى هذا الفهم هوالمظهر المتطور النهائي للفهم الإنسانية، وأنه يقوم على المناهج نفسها التي قامت عليها العلوم الطبيعية، وذلك بافتراض التماثل بين ما اجتماعي وما هوطبيعي. أما من حيث الموضوع فقد صنف فهم الاجتماع إلى شقين: فهم الاجتماع الستاتيكي، ويتناول ما ثابت نسبيا، وفهم الاجتماع الديناميكي، ويدرس التغير وحركة المجتمع. الأول يفهم المؤسسات والتنظيمات والتشكيلات الاجتماعية وعلاقاتها، كدراسة النظم الأسرية والسياسية والاقتصادية وغيرها، وما بين هذه من علاقات،وكان قد افترض حتى المجتمع يشكل وحدة متكاملة، وأن الأجزاء كالنظم والجماعات لا تدرس إلا في إطارها المجتمعي،ضمن رؤية كلية جامعة في إطار المجتمع. أما الشق الثاني وهوفهم الاجتماع الديناميكي فموضوعه التغير عبر الزمن، وانطلق هنا من حتى وحدة الدراسة والتحليل هي المجتمع الإنساني عامة، فتوصل من منظور تاريخي، إلى حتى المجتمعات الإنسانية تمر عبر مراحل حتمية ثلاث، فأطلق على مقولته هذه "قانون الحالات الثلاث"، حيث اعتبر "كونت" الفكر وكيف يفسر الناس ما يحيط بهم من ظواهر، أساسا لتصنيف مراحله، بمعنى حتى التغير في الفكر يؤدي إلى تحول المجتمع من حالة إلى اخرى، فالفكر أولا ثم الوجود.

وقد عاد "كونت " إلى تاريخ العلوم وإلى تاريخ الإنسانية لتأكيد صحة قانونه، حيث مضى إلى حتى جميع فترة من هذه المراحل، تماثل فترة من حياة الفرد، فالفترة اللاهوتية تماثل فترة الطفولة، والمرحل ة الميتافيزيقية تقابل فترة المراهقة والشباب، والفترة الوضعية التي استقرت عليها الإنسانية تشبه فترة الرجولة والاكتمال التي يصل إليها الفرد، أي حتى الفرد في نشأته وتكامله يعيد عمر الإنسانية.

هذا وقد وضع "كونت" فهم الأجتماع على قمة جميع العلوم، تلك العلوم التي صنفها في ست مجموعات هي : الرياضيات، الفلك، الفيزياء، الكيمياء، فهم الأحياء،وفهم الاجتماع أوالفيزياء الاجتماعية ، فالرياضيات أول العلوم وهي مفتاحها جميعا،وفهم الاجتماع هوآخرها وهوتاجها جميعا "وتلك حقيقة، إذ حتى الرياضيات هي أول العلوم، فقد توصل إليها اليونانيون، ثم تلاها فهم الفلك الذي ظهر على يد كوبرنيك وكبلر وجاليليوثم الفيزياء التي ظهرت في القرن 17 عند لافوازييه ثم فهم الأحياء في القرن التاسع عشر عند "بيشات وغيره، وأخيرا فهم الاجتماع في القرن 19 على يدي أوجست كونت.

لقد استهدف الفكر الوضعي عند "كونت " الحفاظ على ما كائن والحيلولة دون أية محاولة لنفيه أوتجاوزه. ونظرا لإيمانه بأن العالم مسير بالأفكار، فقد اعت قد حتى الفوضى الفكرية تنتج فوضى أجتماعية، إلى غير ذلك رأى بأن المهمة الملحة في تلك الفترة هي إخضاع الظواهر الاجتماعية لقواعد الفهم الفهمية ، بغية إنتاج فهم اجتماعية منظمة تكون مقبولة من طرف الجميع، وعلى هذا الاساس عملم الاجتماع باكتشافه لقوانين عامة تحكم الظواهر الاجتماعية، يفترض أن يحد من التدخل السياسي للأفراد والجماعات، ومن خلال ذلك يعم موقف الخضوع اتجاه الظواهر المحكومة بقوانين مما يساعد على إقامة نظام أخلاقي." إذا فرضيته الأساسية هي توسيع مجال التحكم في الطبيعة إلى الإنسان والمجتمع ويأتي تأسيس فهم الاجتماع إذن كضرورة فكرية، وسياسية وأخلاقية ملحة، يتم من خلالها إخضاع السياسي للمثقف.

من هنا تظهر الخلفية الإيديولوجية التي طبعت أعمال "كونت"، لقد كانت فلسفة "كونت" الوضعية في كثير من الأسس التي قامت عليها محاولة للرد على تلك الإيديولوجيات التي لا تؤدي من وجهة نظره إلا إلى الانقسام والصراع والتفكك. وفي حواره مع هذه الإيديولوجيات، يرى "كونت" أن" المجتمع الإنساني يعيش على التنظيم أكثر مما يعيش على الإيديولوجيات، وأن أفضل صورة للحياة الاقتصادية والسياسية هي بالتالي الرأسمالية وبالذات الرأسمالية الأوروبية، والتي هي بنظره تتويج للتاريخ التطوري للأنسان.

الايدلوجية في أعمال كارل ماركس

بعد كونت اتى كارل ماركس لينزل فهم الاجتماع عن زعامته لغيره من العلوم ، وليؤكد أنه مجرد حلقة وصل بينها جميعا. لقد رفض "ماركس" استخدام تسمية فهم الأجتماع . وفضل حتى يطلق على هذا النوع من الدراسة مصطلح "فهم المجتمع" وقد يرجع ذلك إلى كراهيته للفلسفة الوضعية التي روج لها "أوجست كونت "، وإلى رفضه لما انطوت عليه هذه الفلسفة من آراء، وذل ك بعد دراسته لها دراسة نقدية، وإدانتها بأنها نوع من التفكير الذي يغلب عليه الروح اللاهوتية والنزعة التنبئية.

لقد حاول ماركس تقديم نظرية منظمة عن البناء الاجتماعي والتغير الاجتماعي ، لكي تحل بديلا عن النظريات الطوبائية غير الفهمية التي سبقتها، محدثا تأثيرا بعيد المدى في مجال العلوم الاجتماعية بصفة عامة، وفهم الاجتماع بصفة خاصة ، يظهر ذللك واضحا من اهتمام فهماء الاجتماع المعاصرين بأفكاره.

ففي مؤلف حديث عن اليدلوجية وتطور نظرية فهم الاجتماع 1968 تناول زايتلين عرض وتحليل تطور النظريات السوسيولوجية في ضوء الاست جابة إلى عاملين أساسيين، فقد عملت فلسفة التنوير في القرن 18 على تشكيل فهم الاجتماع الكلاسيكي ، ومن ثم فهي تعد نقطة الانطلاق الملائمة لتتبع أصول ومنابع نظرية فهم الاجتماع ومن ناحية أخرى، كان إسهام ماركس في الفكر الاجتماعي في أواخر القرن 19 ، هوأبرز وقع أثر في تطور نظرية فهم الاجتماع ومن ثم ناقش "زايتل ين" آراء جميع من "ماكس فيبر "، و"باريتو"، و"موسكا"، و"ميشيلز"، و"دوركايم"، و"مانهايم" في علاقتها بالفكر الماركسي، ذاهبا إلى أنه مثلما نشأ فهم الاجتماع في القرن التاسع عشر كجزء من الاستجابة المحافظة لفلسفة التنوير فان فهم الاجتماع في القرن العشرين قد تبلورت م عالمه نتيجة للدراسة النقدية التي انصبت على نظريات "ماركس". إلى غير ذلك يمكن القول بأن "زايتلين" قد ركز على تحليل العلاقة بين الإيديولوجيا وتطور نظرية فهم الاجتماع ، مؤكدا حتى كبار فهماء الاجتماع خطوا وأمامهم ما يسميه "شبح ماركس"، أوحتى كتاباتهم وآراءهم كانت نوعا من المناظرة أوالجدل مع ذلك "الشبح"، بحيث نستطيع حتى نخلص إلى نتيجة مؤداها : "إن النظريات الاجتماعية الكبرى التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أخذت في اعتبارها بشكل أوبآخر الإيديولوجية الاشتراكية الماركسية، ودخلت معها في محادثة يختلف بين اللين والشدة، بين القبول المتحفظ والرفض القاطع، ومحاولة التوفيق بين مختلف وجهات النظر.

ويمكن رد الماركسية بوصفها نظرية سوسيولوجية إلى مسلمتين أساسيتين وعدد قليل من اللواحق، أما أولى هذه المسلمات فإنها تنتمي إلى النزعة الحتمية الاقتصادية التي تمضى إلى حتى العامل الاقتصادي هوالمحدد الأساسي لبناء المجتمع وتطوره.وهذا العامل الذي يتكون من الوسائل التكنولوجية للإنتاج يحدد التنظيم الاجتماعي للإنتاج، الذي يعني العلاقات التي يدخل فيها الأفراد أثناء عملية الإنتاج. وتنموهذه العلاقات في رأي "ماركس" مستقلة عن الإر ادة الإنسانية، بل إذا تنظيم الإنتاج الذي يسميه "ماركس " البناء الاقتصادي للمجتمع لا يحدد فقط البناء الفوقي الكلي، ولكنه يشكله، أي أنه يشكل التنظيم السياسي والقانوني والديني والفلسفة والأدب والفهم والأخلاق ذاتها. وتتصل المسلمة الثانية بميكانيزمات التغير الذي ينبغي حتى يفهم في ضوء المراحل الثلاث الأزلية: الإثبات أوالموضوع، والنفي أونقيض الموضوع، ثم تصالح الأضداد أومركب الموضوع، وتستمر العملية الجدلية بصرا عا ت وتوافقات جديدة تتسم بها العملية التاريخية باستمرار.

هناك إذن طبقتان رئيسيتان في أي مجتمع من المجتمعات تمثل إحداها نظام الإنتاج البائد، بينما تمثل الثانية النظام الآخذ في التكوين، والصراع الطبقي هوالوسيلة التي تنقل المجتمع من فترة إلى أخرى وتنتصر في النهاية الطبقة الصاعدة أوالمنبثقة في هذا الصراع وتشيد نظاما جديدا للإنتاج، يحمل بدوره في داخله بذور فنائه والقضاء عليه لتستمر العملية الديالكتيكية من جديد. وقد استخدم "ماركس " وأتباعه هذا الإطار الجدلي في تحليل المجتمع الرأسمالي، والذي يتجلى في وجود طبقتين، الطبقة البرجوازية أوالمالكة لوسائل الإنتاج وطبقة البروليتاريا أوالعمال. والصراع بينهما حتمي لا مفر منه، وسوف يؤدي من خلال الوعي الطبقي والعمل العسكري الطبقي إلى تدميرالنظام الموجود ، ليرثه النظام الاشتراكي الذي يتميز بالملكية الجماعية لوسائل الإنتاج ويسلم في النهاية لمجتمع بلا طبقات ولا دولة.

يتجسد البعد الإيديولوجي في أعمال "ماركس" في ذلك التلاحم بين مجهوداته السياسية من جهة، ومجهوداته الفهمية الأكاديمية من جهة ثانية، وليس أدل على ذلك من البيان الشيوعي الذي أصدره "ماركس" و"انجلز" بتكليف من عصبة الشيوعيين عام 1848 والذي يجمع بين الصبغتين النضالية الثورية من جهة، والفهمية الأكاديمية من جهة أخرى، حيث إذا الهدف من إصدار ه كان سياسيا بالدرجة الأولى على اعتبار حتى عصبة ال شيوعيين كانت أول منظمة للبروليتاريا الثورية تستهدف القضاء على المجتمع الرأسمالي القائم، غير حتى مضمونه كان سوسيولوجيا، طرح فيه "ماركس" و"إنجلز " مبادئ المادية التاريخية، ووضحا فيه حتى تاريخ المجتمعات ليس إلا تاريخا لصراع الطبقات. ويعود هذا التلاحم إلى كون "ماركس" لا يعترف بالدور التفسيري للفهم الاجتماعي ، وإنما يتجاوزه إلى ضرورة توظيف نتائج الفهم على مستوى الواقع الاجتماعي بما يحقق كمال الإنسان ورفاهيته.

من هنا يمكننا القول بأن الماركسية إيديولوجيا بالمعنى الشمولي للحدثة، تعتمد الفهم أساسا لها. فهي في الوقت الذي تستخدم فيه المنهج المادي الديالكتيكي للكشف عن وقائع محددة (جوهر النظام الرأسمالي، فائض القيمة، الربح، البضاعة، التناقض الأساسي والتناقضات الثانوية في حركة تطور المجتمع التراكمات الكمية والتحول الكيفي، قوانين الثورة،...)، فإنها تسعى وراء مشروع سياسي كبير: بناء عالم شيوعي خال من القهر الطبقي والسياسي والاجتماعي بناء علاقات إنسانية حرة جديدة وبعيدة عن الاستغلال والروح الفاشية، إلغاء الفوارق بين العمل الفكري واليدوي.....وبهذا فإن الخاص ومعطياته الواقعية، يلتحم مع العام ورؤيته الشمولية في علاقة مناضلة.

الإیدیولوجیا في أعمال ھربرت سبنسر

وكان لابد لفهم الاجتماع من تحديد أكثر لهويته، ولطبيعة ال دراسة فيه، وكانت يد "هربرت سبنسر أول يد ممدودة في هذا الشأن، حيث حدد بطريقة واقعية الموضوعات التي يلزم على فهم الاجتماع في رأيه حتى يتناولها بالدراسة والبحث، مبتدئا بالوحدات الاجتماعية ومنتهيا باعتبار المجتمع ككل وحدة للتحليل السوسيولوجي . يعد "هربرت سبنسر أبرز أنصار النظرية العضوية في فهم الاجتماع التي تحاول الأخذ بفكرة المماثلة العضوية بين المجتمع والكائن العضوي . كذلك يعد هذا المفكر أبرز رواد الاتجاه الدارويني في فهم الاجتماع وهوالاتجاه الذي يؤكد حتى تطور المجتمع الإنساني يسير عبر مجموعة من الم راحل الحتمية التي لا يمكن لإرادة البشر تغييرها. فالتطور الاجتماعي عند أنصار هدا الاتجاه محكوم بقوى طبيعية تتجاوز إرادة الانسان . لقد كانت انجلترا أعرق دولة في مجال الرأسمالية فكرا وتطبيقا، وكان يسودها مبدأ الحرية الفردية وعدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي أوالاجتماعي حيث كان دورها يقتصر على تحقيق الدفاع الخارجي والأمن الداخلي . "وكانت طبيعة المناخ السياسي والفكري والاقتصادي الذي كان سائدا في انجلترا آنذاك بحاجة إلى نظرية اجتماعية تقدم الدعم الإيديولوجي الذي يمجد الصراع داخليا والحرب خارجيا من أجل البقاء والتقدم. فاتى "سبنسر " وهوالمعروف بتشيعه للممضى الدار ويني، ليؤكد أهمية وطبيعة وحتمية فكرة القوة والصراع كأساس للعلاقات الاجتماعية سواء بين الأفراد أوالجماعات وبأشكال مختلفة . ونظرا لطبيعة وحتمية هذه الظواهر، تعد جميع محاولة للوقوف في وجهها محاولة فاشلة وغير فهمية وضارة لأنها تخالف قوانين الطبيعة . كما ينظر "سبنسر" إلى الإنسان على أنه خلية في جسم المجتمع ، ومادام المجتمع يتكون من مجموعة من الخلايا الإنسانية، فلا مانع حسب رأيه من النظر إلى فهم الاجتماع على أنه نوع من البيولوجيا في صورة مكبرة . ولا يستطيع العالم الاجتماعي في نظره حتى يقوم بدراسة حقيقية عن المجتمع إلا إذا مهد لتلك الدراسة بفهم القوانين لأن القوى التي تسير المجتمع ترجع في الأصل حسب اعتقاده إلى بواعث شخصية يجب الوصول إلى معهدتها . إلى غير ذلك يظهر في جميع أعمال "سبنسر " تأثره بالحياة البيولوجية والقوانين التي تحكمها. ومن الأعمال الهامة التي قدمها :نظريته عن تقسيم المجتمعات إلى بسيطة ومركبة، حربية وصناعية، حيث يفسر لنا نموالتنظيم السياسي من خلال فكرة الصراع . فالمجتمعات تبدأ عنده بالحالة الحربية، حيثقد يكون هناك صراع مستمر بينها ، مما يؤدي بالمجتمعات أوالجماعات المتجاورة إلى الاتحاد تحت تنظيم سياسي مشهجر ، قادر على حتى يكفل لها الحماية ضد هجمات المجتمعات الاخرى . وتظل المجتمعات تحت ضغط الصراع أوالخوف من الحرب تتطور، حتى تصل إلى الفترة الصناعية المتطورة والمعقدة،حيث يحل السلام والأمن محل الحرب والصراع. أيضا نظريته عن الحكومة والتي قوض سلطاتها مدافعا عن مبدأ الحرية الفردية، وقانون البقاء للأصلح . نظريته في الاقتصاد والتي تمسك فيها بالممضى الفردي، مدافعا بشدة عن مبدأ: دعه يعمل، دعه يمر. نظريته في الأخلاق، حيث اعتبر حتى السلوك الأخلاقي هوما يحقق للفرد اللذة، ويبعد عنه الألم،ومحك اللذة هوالمنفعة، وبالتالي فإن المنفعة هي المعيار الذي نحتكم إليه في الحكم على قيمة الأمور.

خاتمة

لقد ارتهن فهم الاجتماع منذ نشأته بأطر إيديولوجية متناقضة، تغذيها مصالح متصارعة، فاتىت إسهامات "أوجست كونت" و"أميل دوركايم" و"هربرت سبنسر" وامتداداتها في الفكر المعاصر لتقدم تفسيرا متحيزا للواقع الاجتماعي يقوم أساسا على إبراز عناصر النظام والاستقرار مهملا العناصر الأخرى الخاصة بالصراع والتغير، كما اتىت أعمال"كارل ماركس" بامتداداتها في الفكر المعاصر لتقدم هي الأخرى تفسيرا متحيزا للواقع الاجتماعي يقوم أساسا على إبراز التناقضات وأوجه الاستغلال والسيطرة، مهملا التزام الأفراد والجماعات بالمعايير والقيم، وهوالتزام كفيل بأن يخلق القدرة على مقاومة التغيرات التي تهدد النظام القائم، حتى ولوكانت هذه التغيرات نابعة من قيم عليا مثل الحرية والعدالة والمساواة.

وإذا كان فهماء الاجتماع قد صاغوا في استجابتهم للظروف والأوضاع المتغيرة التي عهدها واقع المجتمع الأوروبي خلال القرن التاسع عشر نظريات تحمل مضامين إيديولوجية، تبرز مصالح بعينها وتدافع عنها، وتتخذ من بعض معطيات الواقع وشواهده أدلة على صدق توجهاتها، فإن ذلك لا يدفعنا بأي حال من الأحوال إلى القول بأن الالتزام الإيديولوجي هوالسمة الطبيعية لفهم الاجتماع ، يشهد على ذلك إسهام "ابن خلدون" المتميز. لقد اتىت إسهامات الرواد في ثوب إيديولوجي واضح لأنهم لم يلتزموا أسس ومقومات التفكير الفهمي التي نادوا هم أنفسهم بها، وكون إسهاماتهم قد اتىت على هذه الصورة لا ينف إمكانية تحقيق فهم الاجتماع لدرجات أحمل من الموضوعية والفهمية. سليم إذا تحقيق الموضوعية في فهم الاجتماع ليس بالأمر الهين، لكن ذلك أدعى إلى الحرص والحذر والتمسك بأسس الفهم، لا إلى فتح الباب على مصراعيه لتحيزاتنا الإيديولوجية. إذا تحقيق الموضوعية في البحث السوسيولوجي أمر نسبي، ولكنه ليس محالا، طالما احتكم الباحث إلى الواقع الاجتماعي ، واجتهد في الالتزام بقواعد البحث الفهمي .